(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30))
الحمدُ لله، جَعَلَ في النفوسِ عَجبا، وجعل من أعجب ما فيها نُفوسُ بَني آدم التي بواسطتها يرتقونَ رُتَبا، وبِسَبَبِها أيضاً يَهوَونَ هاوياتٍ سَحيقةَ، فلا يُحاطُ بما يَنالهم من عذابٍ كان من الله غَضَبا.
ولقد أقسم الحقُ الخالق بمظاهر الكائنات كلها أن الفلاح لمن زَكّى هذه النفس، وأن الخَيبةَ لمن دَسّاها، وما من طَريقٍ لِتَزكِيتها إلا انتهاج منهج الرب بالتعظيمِ والمحبة والمعرفةِ والرغبةَ في القُربى، ثم ينبسط بساط تلك التزكية بواسطة الأزكياء بسلاسلِ إسنادٍ إلى أزكى الأزكياء، المؤتمن على التزكية من قِبل الحق -سبحانه وتعالى: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ)[الجمعة:2]، (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ) [البقرة:151]،
ولا طريقَ أيضاً لِتَدسيتها وهَلاكِها إلا بِمُخالَفة الحق والإعراض عنه وإهمال شَريعَته وأمره وقِلة تَعظيمه وقِلة مَحَبَته، فبذاك تُدسُّ النفسُ بأنواع الآثام والمعاصي والسيئات.
وهذه النفس في تَركيبَتها التي خَلَقها الله عليها بالعجائب، تبدو في حُكم الغالب أمّارة تأمرُ بالسوء وتَميل إليه وتهوى الباطل وتتمسكُ به وتنفرُ من الحق والخير، ولكنها بواسطة التربية والتزكية تتحول إلى مُطمئنة وترقى في مراقي النفس الرّاضية والمَرضية والكاملة.
وهي بِنَفسِها عندما تَكونُ أمّارة؛ أعدى عدوٌّ للإنسان -أعدى عدوّ-، وفي الخَبر: "أعدى عَدُوِّكَ نفسك التي بين جَنبَيك"، ومع مُعاداتِها هذه لك هي سبب نجاتِك أيضاً وسُلّم ارتِقائك وهي من داخلك، والعدوّ من الداخل أمره مُخطر ومُشكِل. إذا عدوّك وَسَط بيتك، إذا سارِقُك وَسَط بيتك كيف تكون؟ كيف تتحذّر منه؟ هو وسط الدّار يعرف المداخل والمخارج كلها والأماكن؛ أين تضع هذا؟ هو داخل عندك، سارق وسط دارك، كيف الإحتِراز منه؟ إلا بِقوّة وشِدّة، كذلك النفس.
ثم لَيسَ المُرادُ إهلاكُها ولا إبادَتها فهي المَرْكَب بها تَرتَقي، فإلى تَصفِيَتها وتَطهيرها وتَعديلها وتَقويم صِفاتِها فقط هذا المقصود، ولو عدوّ آخر ستقتله وتتخلص منه، لايوجد إلا هي نَفسها مَركَبك وسُلَّمك الذي تَطلع عليه، فما يُمكن إبادتها بالمرّة ولكن تنقيتها وتَطهيرها وتَعديلها وتقويم صفاتها حتى تصلح سُلّماً للارتقاء. ومن هنا تأخذُ النفوس مراحل، فأظهر هذه المراحل:
تبدأ: أمّارة في مثل ما ذَكَرَ الله عن زُلَيخة صاحبة سيدنا يوسف قالت:(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) [يوسف:53]، هذه الأمّارة تَحتاجُ إلى صِدق مُجاهدة ومُكابدة في رَدّ هَواها وقَهرٍ لها، حتى تتحوّل إلى لَوّامة؛
فهنا يبدأ حَياة القَلب ويَبدأ الضَمير عند الإنسان، يَصير إذا قَصّر في الخَير لام نَفسه، وإذا فَعَل شر لام نفسه، فهي تُزيّن له فعل الشر ثمّ تلومه، تقول له عيب عليك، حرام ماذا ستقول لربّك؟! تلومه، ولشرفها لارتقائها من رتبة الأمّارة، أقسم الله بها في القرآن في سورة القيامة قال: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) [القيامة:1-2].
هذه الّلوّامة إذا رَفق بها صاحبها وواصل تَنقِيتها وتَزكيتها وتَطهيرها وتَقويمها وتَهذيبها تَحَوّلت إلى مُطمَئِنة، هذا أَظهر مراحل النفس، وعند التفصيل :
النفسُ الكاملة، هذا الكمالُ الإنساني، وهو كمالٌ نِسبيّ جُزئي شَريف من أشرف الكَمالات المُعطاة للخلق، وكل الكمال المُعطى للخلق، كل كمالٍ في شأنه وفي حاله وفي خصوصيته فهو مُقَيّد. والكمال المُطلق لواحد هو الله، لواحد هو الله، وذلك أن وجود العَدمِ على الشيء قبل أن يَبرُز ويوجد نَقص، وهذا النقص ثابت لجميع الكائنات، كُل الكائنات كانت عَدَم.
