تفسير سورة العلق -2- متابعة التفسير من قوله تعالى: (علَّم الإنسانَ ما لم يعلم)

تفسير جزء عم - 36 - تفسير سورة العلق من قوله تعالى: علَّم الإنسانَ ما لم يعلم
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير سورة العلق، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم.

نص الدرس مكتوب:

(ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ (2) ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ (3) ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5))

الحمد لله مُكرمنا بالرسالة، والنبي الذي أحسن الدلالة، وختم به النبوّة، وجعله سيد أهل الفتوَّة، فاز كلُّ من اتّبعه بإخلاصٍ وصدقٍ وقوة، اللهم ثبتنا على اتِّباعه وارزقنا الاستضاءة بنور شُعاعه، واثبِتنا في خواص أتباعه، صلِّ وسلم وبارك وكرِّم في كل لمحة ونفس عليه وعلى آله وأصحابه، وأهل حضرة اقترابه من أحبابه، وعلى آبائه وإخوانه من النبيّين والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أما بعد،،

فإننا في غُدوات الشهر الكريم المبارك نتأمّل الآيات التي أُنزلت في رمضان، وفي كل غَدْوَة -إذا أخلصنا فيها لوجه الله- كانت خيراً من الدنيا وما فيها، يقول نبيُّنا المصطفى محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" وفي غدوة اليوم الثالث من أيام الشهر الكريم المُبارك، نتابع معاني سورة العلق التي خاطب فيها الحق -أكرم من خَلَق- وقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) .

ومَرَرنا على قصة تردّده على غار حراء ومُفاجأة الوَحي له فيه، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)) وذكْر تربيته وعنايته به مؤانسةً لجنابه الأشرف -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- (بِاسْمِ رَبِّك) الذي ربّاه واصطفاه واجتباه وأدّبه، ورعاه بعين عنايته وهو القائل: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".

 

مراحل تكوُّن الإنسان تُشعره بضعفه

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)) ثم خصّ مِن بين الخلق هذا الإنسان فقال: (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)) جنس الانسان من ابن آدم أجمعين، مَرَّ بالمرحلة الأولى في تَكوين جسده، وهو أن يكون نُطفةً فعَلقة فمُضغة (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2))؛ فهذه بداية نَشأته التي ينبغي أن يصحب فِكْرَه تذكُّرها حتى يعلم ضعفه وعجزه وأصل تكوين جسده فيخضَع ويخشع فيُجَلَّ ويُرفَع. 

 (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)) قال جلّ جلاله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) [الحج:5]، هذا أصلُ تكوينكم، ففيمَ الشكُّ في البَعث؟ فيمَ استنكار الحشر والإرجاع؟ وهذه هي مراحل تكوينكم بقدرته، أيعجز الذي كَوَّنَ هذا التكوين أن يُعيدكم؟! ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثىَ * أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ) [القيامة:37-40]؛ بلى وهو على كل شيء قدير -جل جلاله-.

وأيضاً اتْبع هذه الآية في سورة الحج بقوله: ( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج:5]، وهذا دلالة أيضاً على البعث والحشر والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، فهو الذي يُحيي الأرض بعد موتها، ويُنبِت من تلك الحبّات تلك الأشجار، والشجر الساجِدات له -تبارك وتعالى جل جلاله- فلا يُعجزه شيء سبحانه وتعالى؛ ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) [الأنبياء:104].

 

أمِّل ما شِئت من رَجوى في جودِه الواسع

يقول له: ( اقْرَأْ ) -تأكيد واثبات- ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)) ويجعلها بعضهم: 

  • اقرأ أولاً للاعتبار في نفسِك وفي التذكر والأخذ 
  • اقرأ ثانياً للتبليغ والأداء، وإنما هي مُؤَكِّدة لِمَا قبلها 

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3))، أي دُمْ على تلك القراءة التي أشَرنا إلى اتّساع معناها، وربُّك الذي أمرك بهذه القِراءة وكلّفك بهذه الرسالة هو الأكرم، أعلى مِن أن يأمُرك بأمرٍ ثم لا ينصرك، ثم لا يَؤَيُّدِك، ثم يُسْلِمُك بعد ذلك لمن يَفتِكُ بك مِن الخلق (ربُّك الأكرم).

