(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15))
الحمد لله مكرمنا بالآثار والتذكر والاعتبار، وسطوع نور حبيبه المختار، نحمده سبحانه وتعالى وهو أهل الحمد، وهو المتفرّد سبحانه وتعالى بأعزِ وأسنى الشرف والمجد، ويُشرِّف ويُمجِّد مَنْ شاء مِنْ بريته وخلِيقته، (تُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖإِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [ال عمران: 26].
لا إله إلا هو أرسل إلينا البشير النذير، والسراج المنير عبده المجتبى محمداً، فهدانا اللهُ سبحانه وتعالى به إلى طريق الهدى، وجعل محبته لكل من اتَّبعهُ وبه اقتدى، وقد اختار له الصحب الأكرمين والآل الطاهرين، وجعل أمتهُ خير أمة أخرجت للناس من بين العالمين، فصلِّ اللهم وسلم وبارك وكرم على عبدك النور المبين، المصطفى سيدنا محمد ﷺ، هادينا إليك ودالنا عليك وعلى آله وصحبه، وأهل محبته وقربه وآبائه وإخوانه من الأنبياء المرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد..
فإنا قد تأملنا في موائد كلام ربنا، في سورة الشمس -أشرق الله على قلوبنا شمس معرفته- و أثبتنا في خواص أهلِ محبتهِ ومودته، حتى انتهينا إلى أواخر السورة، فيما يبيّن الله لنا من صورة، عمّنْ آمنَ وعمّنْ كذّب وكفر، فكان في سوء العاقبة وسوء الخاتمة وسوء المصير.
بعد أنْ أقسم لنا بمظاهر كونه أنَّ الفلاح لمنْ زكى النفسَ، وأنَّ الخيبة لمن دساها، (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)).
وحقيقة التزكية لكل نفسٍ أراد الله أنْ تتزكى مِنْ الله، والسبب الأقوى لها في الخلائق مربياً ومزكياً ومنوراً ومطهراً ومعلماً محمد بن عبد الله ﷺ، والسبب الموصل إلى ذلك ما خلَّف فينا من هذا القرآن والسنة الغراء، وهدى صحابته وأهل بيته، وما خلَّف فينا مِنْ خلفاء في العلم والتزكية عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم،
فكذلك كان الذين خلفوه في شأن التزكية وهم خيار هذه الأمة، وكان شأن التزكية أول ما احتيجَ لتجديدهِ في الأمة، لقيامهِ في الأمة؛ لأنهُ بُعث بالعلمِ، وتلاوة الآيات والتزكية، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة: 2]
فأول ما أحتاجت الأمة إلى تجديده التزكية، ولذا اعتنى به خيار التابعين وبرز في الانتباه منهُ والمحافظة عليه سادة التابعين، أمثال علي زين العابدين بن الحسين، وأويس القرني، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومن معهم؛ سادة التابعين.
فكان على أيديهم تجديد هذا الشأن النبوي والخلافة النبوية في تزكية النفوس، وإنما كان هذا أول ما احتيج إليه فظهر فيه التجديد؛ لأنه أهم وأدق وأعظم، وما أسرع ما تتفلّت عنهُ النفوس، و تتراخى وتتناسىٰ شؤونه، وتمسكُ بالبقايا وهي أشبه بصور وأجسام، فمن لم يُدرك تزكية النفس، عادت عليه مظاهر العبادات بالسوء، فكيف بمظاهر المعاصي؟ وقد بيَّنَ النبي هذه الحقيقة، وذكر عن أول مَنْ تُسَعَّر بهم النار:
الجهاد والشهادة، العلم والقرآن، الصدقة والإحسان؛ مراتب رفيعة، فإذا كانت هذه المراتب الرفيعة، لمَّا فقد أصحابها التزكية، ذهب خيرها كله وصاروا هم أول من تُسَعَّر بهم النار، إذاً فمع فقد التزكية ما ينفع شيء، ويبقى أمر الديانة صورة، وجسم بلا روح، بلا حقيقة.
فعجب لمن يوزعون الشهادات على الناس ويظنون أنَّها تمشي عند الله، يقاتل عصبية، يقاتل حمية، يقاتل لأجل كرسي، يقاتل لأجل سلطة، يقاتل لأجل المال، وبعد ذلك يقول: جاهدت في سبيل الله؛ شهيد، إنْ كان بيدك الشهادة أعطها من شئت، أما إنْ كانت عند الله "مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ"، فقط، وحدهُ.
