(535)
(339)
(363)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة القلم، من قوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، الآية: 34
﷽
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45))
الحمدُلله، وقد أصبحنا، وأصبح المُلْك لله، في يوم الفُرقان، يوم التقى الجمعان، اللهم لك الحمد شُكرًا يا ناصِر عبدك المُصطفى محمد، وهادينا به إلى سبيل الرشد، اللهم ثبّتنا على دربه، واجعلنا في حِزْبه، واسْقِنا من شُرْبه، وأنْعِم علينا بمرافقته، وقُرْبِه برحمتك يا أرحم الراحمين، وأرِنا الوجوه الأوائل التي نصَرته بالصدق والإخلاص، واجعلنا اللهم معهم في يوم الأخذ بالنواصي، نسْلم من الآفات والعاهات ونسكُن في أعلى الجنات، اللهم أدِمْ الصلوات على من أنزلتَ عليه القرآن، وجعلته سيد الأكوان، عبدك المُصطفى سيدنا محمد وعلى آله الأطهار، وأصحابه المُهاجرين والأنصار، خصوصًا منهم آل بدر ساطِعي الأنوار، والذين هم خيرة الأخيار، وتميّزوا في الأرض عن بقيّة أهل الأرض، كما تميّز الملائكة الذين حضروا في يوم بدر مع نبيّك، عن جميع ملائكة السماء، و صلِّ معهم على من والاهم فيك، واتّبعهم بإحسان، وعلى آباء نبيك وإخوانِه من الأنبياء والمُرسلين، من عظّمت لهم القدر والمنزِلة والمكان، وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، وملائكتك المُقرّبين، خصوصًا من حضر منهم يوم بدر، وعلى جميع عِبادك الصالِحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،
فإنّنا في تأمّل معاني كلام ربِّنا -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، مررنا على الآيات الأولى من سورة القلم، إلى أن ذَكَّرنا الله باختِبار لأصحاب بُستان، والبُستان يُقال له في اللغة: الجنّة، تجتمِع فيه أشجار تَجُنُّ ما وراءها، ويجُنُّ بعضها بعضًا. وقال: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ) -يعني المشركين وأهل مكة- (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ (17))، ولما بلا أصحاب الجنّة، واختبرهم، ندِموا ورجعوا إلى ربّهم:
(بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا) أرسل إليهم عبده محمد، وبدل أن يعْتزّوا بذلك ويفتخِروا، و يشكُروا نِعمة ربّهم، كفروا به، وآذوه، حتى أخرجوه من بلده: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]، يُثبِتوك: يحْبِسوك، أو يقتلوك، أو يخرِجوك، فخرج ﷺ إلى المدينة المنورة، ضرب الله مثلًا بهؤلاء القوم، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [ابراهيم:28].
قال: مثلما بلونا أصحاب الجنة (أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17))؛ (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)) الليل البهيم الأسود، والرماد الأسود؛ فلا شيء فيها، ولا أثر، ولا بقِي مما هي فيه، حتى ظنّ من ظنّ منهم، أنّهم أخطأوا في الطريق، وأن هذا ليس محل جنّتِهم الزاخِرة بالزُروع الكثيرة، فإذا بها هي جنّتهم!! وتلاوموا، ورجعوا إلى الربّ. -جلّ جلاله-.
بعد أن ذَكّرنا الحق بكلِّ هذه المعاني، ذَكّرنا بما يجني؛ من آمن ومن صدّق، واتّبع الحق، من حين ما أهبط الله آدم إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، من اتّبع الحق؛ والحقُّ ما أنزله الله على أنبيائه، ليس على ظهر الأرض مِّما يُخالِف ذلك حق، لا فِكرًا، ولا تصوُّرًا، ولا اطِّلاعًا، ولا منهجًا، ولا سُلوكًا، ولا نِظامًا؛
كلّ من خالف ما أُنزِل على الأنبياء في الأرض، باطِل .. باطِل، وداحِظ وضار وفاسِد، كل ما خالف ما بُعِث به الأنبياء؛ تصوّرًا، فِكرًا، اكتِشاًفًا، نُذرًا، مسلكًا، نِظامًًا، اتِجاهًا؛ كل ما خالف ما عليه الأنبياء، فالباطِل الباِطل الباطِل الزيغ، الضلال، الكُفر، لا حقّ إلا فيما بعث الحقُّ به أنبياءه؛ (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) [يونس: 32].
