(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء:
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) }
الإثنين: 29 ذوالحجة 1444هـ
الحمد لله مُكرمنا بالوحي والتنزيل، والبيان على لسانِ عبده خير هادٍ ودليل، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه في القصد والنية والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين وجميعِ عباد الله الصالحين، وعَلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
فإننا في نعمة تدبرنا لِكلام ربنا وتأمُلنا لتعاليمه جلّ جلاله وتعالى في علاه، مَررنا على قوله سبحانه: (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا .. (8)) وفتح باب الرجاء (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ)، وأخبر أنَّ سُنته قائمةٌ في الوجود (وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا)؛ إذا أسأتم نزل عقابُنا عليكم وإذا صَدقتم معنا وامتثلتمْ لأمرنا نصرنَاكم وأيَّدناكم، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) [طه:123-142] وهكذا، (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]. ويقول - جلّ جلاله وتعالى في علاه- في بيانِ هذه الحقيقة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97] وهكذا؛ سُنته.
(وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا .. (8))، وفي الآية الأخْرى قال: (…وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:19]. وهذا عجيب تنزله في معاملته لخلقه وهو الغَني عنهم ولو أراد أنْ يُهلكهم لأهلكهم ولا شيء يضره -جلّ جلاله - ولكنه هكذا؛ كانت سُنته (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا) ومن جاء بالحسنة تضاعف له الحسنات بالفضل من الرب -جل جلاله- (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام:160]، (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا *وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرً) [النساء: 123-124].
وقال جلّ جلاله: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .. (9)): في السُنن والأفكار والأنْظار والنُظم والحركاتِ والسكنات. (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .. (9)): أصوب وأجمل وأحسن، وارتكز على البشارة والنذارة:(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ .. (9)) -جعلنا الله وإياكم من خواصهم- (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)): بما يؤتيهم في عالم الدنيا من نُزول السكينة والطمأنينة عليهم ومن ترقِيهم وإعطائهم رتبةً بعد رتبة في الإيمان، وفي زيادة العمل الصالح، وفي الأذواق الوجدانية، وما يدفع عنهم من مصائب كثيرة، ثم حسن الخاتم عند الموت، ثم ما يدفع عنهم من عذاب القبور، وثم ما يدفع عنهم من أهوال يوم النُشور، ثم ما يسكنهم به الجَنَّات، ويُتمْ في ذلك " الأجر الكبير": دخول الجنة خالدين فيها بنعيم مقيم، "لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ"؛ اللهم اجعلنا من أهل الجنة.
(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ .. (9)) فتَرتبتْ حقائق السعادة في الدارين في يقينِ كل مؤمن على الإيمان والعمل الصالح، قوة الإيمان وحسن العمل الصالح؛ سبب الفوزِ والسعادة في الدنيا وفي الآخرة. - فالله يزيدنا إيمان ويختم لنا عامنا بزيادة الإيمان واليقين والتوفيق للأعمال الصالحة اللهم يا من وفق أهل الخير للخير وأعانهم عليه وفقنا للخير وأعنا عليه-.
يقول جلّ جلاله: (وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10))؛ أعد الله العذاب الأليم المؤلم الشديد لكل من كذب بالآخرة وقد دُعي إلى الإيمان بها؛
فويل لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وقد بلغتهم الدعوة وهم أكثر الناس على ظهر الأرض (وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)). يقول الله عن أعمالهم في هذه الحياة: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل:4]، وهكذا رأينا تزيين الأعمال؛ فاستحسنوا أنواعاً مِن المفاسد، والمظالم، والكذب، والخداع، وتفاخروا بها وسموها ما سموها حتى انتهوا إلى هذا الحد الذي هم عليه اليوم. وكان مِن الكفار مَن يقول للناس حرية الأديان، وأنَّه حتى في قوانين معسكراتهم أوفي قوانين جيشهم أنَّهُ إذا عندهم في الجيش أحدٌ صاحبُ دينٍ، ثم اقتضت سياسةُ الدولة أن تحارب قوماً لا تجوز محاربتهم عنده في دينها أنهُ يعفى عن الخروج مع الجيش في ذلك كان هذا في فترات سابقة، وانتهى الأمر.
وكانوا يقولون في فترات سابقة لأهل الأديان عندهم: إنما يكون مِن برنامج الدراسة والحصص التي تخالف دينكم لكم الحرية أن تخرجوا أطفالكم وأولادكم منها فلا يحضرونها ولا يؤثر عليهم في درجات التحصيل للشهادة في المدرسة شيء -كانوا يقولون ذلك-. وأما اليوم فيقالُ للأطفال إن أردت أن تتحول أيها الذَّكر إلى أنثى أو أنت أيتها الأنثى إلى ذكر قمنا لكم بذلك وكنا لكم عضداً ولا تبالوا بآبائكم ولا أمهاتكم إلى غير ذلك مما هو حاصل في ذلك السقوط الكبير للبشر. (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل:4]، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، فهم في هذا العمه، وفي هذا الضلال وينقذ الله مَن ينقذ، وتحق الكلمةُ على مَن سبقت عليه سابقة السوء، يقول: (وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)).
