(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس السابع عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الفتح، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)}
الحمد لله مكرمنا بالقرآن الكريم والرسول الرؤوف الرحيم، ذي الخلق العظيم الهادي إلى الصراط المستقيم، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه أفضل الصلاة والتسليم وعلى آله وصحبه ومن سار في منهجه القويم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المكانة والتقدير والإجلال والتعظيم، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم وعلى ملائكة الله المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعدُ: فإننا في نعمة التأمل لكلام ربنا جل جلاله والتدبر لما أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ بما به يرفع من يرفع -جل جلاله-، "إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ." رزقنا الله وإياكم الرفعَ بالقرآن، رفعنا الله بالقرآن ونفعنا بالقرآن.
يقول -جل جلاله-: والسورة المدنية بدأنا في تأمل معاني أوائلها، نزلت عند عودة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من صلحِ الحُديبية، فبسطَ الله فيها بساطَ التذكير بهذه المِنَنْ والنعم والخصائص التي أوتيها -صلى الله عليه وسلم-، وما أوتيَت أمته، وما أعطيت أمته؛ تكريمًا له -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
وقال الرحمن:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1)} فجاءَ بِإنَّ المؤكدة وضمير العظَمة، وقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}. وهذا الفتح وإن فُسِّرَ معناه بمظاهر من مظاهره، وأثرٍ من آثاره كصُلح الحُديبية الذي كان سببًا في دخول الناس في الإسلام، ورؤية كثير من الحقائق بمشاهدة النبي ومشاهدة أصحابه، وسماع كلامه ورؤية ما يكون بينهم؛ فكان ذلك أيام توتر النفوس بالحرب غير متيسر وغير قائم، والنفوس إذا امتلأت بغيظٍ ما تأتي على الكلام ولا تفهمه ولا تتأمله، ولكن إذا هدأت وسكنت تأملت وفهمت، فهم في وقتِ غيظهم والشدة بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وصحبه وسلم- والناس من حواليهم كذلك مشتغلون بهذه الحرب، ومنهم من يوالي قريش، ومنهم من يدخل معها كيهود وبعض قبائل المشركين، ومنهم من يبقى مُترقِّب ماذا سيصير إليه الأمر؟ وماذا سيكون؟ وكل هذه الأحوال فيها موانع لعامة الناس أن يدركوا الحقيقة وأن يتأملوا ما بُعِث به خير الخليقة، وأن يفهموا ما يدعو إليه من سلوك وطريقة، فكان ذلك حائل بينهم وبين الدخول في الإسلام.
فلما جاء صُلح الحُديبية وهدأت النفوس ووضعت الحرب أوزارها؛ تراءى الناس، وتجالسَ الناس، وأقبل بعضهم على بعض، ونظر بعضهم ما عند الآخر، وشاهدوا رسول الله وخُلُقَهُ ومكارمه وفضائله، وسمعوا كلامه، وأخذوا يفكرون في ذلك؛ فدخل الناس في دين الله تبارك وتعالى، ثم أعقبَ ذلك فتح مكة، وقبيل صلح الحديبية أعقبه فتح خيبر ثم فتح مكة، ثم ما والى الله تعالى من الظهور والفتوح للنبي صلى الله عليه وسلم وللخلفاء الراشدين من بعده، ونشر الله الدين في أقطار الأرض، فكان هذا مظهر من مظاهر الفتح الذي فتحه الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام-، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}.
والفتحُ أوسع من ذلك كله، ففتح الله عليه مُغلقاتٍ من الأمور لم يفتحها على غيره، ولم يفتح الرحمن على أحد في أسرار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله؛ كما فتح على عبده المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، قال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}. وكان من هذا الفتح العظيم ما فتحَ الله سبحانه وتعالى على من أُخِذَ عليهم الميثاق بالإيمان بأن لو بعث في أوقاتهم من النبيين من قبل أممهم؛ ثم ما يكون في هذه الأمة من فتوحات؛ من تصفية القلوب وتنقيتها؛ وإدراك حقائق في الإسلام والإيمان والإحسان، ومعرفة خاصة ومحبة لله ومن الله تبارك وتعالى، قال في مثلها تعالى وفي مظهر من أعلى مظاهرها: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، كل هذه الفتوحات مِنَح من الله منَحَ بها خير البريات وآتاهُ إياها، وتفرقت في أمته، تُفتَح عليهم فتحًا بعد فتحٍ لأشخاصهم ولطوائف منهم ولجماعات منهم، ولبلدانٍ منهم ولعمومهم؛ حصلت فتوحات كثيرة بفضل الله تعالى، وكلها مندرجة تحت قول ربنا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}.