يقول تبارك وتعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) الذين أحسنوا استِعمال ما آتيناهم من فِطرٍِ وعقول، فاتّقوا غضبنا، وسخطنا، بامتِثال الأوامِر تعظيمًا لأمرِنا، واستِعدادًا للقائنا، وتركوا المناهي خوفًا، مِنّا، وخشية مِن سوء المآل، إذا آلوا إلينا، (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34))، وانظُر قبل أن يقول جنّات النعيم، قال: (عِندَ رَبِّهِمْ) أُضْفي عليهم عِنايتي، ورِعايتي، أكشِفُ لهم عن أسرار مودتي، ومحبتي، (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)).
ومن أعلى ما ينكشِف لمن قُتل في سبيل الله شهيدًا، ومعنى شهيد:
لا يقول ردّني مرة أخرى سأبني، أو رُدّني سألعب، أو رُدّني سأركب سيارة، أو طائرة، بل رُدّني لأُقتل، أرجع مرة أخرى إلى الدنيا؛ أُقتل في سبيلك، ولا أحد من أهل الآخرة يتمنّى الرجوع من المؤمنين، من أهل الجنة -لا أحد يتمنّى الرجوع إلى الدنيا- إلا الشهيد؛ لِما يرى من أثر الشهادة.
قال: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34))، قالوا وهذا الفقه الذي كانت تشعُر به الروح الصادقة مع ربها، التي ضربها الله مثلًا للمؤمنين، وهي تعيش في قصر الطاغية فرعون -آسية بنت مزاحم- ولمّا نقل الله لنا نموذجًا من دُعائها، في مثليَّتها لأهل الإيمان، فيقول لنا: أضرِب لكم مثل فيمن عاشت عند أهل الطُغيان والكفرًٍِ والدعاوي الباطِلة الكبيرة، ممن يقول: أنا ربّكم الأعلى؛ ولكنّها مؤمنة، وهي مثل للإيمان؛ أي لن يعدم صادِق معي تحقيق إيمانه، وتطهير جَنانه، ونيل إكبار شأنِه، ولو عاش بين أشرِّ الخلق، في أيّ زمان، في أيّ مكان يصدُق معي، أنا ربّ الأزمِنة والأمِكنة، وجعلها مثلاً للمؤمنين: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) [ التحريم: 10].
ونقل لنا نموذجًا من مسلكها، الذي يُعبّر عنه هذا الالتجاء إليه ودُعاؤه، والتضرُّع إليه، إذ قالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) [التحريم:11]، فلاحظت بمشاعِرها وأحاسيسها، قبل أن تقول: في الجنّة، قالت: (عِندَكَ) ما قالت: "رَبِّ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ"، (عِندَكَ)، قال: عندك في الجنة، أول عندك، ثم في الجنة، قالوا: لأن "الجار قبل الدار"، الجار قبل الدار، أهم من الدار:
"بجيرانها تغلو الديار وترخصُ"
فتجد دار جِواره أخيار، أبرار، أطهار، نافعين، ولو غلت قيمته أحسن لك من دار بجانبه مؤذين، لمّازين، يذوّقونك المُرّ طول عُمرك، تتعب معهم، "الجار قبل الدار"، هذه قالت: أريد جوارك، ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة، (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ):
في مقعد الصدقٍ الذي قد أشرقت أنواره *** بالعندية ..
كونهم عند الله، بالعِندية لك.
قال: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34))، هي بساتين ليس مثل بساتين الدنيا عظيمة وعجيبة، واشجار وأنهار: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [التوبة:72]، وقصور من ذهب وفضة؛ ولكن ميزتها الكبرى أنها عند الله في محل رضوانه، ومحلم ملاطفته، وتنزِّله، وكرمه، وامتِنانه؛ يخاطبهم ويتودد إليهم، يتنزّل معهم:
فيُعطيهم مزايا، فميزة الجنّة وخيرها كونها عنده، في موطِن قُربِه ومحبّته ورِضاه، -الله أكبر! الله أكبر!-.