  • (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)) إنّ الذي اعتنى بك وربّاك واختصّك واختارك، هو صاحب الكرم الواسع الذي لاحدّ له ولا غاية، فأمِّل ما شِئت من رَجوى في جودِه الواسع. 
  • (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)، (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) كُن على الثّقة الكاملة به، والطُمأنينة بوَعده ووعيده ونُصرتِه وتأييده 
  • (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)؛ فأبشِر بما يُواليك ويُوْليك ويُفيض عليك ويُفضِل من نِعَمِه التي لاحد لها إنّه الأكرم 
  • (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)؛ الأكرم المُطلق إذ جعلك في الخلق أكرم خلقِه عليه فهو الأكرم المُطلق، ومهما كنت كريماً من إيجاده وإمداده فهو الأكرم سبحانه وتعالى. 
  • (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) ذو الكرم الذي لا يُحَدُّ ولا يُعَدُّ  ولا يُقَيَّدُ ولا يوصَف ولا يُحاط به.

 ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) ) وما أعجَبها من مُلاطفة ومؤانسة من حضرة القدّوس لمُزكِّي النفوس -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ..

 من أجْلى مظاهر كرمه هذا التعليم (الَّذِي عَلَّمَ) -سبحانه وتعالى- كلَّ شيء من المخلوقات ما وصل إليه من العلم، قالت الملائكة -وهم مِن أعلم الخلق بكثيرٍ من عظَمة الإله وصفاته وأسمائه- (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ ) [البقرة:23] (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ ) -سبحانه وتعالى-

 قال سبحانه وتعالى  (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) [النحل:78] ثم علّمكم (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ) [الملك:23] وسائِل التعليم، وسائل أخذِ المعلومات ينفَتح بها المعلومات فكانت مظهراً لمظاهر القلم.

 

معنى واسع لـ "القلم"

(ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4)) وقد أشرنا ما يُراد من هذا القلم، وأنّ من مظاهر معناه ما اتّخذه الناس في البداية من تلك الأقصاب التي تُقلمُ قلماً بعد قلم، ويكتبون بها وترتب على ذلك في واقع البشرية حفظٌ لعهود ومواثيق وأخبار وأعلام وعلوم ومعارف ووقائع، إلى غير ذلك مما ترتب على الكتابة حتى اعتنى الحق أن يُرشد عباده أن يكتبوا كل دَيْنٍ يحصل بين واحد وآخر، قال تعالى في أطوَل آيةٍ في كتابه، آية المُداينة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ) [البقرة:282] هذه الكتابة وشرَفها وما فيها بهذه الأقلام، قد ذكرنا:

  • أن قبلها أقلام الملائكة تكتُب في الصحف
  • وذكرنا كذلك بداية التكوين، أن الله خلق قلماً، أمره أن يكتب في اللّوح المحفوظ، وقد خلق اللوح وكل ما هو كائن مما أراد إبرازه وإيجاده سبحانه وتعالى
  • ثم إن الكل قائمٌ بإرادة الله، فقلمُ الارادة والقُدرة الالهية هو الذي كُوِّنت به الكائنات وقامت به الأشياء.

 

كلُّ ما كُتب من خيرٍ كان لصاحبه خيراً 

(عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4)) فيُلهم ويُلقي ما شاء من العلم بواسطة التعليم وبواسطة الكتابة والقراءة، وبواسطة هذه الأقلام التي تطوَّر الناس في صناعتها، وصار الذي يقوم الآن في هذا المقام، هذه الإشارات بالأصابع إلى الحروف المَرقومة في الأجهزة، كل هذا داخل في دائرة القلم، ولِنعلم أن ما تعلّق بشؤون كتابتنا بمختلف الأقلام التي حدثت للبشر، فإنها محلُّ مسؤولية ومحلُّ نظر وكل ما كُتب من خيرٍ كان لصاحبه خيراً ما دام ذلك الكتاب، ويُقدّم اليه بجزائه في يوم الحساب وكل ما كُتب من سوء ومن شر فهو عقاب على صاحبه ويُقدَّم اليه في المآب.