والعجب في هذا الفتح أنه يستمر آثاره وأخباره إلى القيامة، وإلى المقام المحمود والشفاعة العظمى، وكلها فتوحاتٌ عجيبة من الله لرسوله ومصطفاه محمد -صلى الله عليه وسلم-. { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ …} واختار الحق أن يعبِّرَ هنا باللام { لَكَ } ولم يقل فتحنا عليك، { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ...} ليشمُل ما جعله بذاته وخاصٌ به، وما كان لأجله في أمته، وفي من سواهم {..فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ...} أعطيناك ومن أجلك فتحنا على غيرك.
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} فتحًا عظيمًا باهرا واضحًا جليًا كبيرًا، ومن ذلك ما نحن فيه من هذا الفتح الرباني من إيماننا بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشار الإيمان به في مشارق الأرض ومغاربها، على ما تحرك فيه إبليس وجنده من شياطين الإنس والجن لتشويه صورة المصطفى وسمعته ومكانته، وللصد عن دينه وعن ملته وعن شريعته، ولمحاولة اختلاق الافتراءات؛ فيما يتعلق بصفاته وأحواله وذاته الشريفة -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وبذل الأموال في ذلك، فلو حسُبت الأموال التي صُرفت من وقت مبعثه إلى اليوم من أجل الصدِّ عن سبيله؛ ومن أجل التكذيب به؛ ومن أجل أن لا ينتشر دينه؛ لكانت مبالغ كبيرة طائلة عظيمة، ولكن كلها تحت دائرة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ …} [الأنفال:36] صدق ربي، وهذا الذي يشاهده العيان على مدى القرون التي مرّت، المشركون أنفقوا، واليهود أنفقوا، وجمّعوا وتجمّعوا، وبذلوا وفشلت كلها، ومن بعدهم في القرن الثاني والثالث والرابع وإلى يومنا هذا، تُنفَق الأموال الكثيرة الكبيرة للصدِّ عن دين محمد، ولتشويه خبره، ولأن لا ينتشر دينه، ودينه ينتشر ويقوى ويكثُر؛ حتى في زمانكم من تابعوا التجري على الذات الشريفة، ومن استخدموا في ذلك الصور وغيرها، ومن قالوا ما قالوا، ولكن بالله عليكم بعد هذا كله القلوب التي آمنت به أقل أو أكثر؟! بعد ما عملوا الذين آمنوا به أكثر، والذين اتبعوه أكثر، من معه؟! من وراءه؟! ما حقيقته؟! من هو هذا؟! -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- هو المخاطب من قبل الفعال لما يريد {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولم يزل كذلك الفتح يُصاحب ويُنازل كل متعلق به، صادق في محبته ومتبع له وقائم بنصرته؛ تسري إليه سرايات الفتح والنُّصرة والتأييد؛ على قدر صدقه وعلى قدر إخلاصه، كما قال تعالى: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ..} [الحج:40-41] أيش صلحوا -ماذا فعلوا-؟ طبقوا ما جاء به محمد {.. أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]؛ {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51-52] وهكذا .