قال الله: (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْر (11))، يقول الله: هذّبوا أنفسكم، واضبطوا تصرفاتكم؛ فإنكم عندما تغضبون، وعندما تثور بكم الثائرة في الرغبة في شيء تضيقون وتعجزون عن حُسُن النظر بما آتيناكم مِن عقول إلى الأمر البعيد وإلى العاقبة وإلى الغاية؛ وتستعجلون الأمور، مِن جُملة ذلك (يَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْر)؛ إذا غضب على نفسه، أو على ماله، أو على على أولاده، قال: الموت والهلاك .. ويهدد!!، كأنه يدعو بخير وهو يدعو بشر، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
وهكذا حتى وصل الغيظ ببعض الكفار يقول: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال:32]، وكان أحد القائلين لذلك مضى وخرج مِن عند النبي ﷺ ويمشي في الطريق، فإذا بحجارة مِن السماء دقتهُ وانتهى وإلى عذاب الأبد و-العياذ بالله تعالى- ولماذا؟! ونهانا النبي إذا غضبنا أن ندعو على أنفسنا، وعلى أولادنا، وعلى أصحابنا، وعلى أموالنا، يقول: "لا تصادف ساعة إجابة، تصادف ساعةَ إِجابةٍ فتهلك" -والعياذ بالله- (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْر .. (11))؛ بسبب العجلة (وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11)).
وفي الصبر حقائق الخير في الدارين، ويقولون الملائكة إذا مروا على المؤمنين في الجنة: (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ) [الرعد:24]، وهكذا الصبر على طلب العلم، الصبر على العمل بالعلم، الصبرعلى القيام بالدعوة إلى الله؛ إذا صبرنا فيها وقمنا بحقها انتهينا إلى نتائج حسنة، حميدة، جميلة، وافرة الخير في الدنيا وفي الآخرة؛ ولكن ماحصلت شيء؟ ما صلح شيء؟ ما جاء شئ؟ ثم ماذا بعد؟! هل تحب تنحرف؟، هل تحب تتأخر عن الخير؟، هل تحب تنقطع عن الهدى؟! أصبر؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]:
ويا صابراً أبشر وبشر مَن صبر** بالنصر والفرج القريب وبالظفر
نال الصبور بصبره ما يرتجي** وصفت له الأوقات مِن بعد الكدر
يقول: (وَيَدْعُ الْإِنِسَانُ بِالشَِرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الِْإنسَانُ عَجُولًا (11))، ويقول الله: يا جميع خلقي المكلفين الذين آتيتكم الأسماع، والأبصار، تعيشون في ملكي، وتحت تدبيري، ثم تنكرون وجودي وأوليتي، وعظمتي، وإحاطتي بكم. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْن .. (12)) ما تشوفون، ما تبصرون؟!
ومن الذي رتب على هذه الأرض في عامة وأكثر بقاع الأرض في الليل والنهار أربعة وعشرون ساعة؟ وينتظم الليل ما بين ساعات تزيد قليلاً على ساعات النهار أو تقصر قليلاً، ومع اختلاف الصيف، ومع اختلاف الشتاء، وبقاع في الأرض يستمر فيها النهار أشهراً، ثم يأتي الليل أشهر إلى غير ذلك؛ بترتيب مِن الجبار الأعلى -جلَّ جلاله- لا يملك أهل الأرض بجميع قواهم بل ولا من في السماء غير الله -تبارك وتعالى- أن يغيروا، ولا أن يبدلوا، ولا أن يقلبوا ذلك، ولا أن يقدِّموا، ولا أن يؤخروا فيه، وأنتم في ملكنا، وتسخيرنا الليل والنهار، وفوق الأرض التي وطدناها وجعلناها لكم قراراً تلحدون بنا، تكفرون بنا، تكذبون آياتنا، تخالفون رسولنا، تخرجون عن نظامنا، تتطاولون بعقولكم علينا؟!.
يقول سبحانه وتعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ.. (12))؛ دالتينِ على عظمتنا وقدرتنا وحسن تدبيرنا، وألوهيتنا وربوبيتنا وتصويرنا، وتقديرنا وتقديمنا وتأخيرنا، فما لكم تنكرون؟ وما لكم لا تعتبرون؟ وأنتم مما تعيشون في ليل أو في نهار؛ لا أرض أنتم خلقتموها! ولا ليل أنتم تصرفتم فيه! ولا نهار أنتم تصرفتم فيه؛ وتجحدون! وتكابرون! وتعاندون! وتخالفون! وتعصُون!.