ولذلك قال قائلهم :

     يموت المرء مهما عاش حيناً *** ويبقى الدهر ما كتبت يداه

       فلا تكتب بخطك غير شيء *** يسرُّك في القيامة ان تراه

لذلك كان للكتب دور عظيمٌ في واقع البشر فِكراً وسُلوكاً وتعامُلاً ووَعياً وإدراكاً ونظراً إلى الأشياء، فإذا كان الأمر كذلك فخَير ما يمكن أن ينفع ويرشد ويهدي من هذه الكتب، كتبُ الله.

 

 

العلم النافع يوجد وسط الصدور لا وسط السطور 

ولذا جَعل من رُكن الإيمان به؛ الإيمان بكتُبه، هذا يُبَيُّنُ خطر الكتب في واقع الحياة، فالكتب التي جعلها سبباً لهداية عباده وإرشادهم لا يقبل الإيمان به حتى يُؤْمَن بها، تنزل منزِلتها من قلبِ وعقلِ المؤمن يُعظِّم هذه الكتب الإلهية، وقد تعرّض من فساد الإنسان وجهله ومخالفته وتعامِيه إلى التغيير والتبديل والتحريف، فجاء الكتاب المُهَيمن على الكتب فعُصِم وحُرِس مِن أن تناله يد تحريف أو تبديل أو تغيير، وبقيَ محفوظاً يُتلى كما نزل على الحبيب الأكمل وكما نطق به اللسان الأشرف ﷺ.

بل حفظ الله ما تعلّق به من بَيان وهو سُنته، وحفظ مع الكتاب والسُّنة الفَهم في الكتاب والسنة بالقلوب المُنورة المُطهرة التي تبقى في الأمة قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، فتمّ الحِفظ من كل الجوانب والحمد لله على ذلك، وشهدوا في كتاب الله أن الحِفظ ليس محصوراً فيما يكتب ويطبع في الأوراق قال :(بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) [العنكبوت:49] في صدور الذين أوتوا العلم هناك يوجد هذا الكتاب وَسَط الصدور لا وسَط السطور، ولذا إذا قلّت هذه الصدور وغابت من بين الناس، غار الله على كتابه فرفعه فلم يبقَ في السُطور شيء، إذا لم تبقَ القلوب الحافظة لمَعناه والواعية لإشاراته والعاملة به رُفِعَ القرآن.

إذًا فمظاهر حفظ القرآن متعددة والحمد لله على نعمة القرآن، والقرآن بين أيدينا نتلوه كما نطق به رسول الله -صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تقدّم معنا قول سيدنا عثمان بن عفان : "لو طَهُرت قلوبنا لما شَبِعنا من كلام الله" وقول سيدنا جعفر الصادق : " إن الله تجلَّى لخلقه في كلامه ولكنهم لا يُبصرون" رزقنا الله الارتباط بهذا الكتاب والاتصال بسِرِّه وعلمه وحُسن العمل به، وقد جاءنا في الحديث: "  مَن قرَأَ القُرآنَ -بمعنى حفظ- وعَمِل بما فيه، أُلبِسَ والِداهُ تاجًا يومَ القيامةِ ضوءُه أحسَنُ مِن ضوءِ الشَّمسِ في بيوتِ الدُّنيا " ثم قال: (هذا لوالديه فما الظن بالذي عمِل) فما أشرف الإنسان إذا ارتبط بالقرآن، وما أعلى ما يُحصِّله من سرّ اتّصاله بهذا الكتاب والعمل به "  إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ."

لذا وجب التحفظ والاحتياط فيما يَكتب الإنسان، ولذا لما وقع في الزلّة بعض الأشقياء، وأخذ يكتب الكلام الضّار والكلام المُلبِّس للحقائق وينشُره، ثم حدّثته نفسه بالتوبة، وكان في بني إسرائيل فأوحى الله إلى نبيهم يقول قل له: "إذا رجعت أنت، فما تصنع بالذين أضللتهم بكلامك وكتُبك وزاغوا عن سبيلي، كيف تصنع بهم" كيف التوبة لهم؟ وأنت الذي أضللتهم والعياذ بالله تعالى.