وحتى ما ينفق في بعض الحروب وتهييج الفتنة بين المسلمين؛ كان مقصود منه أيضًا إخماد وإطفاء نور هذا الدين وانتشاره، لكن بعد ما يعملون كل ذلك يزداد إشراق نور هذا الدين، ويزداد الأتباع لسيد المرسلين، وقبل سنوات لما سألوا بعض الروسيين عن سبب إسلامه، قال: تأمُّلي أن صاحب كل فكرة وصاحب كل مبدأ يقوم في الأرض، يبدأ ويتجمع حوله ناس ويقومون وكلما مرت السنين ضعُف الاتصال به، وربما ناقضوه، وعندهم في روسيا مثال لذلك، حقهم الكفار الكبار اللي أحدثوا النظام الاشتراكي، وحرَّقوا صورهم، وكانوا يطبلون لهم، ويصفقون لهم وبعدين حرَّقوا، قال: وكلما مرت الأيام تغير ما جاءوا به، وتغير الناس عليهم، وانقلبت محبتهم!! إلا محمد، والقرون مرت وأحبابه يزيدون، وأتباعه يزيدون، وله يُعظِّمون، فقلت هذا مش -ليس- إنسان عادي، إيش -ماذا- الذي فيه؟ ليش -لماذا- كل الأفكار هكذا؟ إلا هذا المنهج! إلا هذا الدين! وبقيَّت الأفكار كلها بهذه الصورة، فعلمت أنه من عند الله جاء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} بلدتنا هذه وقبل بناية هذه الديار، وصلت إليها الشيوعية والإشتراكية، ومن يتبنى الإلحاد، ومن يقول إن الحياة مادة، وإن الدين أفيون الشعوب، ووضعت بعض الخطط على أساس ألا يبقى مسجد في المنطَقة، وقامت لذلك دولة، وقضُّوا خمس وعشرين سنة، وحبسوا كثير من أهل العلم، وسافر كثير من أهل العلم ورحلوا وهاجروا من البلد، وقَتلوا، وسَحلوا، ومنعوا كل تدريسٍ للدين، وأقفلوا الأربطة، وأقفلوا الزوايا، بل المِعلَامات حتى وسط بيوت الناس منعوا أن أحد يدرس، فبالله عليك! بعد هذه الخطة كلها؛ هذا الجمع القائم الآن شاهد على فشلهم! بل شاهد على صدق محمد، وشاهد أن الذين تبنوا هذا المنهج من قبلنا من أسلافنا هم أتباعه، وهم ورثته، وهم السائرون على دربه، وزادت وتضاعف عدد المساجد في الوادي أكثر مما كان قبل دخول الشيوعية بخمس مرات أو سبع مرات عشر مرات، تضاعفت أعداد المساجد في الوادي، لا إله إلا الله.
وبعض أهل خطط الكفر أيضًا أنفقوا أموال كثيرة قبل خمسين سنة، قرروا أن تكون جميع قارة أفريقيا في عام ألفين في عام ألفين - قبل خمسين ستين سنة - قالوا عام ألفين قارة مسيحية، لا أثر للإسلام فيها، عدّت الستين الخمسين السنة وصلنا ألفين، وقد نحنا ذحين - الآن - ألفين وثلاثة وعشرين؛ تضاعف أعداد المسلمين في قارة أفريقيا، كثرت المساجد في قارة أفريقيا، أسلم كثير ممن لم يكونوا مسلمين في قارة أفريقيا، وفي خضم ما كانوا يخططون وينفقون، شيخنا الحبيب/ أحمد مشهور بن طاهر الحداد في جنوب شرق أفريقيا وحدها أسلم على يده الخمسة وسبعين الألف الثمانين الألف، معه واحد من أهل العلم والدعوة الشريف/ سعيد البِيض عليه رحمة الله -تعالى- وأسلم على يده مئة ألف، وبعدين هؤلاء المئة الألف أسلموا على أيديهم ناس -سبحان الله-، وقال الحبيب/ أحمد لما نُحِسْ بالمنصِّرين هؤلاء وبأموالهم يصلِون إلى بعض الأصقاع وأدغال أفريقيا نروح إليهم، نسابقهم إليها، حتى قال لنا: يوم ما وصلنا إلى مناطق العراة، يمشون عراة، قال: نستعد معنا بثياب وهكذا، فيبدأ يسلمون كم نفر منهم، ونلبسهم الثياب يسترون عوراتهم، قال: نجي بعد مدة نحصل المنطقة فيها قمصان وعمائم ومسجد ما شاءالله، لا إله إلا الله.
ما هذا السر في دعوة محمد؟! يقول الحق -جل جلاله- في ذكر عظيم المنَّة فيما يتعلق بذنوبه وذنوب أمته من بعده، قال: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..} فالمغفرة بالنسبة له: أعلى أنواع المغفرة، وما أعلى أنواع المغفرة؟
الغفر هو: الستر، وأعلى أنواع المغفرة أن يجعل الله بينك وبين الذنوب سترًا وحاجبًا ما تقرب منها أصلًا، هذا أعلى أنواع المغفرة، هذه هي المغفرة للأنبياء بهذه الصورة، يغفر الله لهم؛ يحُول بينهم وبين جميع الذنوب والمعاصي؛ ما يقدرون، يجعل ساتر بينهم وبين الذنوب من عصمته -جل جلاله وتعالى في علاه-، هذا المعنى الذي في قوله {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، فلا تقع في شيء من الذنوب.