قال نبينا ﷺ كما جاء في صحيح الإمام البخاري: "كان الله ولم يَكُن شَيءٌ غَيره" -وفي لَفظٍ- "كان الله ولم يكن شَيءٌ معه"؛ فلا سَماء ولا أرض ولا عَرش ولا كرسي ولا جنة ولا نار ولا روح ولا جسد؛ إلا وقد كانت عَدم، هذا نقص لا يوجد شيء أنقص من العدم، عدم، وهذا نقص ملازم لجميع الكائنات.
لكن بعد ذلك لكلٍ كمال في حدّ ذاته منه ولو في العدد يقال عدد كامل؛ كامل بحيث اعتبار العدد، لكن الكمال من الجوانب كلها، أين هو؟ لايوجد؛ (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)[البقرة:196] كاملة في عددها عشرة، لكن كمال من كل جانب، من كل وجه؛ لا في العشرة ولا في العشرين ولا في المائة ولا في المئتين ولا في شيء.
الكمال المُطلَق بجميع معانيه من كل وَجهٍ لله، إلا إن النّوع الإنساني من جُملة الكائنات، نوعية الكمال الذي ينتهي إليه شَريف أشرف من الكمالات الأخرى للكائنات الأخرى، فلكل شيءٍ كَمال، لكل حيوان، لكلِ نبات، لكلِ جماد، لكل شيء.
فأنواع الكمالات الجُزئية متكاثرة لكن هذا النوع من الكمال الإنساني، أن تتحوّل النفس إلى كاملة هذا، ما تمر بهذه المراحل الست الى السابعة -النفس السابعة الكاملة- كمال عظيم؛
ومن هنا تعلم أيضا أن الفَضل عند الحق -جلّ جلاله- ليس بوجود المكان، وإلَّا كل الأنبياء عاشوا في الأرض بأجسادهم، والملائكة بأجسامهم النورانية في السّماء؛ لكن هؤلاء أفضل، أفضل وأرفع، وليس كذلك بكثير من المعلومات، عند الملائكة أكثر ويأتون بها؛ لكن العلمُ بعظمة الله وذاته، والعلم بجلال الله وكبرياء الله وأسراره شيء مودوع في قلوب الأنبياء أكثر منه في غيرها؛ لهذا كانوا هم أفضل، أفضل الخلق، فيأتي أفضل الخلق:
هكذا الترتيب الذي يَذكُره أهل السنة في الأفضلية، فالأفضلية ليست بالحلولِ في مكان ولا تتعلق أيضاً بالخصوصيات، فعند الملائكة خصوصيات ليست عند الأنبياء في تكوينهم الجسدي؛ لا يأكلون ولا يشربون، والأنبياء كلهم يشربون، الملائكة لا يَنكحون ولا ينامون والأنبياء يَنكحون وينامون؛
فكان بروزه في هذا العالم في القالب الإنساني الآدمي البشري -نعم-، فالكمالات الإنسانية شَريفة رَفيعة لكن هذه الكمالات الإنسانية عند أهل النفوس: المطمئنة والرّاضية، المرضية، الكاملة من الأولياء والأصفياء، هي دون مَرتَبة بَعضهم البعض إلى أن نَصِل إلى الصِّديقية الكُبرى، هذا كمالهم أعظم ولكن فوقهم الأنبياء، وفوق الأنبياء المُرسَلين، وفوق المُرسَلين أولي العزم من الرُّسل: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35]، وقد ذَكَرَهم الله في آية في قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب:7] خمسة أولوا العزم هؤلاء أولوا العزم: أولوا القوة والصبر والتحمّل ( كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 35].
محمّد إبراهيم موسى كَليمُهُ *** فعيسى فَنوحٌ هم أولوا العزم فاعلمِ
رأسهم محمّد، إذاً فالكمالاتُ الخلقية منتهية إلى هذا، وليس في العالم الخلقي أكمل منه، وبقي الكمالُ المُطلق من جميع الوجوه لربه -سبحانه وتعالى- الله أكبر.
إذا عَلِمنا ذلك، عَلمنا أنه ﷺ في كل طَورٍ من الأطوار كان في غاية الكمالِ فيه، فهو أيام التنقّل الآدمي للأرواح من الأصلابِ والظهور كان في غاية الكمال والحمل الذي تمّ له، كان الحمل الكامل الذي لم تحمل امرأة حملا أكمل ولا أجمل منه، كيفية الولادة كانت أكمل ولادة، لم يحصل مثلها ولادة قبل ولا بعد -الله أكبر- الرَّضاعة والنَّشأة كان في كمال فيها ليس لغيره.
