(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14))
الحمد لله تتوالى نعمه، ويعظم كرمه، هو الحق الحي القيوم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، له الملك وله الحمد يحيي ويُميت وهو على كل شيء قدير، أرسل إلينا المصطفى محمداً السراج المنير، وجعله في العالمين خير بشير ونذير، فأفلح من اقتدى به واتّبعه في المسير، وفاز بسعادة الدنيا ويوم المصير، وشقي من خالفه وكذّبه وحادَ عن سبيله المنير.
اللهم أدم الصلاة والتسليمات كما أنت أهله بما أنت أهله عدد علمك على خير خلقك أسعد مخلوقاتك سيدنا محمد المجتبى، وعلى آله وصحبه النجباء، وعلى من سار في سبيلهم واقتدى بهم في مقصدهم ونياتهم وفعلهم وقيلهم، وعلى آبائه وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد...
فإننا في تأملنا لمعاني كلام ربنا، إنعاماً مِنْ الله علينا، ومنِّةً واصلةً إلينا تنقّلنا في ربوع وروضات وجنات الآيات والسور المباركات، وانتهينا من تأمل بعض المعاني في سورة البلد، ووقفنا على سورة الفجر حيث يقسم الحق -جل جلاله-: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ(5)) فأول ما تُُنُوِّلَ القسم به الفجر، وقد علِمنا في هذه الأقسام، سنّة الله في أن يقسم من خلقه بما شاء، وفي قولِ: أنه على حذفٍ مضاف فيها كلها معناها أنَّهُ "الرب"... رب الفجر، رب الشفع والوتر، رب الليل إذا يسر، ورب الشمس وضحاها وما إلى ذلك، ولا يأتي هذا في مثل قوله: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ) لا يتأتى إن ربي ما خلق الذكر والأنثى.
يقول تعالى: (وَالْفَجْرِ) وقال العلماء: بأي فجر أقسم الحق؟ فكان؛
(وَالْفَجْرِ) يذكر بعض أهل التفسير: أنّ ما فجّر الله تعالى من الأنهار والآيات داخلةٌ في معنى الفجر (فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) [البقرة:60].
ثم أشار بعض أهل التفسير وأهل الأذواق أنه إنْ كان المراد بالفجر: انسطاع النور؛ فإنَّ أول الوجود انسطاع النورٍ، نورُ محمد -صلى الله عليه وصحبه وسلم- (وَالْفَجْرِ) وكان ميلاده في وقت الفجر، يا لك مِنْ فَجْرٍ تَفَجَّرَ عَنْهُ الْمَنْبَعُ الَّذَهَبِي.
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)) أقسم الله بليالي عشر من بين ليالي السنة، فما هي؟
القول الأول: الليالي العشر، هي ليالي العشر الأُوَلْ من شهر ذي الحجة وعليه أكثر المفسرين وهو أقوى الأقوال. (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال فيها نبينا كما جاء في صحيح البخاري: "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من أيام العشر" يعني العشر الأُوَلْ من ذي الحجة، "قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج يخاطر بماله ونفسه ثم لم يرجع من ذلك بشيء"؛ فهي أيام مميزه، أيام العشر الأُوَلْ من شهر ذي الحجة.
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)) وقيل: بل المراد العشر الأواخر من رمضان التي نحن فيها، فإنه كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها من رمضان، وإذا دخلت العشر الأواخر شدَّ مِأزرة، وأحيا ليله وأيقظ أهله، فكان يأمرهم بالتهجد في هذه الليالي، وقد مرَّ معنا أنهُ في هذه الليالي يتطيب كل ليلة ويغتسل ويقوم في المناجاة، وقد وصفته السيدة عائشة: كان إذا جنَّ الليل وخلا كل حبيبٍ بحبيبه، خلا هو بحبيبه وقام يناجي ربه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه.
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)) قال الضحاك: هي العشر الأُوَلْ من رمضان.
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)) قال بعض أهل التفسير: العشر الأُوَلْ مِنْ المحرم؛ مطلع السنة.