قال سيّدنا المُصطفى لساداتِنا الأنصار، لمًّا تكلّم بعض شُبّانهم بعد فتح مكة، وكان فتح مكة أيضًا في رمضان، في أواخر رمضان، ثم خرج إلى الطائف، ورجع بعدها، بعد أن قاتل أهل هوازن، وجمع الغنائم، وخرج الطائف، ورجع فقسم الغنائم. وفي حِرصِه على أمّته، خصّ بأكثر ما يعطي المؤلفة قلوبهم، فأعطاهم من مئات .. مئات:
وجاء من بعده ولم يكن لهم نصيب من الولايات والإمارات في مختلف الأماكن، وصبروا وعملوا بوصيّته وماتوا على الوفاء؛ فهنيئا لهم، ولِما حصّلوه قبلهم، والله يرينا ووجوههم، "أما ترضون أن ينقلِب الناس بالشاة والبعير إلى رحالهم، وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم".
ولئن فارقنا جسده الكريم، ومظهره في ذاته الطينية الإنسانية الآدامية؛ فلا والله ما فارق الصادقين من أمّته روحه الكريم، ولا معاني الصِّلة القلبية الروحية به وبشريعته ودينه ومنهاجه وسنّته وما أوحى الله إليه.
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34))، بساتين، الأنعام المُطلق الدائم من الله -تبارك وتعالى-، ولمّا كانت جنات النعيم كانت تِلك البساتين كُلّها لا شوك فيها، ثم مهما كان عِندك بُستان، بل الكثير من أحلى الفواكه والأطعمة فيه شوك كثير، هذه بساتين الدنيا هكذا
ولابُدّ دون الشهد من سّم اللسّعة *** ولابُدّ من الشوك عندما تجني الحالي
ولولا الشوك ما عزّ مجني كلّ حالي
هذه بساتين الدنيا، لكن تلك جنات النعيم ليس فيها شوك، ليس شوك فقط؟! و ليس فيها قشر، (وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ) [الواقعة:29] لا قشر له، كلّه نافع يُؤكل، واذا فيها قشر، ستجمع لنا أكياس قمامة أو ماذا؟! ليس في الجنّة شيء من هذا!! جنّة نعيم.. اسمها جنّة نعيم:
اما تفكر من أجل الوصول إليها أن تُطهر باطنك تطهير كامل؟! لأنها طاهِرة، طاهِرة تمامًا، وقال الله: (لهم فيها أزواجُ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [النساء:57]، لا أحد منهم يبول، ولا أحد من نسائهم يحيض، لا أحد منهم حتى يبصُق، ما الشيء العجيب هذا! وعندهم مناديل، من أجل ماذا؟ رشح عرق مثل المِسك -أطيب من المِسك- يمسحون بها وجوههم كذا، لا إله إلا الله؛ هذا نوع من الرفاهية والزينة، "لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّةِ خير من الدنيا وما فيها" - يقول ﷺ، مناديل سعد، سعد بن معاذ هذا صاحِب الموقِف في بدر.
"لمناديل سعد في الجنة" هنيئًا له، لو لم يكن في حياته إلا الموقف الذي كان فيه مثل أمس، وسّر به قلب رسول الله لكفى سعد ذلك، كيف وهو الصادق أول وأخر -رضي الله تعالى عنه-. وعند موته في السنة الخامسة من الهجرة، بعد غزوة بدر بثلاث سنين، توفي سيدنا سعد هذا، وسعد هذا ما وصل الاربعين من السنين.
في الخيمة التي عُملت له في المسجد، كان يُداوى فيها من جُرحِه الذي أصابه في يوم الخندق، لمّا أكمل الحُكم في بني قُريضة، وحكم فيهم بما يُحِبُّه الله تعالى، قال فيه النبي: "قد حكمتَ فيهم بحُكم الملك"، لأنه الجُرح الذي فيه أصاب العِرق هذا في اليد، ما عندهم ما يجفف دمه ولا يمسكه أصلًا، يظل ينزف الدم حتى يموت، فلما رآه في الأكْحل، ثم قال: ربي لاتمُتني حتى تشفي غيظي في بني قريظة، الذين خانوا نبيك" اتفقوا مع المشركين سيدخلونهم هنا وبيننا وبينهم عهد، بين النبي؛ فالتأم الجُرح على غير العادة، حتى لمّا أرادوا أن يصالحوا النبي قالوا: سننزل على حُكم سعد، وهو سعد الذي قال: لا تمُتني حتى..، وما الذي جعل قلوبهم تجي له؟! لأنهم ظنّوا أن سعد لمّا كان حليفهم أيام الجاهلية، أنه سيرفِق بهم، لم يدروا أن سعد صار واحد لواحد.. سعد صار واحد لواحد! -الله أكبر- قدوته محمد ﷺ.