ولهذا كان للكتابة شأن؛ فهو أحد اللسانين هذا القلم وما يكتب، فوجب أن نُحافِظ على منزلة كُتُب الله بيننا ونعرف قدرها وأنها سبب الإصلاح، تغيّرت وتبدّلت فبقي كتاب الله المهيمن على الكتب (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ) [المائدة:48] الحمد لله على نعمة القرآن وبقائه إلى وقتنا وزماننا لم يُرفَع بعد الحمد لله، الله يُبارك لنا في القلوب التي تحمِل سرّه بيننا في هذا العالم، ويكثّرهم ويُطوّل أعمارهم وينفعنا بهم، فإن حقائق القرآن إنما تُؤخَذ عنهم.

 

بيان القرآن في السُنة الغرّاء وفي كتب العارفين

إذا علمْتَ ذلك فإنّه يتفرّع من كتاب الله تعالى أسرار التنزّل وأولاها -بالعظمة والشرف- البيان الأولّي الذي أؤتمن عليه النبي محمد وَوُكِّلَ به من حضرة الواحد الأحد -جل جلاله وتعالى في علاه- يقول سبحانه وتعالى ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:44] فكان البيان في السُّنة الغرّاء أقوالاً وأفعالاً وتقريرات ومُعاملات وأخلاقاً وشِيَماً، فكان هذا هو البيان التّام للقرآن.

والحمد لله وحُفِظت كتب السنة أيضاً بحفظ القرآن الكريم ونُقِيَّت ونُقِحَت فقامت الأسانيد للأجاويد المحاميد إلى حبيب الله سيد أهل حقيقة التوحيد. ثم ما تفرّع عن كتاب الله والسُنّة الغرَّاء مما كتبَ العلماء العارفون هو الأحقّ بالإكبار والإجلال والانتفاع به.

 وقد رأى بعضهم في زمن الإمام الغزالي عدوَّ الله إبليس يحثو التراب على رأسه ويبكي ويصيح.. أخذ يقول: يا عدوَّ الله ما الذي حَلَّ بك؟ قال: أُلِّف كتابٌ أخاف أن يتبعه الناس، لأنه يربطهم بحقائق القرآن وحقائق السُنّة الغرَّاء وهكذا، وحاول بجُنده في الوقت الذي أُلِّفَ فيه أن يبعث الشُّكوك حوله حتى بين بعض أهل العلم، ويقول: من أين يأتي هذا الإنسان بأشياء وينسُب ويُطلّع وينزِل ويُحاول أن يُلَبِّس، حتى لمّا وصل الكتاب إلى بعض بلاد المغرب، وإذا بعالِم من الصالحين ؛ ابن حرزهم" دخل في قلبه بعض الوسوسة، فقال: أوقفوا هذا الكتاب واجمعوا ما جاء من نسخ منه ليُحرق، فتداركه الحق.

 وجاء في تاريخه أنه رأى رؤيا، رأى رسول الله ﷺ ومعه بعض أصحابه والإمام الغزالي يقول:" يا رسول الله خُذ لي حقّي من هذا، فإنه أمر بحرق كتاب الإحياء، وعرَض عليه كتاب الإحياء، فتصفّحه فقال: هذا حسن، فناوله إلى أبي بكر يتصفَّحه، فقال: هذا حسن يا رسول الله، فناوله عمر فقال: هذا حسن، قال: ما لهذا يفتري على الإمام؟ اضربوه حد الفِرْيَة، فأمر به فحمَل السَوط سيدنا عمر فضربه، أول سَوط وثاني سَوط، فعلَّم في ظهره، فتشفع أبا بكر فقال: يارسول الله إنه نَدِم، والغزالي يُسامِحه ولا يُحرق الكتاب، قال: تبتَ؟ قال: تبتُ، قال: سامحته؟ قال: سامحته، قال: فكُفَّ عنه، فكفّ عنه، فانتبه والسياط عالِمةٌ في ظهره، وبقي سنة يتألم منها." أمر في اليوم الثاني أن يُنسخ الكتاب وأن يُتداول وأن يُقرأ في الأماكن، وهذا شأن الكتب، فكم نفع النافع المُخلِص منها؟ وكم ضرَّ الضارُّ منها كثيراً من عباد الله، وشتّت فِكرهم ولعِب على عقولهم وزاغ بهم عن سواء السبيل. 

