(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16))
الحمد لله موالي خيراته، ومُجزل عطياته، ومضاعف رحماته، الحي القيوم الذي أحاط علماً بما في أراضيه وسماواته، وأحاط بجميع برياته، وبكل فرد منهم من جميع جهاته، إحاطة جلَّت على أن تكيّف، أو عن أن تُحد بوصف يوصَف، أوبتعبير يعبّر عنه بكلام يؤلَّف، إحاطة القوي القادر القاهر، إحاطة العزيز الملك الفاطر، إحاطة الذي ليس له لا من شبيه ولا شريك ولا مماثل ولا مناظر، إحاطة الحق الحي القيوم وليس في العالم الخلقي ما يشبهه في شأن من الشؤون، في ظهورٍ ولا في بطون، من قريب ولا من بعيد.
ولهذا المعنى الواسع المديد، نادى في حقيقة التوحيد، نادى سيدنا الصديق أبوبكر الصديق وقال -وهو بذلك حري وخليق-:
لايعرف ﷲَ إلا ﷲ فاتّئدوا *** والدين دينان إيمانٌ وإشراكُ
وللعـقـول حــدودٌ لا تجـاوزها *** والعجزُ عن دَرَكِ الإدراك إدراكُ
هوالإله المحيط بكل شيء -جل جلاله-، يسّر لنا من الأشياء تيسيرات كثيرات كبيرة، وجعلنا في أمة مباركة تميزت من بين الأمم، بوجاهات نبيها الكبيرة لدى الحق -سبحانه الله وتعالى-، وأمدنا وإياكم بنصيب من الأسماع والأبصار، وأقدرنا على التذكّر والاستبصار، وعلى الادكار والاعتبار.
ثم جمعنا في هذا الزمن من جملة الأعصار، وجعلنا مدْركين لهذا الشهر المخصوص من بين الأشهر بواسع من العطاء بغير مقدار، وضياء وأنوار من الكريم الغفار، أشرف بها ليله والنهار، وكان شهر ما أبركه، ينجو به من ينجو من الهلكة، ويدرك به من يدرك مراتب القرب والعز عند من ملكه جل جلاله.
فيا ليت أن هذه الأيام بأيدينا أن تبقى وتمتد، ولكنها لا تدوم لأحد، والليل يسري والنهار يمضي، ونحن فيهما أيضًا نمضى، وما من ليل إلا ويقتطع من أعمارنا مسافة، ولا من نهار يمر إلا وقُطعت من أعمارنا قِطع ومسافات، حتى تأتي ساعة اللقاء بالمحيط بنا عندما يكشف الغطاء، وعندما يُزيح الستارة، وعندما يُبين لصدورنا وعقولنا ومشاهد بصائرنا ما لم يكن بائن لها من قبل،
نحن بين يدي هذا الملك المحيط بكل شيء، القادر على كل شيء، وقد جعلنا من بني آدم وفينا من الجان وفينا من الملائكة، وجعلنا معشر المكلفين من الإنس والجن، من أمة خير الأنبياء، وسيد الأصفياء، محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أتقى الأتقياء.. وأزكى الأزكياء.. وأنقى الأنقياء؛ سيد أهل الأرض وسيد أهل السماء، حبيب الله المنتقي، والشفيع المبتغى، خير الورى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم أكرمنا بغُرر من المِنن في بكور أيام الشهر الأغر الأكرم، نتدبر كلامه، نتأمل معاني خطابه، ووحيه وتعليمه، وما أنزل على قلب لم يخلق قلب مثله، وعلى كل قلب في الأرض والسماء ميزة وفضل؛ قلب محمد ﷺ؛ (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:195]، وهو لو أُنزل على الجبل لتصدع وخشع: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر:21].
وقد كانت في عمق الصواب وعينه، الصدِّيقة عائشة بنت الصدِّيق، عندما سئلت عن خُلق النبي فما عرفت تجيب إلا بهذا الجواب الأسدّ: خلقه القرآن؛ " كان خلقه القرآن" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فنتأمل المعاني؛ ليكون للصادق منّا بها تشييد مباني، تشييد:
اللهم اجعلنا من أهل الوعي للقرآن، قال تعالى: (لنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:12].