هنا لما قال القائل منهم لواحد يقاتل في جهاد، الجهاد هذا نفسه من أعظم الجهاد عند الله تعالى قائده محمد ﷺ لا ريب فيه ولا شك فيه، أصل الجهاد، ولكن الشخص فيه نفسه، فلما قُتِل، قال: هنيئاً له الشهادة، قال: وما يدريك؟، قال النبي: وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويبخل بما لا يغنيه، وفي الحديث يقول: "إنَّ اللَّعّانِينَ لا يَكونُونَ شُهَداءَ"، الذي يعيش على اللعن ويسب الناس ما يكون شهيد، لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه، إذاً فالمسألة قائمة على التزكية.
فلذا برز التجديد في التزكية في الأمة المحمدية قبل أن يبرز:
فكان مباشرة أحتاجت الأمة إلى هذا؛ لأنه خطير ومهم، وسريع التفلّت وهو رأس وروح الإسلام، فبمجرد ما تناقص الصحابة، بدأ يظهر في الأمة مشكلة نقص التزكياة، فقام لها سادة التابعين وتفرّغ لها زين العابدين، وكان رأساً من رؤوسها ومظاهرها، أويس القرني، وقام لها سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وجددوا الخلافة في تزكية النفوس، وحافظوا على هذا المسلك، فخلفهم من خلفهم قرناً بعد قرن حتى ظهر ما يسمى في الأمة بإسم التصوف، وما فيه إلاَّ الخلافة في هذه التزكية النبوية.
ولما اتسعت رقعة الإسلام، وبدأ الناس في شأن الأحكام، يتطاول منهم المتطاول ويتجرأ المتجرىء، فجاء التجديد، وظهر الأئمة:
فعلى أيديهم تم تجديد الشريعة والدين فيما يتعلق بشأن الفقه.
وكان فيما يتعلق بشأن الجمع لهذا مع الحكم الظاهر، بروز الإمام عمر بن عبد العزيز عليه رضوان الله تعالى، وكان مظهر التزكية، ومظهر القرآن والعلم، ومظهر الشريعة والعمل بها وتحكيمها.
ثم مع اتساع رقعة الإسلام ودخول مختلف أهل المذاهب والأفكار السابقة في الجاهلية من شتى المذاهب، احتيج إلى المحافظة على الاعتقاد والإيمان، فبرز الأئمة:
عليهم رضوان الله تعالى وحافظوا على هذا الموروث في شأن الإيمان والاعتقاد، وتجدد بهم أمر الدين في ذاك الجانب.
وهي مراحل مرت في الأمة؛ أول ما احتاجت إليه شأن التزكية فهو أول ما يتفلّت، وهو أول ما يقصِّر الناس عنه ويقصرون فيه،؛ شأن التزكية، فبقي الاصفياء في الأمة يقومون بهذا الدور.
فأحدهم يزكيك بلْحظهِ، ولفظه، ومظهره، وصوته، واسمه، ومساره، وحركته، وسكونه، تُحِس بنور يسري إليك:
وأقاموا الأمر على هذا الأساس، وصار البارزون فيه كالجنيد بن محمد يقول: "طريقنا هذا قائم على الكتاب والسنة، ولا نقبل ما يلقى في الفهم والعقل والوعي من معارف ولا مدارك، إلاَّ بشاهدي عدل". بشاهدي عدل؛ الكتاب والسنة، أن يكون موافق للكتاب والسنة ويقول: "الطرق كلها مسدودة إلاَّ على من اقتفى أثر رسول الله".
سمعتم أنه كما جاء في شأن الملة كلها، من ينتمي إليها ثم يُخِلُّ بواجباتها في أقواله، في أفعاله، في أحواله، فكذلك:
في جانب العلم؛ انتمى إليه من ليس من أهله، في جانب التزكية؛ في جانب التصوف، انتمى إليه من ليس من أهله، وانتسب إليه من يخالف أصوله وأُسسه، كحال المسلمين الذين يتركون الفرائض، ويفعلون المحرمات، والديانة مسلم مسلم. إيش أنت؟ مسلم، أنا مسلم ثم ترى فعله، تجد الإسلام في جانب وهذا في جانب، ويقول أنا مسلم، فليس فعلهم ولا مسلكهم حجة على الإسلام، فكذلك مختلف العلوم ومنهُ شأن التزكية، من انتمى إليها ثم خالف أساسها ليس بحجة عليها، وشؤمه عليه، وذنبه عليه، وهي في مكانتها ومنزلتها ورفعتها.
