(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20))
الحمد لله على فضله وإحسانه، وعظيم امتنانه، وإرساله إلينا سيّد أكوانه ببيانه وقرآنه، اللهم صلّ وسلم على مَن أنقذتنا به مِن الضلالة، وختمت به الرسالة، ودلنا عليك أحسن دلالة، وصلِّ معه على آله أهل الطهر، وأصحابه الأنجم الزهر، وعلى مَن سار في طريقهم في السر والجهر، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين أرباب المراتب العلا، وآلهم وصحبهم ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الوقوف بين يديك يا علي يا أعلى.
وبعد،،،
فإنا في نعمة الإغتنام، لساعات شهر الإفضال والإكرام، في منةِ ونعمة التأمل لخير كلام، كلام ربِّ الأنام، المُيَسّرِ بلسان محمدٍ عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.
تأملنا معانٍ متعلقة بسورة البلد، حتى انتهينا إلى آيات في آخرها، يقول الله تعالى لذلك الإنسان الذي ضلَّ في فكره وقصر في نظره مغترًا بشيء مِن المظاهر والقُوى، ناسيًا مِن أين جاءت ومِن الذي أمدَّه بها وإلى أين يكون مصيره؟ وقال: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11))، وذكرنا:
يقول جلّ جلاله: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11))، وترَك الافتخار بإنفاق المال في معاداة مَن خلقه وخلق ماله ومعاداة مَن أرسله هذا الخالق وهو خير الخلائق.
يقول تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)) كيف تُقتحم هذه العقبة؟ وكيف يخلص الإنسان مِن شروره؟ وما يوجبه الوقوع في المحذور، وفيما يضره في مستقبله الكبير؟
فذكر لنا الإعتاق والإطعام، وهو يؤكد أيضًا في هذه الآيات على إقامة حقيقة الرحمة بين الخلق وخصوصًا المؤمنين وأنَّ التحقق بحقائق النجاة والفوز عنده إنما تكون لأهل التراحم، وأهل الصبر، فشأن الرحمة التي بَعث مِن أجلها النبي محمد:
فجميع الأنبياء وكل مَن أحسن اتِّباعهم يدينون الله برحمة مَن في الأرض؛ وهذا لا يناقض بغضهم للكفر، ولا للفسوق، ولا للعصيان، ولا قتالهم في وقت القتال وجهادهم، فهم في كل هذه الأحوال لا ينفكون عن حقيقة الرحمة فما دعوا إلاَّ رحمة، وما جاهدوا إلاَّ رحمة.
و جهادهم وقتالهم يقوم على الرحمة الظاهرة والباطنة:
الأنبياء ومَن صدق في اتباعهم يدينون الله برحمة مَن في الأرض "إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" إلاَّ أن الرحمة الصحيحة القائمة على أساس تقتضي في بعض الأحيان غلظةً، وشدةً، وقسوة، وهي التي أمر الله بها: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29]، (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة:73]، هذه الغلظة والشدة المذكورة هي التي تنتج عن الرحمة، لا غلظة ولا شدة، تنتج عن كِبرٍ، ولا حسدٍ، ولا عن إرادة سوء للآخر؛ سبحان الله.
وترجم هذا سيرة النبي، ثم سِيَرُ الخلفاء الراشدين، وصلحاء الأمة سواءً في مواقع القتال، أو في مواقع الدعوة، أو في مواقع التعليم، أو في مواقع المعاملة بالمال، أو في مواقع الصناعات، أو في مواقع الزراعات، أو في مواقع العلاقة بين القوم والقوم. ترجم حقيقة هذه المعاني مِن الرحمة الخلفاء الراشدون، والصالحون مِن الأمة في مواقع كل الحياة ولذا قال:
الناس لا يجدون خيرًا مِن هذه الأمة خير أمة للناس، خير أمة للناس أخرجت هذه الأمة: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).
بهذا علمنا عظمة المنهج يقول: (فَكُّ رَقَبَةٍ(13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ(16))، طيب، وفي قراءة أخرى (فَكَّ رَقَبَةٍ(13) أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَة(14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)) ذكرنا بعض ما يتعلق بعتق الرقاب، تطرقنا إلى معنى باطن في أن يعتق الإنسان رقبته بالتوبة من جميع الذنوب ويتسبب في عتق رقاب الآخرين مِن النار فهو أعظم مَن عتقها مِن رق في الدنيا.