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)) وكل الكائنات مظهر عظمة المكون، وآيات جلاله وكمالهِ وأُلوهيته -سبحانه وتعالى-:
فيا أهل السمع والبصر *** تدل على المؤثر كل أثر
وكل ما أمامكم وأنتم *** أثــر من آثــار المـؤثــــر
فما أعجب الدلالة عليه! فما لكم تغفلون عنه وتتناسونه؟ جل جلاله، قال الأعرابي بفطرته: البعرة تدّل على البعير، والأثر يدّل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؛ أفلا تدّل على الصانع الخبير؟
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الاسراء:44]، ولهذا فإنه على قدر إيمان المؤمن بالله تعالى ينسجم مع أجناس الكون المسبّحة بحمد الله؛ فلذا يكون ذا سكينة وطمأنينة: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]. واسأل -من يوم آدم إلى اليوم- الذين طلبوا الطمأنينة في غير ذكر الله، يمنون أنفسهم أماني، يشربون المُسْكَرات أو يتناولون المخدّرات أو يفعلون الفواحش أو يعملون غناء ماجن، ولكن اسألهم هل وجدوا حقيقة الطمأنينة في قلوبهم؟ يقولون لك: لا..لا..لا..لا، يفرّون مِنْ شر إلى شر، ويقومون مما يفعلون وهم أكثر كدر.
الطمأنينة في ذكر الله، الطمأنينة في طاعة الله، هي وقفٌ على الصادقين مع الله وحدهم؛ فلقد ذهبوا والله بخير الدنيا والآخرة، خير الدنيا؛ أن تكسب فيها ما لا يفنى، خير الدنيا أن تنال بسبب أشياء فيها عيش الهناء الباقي، هذا خير الدنيا، هذا خير ما في الدنيا أن تُحَصِّلْ شيء يبقى، هذا خير الدنيا، هذا ما يَحَصِّلَهُ الكفار ولا الفجار ولا الأشرار ولو ملكوا الدنيا ما يحصّلونه، فما حصّلوا خير الدنيا؟ا حصّلوا لعب الدنيا؟ نعم.. متاع الدنيا؟ نعم..؛ لكن متاع الدنيا كلّه عند الوزن قليل.
(قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) قليل.. تعرف قليل؟ قليل، هذا بميزان ربك، فمهما كان عندك من وهِم أنه كثير، فمن الشيطان الكاذب، ومتاع الدنيا من أولها لآخرها قليل، هذا ميزان الحق الصادق، على قدر إيمانك به؛ يستقيم الميزان عندك، ويقول سبحانه وتعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن:9-3].
قليل ما الذي وقّفك عند القليل؟! ما الذي غرَّك بالقليل؟! ما الذي حَسَّنَ لك القليل؟! الكثير هناك (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) اللهم اجعلنا من أهل جنتك.
يقول: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)) في الأعداد شفع ووتر، واحد وتر، اثنين شفع، ثلاثة وتر، أربعة شفع، خمسة وتر، ستة شفع وهكذا؛ ولكن كلَّ هذه الأعداد تنبني على الواحد؛ فلولا الواحد ماكان إثنين، لكن أن يتجلى الواحد مرتين؛ يطلع أثنين، وإنْ يبرز ثلاث؛ يطلع ثلاثة، وإذا من دون الواحد ما يمكن اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة.
لِذا لمَّا جاء بعض أهل الإلحاد لسيدنا جعفر الصادق؛
ألا كل شيء ما خلا الله باطل، ولكن بإيجاد الله يوجد كل شيء -سبحانه.
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)) فمن قال: أنَّ الفجر النهار فهذا مقابلهُ، ثم أنَّ الشفعية والوترية في الأعداد والخلائق نسبية؛ لكن الوتر الذي لا يقابله شيء والفرد الذي لا يقابله شيء أصلاً قط من كل جانب وكل وجه هو الله، ولذا قال عن الكائنات: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) [الذاريات:49] إثنين ثم كل شيء له مقابل، هذا مقابل هذا، ظلمة مقابل نور، مرض مقابل صحة، هدى مقابل ظلال، خير مقابل شر، ملك مقابل مملوك، أمير مقابل مأمور، كل واحد وله مقابل؛ إلاَّ الفرد الحق الرحمن:
فالواحِدِيَّة والأَحَدِيَّة بجميع معانيها ما تنطبق إلاَّ عليه، وفي الخلائق بنِسَبْ، نِسَبْ، رُتَبْ، رُتَبْ، سبحان الخالق.
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)) يمضي، الناس يسرون فيه، وهو سمّاه الله يسري، يعني يمضي، لمَّا يقبل الليل، ويدبر يمشي يسري. (واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) الليل الذي يقبل فيدبر ينتهي. (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [المدثّر:33] وفي قراءة: (وَاللَّيْلِ إِذا دَبَر). (واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) في معناها يمضي.