فقال الله: أنا سأجعلهم يطلُبون حُكمك أنت، وسأجري ما أُحب من الحُكم على يدك، فلمّا حكم فيهم بأن تُقتل مُقاتلَتهم، وتُسبى ذراريهم، وتُقسّم أموالهم، خرج إلى المكان الذي فيه النبي ﷺ، على دابة وهو بمرضه، فلمّا أقبل، قال لهم ﷺ: "قوموا إلى سيّدكم"، قوموا لسعد بن معاذ، وجعله سيّدًا عليهم، ثم قال له: "لقد حكمت فيهم بحُكم الملك، من فوق سبع سماوات"، وقرّ الله عينه، ونفّذ الحُكم ورجع إلى الخيمة، وفى اليوم الثاني، مرّت شاة مأمورة، وكل شاة أو غيرها لا تمشي إلا بأمر الله؛ تعالي إلى عند محل سعد الذي أمسكناه إلى أن يُنفّذ الحُكم،- مرّت إلى عنده؛ دقت الجرح، وخرج الدم، وجاء الموت، فاضت روحُه.
وسيدنا جبريل نزل عند الحبيب: "من هذا الرجل الصالح من أمّتك الذي اهتز لموتِه عرش الرحمن"، ولمّا توفي وصعدت روحه نحو السماء، اهْتزّ العرش طربًا، ليس السماوات، ليس البيت المعمور فوق سبع سماوات، وإنما العرش اهْتزّ؛ ما المملكة الكبيرة هذه؟! هل شيء منها يُغني عن ملك كسرى أو قيصر؟! مُلك كِسرى تُغني عنه كِسْرةٌ -قال العاقل ذاك-، لكن هؤلاء حصّلوا المُلك الكبير؛ اهْتزّ عرش الرحمن فرحًا بقُدوم روح سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه- وأخبر ﷺ: "أن سبعين ألف ملك نزلوا من السماء، لتشيع جنازته ما نزلوا قبلها إلى الأرض قط"، أول يوم ينزلون من السماء إلى الأرض هؤلاء الملائكة؛ من أجل شُهود جنازة سعد بن معاذ، -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34))، لهذا ماعاد تحتاج إلى أتعاب في الحراثة ولا في الزراعة؛ والعجب في أشجار الجنة جُذورها مُعلّقة في السماء، والأغصان إلى تحت كذا، تفرّج عليها، عجيب! (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) [الحاقة:23] كما قال ربك -جلّ جلاله-، (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) [الانسان:14]، سواء أن كان قائما، أو جالسا، أو مضطّجعا على السرير، يقول: كذا، يصِل إلى عنده القِطف، إلى عنده! -الله أكبر- (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) بمُجرّد خاطِر يمشي، يُحرِّك شجرة .. شجرتين .. ثلاثة .. أربع .. مئة -بالخاطِر-، يريد واحِدة؛ يجيء بواحِدة -بالخاطِر- يرد عشر؛ يجيب عشر- بالخاطِر فقط-، على طول بخاطِره يتفاعل مع ما حوله، (إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الانسان:20]، كما أصحاب الإلكترونيات؟! إلكترونيات!؟ لا إله إلا الله.
(هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص:39]، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر -الله أكبر- إلكترونيات يجيء لها قليل فيروس ثم يقوم يصلحها؛ خرب الجهاز كله، حتى بعض أجهزة الجهات الرسمية، وبعضها جهات مُهِمّة في الجيوش في الدول الكبرى؛ حصل الاختِراق في أجهزتها في الكمبيوتر، وقعت لهم هزّات، لكن في الجنّة.. في الجنّة، هذا الذي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34))، ومن العجب أن الناس في الحياة الدنيا في غرورهم، يقولون أن الكافر المغرور، يرى عنده متاع، عنده مال، عنده أي شيء، يقول: أنا أحسن منك، لو في عاد أغرى، سأكون أيضًا أحسن منك، ماذا؟ قالوا: نحن عندنا مال أكثر منكم، أكثر الذين دخلوا في الإسلام فقراء، وعندنا متاع أحسن منكم، فإن جئنا في الآخرة فسنحصل على أحسن منكم
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) ويقولون نفس ماقاله الوليد المغيرة يقول: الذي له دين عليه، يقول: أليس أنت تقول إنّكم تُبعثون؟ قال: نعم كما أخبرنا رسول الله، قال: تعال عندي في البعث، عندي هناك أموال وأولاد، ستحصل، سأعطيك الذي لك بعد ذلك . في الآخرة، تعال!
قال الله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35))، قال الأمر كتبته؛ أن نعيد العباد إليه، وأُحيهم مرة أخرى لأجازي، أجازيهم على ما كلّفتهم في الدنيا، أأجعل الطائع مثل العاصي، المسلم مثل الكافر؟!، يعني هؤلاء لا يستعمِلون العقول التي أعطيتهم إياها؟! ما لهم يتكلّمون بهذا الكلام، (أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚإِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك:20]، (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك:22].
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)) يقول الله: هذا في أيّ ميزان يكون؟ أنا أعطيتكم عُقول تُدرِكون بها الأشياء؟ هذا بأيّ منْطِق أجعل مسلم مثل مُجرِم؟! كيف؟! آمن بي، واتّبع رُسُلي، وخضع لأمْري، وتذلّل لعظمتي، ونفّذ أمري، ويجيء المُعانِد لي، المُكذِّب بي، المُكذِّب برسلي، المُخالِف لهم، يقول: أننا متساوون!!. كيف يعني؟! ولماذا جعل آخره؟ ولماذا جعل الجزاء إذا هم متساوون؟! ولماذا أرسل الرُسل؟ (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35))؛ يقول الله: اعْقُلوا..
(أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ)، هل عندكم عهود عاهدناكم عليها؟! نحن الذين خلقنا الآخرة وخلقناكم، أعطيناكم عهد؟! (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ ..(39)) المؤكّدة إلى يوم القيامة، نقول لكم في القيامة لكم كذا، لكم كذا، أحد قال لكم كذا؟! تتكلّمون على شيء لا في مُلْكِكم، ولا تحت يدِكُم، ولا لكم اختيار فيه، كيف تتحكّمون؟! أنتم محْكومون، لستم حاكمِين! فكيف تتكلّمون بهذا الكلام؟! لا إله إلا الله.
(أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۙ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39))، أم لكم تنفيذ ما أردتم، أو تطبيق ما تقولون وما ترون، (سَلْهُمْ) -قل لهم يا محمد- (سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40)) من الضامِن منهم أنه هناك كتاب من عندنا، أو في عهد أعطيناهم إياه؟! لا إله إلا الله، وهكذا ردّ على اليهود: (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 80]، كلام من عندكم كذا، ما له أصل ما له دليل.
(سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40))، قل لهم: مَن الضامِن -الزعيم- فيهم الذي يأتي يشهد بهذا الكتاب؟ (سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ (41)):
(سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41)) دعوا الكلام هذا الذي لا ينفع:
(يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) للرب (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) تصير ظُهورِهم مثل الصحيفة الواحِدة، مثل العظم الواحِد، لو حاول يسجُد يسقُط وراء، يُحاول يسجُد ويسقُط وراء، لا يقدِر يسجُد لماذا؟ لأنّه لم يرضَ أن يسجُد في الدنيا، وكيف هذا؟
جاء في عجائب تجلَّيات الله في بعض مواقِف القيامة، مجموعات من أهل الموقِف، والمروي دائماً في الأحاديث وفي كثير من الآيات، يكون عن أحوال مواطِن ومواقِف في القيامة، منها الذي جاء في صحيح مسلم وغيره، "إن الحق تعالى لما يتجلّى على جماعة من الناس مسلمين ومشركين، يقول: هل عرفتُموني؟ يقولون: لا؟ يقول: من كان له معبود يتبع معبوده -من له إله يتبع معبوده- فيؤتى بالأصنام، وكل المعبودات من دون الله -تبارك وتعالى- ويتبعونها، فيبقى مجموعة من اليهود ومن النصارى:
فيبقى الذين كانوا يسجُدون من الصنفين؛ مؤمنين ومنافقين، فيتجلّى الحق عليهم؛ يعرِفونه..