وذكرنا الحديث وتفريقه بين عتق النسمة، وفك الرقبة، وأنه يدخل في فضل فك الرقبة كل مَن ساهم في ثمنها، وساعد على إطلاقها مِن الرِق؛ ولكن عتق النسمة أن ينفرد بعتقها، وأن الله يعتق بكل عضو منه عضو مِن النار وذكرنا حديث الإمام البخاري ومسلم في ما رواه عن أبي هريرة سعيد يقول: سمعته يقول: قال رسول الله: "مَن أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منه عضو مِن النار" فيقول له سيدنا علي بن الحسين: "أنت سمعت هذا مِن أبي هريرة عن النبي قال: نعم. قال: ادعُ فلان ودعا، أفرهَ غلمانه، ثم قال: اذهب أنت حُرٌ لوجه الله" ذكر الإمام مسلم بصحيحه أنَّ هذا الغلام كان قد أُعطي فيه عشرة آلاف درهم فأعتقه لوجه الله.
وهكذا المسابقة في الخير؛
ومثل ما نقرأ بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة المغرب قبل أن نغير هيئة جلوسنا -عشر مرات- "لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحي ويميت وهو على كل شيء قدير"؛ لك عتق رقبة، وفي رواية عشر رقاب.
ذِكر يسير تواظب عليه بحضور قلب، أو رمضان بيخرج وأنت غير منتظم عليه غير حاضر فيه؟! ومِن عظيم ما فيه أن يكون في يومه ذلك إن قرأه بعد الصبح، وفي ليلته تلك -إن قرأه بعد المغرب- في حرز مِن الشيطان، الله أكبر "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحي ويميت وهو على كل شيء قدير" الله يوفقنا.
هكذا، إذا حضر القلب في الذكر، كم ترفع لصاحبه الرتبة، فإذا اقترن بها حُسن الخلق فما أعجب ذلك، وصحَّ في الحديث أنَّ نبينا سُئل: "أي المصلين أعظم أجراً؟ قال: أكثرهم لله ذكرًا، قالوا فأي المتصدقين أعظم أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكراً، قالوا: فأي الصائمين أعظم أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا، قالوا: فأي المجاهدين أعظم أجرًا؟ قال أكثرهم لله ذكرًا" الذي يذكر الله أكثر أجره أكبره إن كان متصدّق، إن كان مصلي، إن كان صائم، إن كان مجاهد، -الله أكبر-.
هكذا شأن الذكر حتى التفت سيدنا أبوبكر إلى سيدنا عمر يقول: ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة سمعه النبي قال: أجل ذهب الذاكرون لله بخير الدنيا والآخرة، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا ممن يذكرك كثيرًا ويسبحك بكرة وأصيلا.
يقول سبحانه وتعالى: (فَكَّ رَقَبَةٍ(13) أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَة (14)) المسغبة: الجوع، السغب والمسغبة: الجوع؛
أطعم مَن؟ (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16))؛
والغالب أنَّ النفوس قبل أن تصعد إلى ذروة الطمأنينة، والرضا، هي دون ذلك، كلما كان أشق عليها كان أثقل في الميزان، كل ما كان أصعب عليها فهو أرجح في الميزان في القيامة، حتى تبلغ إلى نفوس الكُمَّل مِن الصالحين، تلك ما تستحلي إلاَّ الأفضل، انقلبت، كأنه ليس مِن البشر، هو مِن البشر؛ لكن تهذّب فصار شبيهًا بالروحانين والملأ الأعلى مِن الملائكة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) [الفجر:27-28]، فتسمع:
وهكذا النفوس المطمئنة، فتتحول شهواتهم إلى عِلْوِيات، ويشتهون القرب، ويشتهون الرضوان، قالوا لسيدنا أبو الدرداء لمَّا مرض فدخل يعوده بعضهم،
ما قال لك؟ قال: "إني فَعَّالٌ لِّمَا أُرِيد"، قال: والطبيب معي حاضر، ماذا قال لك الطبيب؟ ماذا فيك؟ ما العلة التي بك؟ قال: الطبيب: "إني فَعَّالٌ لِّمَا أُرِيد"؛ (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء:80] -جلَّ جلاله-.
اللهم لا شفاء إلاَّ شفاؤك، اشف أنت الشافي، وعاف أنت المعافي..