ومن مظاهره في الكَمالِ في رِضاعه:
ثم مراحل نشأتِهِ كُلِها كانت على الكَمال، فَنَقَلت لنا كُتُب السيرة أنه:
عندنا الأطفال يبدأون يتعلمون: بابا .. ماما .. دادا، شيء من هذا الكلام، أول كلمة نطق بها: "جلّ جلاله ربي الرفيع"، في رواية أخرى أن أول ما سمعوه يقول وهو عند حليمة: "الله أكبر كبيرا والحمدلله كثيرا وسبحان الله بُكرةً وأصيلا"، هذا أول كلام، مَظهَر كَمال.
وهكذا في نشأته:
"مَثَلي ومَثلُ الأنبياء قَبلي، كَمَثل ملكٍ ابتنى داراً فَأحسنَ بِناءها إلا مَوضع لَبِنةٍ منه، فَجَعل الناس يَطوفون به يَقولون ما أحسنها لولا موضع هذه اللبنة، قال فأنا موضع تلك اللبنة"؛ كَمُلت به النبوة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
إذا علمنا ذلك فاعلم أيها الإنسان -والمؤمن أيضاً من الجان- أن لكم طريقاً إلى نيل شرفٍ رفيع بواسطة النفوس إذا تَزَكّت حتى تصير نفوساً مطمئنة، وترقى في الرّاضية المرضية، إلى:
قال الله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) [آل عمران:163]، فأين نفسك؟ أما زالت أمّارة؟! وقد كبرت في السن!، حتى في رمضان مازالت أمّارة؟! فاحذر منها وانتبه وقَوّمها في صالحها، إذا كانت تحدّثك الآن وأنت في آخر رمضان تقول لك، تحدّثك؛ وبعد ذلك تقصيرات في شوال وفيما بعده ورجوع إلى أصدقاء سوء، أو إلى متابعة أفلام، أو إلى عادة سيئة.
قَوّم نفسك، انتبه لِنَفسك، أتحيا وتموت ونفسك أمارة؟! ويل لك، ثم ويل لك؛ (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:10] زَكِّها تنتقل إلى اللوامة، تابع تزكيتها، تَكون مُلهمة؛ يتبين لها الخير مباشرة وتنقاد إليه، تابع تنويرها، ارفق بها، إرتقِ تكن مطمئنة، مطمئنة ثابتة الإيمان، مطمئنة إلى الرحمٰن ومنهجه وقضائه وقَدره وكتابه ورسوله ولقائه مطمئنة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ ..(27)) هي التي تُنادى.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)) في اليوم الذي إذا عُذِّب الناس، فعذاب لم يسبق له نَظير لا في الدنيا ولا في البرزخ (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)).
وكان الإحاطة بهم أو إبراز سِرُ الإحاطة ورَبطهم وضَبطُهم من كل الجوانب بوثاق ما حَصَل قبله مِثله (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(26)) وعامة القراء قرأوا هكذا لا يُعَذِّبُ ولا يُوثِقُ، يعني: لا يكونُ عذاب مثل عذاب الله ولا وَثاق كَوَثاقه في ذلك اليوم، فهو أبرز ما يكون -اللهم أجرنا من العذاب-.
"ونحن في قَبضتك حيثما كنا، فلاحظنا بعين عنايتك حيثما كنا، نحن في قبضتك أينما كنا فلاحظنا بعين عنايتك أينما كنا"، اللهم إنا في قَبضتك حَيثما كنا وأينما كنا فاجعلنا في رحمتك حيثما كنا وأينما كنا".
والإنسان في وَثاق، ويبرز له في القيامة أشد وأكبر، الآن كل مؤمن يعلم أنه في وَثاق، الله محيط به من كل جانب وأعماله وأقواله تُحصى عليه مكتوبة والمواقف أمامه والطريق كلها مراقبة:
كنا حاضرين -جل جلاله-، ولكن ظهور هذا الوثاق أشد ما يكون عند القيامة؛ الكل؛ المؤمن والكافر كلهم يعلم أنه وثاق ما له فكاك، قوي توثيق تام من كل جانب- ياالله- وَجَلَّ صاحب الإحاطة بكل شيء.