وذكرنا بعد ذلك المعنى في ما وسَّعَ الله من أسباب المغفرة في أمته، وجعل الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر، والوضوء مكفر، والصدقة مكفرة، والتسبيح والذكر مكفر، والصلاة على نبي -صلى الله عليه وسلم- مكفرة للذنوب، واجتماع المؤمنين من أعظم ما يُتكفر به الذنوب، والحج يغفر الله به الذنوب الصغائر والكبائر إذا بَرْ، إذا برَّ الحج "مَنْ حَجَّ هذا البيت، فلَمْ يَرْفُثْ، وَلم يَفْسُقْ، رَجَعَ -خرج من ذنوبه- كَيَوْمَ وَلَدْتُهُ أُمُّهُ" يقول: اللهم صل على سيدنا محمد وآله وهكذا، "مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ" وفي رواية "ما تأخر" "من صام رمضان إيمانا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وفي رواية "وما تأخر"،الله أكبر.
ومن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، الحمد لله على هذه النعمة.
{ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: لأجل يتم نعمته عليك؛ فأتمَّ عليك نعمة النبوة، ونعمة الرسالة؛ ونعمة الخيرية لأمتك، ونعمة التَقدِمة لك ولأمتك على جميع الأمم، "إن الله حرم الجنَّةَ عَلَى الأُمَمُ حتى تدخلها أمتي" "حرم الجنة على الأنبياء حتى أدخلها أنا، وحرمها على الأمم حتى تدخلها أمتي" اللهم صلِّ عليه وعلى آله.
{..وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ..} وأتمَّ نعمته عليه في الظاهر والباطن، والحس والمعنى، فخلَقه على أجمل صورة فيها جميع المحاسن محصورة وعليها مقصورة، آتى سيدنا يوسف عليه السلام شطر الحُسن وآتى عبده النبي محمد الحُسنَ كله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وكان أحسن الناس خَلْقًا وخُلُقًا -اللهم صلِّ عليه وعلى آله-، وأتم عليه النعمة بمنن ومواهب كبيرة لا تعد ولا تحصى. {...وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} فجعلَ له الدين التام الكامل، والشريعة الخاتمة للشرائع؛ التي لا شريعة بعدها، ولا يقبل إلا دينه؛ دين الإسلام، والحمدلله أصبحنا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى ملة أبينا إبراهيم {... حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:76].
قال الله تعالى:{..وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} دينًا واضحاً بيِّنًا، ومنهج قويمًا؛ يحملُ محتاجات البشر والجن إلى أن تقوم الساعة، ويحمل كل ما يحتاجونه في اجتماعهم، في اقتصادهم، في حروبهم، في العلائق بينهم، في زراعاتهم، في صناعاتهم، كل ما يحتاجونه في ذلك من الفواصل التي بإهمالها يحصل السوء والضر بين الناس؛ موجود وسط هذه الشريعة المطهرة. يقول:{.. وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} ووسطه هدايات بعد هدايات، فالهداية بالبيان للكل، بيَّنَ ووضح السبيل للكل وعلّّم، ولكن الهداية بالتوفيق بعد ذلك كثير، كل من آمن به وفقه الله للإيمان به، والذين آمنوا فيهم مجاهدون، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ..} [العنكبوت:69] هداية بعد هداية،{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء:174-175]، وهدايات في المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة للمقربين والصديقين والأنبياء، ورسول الله أهداهم فيها، وأعلمهم وأعرفهم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
{..وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} يا ربِّ نصرته النصر العزيز، فتكرّم علينا أن تجعلنا من أنصاره؛ بأقوالنا وأفعالنا ونياتنا ومقاصدنا وأموالنا وأجسامنا وأحوالنا وأنفسنا، يا الله. فإن الحق -تبارك وتعالى- يختار من ينصر رسله، فيعدهم أنصاره تعالى، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ …} [الصف:14] يعني: مع الله، الله ناصرنا، من بينصرنا مع الله منكم معشر الحواريين؟ قال هم معشر الأمة اللي -الذين- أُرْسِل إليهم سيدنا عيسى {..قَالَ الْحَوَارِيُّونَ..} [الصف:14] هو قال: من أنصاري؟ الحواريون ما عاد قالوا -لم يقولوا- نحن أنصارك، قالوا: نحن أنصار الله، كيف نحن أنصار الله؟! لأن نصرتك ما هو من أجلك أنت .. إلا من أجل الله، فنُصرتَك نُصرَة لله، نُصرَة عيسى نُصرَة لله، فنحن أنصار الله بقيامنا معك وتصديقنا بما جئت به، وتنفيذنا لأمرك، نحن ننصُر ربك الذي أرسلك، فإذا كان هكذا أنصار عيسى أنصار الله، أنصار محمد؟! أقرب إلى الله، ثم يتحول هو عيسى بن مريم قبل أن تخرج روحه من جسده؛ وقبل أن يموت إلى واحد من أنصار محمدٍ، والأنبياء كلهم قبل عيسى بنياتهم وعزائمهم نووا نُصرَة محمد، وأخذ الله الميثاق عليهم، يقول: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ…} [آل عمران:81]، فشرّف الله المرسلين بنيّة نصر نبينا حتى وهم قبله، وسيدنا عيسى جمع بين أخذ الميثاق والعهد عليه؛ وبعدين-ثم- بنفسه يخرج؛ وإيش -ماذا- يصلّْح في الأرض؟ ينصر محمد، وينصر شريعته، وينصر دينه، وينصر ما جاء به، ويستنُّ بسنتِه، ويعمل بهديه -عليه السلام-.