ذكر الله هذه المكارم، قد سمعناها كما جاءنا في الحديث طريق الجنة لمَّا سأله الأعرابي: دلني على عمل يدخلني الجنة، أمرني بعمل يدخلني الجنة، أوصيني بوصية أدخل بها الجنة: "لَئنْ كُنتَ أقصَرْتَ الخُطْبةَ، لقد أعرَضْتَ المَسْألةَ" -وذكر له- "أأعْتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقَبةَ"، وفك الرقاب كما سمعتم أيضًا في الروحة لمَّا ذكرنا وآخرها: "فكُفَّ لِسانَكَ إلَّا من خَيرٍ"؛ هذه طريق الجنة.
ذكر الحق في اقتحام العقبة: فك الرقاب، الإطعام وخصوصًا ذوي القرابة وفي أيام المسغبة والفقراء الذين اشتد فقرهم؛ فتربو، ليس "اتربوا" اتربوا كثر مالهم تربوا.
(أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)) يقول الله:؛ لكن مشاريع الإنقاذ للناس هذا، والإحسان للناس، وحفظ حقوق الناس، وتخليص الناس، واصطناع المعروف إلى الناس، ما يمكن أن ترتبوا عليه اقتحام العقبة، ونيل الفلاح، والفوز؛ لمن كفر بي، لمن قطع رأس الخير، لمن تنكّر لخالقه وجحد موجده، وكذب رسله قال:هذا مهما يعمل -إذا مات على الكفر- فلا أجر له، ولا مثوبة له.
نعم، الذي يصطنع المعروف مِن الناس في الدنيا وهو غير مسلم كثيرًا ما يدفع عنه بعض الأمراض، بعض المصائب في نفسه في أولاده، وفي أهله، ويمد بعافية، أو بقوة، أو يتيسر له أمر مِن الأمور التي يحتاجها في الدنيا؛ لكن في الآخرة لا ثواب، هذا لمَّا قال: (فَكَّ رَقَبَةٍ(13) أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَة(14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ..(17))، ما تجي تقول لي الكفار أحسن مِن المسلمين، أعقل قليلا، لو كافر على ظهر الأرض ملأ الأرض كلها صدقات؛ ملكها وأنفقها صدقات ومات على الكفر فكل ما فعله هباء منثور، أما تدري ماذا فعل هذا؟! جحد بموجده وخالقه، أتدري ماذا فعل هذا في نفسه؟ هذا حُرم أعلى شيء، وأحق شيء يدين الإنسان به؛ ربه، الإيمان بالله -جلَّ جلاله- فما أعظم نعمة الإيمان، الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان.
اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه آمين يالله
(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ..(17)) الله أكبر، يعني عمل بدون إيمان ما ينفع، المسلم نفسه، يؤمن بالله ورسوله، إذا عَمِل عمل صالح وقصد فيه غير الله، حبط، فكيف مَن أنكر بالحق، وكذب بالرسول محمد؟ وبعد ذلك يقول: عندي أعمال، أعمال ماذا؟ تبغى جزاها مِن مَن؟! مِن الذي كفرت به؟! الذي كفرت برسله؟! الذي كفرت بكتابه؟! تريده أن يجزيك! ما تستحي على نفسك! قليل الحياء؛ تنكره وتكذب برسله، وبتقول أعطنا كرَّمنا، يا مخالف،، أنت تستحق العذاب
(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يقول الله: والمؤمنون على حسب صدق إيمانهم، لهم مظهر في الحياة:
(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)) فيقوم أمر تطبيق الإيمان في المسلك على الركنين: صبر ومرحمة؛ لابد لنا مِن صبر، ولابد مِن مرحمة، صبر على امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، حسن تطبيق المنهج الإلهي -الله أكبر-، لابد من صبر، فتبني أمورك على صبر، وفي الصبر على ما تكره خير كثير.
وحالف الصبر واعلم أنَّ أوله *** مرٌ وآخره كالشهد والضرب
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر:10]، وأهل الجنة، قال الله: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ) [الرعد:23-24] صبر.
(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ..(17)) وتواصوا بالصبر؛ فلابد أن نتواصى بالصبر، نصبر على مجاهدة هذه النفوس، نقتحم العقبة، اصبر على حسن ختم رمضان بخير، كم أيام تجي معاك، أسبوع؟ أسبوع باقي معاك في الشهر، أسبوع أسبوع؛ أخلص فيه لربك، أصدق ترى كم يفعل هذا الأسبوع لو صدقت مع الله فيه؟ كم يؤثر؟ كم يُطهِّر؟ كم يُنوّر؟ كم يُقرب؟ أسبوع؛ لكن مع الصدق مع الله يؤثِّر كثير.