(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9))، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10))، فذكرنا معاني في هذه التدسية وأصلُ دسَسَها، فقال:
نفس مستعدة لمعرفة الله، مستعدة لوحي الله، تروح إلى الذنوب والشهوات والمعاصي! مسكينة، أخرجتها من محلها، دسيتها في بضاعة ليست بضاعتها مثل ما تدس حاجة وسط حاجة، تدسها وسط بُر، وسط رز، ليست منها ولا هي ملكها لكن أنت دسيتها، أقحمتها بالقوة
(وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10))، جبلت النفس المهيئة بالقرب والمعرفة فوضعها في الذنوب والمعاصي، أدخلها فيها مسكينة. (..خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)) دساها غطى جميع خصائصها أيضاً ومزاياها.
ولقد كان ﷺ إذا مرَّ بالآية كرر دعاءه الوارد عنه فيقول: "اللهم آتي نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" فهو دعاء نبوي ورد عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ورد عنه مكرراً في كثير من أحواله وعند مرورهِ على الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9)) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)).
في هذا أيضاً جاء حديث في سؤال بعضهم له ﷺ يقول " أرأيت ما يعمل العباد ويقومون به، أمرٌ قضاه الله عليهم أم أمرٌ يستأنفونه؟ قال: أمرٌ قضاه الله، قال: ففيمَ يكون العمل؟ قال: كل نفسٍ هْيأت لإحدى المنزلتين تعمل لها" وقرأ قوله تعالى (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10))،] كما قرأنا هذا في الآية الأخرى (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَى) [الليل: 10–5] كذلك ورد أحاديث أُخر.
(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10))، وخذوا السبيل والمثال؛ سيدنا صالح -أحد أنبياء الله العظام- كان في الأمم القديمة، من بعد النبي نوح، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، ومن قبل النبي إبراهيم، ومن قبل النبي موسى ومن بينهم ومن بعدهم. من بعد عهد نوح عليه السلام، بعث الله هوداً، وبعث الله صالحاً، وصالح جاء بالتزكية، فآمن مَنْ آمن وقبل وتزكى على يده، "نجوت" وأبى التزكية الآخرون، فكذبوا فكانت عاقبتهم ما ترون.
بمعنى يقول الله: يا من يأبى التزكية، إلى أين ستذهب؟ يا مَنْ يغلِّب شأن شهواته، ومُرادات نفسه على وحينا وبلاغ رسلنا، إلى أين تصير؟ ماذا ستحقق في الحياة؟ انظر من قبلك، مِمَنْ رفضوا هذه التزكية، ورفضوا الإيمان، إلى ماذا انتهوا؟ وهذه سُنَّتُنا فستنتهي إلى ما انتهوا إليه.
يقول: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11))، قبيلة ثمود كانت تسكن في الحِجر، ما بين المدينة وتبوك، فبعد أن هلكوا كما قال: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) [الحجر:٨٠]، يقال أن خرج النبي صالح بمن معه من المؤمنين إلى حضرموت، وهلك القوم.
هناك يقول: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11))، مامعنى بطغواها؟
يقول بعضهم: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)) أي: "بعذابها الذي هو الطاغية"، كما سماه الله في الآية الأخرى: (فَأَمَّا ثَمُود فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة: 5] وأنَّ العذاب الذي طغى عليهم هنا، يعني ماكانوا يصدِّقون النبي صالح، وما أوعدهم به إذا خالفوا أمر الله وأصرُّوا على الكفر وعقروا الناقة أن ينزل عليهم العذاب (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود: 65]، وذلك أنَّ الله أخرج الناقة آية من الآيات، من صخرة كبيرة، فخرجت الناقة للنبي صالح، فكان لها منبع الماء الذي تشرب منه دوابهم يوم لها ويوم لهم، لها شرب ولكم شرب يومٍ، سماها ناقة الله، والملك ملك الله كله؛ ولكن هذه لمَّا كان خلقها على غير القاعدة التي وضعها الله، والسبب الذي أقامه الله وأبرزها الله سبحانه وتعالى، آية هذه، ناقة الله لكم آية (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ) [هود: 64].