ومن هنا حُذِّرَ الناس من أن يكتفوا بالكتب دون الرجوع إلى السند، دون الرجوع إلى المشايخ، وإلا كان النتيجة والثمرة سوءًا وشراً من مُجرد الكتب وحدها، قال قائلهم:

     الكتب تذكرة لمن هو عالم *** وصوابها بمحالها معجون

   والفكر غوّاص عليها مخرج *** والحق فيها جوهر مكنون

 وأخذ الآخر يقول: 

    ليس في الكتب والدفاتر علم *** إنما العلم في صدور الرجـــال

     كل من يطلب العلوم وحيداً *** دون شيخٍ فإنه في ضــــــــــــلال

 واشتهر بين المسلمين حِكمة تدلُّ على هذه الحقيقة الخطيرة: من كان شيخه كتابُه فخطأه أكثر من صوابِه، كتاب المجرّد. وهكذا قال أيضاً قائلهم:

   من يأخذ العلم عن شيخٍ مُشافَهة *** يكُن من الزيغ والتصحيف في حرم

    ومن يكن آخذاً للعلـم من كتب *** فعِلمُه عند أهل العلم كالعَــــــــــدم

 إنما هي وسيلة إذا أخذتَ الأُسس من الشيوخ، فوسيلة للاستزادة من العلم وللتذكّر وللتذكير ولا تستغني بعد ذلك من الرجوع إلى الشيوخ، وما أُخذ عنهم وقتاً بعد آخر، فيما يَعرض ويأتي لك من مسائل التي تحتاج إلى حُسن نظرٍ أو إرجاع إلى أصلها أو كَشفٍ عن غُموضها أو بيان لحقيقة ما فيها أو كشفٍ وتوضيحٍ لما بَهَمَ من أمرها أو ما أختلط على المُتحدِّث أو المُتكلّم أو الكاتب إلى غير ذلك.

ثم إنّ العِصمة للكتاب الذي يجيء من عِند الله، قال تعالى: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء:82]، ولكن كلُّ ما كان القَصدُ فيه مُفرَداً لله، والقلب فيه أخلص لوجه الله، قَرُبَ من الصواب والحق والهدى، حتى كان معنى التنزُّل للكتاب العزيز أي وهو حُسن الفهم فيه، أما النزول فقد انقطع بموت رسول الله -نزول القرآن- أما تنزّل القران فباقٍ ودائم لأهل القلوب المنيرة.

   تنزُّله على العلماء بـــــاقٍ *** لديهم وهو مُنقطِـــع النزول

  بحكم الإرث للمختار نالوا *** غريب الفهم من أعلى منيل

  ولكن بعد ما اتُّبعوا فيما *** تلقوا عنه من فعل وقـــــــول

  فدونكم سبيله اسلكوها *** فإنّ الخير في هذا السبيـــــــل

 

ولما كان الاهتداء إلى الحق مَنوط بالاقتداء والاتباع والاهتداء، قال الله لسيد أهل الحق وأعرفَهم بالحق، مخاطباً له بعد ذكر الأنبياء: ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) [الأنعام:90] وقال له:(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ) [النحل:123] فلابّد من الرابطة بأهل الحق والعلم، 

ثم إن الطريقة المُثلى لأخذ العلم هو التّلقي عن صاحبه المتمكِّن فيه، وشاهد ذلك أنّ الله أوحى إلى سيدنا موسى أن عبدنا الخضِر أعلم منك، قال:" ربي فأين يوجد دلّني عليه حتى أتلقّى منه؟ فأوحى الله إليه أن خُذ زِنبيلاً اجعل فيه حوتاً وامضِ نحو منطقة هكذا إلى مَجمَع البحرين فحيث خرج الحوت بقدرتي تجِد هناك عبدنا الخضر" ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبا) [الكهف:60]  اهتماماً بطلب العلم وإقامة للطريقة المُثلى في أخذ العلم الاتّصال بصاحبه والسير إليه والجُلوس بين يديه، فلما لَقِيَه قال ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) [الكهف:66] وفي رواية (رَشَداً) (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) [الكهف:67-69] فأنا مُنتبِه وأنا مُتهيئ للتلقّي والأخذ؛ فكان هذا أسلوب الأخذ والتلقّي في الأساس، ومضى عليه الكليم -كليم الله موسى-