فهكذا، {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)}، {..نَصْرًا عَزِيزًا} عزيز، هذا نصر عزيز، يقول لك كلام صادق، كلام صادق؛ وإلا صاحبه صادق؟، المتكلم صادق وإلا الكلام صادق؟، {نَصْرًا عَزِيزًا} هو يعز الله به عبده -صلى الله عليه وسلم- نصرة عظمى، ولكن أيضاً يأت في معنى العزيز: النادر العظيم الذي يعز أمثاله؛ هذا هو النصر له -صلى الله عليه وسلم-، فنصره أعزّ نصر، ما أحد في شدة الهول في القيامة يقول: أنا لها إلا هو، وإذا سجد قال له: ارفع رأسك وسل تعطى، ويقال له: اشفع تشفع، إيش -ما- هذا النصر هذا! في غاية العز غاية الشرف الله الله الله الله! {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} ،وقرأنا بعض آثار نصرته؛ لأن نحن في الدنيا {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا …} [غافر:51]، ولن يذهب الليل والنهار؛ حتى يبعث الله الإمام المهدي وينشر الدين في الأرض، وتبعث في أواخر أيامه الفتنة الكبيرة فتنة الدجال ويكفر من يكفر والعياذ بالله تعالى؛ وحتى ينزل عيسى بن مريم -عليه السلام- ويحكم الأرض بشريعة النبي محمد، ويستن بسنة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- حتى أنه لوضوح الحجة والبرهان في ذاك الزمن ما عاد يقبل من هؤلاء النصارى ولا اليهود الجزية، ويكون هذا بتشريعه هو، هو قال هكذا -صلى الله عليه وسلم- ، فهو يطبق قوله -صلى الله عليه وسلم- لا يوحى إليه بشرع آخر جديد أبدًا.
وكل ما يوحى إلى سيدنا عيسى وهو على الأرض: تفنيد وتبيين وتوضيح ما بلَّغ صلى الله عليه وسلم وما قال؛ ليعمل به، كل وحيٌ نحو هذا في نصرة هذا النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ما شي حكم آخر أبداً غير الذي أوجب هو الواجب، والذي حرم هو المحرم، والذي سن هو السنة والمندوب، ما يتغير شيء من هذه الأحكام أصلاً؛ فهو مُتبع للنبي محمد وبذلك كان خاتم الأنبياء؛ ما يجي بعده نبي بوحي جديد وشيء. سيدنا عيسى يظهر في الأرض نعم؛ ولكن ماشي شرع جديد ولا دين جديد، إلا منهج النبي -عليه الصلاة والسلام- "أنا الحاشِرُ الذي يُحْشَرُ الأمم علَى قَدَمِي"، مُقفي: الذي لا نبي بعدي -صلى الله عليه وصحبه وسلم-. {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} اللهم اجعلنا من أنصار هذا النبي المصطفى، فهو المنصور بنصر الله ويا هناء من نصره، وقد اختار الله في عصره الأنصار من الأوس والخزرج وسبقوا بقية القبائل في الأرض كلها؛ بهذه النصرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي نصرة الله ورسوله.
والمهاجرون كانوا معهم أنصار الله ورسوله، ولكن هؤلاء خُصوا باسم النصرة وأولئك أُضفي عليهم اسم الهجرة، و لقد قال الله في المهاجرين { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ} هم أنصار أيضا، {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] عليهم الرضوان، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} [الحشر:9] ؛ { لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} [التوبة:117]. ونحن مع ما في وقتنا من الفتن ما نازلتنا الشدائد التي نازلت أولئك، وهم قاموا وقت العسرة وصدقوا وبذلوا وضحوا تضحياتٍ عظيمة في أوقات صعبة كثيرة؛ ولهذا رفع الله شأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا يلحقهم أحد -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
يقول: {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}، وهذا النصر حصل للأنبياء والمرسلين من قبله، لكن بعضهم: بصيحة على أقوامهم الذين عادوهم، وبعضهم: بخسف، وبعضهم: بزلزال، وبعضهم: بصواعق، لكن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ينصره الله ينصره الله نَصْرًا عَزِيزًا؛ بجهاد أتباعه وأصحابه، ولا تحصل هذه الصواعق ولا الزلازل ولا الأمر الذي يأخذ الناس أخذة واحدة قوية.