قال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11))، كما كذبوا بالعذاب قوم سيدنا هود، (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) [الأحقاف: 24]، قالوا هَذا عَارض ممطرنا أنت ، أنت فقط تريد أن تخيفنا، قال الله: (قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ) [الاحقاف: 24-25]، فكذلك هؤلاء كذبوا بالعذاب أنَّه يأتيهم، حتى تجمعوا على أن يعقروا الناقة هذه، وقالوا: لماذا تأخذ علينا يوم كامل في الماء تشربه كله؟ ونحن لنا يوم؟ ما نريد هذا يتشطر علينا بناقته هذه!! وهي آية من آيات الله لهم. قالوا: سنقتلها أفضل، بعقرها أحسن.
فتشاوروا بينهم وردوا الأمر إلى واحد كان يُعَد من كبارهم من أهل المنزلة فيهم؛ ولكن كان أشقاهم، وفيه أنَّ الشقاوة درجات وكل الذين رضوا بالمعصية عصاة، والذي يباشر أعصى، وكل الذين رضوا بالكفر كفار؛ ولكن الذي يعاند ويسب ويباشر؛ أشد كفراً، فكلهم كانوا بتكذيبهم للنبي صالح ومخالفته أشقياء، شقاة؛ لكن هذا أشقاهم.
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)) معنى انبعث يعني: اتفقوا معه، حثوه على ذلك؛ ماانبعث إلاَّ مطاوعة من البعث، أحد بعثه؟ أو هو انبعث؟ (إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)) وفيه أنَّ الذي يتولى المباشر بنفسه إلى الشر، يكون أشقى القوم، كلهم شاركوه في الإثم فشاركوه في العذاب أيضاً، هلكوا كما هلك، ولكن هو أشقاهم؛ لأنه باشر الأمر بيده.، (إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)) وكثير من الناس، تُملي عليه نفسه أن يكون هو رأس في الأمر ومقدم في الأمر، حتى لو الأمر شر، يهمُّه أن يكون هو المقدم، ولكن العقلاء يقولون: لأنْ أكون ذَنَباً في الخير، أحب إليَّ أنْ أكون رأساً في الشر، أحسن لي ذَنَبْ وأنا في خير، تابع، ولا رأس في الشر والعياذ بالله، لكن النفس تهوى الرئاسة حتى في الشر.
وهذا يرى نفسه ومكانته في المجتمع قال: بايعونا وعاهدونا، فبايعوه كلهم؛ رجالهم ونسائهم صغارهم وكبارهم، بنفسه حمل المُدْ ية ليعقر الناقة فعقر ناقة نبي الله صالح، (إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)) النبي صالح يقول: (نَاقَةَ اللَّهِ)!! احذروا (نَاقَةَ اللَّه) .. (نَاقَةَ اللَّهِ)!! اتركوا ناقة الله ذروها (نَاقَةَ اللَّهِ)، لا تقربوا ناقة الله، لأنه قد كلمهم من أول كثير وقال لهم: إنْ أذيتموها أو ضايقتموها في شربها يوم سُقْيها أو قتلتموها، (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ) [هود: 64]، فلما انبعث قال لهم: (نَاقَةَ اللَّهِ)، احذروا العاقبة، احذروا النهاية، احذروا أنْ تتجرؤا على الله فيعذبكم، (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)) اتركوها وسقياها، لا تقربوها ولا تمسوها بسوء، (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ..(14))، وما بالوا بكلامه.
وهكذا تشطح النفس الإنسانية البشرية، إذا ما أمدَّها الله بنور التوفيق، حتى وإن الحجة واضحة، والدليل قائم، والبرهان جلي، ما تنقاد ولا تخضع.
ماذا قالوا؟ (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا)، فلما عقروها، قال لهم النبي صالح: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود: 65]، بعد الثلاثة الأيام سترون، فبعد ما فعلوا الفعلة أيضاً اغتاظوا، بدأت ثاني يوم تصفر وجوههم، فعرفوا أنَّ الكلام صحيح الذي يقوله صالح، قرب الوعد، وقام بعضهم يريد أن يقتل النبي صالح نفسه، ونحن نقرأ في القرآن.
