(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
﷽
(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14))
الحمد لله على تلألؤ أنوار خطابه، وتظاهر ضياءات كتابه، وإشراق سواطع أنوار ما أنزل على سيد أحبابه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرم على عبدك الأسنى المخصوص بأسنى الخطاب، وعلى آله خير آل وأصحابه خير أصحاب، وعلى من والاهم فيك وسار على دربهم إلى يوم المآب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الأطياب، وعلى آلهم وصحبهم وعلى الملائكة الذين أُنعِم عليهم بسرّ الاقتراب، وعلى جميع عبادك الصالحين يا رب الأرباب، وعلينا معهم وفيهم يا كريم ياوهاب.
أما بعد،،،
فإننا نواصل في يوم الإثنين -اليوم الثاني والعشرين- من شهر رمضان المبارك، في يومٍ تُعرَضُ فيه الأعمال على الله، يومٌ ارتبط بالقرآن وإنزاله، بل ارتبط بالحوادث الكبيرة المتعلقة بجناب صاحب النُّبوة سيدنا محمد:
نواصل تعرُّضنا لرحمة ربنا شاكرين له، إذ لو شاء لأنام الواحد منَّا، أو شغله بأي شغلٍ لا يُقَرّبُ إليه، أو قطعهُ بأي قاطع، ولكنه: هيأ الأسباب، ووفقنا، ومكَنَّنا من الحضور، وأحضرنا بين يديه؛ نتأمل معاني كتابه وتعاليمه وخطابه، للهم لك الحمد. ونحن بذلك:
اللهم لك الحمدعلى ذلك، وهو منك وإليك فأتمم نعمتك علينا.
نُواصل هذا التعرض الذي هيَّأه الله لنا؛ لرحماته ونفحاته وهباته وعطيّاته وتجلّياته ومنوحاته وفتوحاته وإكرامه وإنعامه وإفضاله وجزيل نواله، له الحمد -اللهم لك الحمد شكرا ولك المنُّ فضلا- نواصل طلب هذا التفضُّل؛ بحسن التأمل بمعاني ما نُزِل على قلب:
حدثنا الحق على لسانه: أن الذين يتهاونون بالذنوب والمعاصي؛ يخسرون، وأن الويل واقع؛ للمطففين.. وهو مظهر للتعامل مع الخلق يقول الله: كل مكلَّف من عبادي، تعامل مع عبادي بما لا يليق؛ فأنا المنتقم لعبادي، وأنا الذي آخذ الحق لخلقي، وهو بذلك يدعونا لأن نُقَوِّمَ مُعامَلاتِنا مع عباده وخلقه؛ فلا نتجاوز الحدود، ولا نتعدّى على أحد منهم، فإن الله لا يترك حقوق الخلائق حتى يقضيها لهم.
فذكر: الويل للمطففين؛ فكان تذكرة لنا في التعامل مع الخلق، وأن هؤلاء لو تصوَّروا حقيقة اليوم المُقبل عليهم؛ لما رضوا لأنفسهم بهذه المعاملة، لكنهم تناسوا: (أَلَا يَظُنُّ أُوْلَـٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ(4) لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ (5) يَوۡمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (6)) نقوم لربِّ العالمين:
فامتازوا وهم: الإنس والجن والملائكة، إمتازوا عن بقية الكائنات والحيوانات والجمادات، فالجمادات والنباتات والحيوانات:
أما بالنسبة للملائكة: فكلهم في العصمة.
وأما بالنسبة للإنس والجن فمنهم ومنهم:
فيا فوز المؤمنين المقْبلين، والحمد لله على نعمة الإيمان، اللهم زدنا إيمانًا.
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلاَّ) -كما ذكرْنا: إما بمعنى ردع، أو بمعنى حقًّا- (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ(7))؛ علِمْنا من معاني سجِّين:
أمَّا أخبار وأحوال وشؤون وأعمال وأفكار ومسارات ومسالك الصادقين المؤمنين المخلصين ومآلاتهم وجزاءهم وثوابهم فمرْقوم أيضا؛ لكن في (علّيين) حيث الملائكة المُقرَّبون، وحيث أرباب القدْر عند الله -جلّ جلاله- وهم في العلو والرّفعة.