الليلة تستقبلك ليلة جمعة، وقد تكون آخر جمعة في رمضان، وقد تأتي ليلة الثلاثين جمعة، ولكن في أوتار العشر هذه الليلة جمعة، ها، كيف حالك مع الله فيها؟ اغنمها.. اغنمها.. اغنمها فغنائمُها كبيرة، خيراتها وفيرة، في الأحاديث: أن في كل ليلة ينادي منادي الحق حين يبقى ثلث الليل الأخير، أهل الأرض عندما يكون عندهم ثلث الليل الأخير، أهل كل منطقة، "هل مِن مستغفر فأغفر له؟ هل مِن تائب فأتوب عليه هل مِن سائل فأعطيه سؤله؟ هل مِن طالب حاجة فأقضي له حاجته؟ هل مِن مبتلى فأعافيه؟"، قال: فإذا كانت ليلة الجمعة فمن المغرب إلى الفجر، فإذا كان رمضان فكل ليلة مِن المغرب إلى الفجر منادي الحق ينادي: "هل مِن تائب فأتوب عليه؟ هل مِن مستغفر فأغفر له؟ هل مِن طالب حاجة فأقضي حاجته؟ هل مِن مبتلى فأعافيه؟" هل مِن كذا، هل مِن كذا، فكيف ليلة جمعة، وفي رمضان، وفي العشر الأواخر -ما شاء الله- فتح الرَّب أبوابه ما، فما عذر مَن أغفل؟ ما عذر مَن أعرض وتولى؟.
(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ..(17)) لابد لنا مِن صبر، حبس النفس على ما تكره، الصبر على امتثال الأوامر، على اجتناب النواهي، على البلايا والشدايد والنوازل .
نال الصبور بصبره ما يرتجي *** وصفت له الأوقات مِن بعد الكدر
يا صابرا ابشر وبشر مَن صبر *** بالنصر والفرج القريب مع الظفر
نال الصبور بصبره ما يرتجي *** وصفت له الأوقات مِن بعد الكدر
فاصبر هداك الله صبر الأتقياء *** فالمحسنين المتوقرين لدى الغير
واعلم بأن الكون مطبوع على *** التغيير والتكدير فأمعن في النظر
وإذا الحوادث أظلمت وتكدرت *** فاسكن و إياك التحرك و الحذر
إن النوائب كالسحائب تنجلي *** في سرعة ووجودها يضحي خبر
وإذا تطول إقامة من حادث *** كانت مبشرة بطول المنتظر
فاصبر على المحن القواصد *** وانتظر فرج تدول به دول القدر
هل تعرف دول القدر؟! أحكام الله النافذة مِن السماء، انتبه تقول لي دولة كبرى، وإلا صغرى، هذه كلها صغرى، كلها دولات الأرض صغرى، إذا نسبت إلى دولة القدر -هذه صغرى- كلها صغرى ها، الدولة الكبرى دولة الكبير، دولة الكبير -جلَّ جلاله- الذي بيده ملكوت كل شيء
وانتظر فرج تدول به دول القدر
وكم محنـةٍ كابدتهــا و بليــة *** إلى أن أتانا الله بالفتح والنصر
صبرت لها حتى انقضى وقتها الذي *** بـه أُقتت في سابق الأمر والذكر
ولــو أنني عاجلتهــا قبل تنقضي *** لكنت قد استجلبت ضُرًا إلى ضُري
وللحوادث والآفات أوقات،
وللنوائب والأكدار أوقات
إذا انقضت تنقضي منها إقامات *** وفي التحرك قبل الوقت آفات
هكذا يُقال: أن نبيًا مِن الأنبياء في بنى إسرائيل شكى إلى الله تولِّي ظالمة على بعض القرى وظلمها للناس؛ فلما ألحَّ على ربه وشكى إليه، أوحى الله إليه إني خلقتها وخلقت لها أيامًا تظلم فيها، فَمِل مِن أمامها حتى تنقضي أيامها، هي أيام بتنتهى وبتروح، خلاص، لا إله إلاَّ الله.