يقول: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ..}، {.. أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ..}: الطمانينة والرضا والأنس بالحق والهدى واليقين التام، هذه السكينة، {.. أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ..}؛ فقلوبهم ملآنة رضا ومحبة وطمانينة ورغبة وأنس بما بُعث به -صلى الله عليه وسلم-، {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ ..} بواسطة صدقهم وإقبالهم هذا والسكينة في قلوبهم يزدادون إيمانًا؛ فيرتقون في مراتب الإيمان إلى علم اليقين… إلى عين اليقين… إلى حق اليقين؛ حتى يقول سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا علي بن أبي طالب: لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينًا، الله أكبر! فبصائرهم قد عاينت، فما يزيد اليقين بمعاينة البصر، اليقين عندهم كامل تام -عليهم رضوان الله تعالى-.
يقول: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ..}، ويذكر أنه: لما تلا عليهم الآيات الأولى قال له جماعة من أصحابه: هنيئا لك يا رسول الله وقد بيّن الله، و كان من جملة - أيضًا - الأسباب؛ أن جماعة من اليهود بلبلوا، وقالوا: هذا يقول لكم: وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم، فإيش -فماذا- تتبعون واحد ما هو داري إيش إللي -الذي- بيحصل له؟ إيش إللي-الذي- بيفعل به؟ انتوا تتبعون ! والمعنى: غير هذا؛ أي: لا أحيط بعلم الغيب وما خبأ الله لي، بل وحتى بعد ما أظهر الله ما أظهر، لا يزال مخبوء له من جود ربه ما لا يصله فهم ولا وعي، وأنزل الله بعده { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا }؛ بيفعل الله به هكذا:{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ..}، وبعدين أخبرهم: أنا أول من تنشق عنه الأرض، -هذا الذي سيفعل الله به!- أنا أول شافع، أنا أول مُشفع -اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله. وهكذا.. وقال له المؤمنون: هنيئًا لك يا رسول الله، ولكن ما ندري ما يُفعل بنا؛ فأنزل الله الآيات: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} معي، شوفوا إيش -ما- يفعل بكم! { لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي..}، اصدقوا معي ومع النبي وسأفعل بكم كذا، وسأدخلكم إلى وسط الجنة، الله أكبر! قال: { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)}. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ..} والإيمان يزيد وينقص، اللهم زدنا ولا تنقصنا، زدنا من الإيمان واليقين في كل لمحة وفي كل حين، يا الله اجعلنا ممن يزداد إيمانهم، رقِنا في أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين يا الله.
{ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ..}؛ بالأعمال الصالحات، وبانكشاف الحجب، وبرقيّ الرُّتب، وبقوة الطمأنينة، وقوة السكينة، وقوة الثقة، وصدق التوكل على الرب جل جلاله؛ يزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، وتتعدد لهم معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزدادون بذلك إيمانًا وهكذا والحال بعد ذلك على الخصوص والعموم، { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ..} [فصلت:53]؛ والمؤمنون يزدادون إيمان مع إيمانهم كلما أخلصوا، وكلما صدقوا، وكلما تنقوا وكلما أقبلوا بالهمة، يزيد نور الإيمان في قلوبهم ويشرق نور الإيمان في قلوبهم، وإذا أُعطي الإنسان اليقين والصبر فقد حاز المراتب العُلى والدرجات الرفيعة عند المولى جلَّ وعلا، مِن أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، يعني: ما يُؤتاها إلا قليل من الناس ''من أقل ما أوتيتم: اليقين وعزيمة الصبر'' ، ومن أوتي حظه منهما فلا يبالي ما فاته أي شيء آخر؛ لأنه يكون من أقرب الخلق إلى الله وأحب الناس عند الله تبارك وتعالى: صاحب اليقين وعزيمة الصبر، يقين لا ريب في أمره، وصبر لا جزع ولا قلق ولا خوف ولا شيء من الإنزعاج والرِّيبة أبدًا، صبر ويقين، الله أكبر! قال تعالى: هذا يرفع الإنسان إلى أن يكون إمامًا للناس، اليقين والصبر؛ قال: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة :24]، { لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
يقول عن سيدنا الخليل إبراهيم وإمامته الشريفة، بعد إمامة الحبيب -صلى الله عليه وسلم-. { وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ..} [البقرة:124]: يقين وصبر، صبر حتى على ذبح الولد، والولد اللي ما جاء له إلا - الذي جاء إليه - وسنه كبير؛ فرحان به ولما يترعرع وبدأ في الشبة، فقال: هيا ذا الحين - الآن - اذبحه، هوذا اللي - هذا الذي - إنت تفرح به!! اذبحه، { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } [الصافات :103-106]، { وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ..} [البقرة:124]، لك الإمامة الآن، فسيدنا الخليل طمع بها في من يأتي بعده { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي..} تجعل أئمة، قال: من ذريتك؟ ماهو كلهم { قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، من خالف من ذريتك ماشي، لكن من اتبعك وثبت على طريقك سأجعل في ذريتك أئمة. جعل الله في ذريته أنبياء كثير، وأولياء كثير، وأكثرهم في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم-، أكثر الأولياء في أمة محمد - صلى الله عليه وآله وصحبه سلم-، من ذرية إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم-.