ولقد تأملنا في سورة الفجر، ما نرجو أنه بحسن الإقبال منّا والأصغاء والإنصات، ينشق في القلوب نور الفجر، ونور فجر المعرفة إذا انشق في قلب؛ دخل صاحب ذلك القلب جنة المعرفة بالله، فوجد فيها من اللذائذ والحلاوة والجمال والأذواق الرفيعة، ما لا يكيّف ولا ويوصف.
وهل يراد من جنّة الأخرة إلا قربه ومعرفته ورضاه؟ والنظر إلى وجهه الكريم -تعالى في علاه-؟! هذا المقصد الأكبر؛ قال الله تبارك وتعالى: (وعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّٰتِ عَدْنٍۢ) لكن قال: (وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ) [التوبة:72]، من الجنة وما فيها (رِضْوَٰنٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ).
يالله رضى يالله رضى *** والعفو عما قد مضى
فلنحسن التأمل؛ عسى يحصل لأحدنا التأهل، فيتم له التوصل، فيكمل عليه التفضل، فيُجمّل مع من يجمله، ويكمل مع من يكمله، ويواصل مع من يواصله، ويدرك وهو في الدنيا من نعيم الروح مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:21].
فهل طافت أرواحكم حول مقصد هذه المجالس والمجامع؟ وهل وصلت معاني حقيقة هذا الخبر من المسامع إلى الأفئدة على ما نجتمع؟ لمن نتجالس؟ لمن؟ لماذا؟ وكيف؟ ولمن؟
الله من تلك الكؤوس يسقينا، وإلى تلك المراقي الشريفة يرقيّنا، ولا يدعنا لأدناسنا ولا لأرجاسنا ولا لسياتنا ولا لإنحراف الوجهات منّا، ولا للقواطع التي تقطعنا، يارب يا قوي اقطع عنّا جميع العلائق والقواطع، أرفعنا في مقام قربك الرافع، مع كل ذي قلب منير خاشع، مع كل ذي قلب منير لامع، من كل أواب تقي خاشع، ولا تجعلنا مما يشير الناس بالأصابع، وهو من السر المصون خالي، يا كريم يا والي، يا علي يا كبير يا متعالي.
عُهد منك الجود، وخصوصًا في مثل هذا الشهر يا ودود، وبأيدي الفقر نستمطرك سحائب الكرم والجود، وبرِّك المعهود، فجد ياجواد بما أنت أهله، بالنبي صاحب المقام المحمود، صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، إلهي إنما جلسنا امتثالاً لأمرك ملبِّية قلوبنا نداءك، عندما ناديتنا في الوجهة إليك على لسان نبيّك ﷺ راجين أن نستظل بظل لوائه؛ فأظلنا بظل لوائه حتى نُحشر تحت ظل ذلك اللواء يوم اللقاء، وتحت ذاك اللواء جميع الأنبياء وجميع الاتقياء، وجميع الأولياء، وجميع السعداء.
كل سعيد تحت لواء محمد الحميد، في يوم الوعد والوعيد، فيجتمع جميع أهل السعادة، من روؤسهم الأنبياء، إلى الصدّيقين والصالحين تحت راية سيّد المرسلين، القائل: "ولواء الحمد بيدي يوم القيامة" إلا أنهم على مراتب هناك يرجع أكثرها إلى مراتب هنا، فهنا يستظل بظل لواءِ من يستظل على رتبة وعلى درجة وعلى مكانة تختلف من واحد لآخر، في المجلس الواحد يختلف رتبة الاستظلال بظل اللواء، واللواء منصوب، تحس به القلوب، ومن توفر نور قلبه خرق نور بصيرته نور بصره.
تختلف مراتب الناس في الاستظلال بظل هذا اللواء، وما كلهم سواء، لاهناك ولا هنا، وهل ما هناك إلا من ما هنا، فنتائج ماهنا يكون هناك، نحن اليوم وإياكم هنا، وغدا سنكون هناك، فعسى في مرافقة الحبيب، عسى في صحبة السيد المجيب النجيب الطبيب، عسى في مكان شريف تحت لواءه الأشرف، اللهم آمين.