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)) -كتاب الفجار- (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9))؛ له رقْمه: إما الكتابة، أو العلامة؛ يُرقم عليه، هذه كتب:
فيُرقم ويُعلم بذلك؛ يكون شعار: (كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10)).
وقد ترَثَّينا لأهل التَّكذيب من الموجودين معنا في الحياة الدنيا، والدلائل وصلتهم، وخبر إرسال نبينا محمد وَصَل عندهم؛ فلم يُعيروا لذلك سمعًا ولم يلتفتوا إلى ذلك؛ ومنهم في زمننا؛ مَن عرف ذلك، وعرف أنه الحق؛ ولكنه يُكابر ويُعاند كما كان في زمانه! حتى يُخفون كثيرًا مِمّا اطَّلعوا عليه، ومما عرفوه، بل مِمَّا اكتشفوه عن قومهم وعن جماعتهم؛ خَشية أن يؤمنوا، وخَشية أن يُصدّقوا بمحمَّد؛ فهم صادُّون عن سبيل لله تعالى.
والكثير منهم دون ذلك؛ ولكنَّهم غير مَعذورين، والقليل منهم لم تَبْلُغهُم صورة صحيحة تضعهم في مستوى التكليف؛ فهم أشبه بمن لم تَبلُغهُ الدعوة؛ ويعَود ذلك إلى التقصير الحاصل من المسلمين في تبليغ هذا النبأ والخبر والرسالة.
فإن ما يُنفقون من أموالهم على شهواتهم وعلى المعاصي، لو أُنفق بعضَه على تبليغ الدعوة؛ لوَصلتْ الدعوة لهؤلاء كلهم، ومرّت وسائل الإعلام:
ولكلٍ ما عمل ولكلٍ ما نوى، وهم مع ذلك التقصير حاصل عندهم. جاء التلفاز وكثير من أقطار الأرض، القوانين فاسحة المجال فيها؛ بأن يفتح الإنسان القناة التي يريدها، بأي لغة يريد. فكم فتح المسلمون من قنوات تُعرف حقيقة الإسلام وخبر الرسول محمد، من ضمن المئات والملايين من القنوات وألوف الألوف من القنوات التي فتحوها هم؛ هم المسلمين.
لكن هذا للرياضة، وهذا للتجارة، وهذا للتواصل الإجتماعي، وهذا لكذا وهذا لكذا..! لكن للتعريف بمحمد، كم؟! .. لكن بالدعوة إلى الإسلام، كم؟! ..
فمن بذل -ما بين أفراد وبين مجموعات محصورة- جُهدهم للتَّعريف بالإسلام، لا للسَّعي وراء مقاصد لهم، وأراء تتعلَّق بتنظيماتهم وأوضاعهم في مناطقهم وفي ماليَّاتهم وفي السلطات؛ بل يدعون إلى الله، لا إلى أفكارهم ولا أحزابهم ولا مراداتهم وأغراضهم؛ فهؤلاء -وهم القِلَّة من المسلمين- الله يبارك في جهودهم، ويبارك في مبذولهم، ويبارك فيما قاموا به، وينفعهم ويَأجُرَهم ويُثيبهم على ذلك.
كثير من المسلمين، حتى عندما يريدون أن يدعوا إلى الإسلام، يريدون دعوة بكيفية مخصوصة ترجع إلى:
وكل تلك الشوائب تجعلهم دُعاة إلى أنفسهم، وإلى أغراضهم، لا إلى الله -جلَّ الله- أن يُدعى إليه بغرض النفس ومرادات الحقيرات من الدنيا، إنَّما يدعو إلى الله:
ولا شَرِبَ أحَدَهُم كأسًا
فلستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِماً *** على أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصرَعي
وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ *** يُبارِكْ على أوصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فهؤلاء هم الذين يدعون إلى الله -جلّ جلاله- الله يلحقنا بهم، ويرزقنا الصدق في ذلك معه، والوفاء بعهده، اللهم آمين.