ولو كان يليق أن يُؤخذ من غير هذا المأخذ لقال: يا رب ما هذا العلم الذي عند الخضر علِّمني، إياه كيف هو!؟ ولكن ذهب الى صاحب العلم وأخذ بهذه الطريقة، لأن الله جعل استرسال هذا العلم لما علّم أحداً من الناس بهذه الطريقة وهذه الكيفية، حتى شرَع ذلك للملائكة الكرام -عليهم السلام-: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:31-32]، قال أُعلِّمكم ولكن بالواسطة التي جعلتها في الخلق، هذا عبدي علّمته يُعلِّمكم فاستمعوا وأنصتوا (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ..) [البقرة:33] وحتى الملائكة ما استغنوا عن شيخ لمعرفة الأسماء ولأخذ هذا العلم، ما قالوا نُشيِّخ عليكم هذا الذي استغربتم لمّا قلت لكم (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30]، الآن هذا الشيخ حقّكم هيا اسمعوا خبر الاسماء هذه لا تتعلمونها عنّي الا مِن طريق هذا ، آدم (يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) [البقرة:33] صلوات الله عليهم.

فكان هذا درس عظيم من الله حتى الملائكة كيف ترقّوا، فيأتي من يُنْفَخ فيه من العُجُب من شيء من ذكاءٍ عنده وإدراك، قال ماذا تبغى من الشيوخ، أنت ما شاء الله أنت فوق، ما أحد فوق الملائكة وفوق الكليم موسى، ويأتي بعلمه ما أدري من أين!! وكثيراً ما يكون مصدره بعض أهل الهوى والساقطين منهم، هم مصدر علم هذا الذي حاكوه له ثم اغترّ به اغتراراً -نعوذ بالله من غضب الله- " يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ"، ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش:3-4].

 

قال: (عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5)) علّم غيره، نعم، لكن هنا اختصّ الانسان بالتعليم (عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ) وللإنسان في مجالات العلوم خصائص، وأعزّها وأشرفها نوع من معرفته بعظمة الله لا يتسنّى لغيره من الكائنات الأُخَر، فبذلك مُيِّز وشُرِّف (عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ) ما لم يكن يعلمه، وهو كلُّ علمٍ وصل إلى أي الانسان ولم يكن يعلمه قبل ذلك، كما قرأنا (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ) [النحل:78] وكما نقرأ (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان:1] فضلاً عن أن يكون عالم، ما هو شيء أصلاً،  وعاد يكون عالم! ماهوشيء، عدم، فكلهم لم يكونوا يعلموا شيء، وسمعنا قول الملائكة: ( لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة:32] قال جل جلاله: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255] -جل جلاله وتعالى في علاه-.

ومن هنا نعلم أيضاً أن في باب العلم النّافع والعلم الذي يُشرق بنور الايمان ويزداد به الايمان، والعلم الذي يُعبدُ به الرحمن ويُطاع طريقته المثلى ما أشرنا إليه، ثم إنّ أسباب ازدياده (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114] أسباب ازدياده :

  • أعظمها صدق الإقبال على الله 
  • ثم حسن العمل بهذا العلم والقيام بحقه 

 وبذلك صارت الصلوات من أبواب العلم حتى قال الإمام الغزالي في مثل قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت:45] كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟ ماذا تصلح في الصلاة؟! قال معاني ومعارف تبدو لقلبك وأنت تُصلي تقطعك عن المعاصي، تُبعِدك عن الذنوب، تُخرِجك من السيئات، ما ينكشف لقلبك في الصلاة من معاني عظمة الله ودلالاته في كتابه عز وجل؛ معنى السُجود والركوع والخشوع، يُورِث معاني في قلبك تَحجُبك عن معصية الله تعالى وتُبعِدك عنه (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت:45]، 

  • وبهذا كانت التلاوة للقرآن الكريم من أوسَع وأعظم معاني التعليم وزيادة العلم
  • ثم الاعتناء بهذه الكتب النافعة على وجه الإخلاص مع الاتصال بالأصل والسند والشيوخ أيضاً
  • ثم صفاء القلب ونقاؤه (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [البقرة:282] جل جلاله وتعالى في علاه.