يقول الله: مظاهر خلقي هذا والدلالة على عظمتي تكفيكم قَسم أو لا تكفيكم؟ يا أيها العقلاء (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ(5)) هل في هذا يمين كافي وحَلِفْ تام وقسم كامل لكل عاقل؟ (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) لذي عقل، الحِجْر: العقل، ولِمَ يُقال للعقل حِجْر؟ سواءً قلت عقل أو حِجر فكلّه يحجر ويعقل، ويمنع من ارتكاب القبيح، هذا العقل يحجر صاحبه، يعقل صاحبه، عن أنْ يرتكب القبيح قولاً وفعلاً ومقصداً ونية هذا العقل، فكّل من ارتكب القبائح فلا عقل له، نعم والله لا عقل له.
ولذا جعل الإمام الشافعي لمن وصَّى وصية لأعقل الناس قال: خلّف مال لأعقل الناس، نعطي مَنْ؟ نعطي مهندس، نعطي طيار، نعطي صانع، نعطي مخترع، نعطي فيلسوف، نعطي من هذا أعقل الناس؟ قال سيدنا الشافعي: الزهّاد في الدنيا، هؤلاء الذين عقلوا، أعقل الناس فرأينا الحق في القرآن يدل على ذلك دلالات؛ (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص:60].
ولذا ذكر لنا أنَّ هؤلاء الذين ارتكبوا المخالفات من كفر أو معاصي أوجبت عليهم دخول النار يقولون في الآخرة (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10]، الآن تقولون: لو كنَّا نسمع أو نعقل! وكنتم تتبجحون، يقول: المفكر الفلاني، والعبقري الفلاني والفيلسوف الفلاني، والمخترع الفلاني، والمثقف الفلاني والبروفوسور الفلاني، واليوم قَالُوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) هل أحد سيعطيه شهادة تنقذه؟ ممكن؟ كان بروفسور مسكين، خلِّصوه من الملائكة، من النار ، ولو قليل؛ لا شهادة ولا الجهة التي أعطته الشهادة ولا الحزب الذي كان فيه، ولا الوزارة التي كان يشتغل فيها، لاشيء منها تنفعه، انتهى.
(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:29] ذهبت كلها، الحق ينادي الخلق عندما ينفخ النفخة الأولى في الصور ويموتون: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) يعني: يا أدعياء بالوَهِم والخيال، كذب وباطل، ملك وإمبراطورية وحضارة ودولة عظمى، يامدعين (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) لمن؟ هاتوا كلامكم هذاك كله الفارغ، لمن الملك اليوم؟ أموات لا حد يجيب، رئيسهم ميّت وبروفسورهم ميّت ودكتورهم ميّت وصاحب الصناعة ميت، وطيارهم ميت، المهندس ميت، (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) لا أحد يجيب، الحق يجيب نفسه بنفسه يقول: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16] الذي قهر عباده بالموت، فلا ملك إلاَّ مع من اتخذ سبيلاً إلى الملك فملّكهُ ملك الدوام والخلود في دار الكرامة، فقط هذا هو الُملك غير هذا ما في مُلك إلاَّ صورة، نحن وراء هذه الصور، اغتررنا كثير وانخدعنا كثير وخسرنا كثير.
ولكن الذين أدركوا الحقيقة؛ جاء بعض سلاطيين الجاه مرة إلى عينات للإمام الحسين بن الشيخ أبوبكر، يقول: أنا خرجت من المملكة، مِنْ السُلطة في الوادي ولَّها مَنْ شئت، وأريد أتفرغ لإقبالي على ربي، وأصحّح حالي وحسابي معه حتى ألقاه، ادعُ الله يغفر لي ما مضى، ويجعل موتي إمَّا عندكم في هذه البلدة، بلدة الأخيار أو في المدينة بلدة المختار ﷺ، قال: ما أصنع بك؟ أمرك إلى ربك واصدق مع الله واثبت، يتوب الله عليك، قال: تدعو الله لي أن يغفر لي، يميتني هنا أو في المدينة، وخذوا المُلك وولَّوه مَنْ شئتم، قال: اسمع، إمَّا إنْ كنت صادق ومتوجّه، فالدعاء؛ ندعو لك يغفر الله لك ويميتك في بلدنا أو في المدينة، ولكن المُلك؛ لو كانت هذه الإمارة الدنيوية والسلطة المادية تصلح للدَّواب ما ارتضيناها لدابتنا، دابَّتنا! هذه ما نرتضيها لها، نعز دابتنا أنْ تكون في إماراتكم، الله؛ لكن انظر أحد من أقاربك أو بني عمومتك ترى فيه خشية من الله وخير وعقل للناس، ولُّه، دعْهُ يتولّى مكانك، فكان ذلك، رجع وولَّىٰ بعض أقاربه وترك السلطنة كلها والملك لله، وأقبل على الله إقبال صادق، وقبره موجود هناك في القرية، في عينات، وقت الموت جاء وتوفاه الله .
