شرح كتاب تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب - 5 - صفات القدرة والإرادة الإلهية

للاستماع إلى الدرس

الدرس الخامس للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في كتاب: تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب للشيخ محمد أمين الكردي الإربيلي ، في مسجد سلطان سادة ترمذ ، منطقة ترمذ - فجر الخميس 23 شوال 1445هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمدلله جامعنا على الخيرات والمقاصد الحسناتِ الجميلات في اتباع خير البريات؛ سيدنا المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وعلى آبائه وإخوانه من رسل الله وأنبيائه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين؛ وعلينا وعلى الحاضرين وأحبابنا وأهلينا معهم وفيهم، وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.

ونقرأ في صفات الرحمن -جل جلاله وتعالى في علاه-؛ وقد حدثنا الشيخ مؤلف الكتاب الشيخ محمد أمين الكردي الأربيلي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- عن ست من صفات ربنا سبحانه المذكورة في كتابه العزيز عن الوجود وهو الصفة النفسية الذاتية، وعن خمس صفات ويسمونها أهل التوحيد السلبية أي: تسلب وتنفي عن الله أضدادها التي لا تليق بعظمته وجلاله وكبريائه -سبحانه وتعالى- وهي القِدم ومخالفته -سبحانه وتعالى- للحوادث وغناه -سبحانه وتعالى- بنفسه عن كل شيء وافتقار جميع ما سواه إليه.

والوحدانية فالقدم والمخالفة للحوادث وقيامه تعالى بنفسه والوحدانية هي الصفات التي نفت عن الله -تعالى- ما لا يليق بجلاله وعظمته؛ ويتكلم عن الصفة السابعة وهي صفة القدرة والحق -تبارك وتعالى- هو القادر على كل شيء، وقدرته أيضا ذاتية صفةٌ ربانية رحمانية قائمة بذاته -سبحانه وتعالى- يوجد بها ما يشاء ويعدم بها ما يشاء على وفق الإرادة والعلم، هذه القدرة المطلقة من أعظم أركان التوحيد والإيمان إدراكها وذوقها وهي من أعظم المقاصد في خلق هذا الوجود كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)

فحكمة خلق هذا الوجود أن ندرك هذا العلم وندرك هذه الحقيقة التي تخرجنا عن الوهم والخيال وعن جميع انواع الضلال ان الله على كل شيء قدير ومن أيقن أن الله على كل شيء قدير؛ لم يعتمد إلا عليه ولم يستند إلا إليه وعلم ان ما سواه عاجز وكل ما يُؤتى ما سواه من القدرة فهو موهبة منه بوصف يسمى قدرة وهو بالنسبة لجميع الخلائق حادثة ومقدرة ومحصورة، ولكن القدرة على الحقيقة له وحده فهو القادر على كل شيء (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..) [الطلاق:12] 

القدرة الربانية: تجلي عظمة الخالق في تدبير الكون:

قال: 

"7- وأما القدرة فهي : صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى يتأتى بها إيجاد كل ممكن وإعدامه على وفق الإرادة، سواء كان ذلك الممكن كلياً، أو جزئياً، جسماً، أو عرضاً، ويشمل ذلك ماله سبب كأَفعالنا الاختيارية من حركات وسكنات عند وجوب السبب وهو تعلق القدرة الحادثة بالمقدور على وجه المصاحبة، وكالإحرَاق عند مماسة النار، والشبع عند الأكل، والري عند الشرب ويشمل أيضاً ما لا سبب له كالسموات والأرض فلا تأثير لغيره تعالى في شيء ما؛ كما تقدم، وإنما قلنا يتأتى بها ولم نقل لها إشارة إلى أن التأثير للذات لا للقدرة، ومن أسنده إلى القدرة حقيقة فقد كفر.

فقول بعض العامة : القدرة فعالة وانظر فعل القدرة؛ إن كان ناشئاً عن اعتقاد وقصد فهو كفر لما فيه من الإشراك كما يكفر من اعتقد أن النار المحرقة حقيقة وأن الخبز هو المشبع، والسكين هي القاطعة مثلاً وإلا فلا يكفر. فالواجب أن نعتقد أن لله تعالى قدرة عامة التعلق بجميع الممكنات وضدها العجز عن ممكن ما."