لاتخلّف منا أحدا، فإلى أين يتخلّف؟ ومع من يخلّف ؟ وأين يُذهب به؟ يرافق من؟ يجالس من؟ إن تخلّف عن هذا الركب فيرد موارد من؟ وينزل منازل من؟ ويكون مع من؟
بحق حبيبك بما بينك وبينه اجعلنا جميعا ومن يسمعنا وأهلينا في ركبه، في حزبه، في حبه، في قربه، في ظل لوائهِ، تتشرف العيون برؤية وجهه الأغر الأزهر، وهو نعيم كبير، وعطاء وفير؛ أن يكحل الله عينك برؤية وجهه السراج المنير.
ليته خصني برؤية وجهٍ *** زال عن كل من رآه الشقاء
فيطيب لنا أن نتأمل من كلام ربنا ومعاني قسمه على حقائق تجري للناس في هذه الحياة، ويلاقون نتائجها في يوم الموافاة:
يقول لنا جل جلاله: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5))؛ نعم ياربنا. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)) تلك طائفة جاءوا قبلنا، اغتروا بقوتهم؛ فجعلتهم لنا عبرة.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8))، فما بال من أعطي شيئا من القوة المادية في أزمنتكم؛ يختال ويغترُّ ويتكبرُ!
ومع عاد ثمود، (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)) جاءوا من بعد عاد، ونقبوا الصخور في الجبال، وجعلوا لهم بيوتاً ومساكن وسط الجبال، يقطّعون ما شاءوا من الجبال، يرفعون السَّمك ويخفضونه ويمدون الطريق ويطولونه أو يعرّضونه وسط الجبال
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ..(10)) الذي ملك مصر في أيام سيدنا موسى ابن عمران، على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى السلام الأتمان الأكملان. (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ):
كل هذا معاني الأوتاد.
(فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)) والأوتاد التي عذّب فيها الماشطة التي كانت تمشّط بناته، وكانت امرأة مؤمنة، وزوجها كان خازن عند فرعون يشتغل ولكن كان مؤمنا يكتم إيمانه، كانوا مؤمنين بالله. الهَوَس والكلام الفارغ! فرعون: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) [الزخرف:51]، ما يدخل عقولهم؛ آمنوا بربهم.
في ليلة الإسراء والمعراج شم النبي رائحة طيبة، فسأل جبريل قال: هذه رائحة من؟ قال: ماشطة بنت فرعون، لِم؟ لأنها صدقت وثبتت فكافأها الله مكافأة كريمة.
وجاء في روايات أنه قال: أرجعي وإلا عذبتك قالت: عذب ما تعذب، -عندها ابنتان- جاء بابنتها الكبرى، قال: اذبحوها فوق فمها، وذبحوا ابنتها على فمها، وقال لها: تكفرين بإلهك وتؤمنين بي؟ قالت: لا، قال: هاتوا الصغرى وكانت ترضع -أيام رضاعتها- قال: ضعوها على فمها واذبحوها، -أرادوا أن يذبحوها وجزعت من وجدها وشفقتها على الطفلة- فإذا بالطفلة تقول: اثبتي أماه! - هذه الرضيعة- اثبتي أماه، إنك على الحق! إن الله بنى لك بيتاً في الجنة! اصبري إنما تفضين إلى رحمة الله؛ فكانت هذه أحد من ذكرهم ﷺ أنهم نطقوا في المهد:
وفي رواية: أنه أمر بزيت أن يحمى ويُوضع واحدة بعد الثاني، وتقاسعت عند وضع الصغير، -وأنها طلبت منه- قالت: أن تجمع عظامنا -إذا متنا؛ تدفنا في مكان واحد- ، قال: هذا لك، لما لكِ من حق -تخدمين عندنا-.
كان هذا الطغيان، وهذه صورة من صور متكررة على ظهر الأرض يطغى فيها الإنسان على الإنسان ويتجاوز حدوده، لكن في الحقيقة يطغى الطاغي على نفسه، تعود عوائد ذلك كلها عليه، لكن هكذا طبيعة الإنسان؛ يا ويل من لم يتزكى، يا ويل من لم يتنور، ياويل من لم يتربى، يا ويل من لم يتطهر.