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) علامتين دالتين على عظمتنا و قدرتنا، وإرادتنا، وتدبيرنا للكائنات، (..فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ .. (12)) جعلناها مظلمة، ومن آية الليل؛ القمر آية الليل، محوناها فجعلناها لا ضوء فيها من ذاتها وإنما تستمد ضوءها من الشمس، ثم نجعل استقبالها للشمس بحسابٍ دقيقٍ منا، في أول الشهر يستقبل طرفها للشمس، ثم يزداد ويزداد حتى تأتي نصف الشهر؛ الأشهر القمرية فتكون بدرًا، ثم بعد ذلك ينقص وينقص حتى تعود ثانيةً هلالًا، وهكذا بهذا التدبير البديع:
( ..لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ .. (12))، بهذه الأيام والليالي ( ..جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62]،(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۚ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الحديد:6]، فهي آيات عظيمة بديعة تدل على عظمة إلهنا الذي خلقنا وخلقها.قال تعالى: ( ..وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12))، بيَّنَاه تبيانًا، وأحسنَّا خَلْقَ كلَ شيء وقدَّرنا كل شيء، وجعلنا سبيلًا لوافرٍ من العلم؛ لِمَن صدق مَعَنا وتَأدَّب، فيأخذ هذا التفصيل وهذا البيان فيما أُرسِل به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ( ..وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا).
يقول الحقُ: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ .. (13))، ملزمةً ( ..كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13))، وهذا الطائر ما بين ما يتفاءل به الناس يتشاءمون، ويقول الحق تبارك وتعالى لا في الطيرة ولا في الأزلام ولا في شيء مما تجعلونه وتعتقدون أنه يحكم على خير أو شر، ليس الأمر كذلك؛ وإنَّما كلُّ واحد قدَّرنا لهُ مِنْ عندنا ما يلقاه، مِّما يَسُرُه أو مِّما يَسُؤه، مما يفرح به أو مما يحزن به ومما عنده، مُعلَّق بعنق كلُّ واحد (طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.. )؛ لا يُؤَثِّر عليه طيور، ولا يُؤَثِّر عليه شيء من الاستقسام بالأزلام عندكم، ولا شيء مما تتشاءمون به، أو تتطيرون به أو تتفاءلون به، ربِّ إنَّ الخير خيرك، "ولا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك".
يقول تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ .. (14)) ليس في القيامة أُمِّيِّ وقارئ، الكل يقرأون الكل يعلمون، الكل يعرفون ما خُطَ وما كُتِب وهذه كُتبُهُم بأيمانهم وبشمائلهم، -اللهم اعطنا كُتُبَنَا بأيماننا وادخلنا جنتك بغير حساب-، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ.. ) -أي كنتُ موقنًا-، (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:19-29].
( ..وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ.. ) -بنفسك- ( ..كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14))، والكل يُقِّر والكلُّ يعرف أنَّه يستحق على هذا العمل العذاب والعقاب. ( ..كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ .. (15))؛ لأنَّ أثر الهداية في الاعتقاد والإيمان، وفي القول والفعل، وفي النيَّة والمقصد يعود عليه ثوابه وخيره وفائدته وبركته، (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا .. (15)).
اللهم اهدنا فيمن هديت برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين، إلى هنا وعامُنا ينقضي وينصرف عنَّا، نسألُك أنْ تجعلنَا يا مولانا من الرابحين في هذا العام والمشهود لهم بالخير، اللهم كلُّ ما كان منَّا في عامنا الذي مضى من ذنبٍ ومعصيةٍ وغفلةٍ وعيبٍ وزللٍ وخطيئةٍ امحها عنَّا وسامحنا فيها واعفُ عنَّا فيها وابدلها إلى حسنات تامات مُسرَّات يا الله، وما كان من خيرات وحسنات نقِّها عن شوائبها واقبلها عندك وادِّخرها لنا عندك وضاعفها إلى ما لا نهاية يا ربنا، وافعل كذلك بأهلينا وأولادنا وذرارينا واجعل العام القادمَ المقبل من أبرك الأعوام علينا وعلى أمة نبيك محمد ظاهرًا وباطنًا بارك لنا فيه واعصمنا من الشيطان وكيده ومن كل سوءٍ أحاط به علمك ووفقنا لكل خير واجعله زادًا لنا للارتقاء في المراتب العلى مع خيار الملا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبسر الفاتحة
إلى حضرة النبي
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله.
29 ذو الحِجّة 1444