قال تعالى: { أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..} يا مغترين بقنابل… يا مغترين بأسلحة نووية… يا مغترين بأجهزة إلكترونية… بل جنود السماوات والأرض بيدي، فيها ما لا الذي اكتشفتم ووصلتم إليه ما يساوي شيء مما لم تطلعوا عليه، وكله بيدي أنا؛ فأنا أحق أن أُرجى، وأحق أن أُخاف وأن أُعبد وحدي لا يشرك بي شيء، وأن يُتبع أمري لا أمر غيري. { .. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..} الله الله الله الله! { .. وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ..} [المدثر :31]، ما أحد يحيط بها، انتوا اغتريتوا بِعلمكم بعض أشياء غريبة هكذا، وشفتوا وصلحتوا طائرة من دون طيار وتتطورون في صناعتها وتتسابقون على ذلك وظنيتوا!.. هذا إيش هو؟، أمام ما خبأت من القدرة في السماوات وفي الأرض؟! { .. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..} لا إله إلا الله! { .. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا ..} محيطٌ علمه بكل شيء العلم المطلق، حكيمًا في أفعاله: رتب الأمور وأسبابًا ومسبباتٍ، ورتب التدرج في الخلق، ورتب أجل معين إلى يوم القيامة؛ يُجمع فيه الأولين والآخرين، { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ..} [طه :129]، { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} [هود :104]، حكيم سبحانه وتعالى.
{ .. وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} ، جلَّ جلاله وتعالى في علاه؛ لتكون النهاية والغاية الكبيرة من بعثك هذا وإرسالنا إياك والرسل من قبلك، وإنزالنا هذه الكتب ليكون النهاية - المآل والمصير-؛ { لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..}، هذا المستقبل الكبير العظيم الزاهر والله! لكل مكلّف، هذا هو المستقبل الكبير، من فاته هذا ما ينفعه ملك الأرض من أقصاها إلى أقصاها، لو تُملك الأرض!! كم بغيت تملك؟ خمسين سنة! ستين سنة! خذ لك مئة، خذ ميتين - مئتين- عد نفسك من الأمم السابقة، خذ لك خمسمائة!! نحن الأمة هذه، هم دارين بأنفسهم كلهم! إنه لو بدؤوا يكبروا وبعدين مسكين يصلح عمليات تجميل ويشوف الأشياء اللي تضاد الشيخوخة و الهرم، ويهرم، هم لقوا -وجدوا- رئيسك ما أدري إيش فيه بطنه؟ ما أدري إيش في رجله؟ ما أدري إيش في عيونه؟! يضعف!! لا إله إلا الله! بل وأكثرهم ما تطول أعمارهم، ومن امتد به عمره يكون في سُفل وفي تدني، لا إله إلا الله! والكثير منهم أخطر الأمراض عندهم وممنوع من ذا - هذا-، وممنوع من ذا - هذا-… وممنوع من ذا - هذا-!! والفقير يأكل هذا كله، وهذا ممنوع!! كان الشيخ محفوظ الله يرحمه ويرضى عنه يقول: حجروا عليه هو وماله وهو حي في الحياة لازال!! -وهو لا هو صبي ولا مجنون وحجروا عليه!! - ممنوع تأكل ذا - هذا- ممنوع تشل ذا - تأخذ هذا-، صلحوا له حجر من نوع جديد!!.. لا إله إلا الله! سبحان القوي القادر.