(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [غافر:5]، كل أمَّة هموا بقتل رسولهم، هل رأيت عالم البشر كيف يصنع؟! الرسل الذين جاؤوهم بالنور والهدى والخير، والإرشاد والإسعاد، يريدون قتلهم!!! كل أمة همَّوا برسولهم ليقتلوه، حتى سيد الأنبياء، وآخر أيامه في مكة تجمعوا وقرروا قرار واحد!! قتل، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الانفال: 30]، فما كان إلاَّ من العشرة الذين أُعِدُّوا لقتله، الأقوياء، يحيطون بالبيت وهو وسط البيت، ويبقى ويتغطى مكانه سيدنا علي ببرده، ويخرج النبي في الوقت الذي المفروض ما يخرج.
في اللحظة التي خرج فيها، ألقي النوم عليهم، العشرة، نوم عميق، فكل واحد منهم رأسه مُكبِّي، وخرج النبي يقرأ (يس*وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس:1-2]، إلى عند قوله سبحانه وتعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لآ يُبْصِرُونَ) [يس:9]،
مقتضى الطبيعة البشرية في مثل هذا فرصة أنْ أمشِ "شل نفسك و روح" لكن هذا الأصدق، هذا الأوثق، "ما راح يجري ويشل نفسه" رآهم نائمون فحمل تراب، ووضع فوق رأس هذا، وفوق رأس هذا، ودار على العشرة كلهم، وضع تراب فوق رؤوسهم، تقول "إيه عادك تحارشهم ذيلا، عادك تقاربهم، بينتبهون بيقومون بيمسكونك" لكِنّه آمِنْ ﷺ فذهب وخرج.
يرقبه واحد من المارة وهو يضع التراب فوق رؤوسهم، وهؤلاء نائمون فتعجب فيهم، ومشى ﷺ في طريقه في مواعدته لسيدنا أبو بكر ويمشي، فما أيقظهم إلاَّ حر الشمس، وجاء هذا المار، قال: مالكم؟ قالوا: ننتظر محمد!!. محمد قد خرج ووضع فوق رؤوسكم تراب كلكم!! إشارة إلى ذلَّتكم، وجد هذا تراب، ووجد هذا تراب، كل واحد وجد تراب فوق رأسه، أين ذهب "محمد" قال: ما أدري!!! يفتحون الباب، رأوا سيدنا علي مضطجع ظنوه النبي قالوا: ها، إلاَّ فزِع هو في الداخل هناك، فتبين لهم أنه علي. أين ذهب محمد؟ قال: لا أدري، وذهبوا في كل محل يتفرقون وذهب مكرهم، (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) [غافر:5].
جاءوا ليقتلوا سيدنا صالح، بعضهم قد مرَّوا، وجاء واحد من أصحابهم، من قبيلتهم يقول ماذا تعملون؟ قالوا: سنقتله، قال: له اصبر، أعطاكم ثلاثة أيام، اصبر، دعْ الأيام الثلاثة تمضي، إنْ مضت سنقتله نحن وإياكم، ما في مانع. ما يمكن أن تقتله، والحاصل إنهم ما توصلوا إليه؛ لأن الله يحرس من شاء، وقبل ما يجي الأجل من الله لأي واحد، لو تجمّع كل من على الأرض ليقتلوه ما يُقتل، إلاَّ في الوقت الذي حدده الله، فإذا به اليوم الثاني، والثالث، وإذا بسيدنا جبريل يصيح، صيحة انقلبت عليهم بها الأرض صاروا تحت الأرض كلهم.. الله ... طاغية؛ لأنه أمر متجاوز إلى الحد فأُهلِكوا بالطاغية، صيحة واحدة انتهوا فيها.. الله أكبر..
قال سبحانه وتعالى: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13))، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)) دمدم أي؛ أستأصلهم بالعذاب، عمَّهم كلهم، (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ ..(14)) انبعث أشقاها.
وبعد ذلك قال: (فَعَقَرُوهَا)، عقرها واحد أو كلهم؟ الذي باشر واحد، لكن بِرضى الكل، فصار كلهم منسوبين إلى هذا العقر، (فَعَقَرُوهَا) هو واحد الذي باشر، لكن الباقين راضين، انتهى؛ ولِذا يقول: فإذا قتلت نفس ظلماً بأقصى المشرق، فارتضي ذلك رجل بأقصى المغرب كان شريكاً في إثم قاتله، ولهذا قال الله: (فَعَقَرُوهَا)، كل واحد منهم حمل السكين؟ لا.. واحد فقط، لكنْ برضاهم (فَعَقَرُوهَا) فإذاً الرضى بالمعصية معصية، والرضى بالكفر كفر فانتبه لنفسك.