"وإنما لكل امرئٍ ما نوى" لكن الذين وعوا حقائق المُلك، قال: هذا المُلك القصير الذي يتنازعون عليه الناس ويتقاتلون بحقارته، لو كان يصلح لدوابنا نعِّزها عنه ما نرضاه للدابة؛ أدركَ الحقيقة، كمن كان في مُلك إرث النبوة، هل سيبحث عن المُلك هذا؟ مَن كان في مُلك قرب مِنْ جبّار السماوات والأرض هل سيبحث عن المُلك هذا؟ النبي بتربيته وتزكيته ترك الرعيل الأول مِنْ الأمة على هذا الإدراك والشعور والمعنى والذوق.
فلذا قالوا: لَمْ يولِّ سيدنا عمر بن الخطاب أميراً على منطقة إلاَّ بالإلزام، كلّما طلب أحد للإمارة اعتذر، كلّما طلب واحد يعتذر، وأخذ يقول: ويْحَكُم تنجون بأنفسكم وتجعلونها في رقبتي؟ وإذا جاء يعتذر إليه من عينهُ، قال: عزمتُ عليك، تنجو بنفسك وتجعلها في رقبتي، لتتولَّينَّ بالقوة، فيولِّيهم بالقوة.
هذه تربيته ﷺ، ومع ذلك صاح إليه مرة أبو هريرة وجاء، قال: لا تجدّد لي فترة أخرى تولِّينا على مكان، تبتُ، لِم؟ مالك؟ قال: يا أمير المؤمنين دخلتها مُكْرَه، واليوم مالت نفسي إليها ورغبت فيها فلا تفتنّي، انظر! يلاحظون نفوسهم وقلوبهم كيف، ومع ذلك كان هو في أيام إمارته في البلدة يحمل الحزمة من الحطب فوق رأسه ويمشي إلى بيته، فيجد زحمة في الطريق ساعات، يقول: وسّعوا لأميركم..وسّعوا لأميركم، سيدخل معكم، وسّعوا لأميركم أوسِعوا لأميركم، لا كبرياء ولا حرس أمامه ولا خلفه ولا شيء من ذاك الكلام الذي اغتر به الخلق.
سيدنا علي جاؤوا له الحراس، قال: مِنْ مَنْ تحرسوني مِنْ أهل الأرض أم مِنْ أهل السماء؟ قالوا: أهل السماء مالنا سبيل إليهم -مالنا طاقة-، قال: فاذهبوا فإنه لا يحصل من أهل الأرض شيء حتى يتخلَّىٰ حرس السماء، قال: ما يقدرون الى أن يتخلى حرس السماء ويأتي قضاء، وإلاَّ مايقدرون، وهوعنده خبر، أن واحد سيضربه هنا وسيخضب منه هذه.
جاءت في أحاديث يقول له: أتدري من هو أشقى الأولين؟ قال: "قُدار" عاقر ناقة قوم صالح، قال: نعم إنَّ الله يقول: (إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا) [الشمس:12] أشقى القوم، فهل تدري من أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه، ووضع إصبعه في محل الضرّبة فيخضبُ منك هذه -بالدم- يعني يخضب لحيتك بالدم، هو يعرف الوقت، وما قَبِلَ الحرس ومرت الأيام، حتى كان في بعض الأيام، يقول: أين هذا الذي يخضب منّي هذه، يخضب هذه مِنْ هذه.. أبطأ، يقول: أبطأ، فلّما كان الليلة ونظر في السماء، قال: إنَّها الليلة التي وُعدت، أصبح الصباح واستقبله هذا أشقى الآخرين، ذاك تسبب في هلاك أمته "قُدار" وهذا تسبب في فتنة تبقى في الأمة إلى آخر الزمان -سبحان الله-، فكان أشقى الآخرين.