في هذا اليوم الذي: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)) النفوس المطمئنة تُنادى، فوقتُ النداء وقتين:
فَرق بين هذا النداء وهذا النداء، والموت سيأتي لكل واحد منا بعد ذلك أمامه، هذا أوهذا؛ (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [الأنفال:50] -نعوذ بالله-، ذلك أن المنافق والفاسق والكافر عند الموت يوقن الآن، انتهى الأمر: (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) [القيامة: 28] فيتشبث؛
فتضربهم الملائكة تقول: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ)، فَتَنزع أرواحهم من الأجساد نَزعا: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) [النازعات:1] من وسط كل عظم وكل مخ وكل عصب تَخرج الروح منه، فيشتد الحال غالباً على المنافق والكافر لأنه يتشبث، ما يُريد يَخرج، الخروج لا بد منه (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) [الأنعام: 93]، (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [الأنفال:50] -نعوذ بالله من غضب الله-.
والآخرين تُبشرهم الملائكة، ويبشرون بماذا حتى تساعدهم الروح فقيل: إن الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين إسمها الناشطات، تنشطها كأنما تَنشَط من عقال بسهولة؛ لأنها تُحب لقاء الله ويُحِب الله لقاءها، والآخر ما يُحب لقاء الله، ما يُريد تخرج الروح فتخرج، لا بد أن تخرج.
يقول: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)) هذا وقت النداء الأول، الوقت الثاني في القيامة يقال: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28))، أي إلى قربه وجواره في دار الكرامة في الجنة (ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً):
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)) تقدم معنا ما رواه ابن أبي حاتم والطبراني أنه ﷺ لما قُرئت الآية عنده وقال سيدنا أبو بكر: ما أحسن هذا فإن هذا لحسن -النداء العجيب هذا- (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30))، قال: "وسيناديك بها المَلَك عند موتك" يقول له النبي لسيدنا أبي بكر، قال له: إنت، الملك سيناديك بهذا عند الموت، هنيئًا له.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)) وقال بعض أهل التفسير إن الآية أيضا من أسباب نزولها:
اخرجوه ليقتلوه ويصلبوه، خرجوا به فقال: "أتأذنون لي أصلي ركعتين؟ قالوا: صلِّ، صلى ركعتين، خفف، قال: لولا أن تظنوا أن بي جزع من الموت لطوّلت فيهما، تقدم إليه أبو سفيان: هل تحب أن محمدا مكانك وأنت سالم في أهلك وولدك؟ والله ما أحب أن رسول الله في موضعه الذي هو فيه تصيبه شوكة في رجله وأنا في أهلي وولدي، أحسن لي أُقتل هذه القتلة ولا تصاب رِجل نبيي هناك بشوكة"؛ هكذا الإيمان.
لا تدع الشوكة تجي منك أنت؛ بسوء عملك بشريعته يُعرَض عليه، لا تدع الشوكة تجي منك قال: أنا أموت أحسن لي ولا شوكة يشاك بها في رجله ﷺ، وأخذوه وقتلوه وقال: "اللهم وجِّه وجهي إلى القبلة فَتَحول"، وما قدروا أن يصرفوه عن القِبلة، وهو النفس المطمئنة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)) وفي غيرهم أسباب. كل نفسٌ نالت هذه الرتبة؛ ترتفع من أمارة بواسطة:
وتنتقل إلى لوامة؛ وبمجالسة الأخيار والصالحين تكون ملهمة، بعد ذلك تكون مطمئنة -الله أكبر-.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)) هذه النفس المطمئنة في تَرقيها يكون أبرز صفاتها الرضا، وما كل النفوس المطمئنة هذا أبرز صفاتها، لكن من المرتقين منهم أعاليهم ويتحولون إلى أن يكون الأبرز فيهم؛ الرضا .. الرضا .. الرضا -الله-.
ماهو الرضا؟ رضا عن الله: (وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة:100] رضا كامل؛ أقضيته، أقداره، أحكامه كله رِضا، إن أصابته سراء إن أصابته ضراء، إن أصابه خير، إن أصابه سوء، إن أصابه أي شيء يقول: الحمد لله، الحمد لله، ولهذا مرة رسول الله ﷺ سأل بعض الصحابة: "كيف حالك؟ قال: بخير يا رسول الله قال: كيف حالك؟ قال: بخير قال: كيف حالك؟ قال: الحمد لله؛ قال: هذا الذي أردت منك الحمد لله"؛ احمد ربك تعبر عن رضاك وأنه يستاهل الحمد، قل: الحمد لله؛ ولهذا قال ﷺ: "والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ".
وأوصاف هذه الأمة في الكتب السابقة الحَمادون، أي كَثيري الحمد لله،
أحمد الحامدين خير البرايا *** سيد المرسلين صفوة ربي
صلوات من الإله عليــه *** وعلى الآل خير آل وصحب
ما سرى بارق وهب نسيمٌ *** واستهلت غمامةٌ فوق شعب
هذه الراضية قال ﷺ: "اعمل على الرضا، فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير"، النفس الراضية: تحمد الله على كل حال؛ في السراء، في الضراء، في الرخاء، في الشدة، في المرض، في الصحة؛ الحمد لله، لا اعتراض ولا انتقاد ولا جزع ولا تبرم ولا سخط، ولا لِم، ولا كيف، ولو، ولم، وكيف، لو كان، لو كان، لو.. لو.