يقول: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)) -الجزاء والمحاسبة- (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)) تعدَّى حدوده فأنكر ما قامت الدلائل والحجج عليه، وأثبته إلهَهُ وخالقه. (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) -كثير المآثم- (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) -يسمع كلام الله وكلام رسوله- (قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13)) هذا الكلام المُسطَّر من قديم؛
إذا سمِع أحد يستشهد بكلام الله وكلام رسوله، قال: هذا كلام قديييم هو لك، نحن في زمان الذرَّة اليوم، الناس وصلوا القمر! والقمر أيضًا قمره -أنت والقمر- وصلوا القمر وبعد ذلك ماذا قدَّموا لك؟! أحضروا لك ذهب من القمر؟ إنت وإلَّا أيّ شراب تشربه؟ وإلّا أكل تأكله؟ ماذا قدّموا لك؟! أنت والقمر. أنت وإياهم والقمر؛ مخلوقين.. ويلٌ لمن كفر، ويلٌ لمن كذب بذلك الكلام، ويل من أعرض عن كلام محمد ﷺ، لا تُطع.
قال: ماذا؟ (قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13)) أمور مُسَطَّرة من قديم، دعنا منها ماذا تريد؟ تعال لواحد فاسق مجرم من أهل الزمان هذا، يتشدَّق بكلامه وباكتشافاته، الله!! بل أنت عبد من خلقك، لست عبد هذا!! لكنك عبَّدت نفسك لهذا؛ فويلٌ لك وله. (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) -اللهم اجعلنا منهم- (أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ*لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِى مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَٰلِدُونَ*لَا يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلْأَكْبَر) [الأنبياء:98-103].
تعرف الفزع الأكبر؟ ليس هو أصوات الطائرات، ولا أصوات القنابل، هذا فزع أكبر؛
(لَا يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ) متى هذا اليوم؟ قال الله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَب)، والسماء بعظَمتها فوق هذه الكواكب كلها والنجوم، قال: نطويها طيّ (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰالِحُونَ) [الأنبياء:103-105].
فأولًا: هذه الأرض في الدنيا اليوم، كم يعيشون على ظهر الأرض؟ ملايين من بني آدم، مَن منهم وارث للأرض؟ من عنده حقيقة خير الكينونة في الأرض، والبقاء على ظهر الأرض، وفائدتها وربحها؟
هي مع الصالحين، والله مع الصالحين، والله العظيم مع الصالحين؛ خير هذه الأرض والكينونة فيها، ومُضي المدة فيها، كل خيرها وبركتها مع الصالحين، مع الصالحين وحدهم على ظهر الأرض، إن أرادوا قنابل يأخذوها، وإن أرادوا طائرات يأخذوها، وإن أرادوا قصور يأخذوها، ويرون ما عاقبتها، لكن خيرات كينونة الإنسان على ظهر الأرض؛ كلها مع الصالحين
ما يُحصّله إلّا هُم، ولذا نادى المنادي يقول:
طلبُ الراحة في الدنيا محال *** وأرى الأنس بها عين النكال
فاز بالراحة من يتركها *** راحة الدنيا مع أهل الكمال
راحة الدنيا مع أهل الكمال، خيرها عندهم، فهم وارثو الأرض اليوم. وبعد ذلك هم وارثو الأرض في القيامة؛ إنْ كان ظلّ، إنْ كان راحة، إنْ كان طمأنينة، عندهم هم، أما الآخرين فعندهم قلق، خوف، هم، فزع، ألم، عذاب، لا شي لهم بعد ذلك.
أرض الجنة مخصوصة بهؤلاء: (أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَ * إِنَّ فِى هَٰذَا لَبَلَٰغًا لِّقَوْمٍ عَٰبِدِينَ) [الأنبياء: 105-106]. عندك سر العبادة؟
قال لسيدنا خالد بن الوليد: "وأنت تأخُذ الُّلقمة من الأرض تنظِّفها وتأكلها أمام هؤلاء، تريدهم أن يحتقرونا؟ قال: من؟ جماعة الكفار! قال: سُنة نبيّي، لن أتركها لأجل هؤلاء الحمقى"، هؤلاء حمقى غرَّهم زَهْوُ المُلك والزَّخرَفة في الدُّنيا؛ حمقى! تترك سُنَّة مُحمَّد نبيَّك وخاتم الرُّسل من أجلهم؟! نظَّفَ اللُّقمة وكُلْها، مستشعرًا قول القائد: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشّيطان، قال: "أترُك سُنة نبويَّة من أجل هؤلاء الحمقى؟"
عين نَظَرَت إلى الأشياء بميزانها الصَّحيح وأنزلت كلّ شيء.