وكم في الأمة من كفار وفجّار، لكن هذا سمّاه النبي أشقى.. أشقى الأمة، أشقى الآخرين هذا، وإسمه عبد الرحمن بن ملجم، وليس من عبيد الرحمن، ومظهره عبادة وما تنفعه العبادة، وله أفكار، ويقول: هذا "علي" خرج عن طريق حكم الرجال، في شرع الله وعمل وعمل، وكلام فارغ وأنَّ قتله قُربة، قُربة إلى رأس الشقاء الذي أُوعد به، والعياذ بالله تعالى.
يقولُ: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)) وفيه ذكر الليل والاعتناء به والمسرى؛ لأنه محل المناجاة ولذا تعشّقته أرواح الصالحين، وأخذ يقول قائلهم: لولا قيام الليل ما أحببنا البقاء في الدنيا. (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) وأختار الله الإسراء لنبيهُ في الليل قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1]
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5))، فأعلموا أنَّ من كفر بنا وكذّب محمداً ﷺ الذي أرسلناه سنعذّبه وستأتيه سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، كما أقص عليكم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)) هذه الأمم عملنا لها كذا، وأنتم نحلف لكم، من يخالف منكم له مصير مثل هذا -أعوذ بالله من عذاب الله-.
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ(5)): قال بعض أهل التفسير: بل جواب هذا القسم سيأتي بعد اعتراض هذه الجُمَل: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13))؛ هذا الجواب على القسم بالأخير: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)) … (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) ولهذا لما جاء بعض أهل الإبتداع المتحدّثين عن صفات الله بما لا يعقلون ويفهمون ويسأل بعض الصالحين، قال: أين الله؟ قال له: بالمرصاد، (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) هكذا.
سمعتم جواب بعض الأخيار كان في صنعاء جاء واحد لما ظهرت فتنة: أين الله؟ أين الله؟ كأنهم يبحثون عن محل يَحِلُ فيه ربهم -استغفر الله-، هو الله قبل خلق السموات والأرض وقبل خلق كل شيء، وهو على ما عليه كان، لا يحتاج إلى شيء، ولا يَحِلْ في شيء، ولا يحِلُ فيه شيء: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الانعام:3].
مع عدم حلوله في شيء، ولا مشابهته للخلق في شيء (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) [الحديد:4] -جلَّ جلاله، بعد ذلك جاؤا يقولون له: أين الله؟ قال: وأنت ضيّعت ربك، بلا أدب، وجئت تبحث عليه عندي هنا، قال له: مسكين ضيّعت ربك، لا تدري أين هو وجئت تبحث عليه عندي هنا! ذاك الرجل ماعرف ماذا يقول، مسكين، لُقّن كلمتين، قالوا له: اذهب اشغل الخلق بها.. اشغل الناس بها، لا اله الا الله.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) يرصد كل حركة وكل سكون من الكائنات كلها، فكيف بالمكلّف الذي أعطاه العقل والسّمع والبصر؛ يرصد حركاته وسكناته. (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) فتأتي معنا معاني في شأنِ عاد وبعض أخبارهم، وذكر الله عاد وثمود وفرعون؛ ثلاث طوائف جعلهم مثال للعواقب وللمصير وللنهايات، وكلهم قد مضوا، وكم مضى من بعدهم؟ وكم مضى من قبلهم! لا يعلمهم إلاَّ الله، وسنمضي كما مضوا، كلّنا نرتقب الميقات واليوم الآخر الذي يجمعنا أجمعين أولنا وآخرنا، وهناك حُكْم الملك (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7].
الله يبارك لنا ولكم في هذا اليوم المبارك ولا تقوم الساعة إلا في مثل هذا اليوم، بل جاء في بعض الأخبار أنها أيضًا في رمضان تقوم الساعة، ولكن بعد أن صارت الأرض كفار ليس فيهم من يقول الله -والعياذ بالله تعالى- وقد قيل أنها في الخامس عشر من رمضان في يوم الجمعة، أما في يوم الجمعة صحّت فيه الأحاديث حتى يقول: "أنه ما مِنْ يوم جمعة إلاَّ والدواب تصغي بأذانيها تخشى النفخة في الصور وقيام الساعة" وقال عن يوم الجمعة: "فيه خلق آدم وفيه تِيبَ عليه وفيه تقوم الساعة" في يوم الجمعة، لكن ما يُدرى متى؟ سنة كم؟ لا أحد يعرف، لا إله إلا الله وستأتي، والقرون الكثيرة عند ربك شيء يسير بالنسبة لما يكون في الدار الآخرة.
(أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة:38] الدنيا كلها، وأنت كم ملكت من الدنيا؟ عُشْر الدنيا؟ عُشُرْ عُشُرَها؟ ولا عُشُرْ عُشُرَها، عُشُر عُشُرُ العُشُر، ولا عشر عشر العشر، كم كم عمرك؟ ما أخذ عشر الدنيا، ولا نوح الذي تعمّر ألف سنة، ألف ومائتين سنة كلهم ما أخذ عشر الدنيا ولا عُشُرْ عُشُرْ الدنيا، فأنت كم لك؟! ولا حتى عُشُرْ عُمر نوح، ما تصل إلى عشر عمر نوح نفسه، وليس الدنيا! واحد فقط الذين تعمروا في الدنيا.
ويقال: أن سيدنا نوح سُئل من بعض الملائكة بعد وفاته، كيف رأيت الدنيا؟ قال: كدار له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، كم؟! هذه ألف ومائة سنة، فعاش فيهم (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) [العنكبوت:14] هذا مدة إنذاره لقومه، لبث في القوم من بعد بعثته إلى أنْ أهلكوا، لبثه فيهم (أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ) [نوح:1] فكم تجلس في الدنيا؟ ستين سنة، سبعين سنة وأنت في غفلة فيها، وبُعُدْ عن الله وانقطاع وإضاعة للأبد والخلود، يا أبله، ما هو هكذا، اغنم العمر القصير.
يقال: أنَّ إمرأة من بني إسرائيل مات عليها ولد، فبكت أنه مات وهو شاب صغير وأنها لم تزوجه بعد. كم عمره؟ قالت: مائتين وخمسين سنة، ماذا؟!؟ مائتين وخمسين سنة، قالت: إنه لازال صغيرا، قالوا: فقيل لها: فكيف لو كنتِ في أيام أمة محمد؟ قالت: كم يُعَمِّرون؟ قالوا لها: أكثرهم ما بين الستين والسبعين قليل يتجاوزون هذا، قالت: ها! لو كنت أدركت ذاك الوقت ما أحتاج أبني بيت، سأكون في ظل شجرة في الصباح من الجانب الغربي، وفي المساء من الجانب الشرقي، ستين سنة قليل ستذهب سريعا.
فعسى البركة، وهذا العمر القليل إذا انتبهت منه يصير كثير نسبقهم، نسبق الأمم السابقة بعبادتهم إذا صدقنا وعبدنا الله في أعمارنا القصيرة، نحن عندنا ليلة واحدة خير من ألف شهر، تدركها أنت، اثناعشر سنة تزيد على من عبد الله ألف سنة منهم، في اثني عشر سنة، اثنا عشر ليلة، في اثني عشر سنة تعبد الله فيها تكون أفضل ممن عبد الله فيهم ألف سنة، مَن ْيعبد الله ألف سنة متواصلة؟ وأيضا اثنا عشر سنة أخرى، إذا وجدتها في عمرك، إن شاء الله، واثنا عشر ثالثة، وبعدها مضاعفات أخرى تزيد على أعمار كثير ممن قبلنا، إذا قبِلنا الله.
فالحمد لله الذي جعلنا في أمة محمد، -اللهم اقبلنا- اكثروا صلاة وسلام عليه وخصوصاً في هذا اليوم، واسألوا الله أن يكشف البلاء عن أمته، وأن يجمع شملهم، وأنْ يدفع الآفات عنهم، وأن يلمّ شملهم، وأن يأذن بتحويل حالهم إلى أحسن الأحوال، اللهم اكشف البلايا والرزايا عن أمة حبيبك محمد خير البرايا في الظواهر وفي الخفايا يا الله وأعنَّا على ما تحبه منَّا، وفر حظنَّا من هذا اليوم وساعة الإجابة في هذا اليوم وفر حظنا من الصلاة على نبيك المقبولة عندك، فنحوز صلاتك علينا بما أنت أهله يا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
25 رَمضان 1436