لو ولم و كيف قول ذي الحمق *** يعترض على اللَه الذي خلق
صاحب الحماقة يعترض على الله الذي خلق، لو كان كذا.. قال النبيﷺ: "لا تقُل لو كان كذا لوكان كذا، قل: قدر الله وما شاء فعل، إن لو تفتح عمل الشيطان"، لا تقل لو، هو هذا، هو كما كتبه الله وقدَّره، يقول: لو، لِم، لما، وكيف؛ كيف كان كذا؟ كيف يكون هكذا؟
لَوْ وَلِمْ وَكَيفَ قَوْلُ ذِي الحَمَقْ *** يَعْتَرِضْ عَلَى اللَّهِ الَّذِي خَلَقْ
وَقَضَى وَ قَدَّرْ كُلَّ شَيءْ بِحَقّ *** يَا قَلبي تَنَبَّهْ وَاتْرُكِ المُجُونْ
لا يَكْثُرُ هَمُّكْ *** مَا قُدِّرْ يَكُونْ
أَنْتَ وَالخَلَائِقْ كُلُّهُمْ عَبِيدْ *** وَالإِلَهُ فِينَا يَفْعَلْ مَا يُرِيدْ
هَمُّكَ وَاغْتِمَامُكْ وَيْحَكْ مَا يُفِيدْ *** القَضَا تَقَـدَّمْ ، فَاغْـنَمِ السُّكُونْ
لا يَكْثُرُ هَمُّكْ *** مَا قُدِّرْ يَكُونْ
الَّذِي لِغَيْرِكْ لَنْ يَصِلْ إلَيْكْ
كل ما كُتب لغيرك لايأتي لك أبدا
الَّذِي لِغَيْرِكْ لَنْ يَصِلْ إلَيْكْ *** وَالَّذِي قُسِمْ لَكْ حَاصِلٌ لَدَيْكْ
فَاشْتَغِــلْ بِرَبِّـكْ وَ الَّـذِي عَـلَيْـكْ *** فِي فَرْضِ الحَقِيقَةْ وَالشَّرْعِ المَصُونْ
لا يَكْثُرُ هَمُّكْ *** مَا قُـــدِّرْ يَـكُــونْ
شَرْعِ المُصْطَفَى الهَادِي البَشِيرْ *** خَـتْـمِ الأَنْبِيَاءِ البَـدْرِ المُنِيرْ
صَلَّى اللهُ عَلَيهِ الرَّبُّ القَدِيــرْ *** مَا رِيحُ الصَّبَا مَالَتْ بِالغُصُونْ
لا يَكْثُرُ هَمُّكْ *** مَا قُدِّرْ يَكُونْ
وأصلها في الحديث: "لا تُكثر هَمك ما قُدر يكون وما تُرزق يأتك"؛ هذا في الحديث ونَظَمَ المعنى سيدنا الحداد وجَعله تخميس قصيدة له مطلعها:
اِلْزَمْ بَابَ رَبَّكْ وَ اتْرُكْ كُلَّ دُونْ *** وَاسْأَلْهُ السَّلاَمَهْ مِنْ دَار الفُتُونْ
لاَيَضِيقْ صَدْرُكْ فَالْحَادِثْ يَهُونْ *** اللهُ المْقُــدِّرْ وَ الْعَـالَــمْ شُـئُـونْ
العالم كله -ما سوى الله- شُـئُـونْ، شؤون يبديها و(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29]، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ) [آل عمران:26] شُـئُـونْ، كله هذا شؤون، الله المُقدِّر والعالم شؤون ما فيهم مُقَدر، ما فيهم مُقَدم ولا مُؤخر، ما فيهم خالق، كلهم مَخلوقين، كلهم شؤون الخالق.
اللهُ المْقُدِّرْ وَالْعَالَمْ شُئُونْ
لاَ يَكْثُرُ هَمُّكْ مَاقُدِّرْ يكون
صاحب النفس الراضية، حالهُ عجيب مع الله، فالله أيضاً يرضى عنه، فَيَغلِب عليه، يغيب ويفنى، رضاهُ -مهما كان عظيم وقوي- عند رضا الله عنه، الله يتغطى رضاه، فتصير إذا وصفت النفس بأدق صفاتها؛ قل مرضية، أنا كذا قلت مَرضِية، دخلت المطمئنة ودخلت الراضية، أصبحت مرضية من فوق، يعني الله راضٍ عنها (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة:100].