كان يَعرِضُه عرض هدي النُّبوة:
هذه ثقافتنا، هذه ثقافة أصحاب نبيّنا، هذه ثقافة صلحائنا على مدى القرون، لا يرتضون أن يُبدِّلوا موازين الله، وأن يعتبروا من ليس بشيء عند الله، شيئاً أبدًا.. ومع ذلك لا يُغيِّرون أمره وأمر رسوله، بحسن المخاطبة والملاطفة والمكالمة وكُلّها بموازينها، فإذا خُيّروا بين سُنة من سُنن نبيهم، وبين اعتبارات وعادات وتقاليد عند أهل الأرض كلهم؛ نبيهم خير من أهل الأرض كلهم، ومما فيها، ومما عليها، ميزان وثقافة ومدارك وأسس، قاموا عليها..
فيا رب ثبتنا على الحق والهدى
بحرمة هادينا ومُحيي قلوبنا *** ومرشدنا نهج الطريق القويمة
قال: (ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الانفال:24].
دعانا إلى حق بحق مُنَزَّل *** عليه من الرحمن أفضل دعوة
دعانا دعانا أفضل دعوة *** أجبنا قبلنا مُذعِنين لأمرهِ
لنا الفخر أننا لسْنا تابعين لا لآل فضائيات، ولا لآل الفضاء، ولا لآل الجو، ولا لآل البحار، ولا لآل الجيولوجيا، ولا لآل التكنولوجيا..
ليَ الفخر أن لا أتبع هؤلاء؛ بل أتبع محمد صاحب النور المُشرق والوجه المزهِر، ولا أحد منهم في القيامة يقول: أنا لها، كلهم يبكون..! ومحمد يشفع، فلي الفخر:
أنا تَبَع محمد، وليَ بذلك الفخر والشَّرف والعزَّة والكرامة في الدنيا والآخرة؛ على ذلك نحيا وعليه نموت وعليه نُبعث إن شاء الله.
قال: لا أترك سَّنته؛ لأجل هؤلاء الحمقى!! فما يساوون ظفْره، ولا يساوون ترابًا تحت قدمه؛ صاحب المكانة، صاحب القدْر، صاحب المنزلة، كيف يساويه من لا يساوي عند الله جناح بعوضة؟! -صلوات ربي وسلامه عليه-.
يقول جلّ جلاله: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (14)) يتكلَّمون معك بلسان الذنوب التي ألِفوها واستمروا عليها، فلما استرسلوا في الذنوب والسيئات؛ رانتْ على قلوبهم -غلبتها تلك الظلمة- فهم لا يريدون الانفكاك عن سوءِهم هذا، وشرِّهم! ولذا يُكابرونك ويَجحدونك ويُخاطبونك بمثل هذه الخِطابات (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (14)) والرَّين: ما غَلَبَ على الشيء وغطَّاه (مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (14)) من الذُّنوب والسَّيئات.
فإن الله خلق الإنسان على فطرة: كلما زاول فعل شيء؛ تحول كثرة ذلك الفعل إلى مَلَكة نفسيَّة في باطن هذا الإنسان..
حتى في عُرف النّاس بعضهم البعض، من أَكثَرَ من شيء، عُرِفَ به، حتى إذا أراد أن يُعرِّف واحد يقول له: ذاك الذي دائمًا يضع يده هنا، أو ذلك الذي دائماً يقول كذا وكذا.. أو ذلك؛ أي شيء أكثر منه؛ يصبح معروف به.! كلما أَكثرتَ منه من خير أو شر؛ أثَّر عليك، وصارت لك فيه مَلَكَة نفسانيَّة فكأنك من ذلك الشيء..
ولذلك قال أهل المعرفة بالله: "بكثرة الذكر يظهر سر ما في الغيوب" فلمّا تُكثر ذِكرَه يُريك حقائق وجودك، حقائق كونه، حقائق خلقه، لما تتصل به -سبحانه- تُكثر ذكره؛ يكشف لك الحجاب عن حقيقة وجوده وكونه والعالم الذي خلقه وحكمة الإيجاد للخلق بالكثرة. وهكذا كل من أكثر من شيء:
وهكذا تُعرَضُ الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيّما قلب أنكرها، نكتتْ فيه نكتة بيضاء، وأيّما قلب رضيها -هذه الفتن- نكتت فيه نكتة سوداء، حتى تكون القلوب على قلبين:
يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك، اللهم اكفنا شر الذنوب وشر السيئات وشر المعاصي ونور قلوبنا بنورك (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(14)).