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42))، لا يقدرون، -الله أكبر- لا يقدرون على السُجود!، لأنّهم لم يسجُدوا لله طائعين في الدنيا، بل كانوا مُنافقين
(خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ)؛ عليها الكآبة والحُزن والهم، (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا) في الدنيا (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ)، ما قوّس الله ظهر أحد في الدنيا، ولا صلّبه ومنعه من السُّجود، كانوا يقدِرون يسجُدون لكنّهم لم يرضوا، لا إله إلا الله، (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)).
يقول الله: (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ) هو هو هو، ما التهديد هذا الذي ما فوقه تهديد؟ (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ) أفراد أو جماعات، شعوب أو حكام، أو دول، فَذَرْنِي: (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ) لأنّه لا يفوتنا شيء، إنّما يسْتعجل من يخاف الفوات، الجبّار لا شيء يفوته (وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45))؛ وكم في هذه الآية من عجائب.
اللهم ثبّتنا على الإيمان، وارزقنا مُتابعة سيد الأكوان. وبحق الحبيب البدر ومن حضر من أصحابه في بدر أرِنا وجوه أهل بدر، شرِّفنا برؤية وجوههم يا الله في يوم الحشر، في البرزخ وفي الجنة، ولمن أذِنت مِنّا في الدنيا نراهم في منامٍ أو يقظة، و نُحشر معهم، وندخل يوم وعد الله معهم جنانًا تُربها مِسكٌ وجوهر. يا رب العالمين إنّك تُلحِق من أمة حبيبك محمد في كلّ سنة من شئت بهؤلاء، فالحقنا بهؤلاء الصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبدك جبريل نزل على عبدك محمد بعد يوم بدر يقول: "ما تعدُّون من حضر بدر فيكم؟، قال: يا جبريل هم خيرنا وأفضلنا، قال: كذلك من حضر بدرًا معك من الملائكة، هم خيرُ من في السماء" -الله أكبر- خير من في الأرض خير من في السماء؛ من حضر مع محمد في يوم بدر؛ فإذًا محمد سيّد أهل الأرض وسيّد أهل السماء، حازوا الفضل والشرّف به من في الأرض ومن في السماء -صلوات ربي وسلامه عليه-.
الله يجعلنا من أتباعه، وارزقنا حسن اتباعه والإستضاء بنور شعاعة، يا رب العالمين، يا أكرم الأكرمين، أصبحنا في يوم الفرقان، فانظر إلينا نظرة تفرق بها في واقع عالِمنا هذا، وزمننا بين الحق والباطل، كما فرقت بغزوة بدر، بجاه البدر، يا عالم السر والجهر، ردّ عنّا كيد أهل الزيغ والكفر، ولا تُبلِّغهم مُراد في رجالنا ولا نِسائنا، ولا صِغارنا و لا كِبارنا.
اللهم احفظ المسلمين، واجمع شمل المسلمين، وألف ذات بين المسلمين واجعلنا في أنفع المسلمين للمسلمين، وأبرك المسلمين على المسلمين، وانفعنا بهم عامة، وبخاصتِهم خاصة، يا رب العالمين، يا أكرم الأكرمين.
صلِّ على المصطفى محمد، وعلى من حضر معه بدر من صحابته والملائكة، وعلى جميع آله وأصحابه، وأهل حضرة اقترابه من أحبابه، واجعلنا منهم وأدخلنا فيهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم سِر بنا في طريقهم، وادخلنا في فريقهم، واسقنا من رحيقهم الذي سقيتهم في الإيمان، والمعرفة، واليقين، والمحبة، يا أكرم الأكرمين.
بسر الفاتحة إلى أرواحهم وإلى حضرة النبي
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
الحمد لله رب العالمين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
21 رَمضان 1440