يقول الله لحبيبه محمد في شأن مَن يقوم بمشاكل في وقته مِن المتجرئين والمصيغين الكلام بصياغة ماكرة، ومِن أرباب الشرك: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) هل تسمع؟ هذا قدري يمشون هكذا:
اللهم أجرنا مِن النار واجعلنا مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
يقول: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)) رحمة بعضهم البعض، رحمتهم بالحيوان، رحمتهم للإنسان، رحمتهم للنبات، رحمتهم حتى للجماد؛ كما سخره الله، يستعمله بحسب الحاجة، حتى لمَّا يمشون على الأرض قال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)؛ مايدربجون مِن دون حاجة، حتى الأرض مجبورة منهم لها احترام عندهم -سبحان الله- (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ) الجاهلون يخاطبون بماذا مِن كلام؟ كلام مثير، كلام مزعج: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63]؛
ولذا قالوا في بعض حوادث الحياة، واحد عمل أبيات وصاغها في نفسه، يتكلّم به على لسان أرباب الحلم والصفح والعفو، الذين إذا ملكوا الناس وأخذوا زمام السلطة عفّوا ورحمُوا ولطفُوا بخلق الله تعالى وسامحوا، ولمَّا يجي في مقابلهم الآخرين؛ ينتهكون الحُرم ولا يُبالون بالناس، وصاغها في نفسه وتكلم بها.
واحد في نومه رأى سيدنا علي قال له: اذهب إلى فلان وقل له يعطيك الأبيات التي قالها، جاء إلى عنده قال: عندك أبيات؟ قال: مِن قالك؟ أنا صغتها في نفسي، ما تكلمت بها! قال: عندي رؤيا، بكى الرجل قال: هذه الأبيات:
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً *** فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَـحُ
وحَلَّلْتُــمُ قتلَ الأسـارى و طالَمـا *** غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا *** وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ
كل واحد يعرف نفسه مَن هو، قال سيد الوجود لمَّا مسك زمام مكة في سلطتها الظاهرة، ما تظنون إني فاعل بكم؟ يا مَن أذيتم، يا مَن سببتم، يامَن كذبتم، يامَن قاتلتم يامَن حاربتم، يامَن خنتم، يا مَن غدرتم؛ ما تظنون إني فاعل بكم؟ نكسوا رؤوسهم، موقف، ثاني مرة ردده، ثالث مرة، رفعوا رؤوسهم بعض كبارهم، وعقلائهم: خيرًا، "أخٌ كريم وابن أخٍ كريم". أنت مَن أنت؟! وهو أول ساحر! كذاب! ومجنون!.
اليوم: "أخ كريم وابن أخ كريم"، "اذهبوا؛ فأنتم الطلقاء" اللهم صلِّ عليه، لا إله إلاَّ الله، هذا شأن النبوة، بينهم البين يقولون: ما طابت بهذا إلاَّ نفس نبي، بعضهم قد قال لأقاربه إن أنا قُتلت، فلا تتركوني للحيوان، والكلاب يظن المسألة انتهت، يعرف نفسه ماذا عمل طوال سنوات، يعرف نفسه ماذا عمل وأنه يستحق القتل، والآن قد ملك محمد، وقد دخل في البلاد، وسيُقتل، حتى لمَّا قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، قال: قاموا كأنما نشروا مِن قبور، ودخلوا في دين الله أفواجا، بأخلاقه الكريمة -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
وذا يمشي وراءه -فضالة- وسيفه مشحوذ وبيضرب به، يجري والنبي ﷺ كان سريع المشي، وهذا يجري بقوة اكي يكون بجانبه، وترقب الفرصة لا أحد حواليه، سيضرب، مُصرّ على الضرب، وقف النبي: "يا فضالة، ما الذي تحدث به نفسك؟"؛ لا شيء يارسول الله، كنت اذكر الله، تبسّم ﷺ ورفع اليد الطاهرة النقية النويرة الصافية ذات المكانة عند الله، ووضعها على صدره ليداويه، يصفيه، ينقيه، يعالجه؛ واحد يريد أن يقتلك، تعالجه؟!، واحد يريد أن يقتلك تداويه؟! هذه خيانة كبرى، هذا بسرعة أراد أن يأتي للرأس، يقول في نفسه فضالة -عن نجاح العملية بقوة- : "فوالله مارفع يده، وعلى وجه الأرض أحدٌ أحبَّ إليَّ منه"؛ اختفى الكفر، اختفى النفاق، اختفت الظلمة، ذهب السوء، ذهب الجحود؛ تحول إيمان تقوى، محبة، تعظيم، نصرة -الله أكبر- هذا شأنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ومَن مِن الذين يدّعون الجهاد يقتدي به؟ يعرضون أنفسهم إن كان لهم قدوة، وأما إذا المسألة تبجُح، أمام عيون الناس اليوم يفضحون أنفسهم هذا يذكر الله، وهذا يذكر الله، ويتقاتلون معًا، وهذا يقتل هذا، وهذا يقتل هذا؛ وواحد يكبّر، واحد يهلل، -وإنا لله وإنا إليه راجعون- لعب مسخرة هذا، وهكذا يقوم الجهاد، وهكذا، هذا الجهاد الأنبياء ما عرفوه، الأنبياء ماعرفوا جهاد بهذه الصورة!!، ولا الصحابة، ولا أتباعهم، يا محول الأحوال حول حالنا والمسلمين إلى أحسن حال.