كان ما كان مع ماشطة ابنته، فثار الإيمان في قلب زوجته، أخذت تقول: يقتلهم هكذا بهذه الصورة؟! فأخذت تفكر، تراجع نفسها، ماذا تقول لفرعون، وماذا تصنع معه؟ فبينما هي كذلك، دخل عليها فرعون، فأخذ يخاطبها، قالت: أنت أخبث من في الارض وأشر من في الأرض؛ تقتل هذه المسكينه وبناتها وتعمل كذا!؟ قال: لعله أصابك الجنون الذي أصابها، قالت: لا والله ما أصابني جنون لكن ربي وربك الله، قال: أنت تقولين هكذا مثلها؟ ضربها وركلها، ودعا أبويها -جاءوا-
وصل الأبوان، وقال انظروا هذه أصابها الجنون الذي أصاب الماشطة!، قالوا: يا بنية مالكِ؟!، ألستِ أنتِ سيدة العماليق؟! وهذا زوجك سيد العماليق! قالت :كذبتم وكذب، قولوا له ان كان صادق؛ يلبسني تاج الشمس أمامه والقمر خلفه!! - ماعرفوا ما يقولون- قال: اخرجوا عني، جاء بالاوتاد، وجعل يدها في وتد والثانية في وتد ورجلاها في وتد ووضع عليها الرحى حتى ماتت، وفتح الله لها بابا إلى الجنة فكانت تشاهدها وهي تعذب، وتردد: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم:11]، فضرب الله بها مثلا للمؤمنين -عليها رضوان الله- فكوفئت وجوزيت بالجزاء الوافر من الله، حتى جعلها الله في الجنة زوجة لسيد رسله وخاتم أنبيائه ﷺ، هذه الصادقة المخلصة.
وحزقيل زوج الماشطة، لما عُمِل ما عمل بزوجته؛ هرب، أرسل في طلبه فرعون ولم يجدوه، ثم أُخبر عنه أنه في وادي بعيد من الأودية -أنه يوجد هناك-؛ فأرسل إثنين في طلبه، فذهبوا، أقبلوا على الوادي، دخلوا إلى المكان الذي هو فيه فإذا به قائمًا يصلي وخلفه ثلاث صفوف من الوحوش والسباع تصلي في صلاته، وهو الإمام لهم، هابهم الموقف؛ ورجعوا، فأحس بهم -أنه واقف رجلان ومضوا-، فقال: اللهم إني اكتم إيماني مئة سنة، -أنا مؤمن بك، خوفا من هذه الفتنة وهذا الشرير- اللهم أيّما رجلٌ من الأثنين كتما عليّ فأهده للحق وأسعده في الدنيا والآخرة، وأيما واحدُ منهم أظهر عليّ فعذّبه في الدنيا والآخرة وهذا معنى دعائه، وصلوا،
أعطى هذا المؤمن -تعال أنت- أخذ هذا وقتله؛ فتحققت دعوة ذاك المؤمن العابد.
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)) ولاعاد شيء من المباني التي بناها، ولا من الخيم التي رفعها، والتي يعلبون تحتها، ولا الأوتاد التي يعُذب بها الناس؛ ذهبت، -وذهب هو نفسه- ولكن إلى أين ذهب؟ فمسكين كم تتألم روحه وجسده، من سيضحك عليه ومن سيتعبر به؛ موجود، لا اله الا الله.
هكذا يقص الله علينا القصص الحق، يقول: (ٱلَّذِينَ) من الذين؟ عاد ،ثمود، وفرعون. (ٱلَّذِينَ) كلهم هؤلاء: (ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ (11)) أي هم الذين طغوا في البلاد، أو منصوب على تقدير أَذُم، تقدير الذم - نذم الذين طغوا في البلاد- هذه أصناف من البشر الذين مروا على ظهر الأرض، طغوا، وكم من طغوا قبلهم وبعدهم؟! (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان:39].
ويقول سبحانه وتعالي: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) [إبراهيم:9]؛ هذا صنف منهم والطغاة كلهم الذين في زماننا لا يتجاوزون بعض هذه الأنواع، كل منهم جزء مما كان عليه من قبلهم. الذين في وقتنا هذا كلهم موجودين على ظهر الأرض، الطغاة: هم من نفس الأصناف هذه.