يقول: في المصير الكبير { لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } بساتين، { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}، هذا المستقبل: خلود، ما هو خمسين أربعين سنة ثلاثين سنة عشرين سنة، مئتين ثلاثمئة سنة، ألف ألفين ماهي شي، {خَالِدِينَ فِيهَا}، الله أكبر! {خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}، ذنوبهم يسترها يغطيها، الله أكبر! يا سلام!. من صدق منهم يجي لذنوبه ويغطيها حتى عن الحفظة الذين حفظوها عليه من قبل وينسونها، وتُمحى من الصحايف، ويغطيها حتى على الأعضاء التي عملتها نفسها تنساها، ولكن ربك ما ينسى هو بنفسه يُنسيه يذكره ربه، ولما يريد يذكره لما أنه أراد ستره، ينشر عليه كنفه، فلا يدري ما قال له حتى الملائكة، ماهم داريين إيش -ما- قال، وحده هو بينه وبين الله يقول: تذكر يوم كذا؟ يوم فعلت كذا؟ يفزع ويخاف ويقر ويقول: نعم يا رب ألم تغفر لي؟ يقول: بلى سترتها عليك في الدنيا وأنا اليوم أغفرها لك، يرفع الستر والكنف ويقول: قُم وادخل الجنة برحمتي، والملائكة ما يسمعوا غير ادخل الجنة برحمتي، والعتاب هذاك وذكر الذنوب.. خلاص ستره عن الكل. {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}، هذه أعلى درجات التكفير والغفر والستر يخص الله بها من يشاء، حتى الملائكة ما يدرون إيش قال، له لا إله إلا الله!
قال: {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ سَيِّئَاتِهِمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا ..}، ما يعطيه إلا الخاصة من خلقه؛ هم أهل الدرجات العلى، اللهم ألحقنا بهم، هذا هو الفوز {..وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)}. أما الناس لعبوا لعبوا وقالوا: فازوا، وأما ناس دخلوا مسابقة وقالوا: فازوا، وأما ناس صلحوا لهم مقاتله وقالوا: فازوا. إيش بعد هذا؟ إن شي فوز؟ فهو هنا، خلود في الجنة هذا هو الفوز، { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ..} [آل عمران : 185] {..وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا }، فإيش لنا نصلح ميزان غير ميزان لهذا الفوز العظيم؟! حرام نقول الفوز العظيم غير هذا الفوز العظيم، حرام نعتقد أن الفوز العظيم أي شيء آخر غير هذا. {..وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا }، عند الله هذا الفوز العظيم وإنت عندك شيء غير ما عند الله!!! وين - أين-إيمانك بالله؟! ما يجوز أن تعتقد أن شيء فوز عظيم إلا هذا، هذا الفوز العظيم {..وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا }، هذا وما يوصل إليه وما يتصل به وما يتعلق به هو الفوز العظيم، غير هذا ماشي فوز عظيم، من لم يزحزح عن النار ويدخل الجنة ماشي فوز، ولا فوز إلا لمن نجا من النار ودخل الجنة { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ..} {..وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا }. والمقابل: { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ..} أعاذنا الله من ذلك، يا رب املأنا بالإيمان املأنا باليقين، واجعلنا من المؤمنين الذين تدخلهم جنتك وتكفر عنهم سيئاتك، وتعطيهم الفوز العظيم، يا عظيم أعطنا الفوز العظيم.. يا عظيم أرنا وجوه أهل الفوز العظيم في دار النعيم في مجال التكريم.. واجعلنا نلقاهم وندخل في حماهم ونحظى بمجالستهم، واجعلنا اللهم مسرورين بهم واجعلهم مسرورين بنا، واجمعنا وإياهم في الدرجات العلى في ساحة النظر إلى وجهك الكريم يا مُعطيَ الفوز العظيم ولا يعطيه غيرك، نسألك أن تهب لنا الفوز العظيم يا الله يا رحمن، سبق الفوز لأهل بدر وقلت اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ووعدتهم مرافقة نبيك - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؛ فلك الحمد على ما آتيتهم وتفضلت به عليهم فأرنا وجوههم يا رب في البرزخ ويوم القيامة، وفي الجنة دار الكرامة يا الله،
يا رب واجمعنا وأحبابًا لنا *** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
فضلًا وإحسانًا ومنًا منك يا *** ذا الجود والفضل الأتم الأوســـعِ
بسرِّ الفاتحة
إلى حضرة النبي اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وصحبه
19 رَمضان 1444