جاء في الحديث: "ذا أذنبَ العبدُ ذنبا نكتَ في قلبه نكتة سوداءُ فإن تابَ واستغفرَ صُقِلَ، وإلا إن تمادى وعاد إلى الذنب نكتت نكتة أخرى أكبر منها، فإن عاد نكتت نكتة أكبر منها حتى يسود القلب؛ فذلك الران" الذي قال الله: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(14)).
فصَفِّ المرآة وأصقلها؛ ترى الحق واضحًا! فإن الحقيقة في وجودنا ووجود هذا الكون وإنزال الكتب وإرسال الرسل والرجوع إلى الله، هذه الحقيقة مستعدٌ كل قلب لأن يجتليها تمامًا، لكن يمنع عن اجتلائها أسباب.
كما أن الله جعل لنا في عالم الحس عندنا: مرآة، هذه المرآة تظهر فيها الصورة إذا قابلتها، فكذلك القلب بالنسبة لهذه الحقيقة.. تطلع الحقيقة في القلب، لكن يمنعه من ظهور الصورة في المرآة:
كذلك هذا القلب أمام الحقيقة:
قال الله لرعيلنا الأول: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65] هنا يأتي الإيمان، هنا يدركوا الحقيقة..
كيف ما يستقبل؟
ما تظهر الصورة؛ لأن الصورة في جهة والمرآة في جهة أخرى.. فالحقيقة لا تظهر في القلب؛ إلا للمستغرقين بذكر الله؛ جمعوا وجهاتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم على الله.
ومن هنا تقرأ قول العارفين، مثل الشيخ الشعراني وغيره من علماء مصر يقول: "أنا سائر في طريق الله مع الصالحين، إذا لم يكن بحيث يجلس من الغروب إلى الفجر مستمر في الذكر لله -تبارك وتعالى- لا يفتر ما يجيء منه شيء في الطريق"، يعني: ما يصل إلى الحقيقة، ما عنده جمعية على الله، أتى ذكر نص ساعة، ربع ساعة، خمس دقائق وذهب، وتشتت فهمّه هنا وهنا وهنا ورجع مرة ثانية، بعد كم أيام، يعمل ذكر قليل ويرجع.
مثل الذي يريد إخراج الماء من الأرض، مياه جوفية كثيرة -الحمد لله- لكن يحفر هنا قليلاً ويتوقف ويترك، ثم يذهب ويحفرهناك ويتوقف، وماذا بعد؟ طول عمرك ستحفر لن تصل الى الماء، اثبت اثبت! واستقر حتى تصل إلى الماء (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(14))، ومن سَلِمَ قلبه من الران؛
ثم عَلِم كيف التَّوجُّه: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام:79]، (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ) [الأنعام:162-163].
وتوجه فعلاً، استقبل الحقائق تنجلي في قلبه تمامًا يفهم معنى: الرسالة ومعنى الرسول، ومعنى خلق الوجود والرجوع إلى الموجود المعبود -جل جلاله- ومعاني الجزاء والحساب، والاستقرار والخلود في الجنة أو النار؛ صورة واضحة جليّة أمامه كأنه يراها؛ هذا صاحب: عين اليقين، انتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين.
وفي مثل ذلك قال سيدنا أبو بكر الصديق وقال سيدنا علي بن أبي طالب: "لو كُشِفَ الغطاء ما ازددت يقينا" خلاص لو انزاحت الستارة كلها ورأيتُ بعيني كل شيء أُمرت بالإيمان به، لم يعد يزداد يقيني! أنا على يقين كأني شاهدت! هؤلاء أهل عين اليقين، بل أمثال أبي بكر وعلي -عليهم الرضوان- أخذوا مراتب في حق اليقين، في إرث النبوة -صلوات الله وسلامه على النبي وعليهم أجمعين-.