(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17))؛ ملة وشريعة يقول فيها النبي: "والله لا يؤمن مَن بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع طاوي وهو يعلم به"؛ لا يؤمن بالله -الله!-.
(وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)) رحم بعضهم بعض:
(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)) عليهم رضوان الله؛ (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18))، أصحاب الميمنة، أصحاب اليُمن يُعطَون في القيامة كتبهم بأيمانهم، ميامين على أنفسهم، وميامين على خلق الله؛ أصحاب الميمنة.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19))، شؤم العالم وبلية بني آدم مِن عند الكفار ومَن تبعهم، والذين كفرو بآياتنا هم أصحاب الشؤم، والبلاء، والإثم هم أصحاب الشؤم يعطون كتبهم بشمائلهم في الاخرة والشؤم مِن عندهم.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)) حتى كثير مما يدور مِن المعارك بين المؤمنين الضلع فيها للكافرين يثيرون بينهم الحروب، كما كنا ذكرنا ما يعمل اليهود بالأوس والخزرج؛
فاليوم نريد مِن نظرات الله مِن هذا الموقف الكريم ينزل رحمة على هذه الأمة التي تتقاتل، و الكفار يضحكون عليهم؛ حتى يرجعوا يتعانقوا ويخذل الله الكافرين.
يا الله، إنهم أوغروا صدور بعض الأمة على بعضٍ إيغارًا، إبليس وجنده كلهم مِن اتباعه إنسًا وجنًا الله يدفع شرهم، قال حبيب الرحمن: "أن يطمع في شيء ففي التحريش بينهم"؛ أما يخرج مسلم على أي مذهب كان مِن مذاهب المسلمين وهو يشهد أن: لا إله إلاَّ الله ويشهد أنَّ محمداً رسول الله ويقيم الصلاة؛ يخرجه إلى الكفر، إلى الشرك؛ ما يقدر الشيطان، ما دام يصلي، فالإيمان معه محفوظ والتوحيد محفوظ، ما دام يقيم الصلاة وهو مسلم؛ فإن يطمع في شيء؛ ففي التحريش بينهم فقط هذا الذي معه، وقد بلغ مبلغه في هذا التحريش، والله يخزيه ويرد كيده في نحره ويخذل اتباعه، وكل مَن دخل في قبضته يا الله وينصر محمد وينصر أحباب محمد، وينصر قرة عيون محمد، وينصر منهج النبي محمد، وسنة النبي محمد إنه -أكرم الاكرمين- -وأرحم الراحمين-.
(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(18) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) -اللهم اجعلنا منهم- (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20))
(إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) [الهمزة:8-9]، وجاءت في قراءتين: موصدة بالواو، ومؤصدة بالهمز، كلها في القراءات السبع، سواء في سورة الهمزة، أو في هذه السورة، مؤصدة، وموصدة يعني: مغلقة مطبقة، وذلك بعد:
ولذلك سألوا بعض العارفين مِن ماذا تبكي؟ قال: "من ساعة ذبح الموت"، قال: تلك الساعة التي أخاف أن تأتي وأنا في النار؛ فإذا جاءت وأنا في النار لا خروج أبدًا؛ (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:167].
اللهم أجرنا، اللهم أجرنا مِن النار ومِن العار -يا أرحم الراحمين- هكذا قال: أولئك (أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20))، هو المجير، اللهم أجرنا مِن النار، ومِن العذاب، ومِن العار، ومِن كل شدة في الدنيا والآخرة.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
25 رَمضان 1436