وهكذا في مثل قوله: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54] يحبونه يحبونه يحبونه، لكن مهما تمكنوا في المحبة وقويت فيهم، إذا انجلى لهم نور يُحِبهم؛ تلاشوا .. تلاشوا، فما بقي إلا هو؛ ولذا يكون في مقام شريف في العبدية لله، لكن إذا أشرق نور العندية انطوت العبدية في العندية، لذا قال الله في المقربين: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:54-55] صحيح هو عبد لكن لما يجي نور العند خلاص؛ يضمحل هذا فما تظهر إلا بي يسمع، بي يبصر، بي ينطق، بي ... ، لا إله إلا الله.
يقول: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ…(28))، ثم معنى آخر يقال للأرواح:ارجعي إلى الجسد الذي كنت فيه في الدنيا؛ عندما تكوَّن الأجساد ما بين النفختين؛ النفخة الأولى في الصور يصعق من في السماوات والأرض، يُكَوّن الله الأجساد، يُمطر مَطَر يَغوص في الأرض، بمجرد ما يصل إلى عَجب الذَنَب من كل حيوان، وهو عظم صغير في آخر العُصعص عند آخر العمود الفقري عند العصعص مثل حبة الذرة بالنسبة للآدمي، هذا -سبحان الله- كائن وسطك موجود ما تهضمه أي معدة، ما تطحنه أي طاحونة -سبحان الله - وإذا أكلك الدود وصرت تراب يبقى هذا محله كما هذا -صغير جدًا-، بمجرد ما يصل إليه هذا الماء بعد النفخة الأولى يرجع الجسد الذي كان.
ولهذا دائما، الله يمثل لنا إعادة الأجساد للبعث بمثل الأرض الميتة يحييها، يطلع فيها من جديد، يطلع فيها الشجر والثمر، وكذلك جسد الإنسان بمجرد ما يصيبه هذا البلل من الماء النازل عند القيامة يتكون الجسد الذي كان في الدنيا على هيئته الي مات عليها -سبحان الله-.
بعد ذلك تخرج الأرواح يقول لها ارجعي، كل روح ترجع إلى جسدها تقوم، يحيي الله سيدنا إسرافيل يقوم، لاتوجد سماء، لاتوجد دنيا؛ كل شيء تغير، القرن العظيم هذا الصور، فيه الأرواح يقول الله: أنفخ، ينفخ النفخة الثانية تتطاير الأرواح وكل روح مباشرة، الآن هؤلاء يقولون لكم انهم اخترعوا لكم شريحة، هذا يجي الى عند هذا، كل واحدة إلى جسدها التي كانت عائشة فيه في الدنيا ولا تخطئ أبدا، كل روح تعرف جسدها ولا تُخطئ ولا تدخل في جسد آخر: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ )[الزمر: 68]، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [المعارج: 43]؛ (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ۖ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر:7-8] حتى يخرج من بُقعة صغيرة من الأرض كذا كذا جسد، عشرات، مئات، أُلوف تخرج؛ واحدة بعد الثانية -الله-.
ولكن الأقرب إلى الحق ﷺ تنشق عنه الأرض أول، ويسرع في الخروج أولا، وهكذا يقول ﷺ: "فأكون أول من تنشق عنه الأرض، قال: فأرفع راسي فإذا بموسى معلق في قوائم العرش، قال: فما أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم جوزِيَ بالصعقة الأولى"، ثم دلت الأخبار أن سيدنا موسى ما يَصعق، لهذا يقول: (فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ) [الزمر: 68] مثل موسى هذا؛ لأنه قد صُعِق من دَكة الطور، سيكفيه هذه الصعقة، ثاني مرة ما عاد يجري عليه الصعقة الأخرى التي يصعق فيها الأرواح كلها. فيبقى عند العرش، فإذا جاء البعث وقام الحبيب ﷺ هبط موسى ويدخل تحت لوائه. وقوائم العرش مكتوب عليها اسمه أيضا مع اسم ربه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم صلِّ عليه وعلى آله،نعم .
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29))؛ ليس الخلق كلهم عباده، فقط عباد مخصوصين، عباد أطهار مقربين، عباد صادقين:
(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)) هذا الصنف، ليس كل الناس، هذا الصنف المخصوص: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) المضافين إليَّ إضافة التشريف والتكريم، عباد مخصوصين: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) معهم، والأنبياء يقولون: "ألحقني بالصالحين". قال سيدنا محمد ﷺ:
وهو سيدهم، لكن يُعلمنا كيف تتعلق قلوبنا بمن، ومرافقة الأنبياء.
وقلنا أن الملائكة تنادي الناس في مواقف القيامة: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]؛ انتبه، لا أحد يقول لك في القيامة: صَدَقَ علماء الجلوجيا ولا علماء الفضاء ولا صَدَقَ الحزب الفلاني ولا الدولة الفلانية؛ سيقول: (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، كلام الحق عندهم، الحقيقة تدور معهم: (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)؛ فويل من انقطع عن المرسلين: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ)، يُمسَخون في الأرض مَسخا، ما عاد يكون لهم أثر، (لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) [النساء: 42]؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
(ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) عبادي المخصوصين، أنت تسمع كلام الأنبياء، سيدنا الخليل إبراهيم أفضل الخلق بعد نبينا محمد يقول: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، خليل الله، خليل الله يقول: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء: 83].
ويأتي ناس يسمعونك تقول: صالحين .. صالحين؛ يقول: هذا يبالغ، هذا مُبالغ، هذا ذريعة للشرك، أنا لو ما أنا مؤمن موحد به لن آتي عند هؤلاء، ولن أحبهم، أنا ما أحببتهم إلا له ومن أجله وبإيماني به أحببت هؤلاء وعظمتهم وبتشريعه بذلك: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء: 83]؛ هذا الخليل .
اسمع سيدنا سليمان -عليه السلام-: سليمان في موكب عظيم وحَشر للإنس والجن والطير؛ جنوده (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [النمل:17] حتى يأتوا على وادي النمل (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [النمل: 18] لا يدرون بكم، يدقدقونكم وستمتون، فنصحت اخواتها، فلما كان الله يحب النُصح؛ حفظ كلمة النملة هذه وأنزلها في القرآن، فنقرأ خبر النملة في القرآن وسمى السورة سورة النمل، (قَالَتْ نَمْلَةٌ) -بسبب الواحدة هذه- قالت: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) [النمل:18]، أي واحد يُحافظ على إخوانه ويسعى في مصالحهم يحبه الله ويحفظ له مكانته وقدره، حفظ المكانة للنملة هذه، وسَمى في القرآن السورة سورة النمل، وذَكَر قولها وسَمِع سيدنا سليمان: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا) [النمل:19] وقال، في هذا المُلك، ما يغيب عن قلوبهم التعلق بالمعية ومُرافقة الصالحين، ما يغيب عنهم، في أي حال، في مثل الحال هذا، تُفكر في ماذا؟ ( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19] هذا سليمان .
تجيء الى عند يوسف، أعطاه الله أشياء وكذا، وفي الأخير بعد ما ابتلاه واختبره وجَعله على خَزائن الأرض وجاؤوا اخوانه ورجعوا وراحوا وجاء أبوه وزوجة أبيه واخوانه، وإذا بالثلاثة عشر اخوانه وأبوه وزوجة أبيه، أبَوَي سيدنا يوسف يركعون له يسجدون له؛ إكراما وتحية، وكان السجود للإكرام يجوز في شريعتهم وقال: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَاأَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ) [يوسف:100]، قال: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) -عدد اخوانه هذا- (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) -أبوه وأمه التي هي خالته زوجة أبيه- (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف:4]؛ تحققت في هذا العالم ما ينسى هذه الخصلة؛ المرافقة، المعية، اللحوق بالصالحين ،الله.
في هذا المقام الكبير قال: (يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)، لم يقُل: من بعد ما ظلمونا إخوتي، من بعد ما اساؤوا الأدب، من بعد ما عملوا الأفاعيل الخبيثة، مافي مثل هذا الكلام (مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) -الأدب والذوق- (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ) [يوسف:100]؛ وإلا أكثر الناس عندما تجيء فرصة يتكلم مع الثاني يذكر شيء له، يغضب منه؛ أنت الذي ما عرفت وقد عملت معي بِكيت وكيت. (مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ)؛ -ربي- أخذ يدعو ويتوجه إلى الله، (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) -علاقتهم بربهم، صدقهم مع ربهم، حضورهم مع ربهم- (أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف:101].
وبعد الأنبياء هؤلاء نتبع من؟ إذا لم نحرص على اللحوق بالصالحين، ونلحّ على الله أن يلحقنا بالصالحين، إذا ما تبعنا هؤلاء الأنبياء، نتبع من؟! الله يلحقنا بالصالحين.
في مقعد الصدق الذي قد أشرقت *** أنواره بالعند يا لك من سنا
والمـــتقون رجالـــــــه وحـضـــوره *** يا رب فالحقنا بهم يا ربنا
(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)) ماهذه الجنة التي أضافها الله إليه إضافة تشريف، "ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ"، مهما وُصِفَت لك فهي أعظم وهي أكبر، الله يجعلنا من أهلها، يا رب أدخلنا جنتك مع السابقين من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب برحمتك يا أرحم الراحمين.