يقول سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12))، الذنوب والمعاصي والمخالفات، هذا الفساد،
فما يمكن أن يصح ويصلح تفسير الفساد، ما هو؟ مثل أن نقول: هو الخروج عن أمر الخالق الذي خلق. فليفسر من يفسر الفساد بما شاء:
(فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)) كان العرب أكثر ما يكون التعذيب عندهم وأشق يكون بالسوط! فاستعمل السوط لكل نوع من أنواع العذاب، يسموه: سوط الرب؛ (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) يعني أنواع من العذاب، ماذا؟ صب عليه:
هذا كله سياط العذاب، يعني أنواع العذاب، (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)) اللهم أجرنا من عذابك في الدنيا والآخرة.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) يعني هذا لهؤلاء وحدهم فقط؟ الخلق كلهم خلقه وعبيده، وأي أحد منهم يخالف وقد بلغه الرسالة ووصل إليه خبر السماء والنبوة، وتسنى له أن يعرف الحق فأصر وخالف.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ )، فالعاقل من راقب هذه الرقابة الكبرى، أهم من يراقب أي شي.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)):
مسجل موجود معك صغير داخل، وسط عنقك، شريحة لكن ربانية، الشريحة هذه مسجل فيها كل ما تقوله وتفعله وتنوي وتدخل وتخرج، وتطلع وتنزل، و تقوم وتقعد. وثم يُفتح هكذا شريط كامل يمتد، (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) [الإسراء:13]، يفك شريطك الذي في الشريحة؛
الناس في القيامة كلهم -ماعاد في أميّة-، مُحيت الأمية من عند ربك كل واحد يقرأ، الذي لا يعرف يقرأ؛ يقرأ، أي أحد يقرأ صغير و كبير، كلهم ذكر انثى، عربي عجمي يقرأ (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) ماذا تنكر من هذا؟ (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة:6].
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) لا إله إلا هو، من يفلت منه؟ من يخرج عن قبضته؟ من ؟ من؟ من؟ من؟ فرد، جماعة، هيئة، حكومة، صغار، كبار، من يخرج عن قبضته؟ من يخرج عن إحاطته؟ كلهم مقهورين وفيهم المغترين كثير- تحت القهر، والمرجع إليه، بل (ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِين * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ۖ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ) [فصلت:22-25] زينوا لهم الباطل والشر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فيا فوز من لبى نداء الله وأقبل على مولاه، وصحح مساره في هذه الحياة، ليلقى الهناء والمصافاة، والخير الذي لا يحيط به الا الله (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].
هكذا (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ (15))، ثم ذكر الحق وهمًا يطرأ على خيال الناس:
قال الله: هذه الفكرة خاطئة، هذه النظرة باطلة، لا أُكرم أحد بالأموال والأرزاق، ولا أهين أحد بالفقر، هذا ليس ميزان إهانة ولا كرامة (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ) -اختبره- (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) ضيق عليه رزقه (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا ..(17))؛ لا هذا اكرام ولا هذه إهانة، صحح فكرك، صحح معتقدك!!
فيا فوز المؤمن، وياويل الكافر (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البينة:7-6].
الحمدلله على نعمة الإيمان، الله يقويها لنا، ثبتنا على الحق فيما نقول، ثبتنا على الحق فيما نفعل، ثبتنا على فيما نعتقد، إن لك جند تختارهم من جندك في الزمن فاجعلنا من جنودك، اجعلنا من أهل الوفاء بعهودك، اجعلنا من أهل الصدق معك، اجعلنا من أهل النصرة لحبيبك محمد، على الوجه الأحب إليك والارضى لك وله، برحمتك يا أرحم الرحمين، ثبتنا على ذلك واسلك بنا أشرف المسالك.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي مخمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
دخلنا العشر الأواخر ما عاد بقي منها إلا الخمس الأواخر، كانت عشر الأن باقي خمس من العشر، معنا نصف؛ خذوا أماكنكم تحت ظل اللواء بصدقكم مع الله خلال هذه الأيام؛ ما تتخلون عن الصفات التي يكرهها، وماتجانبونه من الأفعال التي لايحبها وتصدق عزائمكم في ذلك، استعدوا لأجل مكان تحت اللواء، إن شاء الله يجمعنا هناك بفضله، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، عما ظلمت نفسي فأغفر لي.
27 رَمضان 1436