قال تعالى: (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7]، فلا ترضى إلاَّ بما يرضى الله، جل جلاله. فنسب العقر إليهم كلهم، ومن هنا جاء المثل عندنا العامة يقولون: "عاقر الناقة واحد!! ودمدم على الكل" يعني؛ إذا تركنا واحد منا يخالف ولا انتبهنا ولا قمنا عليه، سيكون الجزاء علينا كلنا بعد ذلك، إذا أهملنا وتساهلنا وتركنا بعضنا يتظاهرون بمخالفة أمر الله ومخالفة الشريعة ونحن نسكت، سيأتي العذاب ويشملنا كلنا،
ولهذا يقول: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14))،
(وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15))، يعني الحق لا يضره شيء، يهلك ولا يبالي، وينجِّي ولا يبالي؛ يسعدك ولا يبالي، يشقى ولا يبالي _يعني_ "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"، أما أي واحد غيره مهما كان عنده قوة وملك وكذا، مهما كان العاقبة ترجع عليه، اليوم أو بكرة، وهو يخاف بل وعامة ملوك الأرض يحجم عن ذا ويسكت عن ذا لأنه يعلم بنفسه، اذا عمل كذا سيُفعل له كذا مقابل كذا، لكن هذا ملك الملوك لا أحد يبلغ ضره، ولا أحد يبلغ نفعه، ولا هو محتاج إلى أحد (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)) هم أقل شأنا مِنْ أنْ يلتفت إليهم و (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)):
فهكذا كانت النتيجة لمن كذب الأنبياء وليس ثمود وحدهم، وعاد قبلهم كذلك وقوم نوح قبلهم كذلك، وقوم إدريس قبل نوح كذلك:
والرسل يقيمون الحجة ويوضحون الطريق؛ (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، (قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) [ابزاهيم: 10]، (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) [ إبراهيم:11]، في الخِلقة والنشأة؛ (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، ولمَّا كنَّا بشر مثلكم هل النبوة تبطل؟! أو ماذا ؟! أو الرسالة تبطل؟! الله يرسل مَنْ يشاء وينبِّىء مَنْ يشاء، هل ستنكرون الخصوصية لأننا ناس بشر؟! الخصوصية مع أهلها (إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ* وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) [ إبراهيم: 11-12]، الله أكبر..
من أكرمه الله بالهداية ووضح له الطريق، نعمة الله عليه، يثْبت ويستقيم (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا)، أي أذى منكم نحن صابرون -الله- (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [ إبراهيم: 12]. بعد ذلك جاءت التحديات كما هي عادة البشر (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) [ابراهيم: 13]، فماذا قال لهم نبيهم؟ قالوا إن الله ما ذكر لنا أنَّ الأنبياء قالوا: أنتم ستخرجوننا. نحن سنخرجكم (فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [ابراهيم: 13] أنا سأهلكهم، دعوهم (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) الله أكبر..
وقال الله: هذه سنتي مع كل الصادقين معي، ليس مع الأنبياء فقط (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [ابراهيم: 14-13]، أي واحد عرف إني ربه وأطاعني ومسك نفسه من شأني، ومشى على ما أحب منهُ، دع من يعاديه يعاديه، وهذه سنتي (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [ابراهيم: 14-13]، وعيدي أي؛ عذاب الآخرة (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [ابراهيم:14-15]. وهلك الأقوام، وبَقِيت آثار الأنبياء الكرام، فنذْكرهم إلى هذه الأيام، فمن يذكر الذين تحدُّوهم وتعدُّوهم، مَنْ يذكرهم؟ مَنْ يشكرهم؟ من يقتدي بهم؟ من يراهم شيء؟ هذا وعاد نحن في الدنيا وقد راح ذكْرهم، وراح اعتبارهم، والآخرة مقبلة (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الاعراف: 6].
وهكذا.. اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت ولِيُّها ومولاها، اجعلنا من المتبعين لهذا النبي المهتدين بهديه، والمقتدين به ظاهراً وباطناً، في خير ولطف وعافية، برحمتك ياأرحم الراحمين. معكم الجمعة والليلة ليلة السابعة عشر من رمضان، فإلحاح الإلحاح على الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) [الانفال: 8].
الله يغيثُنا والمسلمين، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد أنْ لا إله إلاَّ أنت، واستغفرك وأتوب إليك.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
18 رَمضان 1436