وهكذا قال -سبحانه وتعالى- لسيدنا يعقوب: ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ) [يوسف:68] ثم في قول ( عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5)) يعني أنواعاً من العلوم والمعارف لم يكن يعلمُها، على مختلف درجاتها سواء كانت في شؤون الماديّات أو شؤون الخَلقيّات أو شؤون الجمادات أو شؤون الحيوانات أو شؤون الأذواق أو الأرواح أو العقول أو في شؤون الأديان، كل ذلك بتعليم الله وكل ما لم يوافق علم الله فهو باطل وهو الجهل المركّب، ولا علم إلا ما وافق علم الله سبحانه وتعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216] وفي بيان هذه الحقيقة، يقول شاعرهم:

  العلم للرحمن جل جلالـــه *** والعبد في جهالاته يتغمغم

ومهما علم أشياء فقد غاب عنه أكثر

   ما للتراب وللعلوم وإنما ***  نسعى لنعلم أننا لا نعلم

أي كلما ازددنا علماً صحيحاً علمنا جهلنا، وعلمنا أن ما فاتنا أكثر فهذا هو العلم النافع، "ومن ظن أنه قد علم فقد جهل" ولكن كلما ازداد الإنسان من العلم الصحيح النافع، ازداد معرفة بجهله، وأنه محتاج إلى ما هو أكثر وإلى ما وراء ذلك، وهكذا حتى قال الله لأعلمِ خلقه به على الإطلاق (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114].

 (عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5))، والذين قالوا أن المُراد بالإنسان هنا رسول الله صدقوا، إذا أخذنا كل الأقوال فرسول الله داخل، لكن نسبة ما عُلِّم ذا وذاك بالنسبة لما عُلِّم رسول الله تتضاءل من حيث الشرف والمكانة والرِفعة ومن حيث العظمة، وتتضاءل من حيث السّعة في علم الله تعالى فهو أعلم الخلق بالله -جل جلاله-، والعلم مُطلقٌ يوجد عند المفضول ما لا يوجد عند الفاضل، لكن العلم بالله وآياته وأحكامه وعظمته ما يكون إلا عند الأفضل الأكثر وأعلم الخلق في هذا سيد الخلق صل الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقال الله تعالى في التّنصيص على هذا التعليم له (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) [النساء:113].

يقول: (عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5))، ثم يخاطب النبي قال: وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ..) [النساء:113]، (عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ) إذاً فهو الانسان كما في الآية الأخرى (الرحمن *علَّم القرآن * خلق الانسان * علَّمه البيان) [الرحمن:1-4]، ومهما أي إنسان تعلّم البيان، لكن بيان رسول الله أوضح وأجل وأكبر، ولهذا قال الحبيب علي الحبشي لما ذكر الآيتين :" ولا شك أن رسول الله  ﷺ هو الإنسان المقصود بهذا التعليم من حضرة الرحمن الرحيم" لأنه على كل الأقوال هو داخِل لكن من باب أولى، وما اختصّ به ليس عند غيره صلوات ربي وسلامه عليه.

والنص (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ..) [النساء:113]، ثم إن عندنا نص آخر أن طريقنا نحن إلى علم ما لم نعلم من طريق هذا، الذي عَلَّمه الله مالم يعلم، كيف؟ (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة:151]، نحن إذًا نعلم ما لم نكن نعلم فمن هذا الطريق، وهو من أين جاء به؟ فهو من عند (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113] صلوات ربي وسلامه عليه، وفي الآية الأخرى (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) [الإسراء:87].

 و(عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5))، هذه تمام الخمس آيات التي كانت أوّل ما نزل من كتاب الله، فلما نزلت عاد ﷺ يرجف فؤاده من عظمة الوحي وإدراكه لخطر المُهمّة وكبر الأمانة والمسؤولية لهذه الرسالة، عاد يرجف فؤاده إلى بيته يقول لام المؤمنين خديجة: " زملوني زملوني دثروني دثروني" فغطته وقال: "خشيت على نفسي"، خشيته في حمل الأمانة وحسن أدائها على الوجه المَرضي