والذي يعيش مسكين؛ لا يعرف من هذا الكلام خبر! عنده الذي تبثه له القنوات، هذا واقع في ورطة الحياة الدنيا في خبالتها! في ظلماتها! في آفاتها! في شَرّها! في ضُرّها! في بلاها! حتى يموت مسكين ما عنده خبر! (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:156]، (فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا) [الأعراف:51] -أعوذ بالله من غضب الله- .
فيا فوز من تَنَبَه، وإلى الله توجّه، وتَصَفّى حتى صَافى، فصوفي، فصافاه الله (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)، واحد معلمهُ الله ماذا تقول فيه؟! هل محتاج لدفاترك؟ أوكُليَّاتك هذه؟ أو للدراسات العليا في أمريكا أو في أوروبا أو في ... يحتاجها؟ يُعَلّمهُ الله! هل محتاج لشيء من هذا حقك؟ يُعَلّمه الله.. الله أكبر! (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) [البقرة:282].
من أين؟ وأين الباب؟ (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:150-151] مِنَ الباب هذا.. من الباب هذا.. من عند محمد، يُعلّمك الله بمحمد، كيف نصل؟ قال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152] يعني توجهوا إليّ، اقبلوا علي، استغرقوا همكم وفكركم في.. اذكروني أذكركم؛ وإذا ذَكَرتُكُم عَلَّمتُكُم. من هذا الباب! (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة:2].
في الآية هذه قالوا: (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:151] تُدرك حقائق المعارف، حقائق الأمور، واضح؟ عندما تموت تُحصّلها هي هي هكذا، لما ينفخ في الصور تجدها هي هي.. هي نفسها كما عُلِّمت ما في، ما في غير هذا (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52] صلوات الله وسلامه عليه، هم الموقنون (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ) [البقرة:4-5] -اللهم اجعلنا منهم يا كريم-.
نظر الله إلينا، وصفّى مرايا قلوبنا، وما كان من ظُلمة السيئات فيما مضى امحُها عنا، صفِّ قلوبنا عنها، طَهّر سرائرنا منها، يا الله.. وارزقنا الصدق معك، والإخلاص لوجهك ، وصدق الإقبال عليك، اجعل لنا استغراقا فيك ما دمنا في هذه الليالي والأيام، في هذا الشهر الكريم؛ حتى تفيض علينا نور العلم النافع، وندرك الحقيقة فتتجلّى في قلوبنا.. ونرقى مراقي علم اليقين، توصلنا إلى مراتب عين اليقين.
يا ربّ بفضلك، ما دُمنا في هذه الحياة قبل أن تُطوى الصحف وينتهي العمر، ويحضُر الأجل، وترتفع الفرصة؛ فيا رب لا تذقنا غصة، واجعلنا ممن يغتنم الفرصة، وممن يدرك هذا المقام ما دام في هذه الحياة وما دام في هذه الدنيا؛ حتى يلقاك على محبة وعلى إيمان وعلى يقين، ويدرك سرّ قول عبدك بلال بن أبي رباح: "واطرباه" عند الموت يقول: "واطرباه واطرباه غدًا ألقى الأحبة محمدا وحزبه".
اللهم أذقنا ذاك الكأس، وارحمنا إذا صرنا في الأرماس، اجعلنا في زمرة خير الناس، يا قوي يامناح يا فتاح يا رحمن يا رحيم.. لا يخرج عنا رمضان ونحن خِلْوًا من هذه العطايا، وصفر الأيدي من هذه المنح ياخير من منح، يا أكرم من فتح، هب لنا من مواهبك الكبيرة، ألحقنا بخير قطيرة، وسر بنا في أكرم وأقوم سيرة، اجعلنا من عابِديك على بصيرة، ومن الداعين إليك على بصيرة منيرة، يا الله..
انشر هذا النور في كثير من أمة حبيبك، وأرنا إياهم وأقر عينه وأعيننا بهم؛ وأنت راضٍ عنا يا الله.. واحشر الجميع في زمرته وارزقنا الاستظلال بظل لوائه، والورود على حوضه، والمشي معه إلى الجنة وأنت راضٍ عنا برحمتك..
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي ﷺ
فإن قلت: إن مجالس الخيرات هذه في الأرض؛ فهي في الأرض
وإن قلت هي في السماء؛ فهي في السماء
وإن قلت هي في عليين؛ فهي في عليين..
والله يلحقنا بالصالحين والحمد لله رب العالمين
24 رَمضان 1437