هل أحد يقدر يزيد لنا يوم في رمضان؟ هل في إمكانية أوقدرة؟! يا رب بارك لنا فيه، وماكان منا فيما مضى سامحنا فيه وتجاوز عنا وضاعف لنا الخير ونقِّه عن الشوائب واحفظه عندك وادّخره وضاعفه إلى مالا نهاية ياالله، وما كان من ضعف وإساءة وتقصير تجاوز، تجاوز وأرحم، والباقي أحسِن لنا خاتمته فاجعلنا من أسعد عبادك بخواتيم رمضان يا رحمٰن يا أكرم الأكرمين.
تعرف مرتبة نفسك إن كانت لا تزال تأمرك بالسوء فهي في الأمارة، وإن كانت تأخذك على اللوم، تحاسبك على الدقيقة من أعمالك في الخير وفي الشر وتحذرك من الشر فهي لوامة، وبعد ذلك تعرف كيف ترتقي من مرتبة إلى مرتبة -يا الله-.
النفس المرضي عنها والكاملة في مراتب رفيعة من الرضا عنها، وغير الكاملة من المرضي عنها في مراتب من الرضا دون تلك، أحيانا يحس بنفسه كأنها أمارة وأحيانا لوامة واحيانا مطمئنة، هي في رتبة واحدة موجودة، لكن تمتد لها أوجه إلى هذه وأوجه إلى هذه مثل اللوامة، فهذا أشبه أن يكون في النفس اللوامة. هذه النفس اللوامة لها وجه إلى الأمارة ولها وجه إلى المطمئنة، ماهي مستقرة؛ مهما أمرت بالسوء ترجع تعاتبك عليه تقول؛ لا .. لا، وهكذا..
لذا تجد الذي في نفسه خير، لو فكر في شر بينقص ينقص، والذي نفسه مجبولة على السوء والشر ومتأصلة فيه الشر، يبدأ بقليل من الشر ثم يكثره يكثره ويزيده، وقد يفكر يقول نضرب فلان، قال نحبسه، قال لا، نبعده بعيد، قال نقتله، ذاك يقول نقطعه على قطع قطع -لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- يترفّعون كل ساعة؛ شر فوق شر فوق شر.
لكن لو أحد في نفسه خير وقالوا سنقتل فلان آذانا، يقول: لا .. لا .. لا تقتله، أبعده بعيد هكذا، ضعه في مكان نحبسه، ينزل قليلا؛ أحسن اتركه عند جماعة بعيدين منك، أو في مكان آخر؛ مثل أصحاب يوسف قالوا: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا)، ثم بعد ذلك، لأن نفوسهم فيها خير، قال: (لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) [يوسف:9-10] حتى إذا أحد يمر يأخذه، يحيى يعيش، ينزل ينزل من الشر، لكن الثاني لا، إذا شر قليل يكثر يكثر يكثر، يكبر ما ينتهي إلى غاية الشر -والعياذ بالله تعالى-.
وهكذا، فهذا الذي شاهد نفسه كذا وكذا أغلب ما تكون في اللوامة، عليه أن يتابع يتابع تصفيتها وتنقيتها، ومن أحسن الوسائل للرقي إلى رتبة أهل أي نفس، يجالس أهل تلك الرتبة، فإذا وجدت أحد من أهل النفوس المطمئنة، فمجالسته أقوى سبب وأقصر طريق لكي تصل إلى النفس المطمئنة إن أحسنت الاستفادة منه، وإذا وجدت صاحب نفس راضية فأقرب طريق إلى أن تتحول إلى نفسك راضية وأحسن وأقوى وسيلة، جالس هذا لكن بحق المجالسة تَطلع وهكذا، وإذا كان وجدت صاحب نفس مرضية فأحسن طريقة لأن تصل إلى هذه الرتبة أن تجالس هذا وتخالطه وتواده في الله تعالى وهكذا،الله يكرمنا بصحبة الأخيار.
واصحب ذوي المعروف والعلم والهدى *** وجانب ولا تصحب هُديتَ من افتتن
والطول في الأمة معلوم ما يتجاوز شيء معدود ولكن الأمم السابقة، أما مسألة أربعين ذراع ما فيها إلا القريبين من عهد آدم هؤلاء هم الذين تميزوا بالطول؛ لأنه خرج سيدنا آدم في طول ستين ذراع وعرض سبع أذرع ثم تتناقص تتناقص تتناقص نحن آخر الأمم أربع أذرع، أربع ونص؛ إذا واحد خمسة فهو أطول رجل في العالم يقولون عنه بعد ذلك وهكذا -لا إله إلا الله-.
الله يكرمنا واياكم بصدق الإقبال ويبارك لنا في باقي الأيام والليال في رمضان خاصة وما بعده من بقية العمر حتى تأتي ساعة اللقاء فَنُنادى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)) في لطف وعافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
30 رَمضان 1436