كما قال: "شيبتني هود وأخواتها" ولما رآه الرائي قال: ما شيبك منها ذكر هلاك الأمم؟ قال: لا، قال: فما شيّبك؟ قال: بل قول ربي (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) [هود:112]، وهو أعظم الناس معرفة بالله فهو أشدهم خشية، وهكذا خشيته من أوّل نُزول الوحي لما يعلم من عظمة المسؤولية والأمانة، ثم الرسول كان مُرسل للخلق كلهم ليس لقريش فقط ولا إلى عرب فقط، مرسل إلى العالمين صلى الله عليه وآله وسلم، فرجف فؤاده لعظمة هذه المسؤولية وكبرها، فغطّته سيدتنا خديجة ولما قال: خشيت على نفسي، قالت: لا " وَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ" فو الله لا يخزيك الله أبداً، سيبلّغك ما تأمُل وما ترجو.

(ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ (3)) صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فوافق قولها معاني الوحي الذي أوحيَ إليه من توفيق الله لها، وقد سبقتْ لها سابقة التوفيق فتعلّق قلبها بخير الفريق، تعلّق قلبها بحبيب الله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم وخطبته وخدمته رجاءً، فحقّق الله رجاءها وأعطاها فوق ما ترجو وما خرجت من الدنيا إلا وقد جاءها السلام من ربها، وروى الإمام مسلم في صحيحه :" لما كان رسول الله في بيته جاءه جِبْرِيل، قال :هذه خديجة تدخل إليك حاملة، طعاماً أو شراباً فأقرئها السلام من ربها، قال جِبْرِيل ومني"، أنا أسلم عليها، هذه واحدة يُسلّم عليها رب العرش وأنا أسلّم عليها، "وبشرها ببيت في الجنة من قصب -أي لؤلؤ مجوف- لا صخَب فيه ولا نَصَب"، ودخلت السيدة خديجة، خديجة هذا جِبْرِيل يُقْرؤكِ السلام من الله ومنه ويبشرك ببيت في الجنة، قالت : الله السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام وعلى جِبْرِيل السلام ورحمة الله وبركاته " -رضي الله عنها-.

هكذا إذا ذُكِر تاريخ الإسلام فبدايتُه لابد تقترن بخديجة، هي صاحبة الغار التي تُزوّد النبي للغار، ويعود إلى الغار من عندها، وهي أوّل من عرف خبر الوَحي هذا على الإطلاق من الأمة كلها قبل أن يدْري به أحد لا صغير ولا كبير، لكن من بعد الوحي إلى بيت خديجة، وخبره عند خديجة وأول من عرف خبر هذه الرسالة خديجة، فامتلأت فرحاً بفضل الله -تبارك وتعالى- وأرادت زيادة الطمأنينة لها لا لرسول الله فهو أعظم من ذلك وأجلّ، فقالت هذا ابن عمي رجلٌ تنصّر في الجاهلية ورقة بن نوفل ويقرأ و يكتب الإنجيل بالعبرانية ويترجمها إلى العربية فتعال نعرِض عليه ما رأيت، فخرج معها رسول الله ﷺ لتستيقن وتزداد إيماناً فقال له ورقة ما رأيتَ؟ فأخبره بما رآه، قال: يا ابن أخي هذا الناموس الأكبر الذي كان ينزِل على موسى وعيسى، يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً حين يُخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزّراً، قال: أوَ مُخرجي هم؟ هم بيخرجوني؟! الذين يسمونه الصادق الأمين! كلهم يحبونه، قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، ولئن أدركت يومك لأنصرنّك، هذا وحي الله وهذه علامته، يا خديجة إن صدقت فيما تقولين فزوجك النبي الأمين وهو المُبشَّر به في الكتب السابقة، فما لبث أن مات ورقة بن نوفل وحُقّ أن يعده من عدّه في الصحابة فقد أدرك الايمان برسول الله ﷺ.

رزقنا الله كمال الإيمان وكمال اليقين، يا رب احشرنا في زُمرة أهل القرآن واجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء أحزاننا وهمومِنا وغُمومنا، واجعلنا اللهم من وَرَثة الكتاب العزيز والقائمين بحقّه، واحشرنا في زمرة نبيك محمد مع خاصة أهل القران وأنت راض عنا يا رب العالمين.

 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

05 رَمضان 1436

تاريخ النشر الميلادي

21 يونيو 2015

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام