(535)
(339)
(364)
تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الحاقة، من قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ } الآية: 1
﷽
(الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10))
الحمد لله مُكرمنا بحسن البيان، وتنزيل القرآن، ودوام تنزّله على أهل الإيقان، ممن صفا منهم الباطن والجنان، له الحمد من غير حصر ولا عدّ ولا حسبان، يليق بجوده منه عنا إليه كما هو أهله في كل آن، على كله في كل شأن، وفي جميع الأحيان على ما يكون وما هو كائن وما قد كان.
نسأله أن يُديم منه الصلوات والتسليمات العاليات الزاكيات الربانيات الرحمانيات الإلهيات العظيمات عنّا على حبيبه المجتبى المصطفى خير البريات، خاتم الرسالات، رفيع الدرجات، سيد أهل الأرض والسماوات، عبده المجتبى محمد، وعلى آله الطاهرين أهل المراتب الرفيعات، وأصحابه الصادقين المخلصين المحبين أهل الدرجات، ومَن تبعهم بإحسان وصدق وإنابة وإخبات على ممر الأوقات إلى يوم الميقات، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الخصوصيات والمزايا السنيات العاليات، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين والصالحات، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا مجيب الدعوات، ويا مثبت أهل الثبات، ويادافع البلايا والآفات، ياأكرم الأكرمين .
وبعد،،،
فإننا في توالي نعم الله -تبارك وتعالى- علينا، لنا الغدوات في صلاة الصبح وقراءة الأذكار، وتأمل وحي الكريم الإله الغفار، وتنزيله على عبده المختار بأنوار خالصات، وعلوم عاليات رفيعات رافعات لمن علمها، مزكّيات لمن فهمها، من الحق صدرت وإلى الحق توصِل.
وانتهينا من سورة المعارج في ستة أيام مضت لنا من الشهر الكريم، وها نحن في اليوم السابع نصل إلى تأمل معاني سورة الحاقة:
(الْحَاقَّةُ (1)) أراد الحق -جلَّ جلاله- أن نعلم أنها عظيمة وأن يستبعِث في قلوبنا تعظيم ذاك اليوم، ولابد لنا من تعظيمه وهو في قلوب الملائكة عظيم، وهو في قلوب الأنبياء عظيم، وهو في قلوب أهل الحق عظيم، ولا يستهين به ولا يهمل شأنه ويستخف بأمره إلا كافر أو فاجر أو منافق أو بعيد أو مطرود أو مغضوب عليه والعياذ بالله تعالى، فهو يوم عظيم: (أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:4-6] جل جلاله.
كم من حوادث حدثت ولكن ليس مثل ذلك اليوم لا شيء أبداً، أعظم مما يحدث ذلك اليوم:
وهكذا يقول الحق: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)) أي لا تدرك حقيقتها قبل أن تجيء وتشاهدها، والذين يشاهدونها يدرك كل منهم من عظمتها شؤوناً وتغيب عنه شؤون، وهو حاضر فيها، لا يحيط بعظمتها إلا العظيم -جلّ جلاله- أمر عظيم.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)) ما أعظم هولها! حتى أن من نبأها الذي يوصله الله إلى مستوى مدارك الحيوانات، حُدّثنا في الحديث: "إنه لا تأتي الآياتُ يومَ الجمعة إلا وكلُّ بهيمةٍ مُصغيةٌ بأذنَيْها؛ تخاف أن يكون هذا يومَ نُفخِ الصُّور"، يوم وعد الحاقة؛ لأن الساعة تقوم في يوم جمعة وتصغي آذان البهائم كلها يوم الجمعة؛ تعظيماً لهذا اليوم.
ما أعظم ذاك اليوم! ما أعظم ما يكون من الفضل واللطف والنعيم لقوم تتنزل عليهم الملائكة، وتقول لهم: (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:103]:
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47] ما أعظم ذاك اليوم!.
(الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3))، يقول: هذا اليوم العظيم المقبل على الجميع، يعيش كثير من الناس: أفراد وطوائف وشعوب وأقوام على التكذيب به وعلى إنكاره؛ إلا أنّ جميع تكذيبهم وإنكارهم وجهدهم لا يؤثر شيء، لا يؤثر شيء، اليوم آتٍ مقبل آتٍ مقبل، كائن كائن، موجود موجود، قائم قائم، يُكذّب مَن يُكذّب، يُنكر مَن يُنكر، يجحد مَن يجحد، لا يضر ذلك شيئا في تحقيق اليوم الذي هو محقق:
يقول: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)) هذا اليوم الموعود، كثير كذّبوا به، فما يضرّ تكذيبهم: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)) فليكذّب مَن يكذّب، ماذا يفيد تكذيبهم؟ ما هو آت هو آت!
وكان يتنزّل أبو العلا المعرّي بعض أبياته وشعره مع العقول القاصرة المنكرة للبعث، يتنزل معه تنزّل، يقول:
إِن كان قَولُكُما فَلَستُ بِخاسِرٍ *** أَو كان قَولي فَالخُسارُ عَلَيكُما
قالَ المُنَجِّمُ وَالطَبيبُ كِلاهُما *** لا تُحشَرُ الأَجسادُ قُلتُ إِلَيكُما
إِن صَحَّ قَولُكُما فَلَستُ بِخاسِرٍ *** أَو صَحَّ قَولي فَالخُسارُ عَلَيكُما
إِن كان قَولُكُما فَلَستُ بِخاسِرٍ -أنا لن أخسر لو كان صدقا ما تقولون، وهذا كلام كذب باطل- أَو كان قَولي فَالخُسارُ عَلَيكُما.
وهذا الذي بمعنى أرفع منه وأعز، خاطب الذي آمن من قوم فرعون -جماعة فرعون- أن يُفكروا ويقفوا قليلا عند العقل بالحجة والمنطق والإرادة، وإرادة النجاة لأنفسهم، يقول لهم: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا) -المشكلة عليكم ستجيء، انتبهوا لانفسكم فأنتم أمام مشكلة، تُقبلون عليه فالأفضل أن تحتاطوا لأنفسكم- (وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) -قال: لا تغترّوا بالمُلك الظاهر، كم مُلك قبلكم؟- ( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:28-29]؛ لا يستجيبون للحجة، للمنطق، للعقل، وإلا لَآمنوا بالرسل، ولم يكذّب بهم أحد.
يعيش الناس يصدّقون فيلسوفًا ومنجّمًا وطبيبًا، أو واحدًا مخترعًا، وكم في أوصافه من أشياء سيئة، ويكذبون الأصفياء الأتقياء الأنبياء والأولياء! أين هذا من هذا؟! لا أخلاقهم سواء ولا أمانتهم سواء؛ وكيف يصدقون هذا؟! -أعوذ بالله- عقولٌ إذا أضلها الله:
مَن أحق بالتصديق؟! مَن أحق بالتصديق؟
تصدّق مَن؟! مَن أولى بالتصديق؟!
بمجرد منطق العقل:
طول السنين هذه -أربعين سنة- ما كذب على الناس، وبعد ذلك لما أصبح في الأربعين يكذب على الله، ويقول الله أرسلني؟! لم يكذب على الناس، فكيف يكذب على الله؟! أربعين سنة لا يكذب عليكم أنتم، وبعد الأربعين يجيء يكذب على ربه؛ هذا ليس بمنطق! هذا ليس بعقل! ﷺ، ولكن هذه، إذا أراد الله انحراف العقول.
فقبل إسلام أبي سفيان، كان عقله منحرف، هو أعرف بمحمد من هرقل، ولكن هرقل اهتزّ لمحمد، وهذا اهتزّ لهرقل ما اهتزّ لمحمد؛ لأنه منحرف، منحرف في فكره قبل إسلامه، منحرف.
أبو سفيان قبل إسلامه، كيف يحتقر النبي؟! يخاف ملك بني الأصفر، كان معظَّمًا عندهم، هذا الملك بمُلكه الظاهر هذا، فأنت بدلًا من أن تعظّم ملك بني الأصفر، انظر إلى هذا الذي هزّ قلب ملك بني الأصفر، وأنت أعلم به منه في صدقه وأمانته، لِمَ لا تعظّمه؟!
حتى إلى حد الآن تسمّيه ابن أبي كبشة؟! تلمز في كلامك إلى أنه مُستهزأ به؟ وتعظّم ذاك الذي يقول لك -وهو بنفسه يقول لك- ذاك ملكك الذي أنت تعظمه؛ بحكم اغترارك بمُلكه، بحكم المؤثرات المنتشرة في ذاك الزمان الإعلامية والفكرية أن هؤلاء هم المعظَّمون، هرقل وكسرى، وهو يقول لك بنفسه: "إن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه". فانصرِف إلى تعظيمه! -لا، هو كان معظِّمًا لهذا فقط!- عظّم أمر ابن أبي كبشة! تخاف مُلك بني الأصفر! أنت معظِّمٌ لبني الأصفر ومُلكهم وأنت لا تعرف هذا الذي يُذِلُّ الله له الملوك؟ حبيب ملك الملوك ﷺ؛ هو أحق بالتعظيم، وأحق بالإجلال والإكبار. لا صدّقته ولا صدّقت ملك بني الأصفر، هذا صاحبك.
إلى أن جاء وقت الفتح وتسبب سيدنا العباس، حتى أدخله إلى دين الله -تبارك وتعالى-، ورجع يمر عليه طيف من المنطق من العقل: "لو كانت آلهة لأغنت عنّا"، ما نفعتنا، ندافع عنها ونقاتل، والآن محمد يدخل مكة.
ولما رأى الكتائب تمرّ، وهو مسألة القوة والعسكرة معظَّمة في قلوبهم، "لقد أصبح مُلك ابن أخيك كبيرا" -يقول لسيدنا العباس- التفت إليه، قال: "يا أبا سفيان إنها النبوة ليس المُلك"؛ هذا ليس قياس ملوك ولا شيء من هذه المقاييس التي عندكم، هذا نبوة، رسالة من الله، ليست الملك، قال: نعم إذًا، نعم إذا، صلى الله على سيدنا محمد.
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)) فهل يؤخرون من القارعة شيئا؟
القارعة من أسماء القيامة:
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)) فما الذي حصل؟! استمرت كم دولة ثمود؟ واستمرت كم دولة عاد؟ قد مضى على هلاكها أضعاف أضعاف ما عاشت.
(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)) وهؤلاء المكذبين المتعاقبين على التكذيب بيوم القيامة ، يذهبون عبرة بعد عبرة، ولا يعتبِر الناس؟!
أما أهلكهم الله؟ أما أبادهم الله؟ وما زالوا يفكرون في نشر الإلحاد، ما زالوا يأتون عند المسلمين يريدون زعزعة إسلامهم وقلوبهم، والقارعة أمامهم.
(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5))، اهلكوا بالطاغية:
(بِالطَّاغِيَةِ)، و(بِالطَّاغِيَةِ):
قال: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5))؛ هذه صور المكذبين بالحاقة والقيامة وهذه نهاياتهم، فما بال الناس يستمرّون في الاغترار!
(فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ) -قوم النبي هود- (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ..(6)) صرصر؛ لها صوت مزعج وبرودة شديدة، فإن الصرصر حاملة البرودة الشديدة أو الحرارة الشديدة وذات الصوت الذي يصرّ، لها صرصر، صوت مزعج، (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ):
(بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)):
(بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)) ولا عاد تمتسك لأيدي الملائكة ولا لغيرهم، مُرسلة من قِبل الجبار، (عَاتِيَةٍ) لا تقف عند أحد، لا إله إلا الله. ولا يزال الناس اليوم بجميع ما انتهوا إليه من هذه المظاهر؛ لا يقوَون على مقابلة الرياح، وقد تهب عليهم في بعض المواطن في الدول المتقدمة، وتطلع بعض آثار من بحر أو نهر فتغرق قُراهم، مَن يردّها؟.
يقول -سبحانه وتعالى-: (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ) -أي مشّاها ونفّذ أمره فيها- (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ) يبيّن أنّ انتقامه الشديد يحمل أيضا معه عجائب من لطفه، فإنّ قهره أكبر من كل ما حصل، وكان ممكن في سبع دقائق، في سبع ثواني ينتهوا، لكن الله جعلها سبع ليال؛ لطفا منه.
(سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ..(7)) أي متتابعة كاملة متراسلة؛
(حُسُومًا): متوالية، متتابعة، كاملة، سبع ليال وثمانية أيام، حَسَمت الأمر من أصله، أهلكت القوم ولم يبقَ منهم أحد.
(سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ) -عِجز النخل: جذعه- (خَاوِيَةٍ (7)) قد خوت، مرت عليها مدة، جذع مطروح كذا، هذه أجسادهم مثلها، جذوع خاوية لها مدة طويلة، مثل الجذع صاروا، كانت تحمل الواحد منهم وترفعه نحو السماء، ثم تصكصكه بالثاني والثالث وبالجدران حواليها، وتوقعهم على الأرض كأعجاز نخل.
هم الذين كانوا يقولون: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)؛ الحق يقول: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ) [فصلت:15-16].
ومن معاني الحسوم الشؤم أيضا والنحس، (حُسُومًا) يعني شائمة عليهم مشؤمة، (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ..(7)) شائمة، ذات شؤم. فمعنى (حُسُومًا):
(سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)) ما تدري إلَّا بيوتهم تتكسر وتحملها الرياح وتدقدق بعضها ببعض، وبأجسادهم وبنخيلهم وأشجارهم، كلها تقلّع، وكلها في الهواء ترفع وتدقدق وترجع، ترفع في الهواء وتتصكصك وتوقع؛ قوة .. قدرة .. غلبة، سبحان الله!:
قال تعالى: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8)) هل مازال أحد باقي منهم؟ هات واحد منهم، أليس هم قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15] يا أهل القوة، أين القوة؟! ما هي القوة؟! لا يوجد قوة، رجعوا إلى حقيقتهم، إلى أصلهم:
يقول: (فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8))؛ لا أحد، نحن نرى آثار الأنبياء، النبي هود الذي عادوه وخالفوه، له باقية، له أثر، له زيارة، له محبة، له إيمان، له ذكر في القرآن بالتمجيد والتعظيم، أما هؤلاء الذين قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15] ما الذي تراه من باقية؟! الحمد لله، نحمدك ياالله.
هكذا (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) -قوم سيدنا لوط، أصحاب القرى، الْمُؤْتَفِكَاتُ- (بِالْخَاطِئَةِ (9))؛ جاؤوا بالخاطئة، بالخطايا .. بالذنوب .. بالمعاصي .. بتكذيب الأنبياء، هذا يقتل وهؤلاء يفعلون الفواحش، وماذا بعد ذلك؟ (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10))
الله يُذكرنا بهذه الحقائق ويُبيّن لنا هذه المعاني التي توقفنا على عين اليقين؛ لنُحصّل أعلى ما يمكن تحصيله في العالم؛ وهو اليقين، ما نزل شيء من السماء إلى الأرض أشرف من اليقين، أعلى ما يمكن أن تحصّله أن يكرمك الله باليقين؛ فكأنّك تراها رأي عين، أمامك.
يا رب هب لي منك حسن اليقين *** وعصمة الصدق و قلباً سليم
و هِمّة تعلو وصبراً جميل *** ونور توفيق به أستقيم
وحسـن تأييد وعونًـا يدوم *** فإنك الدائم وجودك عميم
ياالله طلبناك يا من ليس ملكه يزول، وملك غيرك زائل؛ لكن ملكه لا يزول، سبحان صاحب الملك الذي لا يزول ملكه، الحمد لله على كل حال.
نظر الله إلينا وإليكم نظرة يجعلنا بها عنده من أهل القرآن، وأهل الإيقان، وأهل الصدق والإخلاص، وأخص الخواص، المستقيمين على المنهاج المترقين بها أعلى معراج، يا ذا المعارج، كم ترفع في معاريج الفهم عنك والمعرفة بك والقرب منك في رمضان من أرواح تصطفيها وقلوب تنتقيها بعد أن تنقيها، اللهم فارفعنا في معارج القرب من حضرتك، والمعرفة بك، ونيل رضوانك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وانظمنا في سلك مع أهل حسن السابقة وأهل حسن الخاتمة وارحم موتانا وأحيانا برحمتك الواسعة.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
07 رَمضان 1440