 أي: أيَّ شئ كان "كما تقدم" في قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96]، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29].

  • فأفعالنا الاختيارية: خلْقهُ بقدرته.
  • وأفعالنا الغير الاختيارية: ما يصدر منا من دون اختيار فأفعاله وبقدرته.

وجميع ما يجري لنا ويجري منَّا؛ أفعاله -تعالى- وبقدرته -سبحانه وتعالى- ولا تأثيرًا استقلاليًا لنا ولا لقدراتنا؛ ولكنَّه فرَّق -سبحانه وتعالى-:

  •  بين ما جعل لنا فيه اختيارًا وإرادة وأناط به التكليف.
  • وما ليس لنا فيه اختيار.

وما من عاقل في الوجود إلا ويفرِّق بين حركة اختيارية للإنسان؛ يرفع بها هذا ويضع هذا، ويحمل هذا ويفتح هذا، وبين رعشةٍ بسبب مرض ترتعش بها يد الإنسان وتتحرك، هذه حركة غير اختيارية، هذه حركة ضرورية، فلابدَّ من التفريق بين الحركتين.

والتكليف منوط بالحركة الاختيارية؛ -بما جعله-، هذا من فضل الله ولطفه، أن جعل التكليف كله معلَّق بما آتَى المكلفين فيه اختيارًا، وما آتاهم فيه قدرةً مجازيةً يقدرون بها على فعل الأمر وتركه؛ فلا يأمرهم بأمر إلا وهم قادرون على الإتيان به وترْكه، ولا ينهاهم عن شيء إلا وهم قادرون على الإتيان به وتركه (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة:286]، -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

"وإنما قلنا يتأتى بها ولم نقُلْ لها، إشارة إلى أن التأثير للذات لا للقدرة، ومن أسنده إلى القدرة.." أي: الصفة، فإن التأثير لذات الحق -تبارك وتعالى-.

وهذا التجلِّي بالتقديم والتأخير، والرفع والخفض، والإشقاء والسعادة، وإعطاءِ المُلك من يشاء ونزعه ممن يشاء وما إلى ذلك من هذه الشؤون؛ كلها مجال للقدرة لا أنَّ هناك صفةً مستقلة تفعل، بل الفعَّال هو الله -جلَّ جلاله-، وهذا مَناط وتعلُّق القدرة بالممكنات؛ التقديم والتأخير، والرفع والخفض، والهداية والإضلال، والإصلاح والإفساد، والإصحاح والابتلاء بالأسقام والأمراض، وما إلى ذلك، هذه مناطُ وصفُ القدرة، والفعّال هو الله -جلَّ جلاله-.

ونبَّه الشيخ تنبيه على أنَّه يجب أن نعلم أنَّ الفعَّال لكل شيء هو الله.

"فقول بعض العامة: القدرة فعَّالة، وانظر فعْل القدرة؛" يقول: أي كأنّ هذا على ما هو متبادر للذهن يعني ناشئ عن إنَّهم يعلمون أنَّ الله بقدرته فعل ذلك فلا شيء إشكال في ذلك، ولكن لو سرى إليهم وهْمٌ من اعتقاد وقصد أنَّ القدرة فعالة بنفسها، يعني الوصف؛ والوصف: قائمٌ بذات الله، والفعَّال هو الله -جلَّ جلاله- لا شيء آخر، فنبه على ذلك.

قال: "إن كان ناشئاً عن اعتقاد وقصد، فقد كفر" لو أن معتقد اعتقد أن وصفًا من الأوصاف هو الذي يعمل من دون الله فقد كفر -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

"لما فيه من الإشراك، كما يكفر من اعتقد أن النار هي المُحْرقة حقيقة" -أي بذاتها- "وأن الخبز هو المشْبعِ" يعني: بذاته؛ والقصد تنبيه لعموم المؤمنين إلى أن يعلموا أنَّ الله رتب ذلك، وإذا أراد أن يؤخره تأخر، وإذا أراد أن يلغيه الْتغى، ولا يفعل شيء غيره بذاته ولا باستقلاله أبدًا، فهذا هو المعنى المراد للشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.

قال: "فالواجب أن نعتقد أن لله تعالى قدرة عامة -التعلُّق بجميع الممكنات- وضدها العجز" وحاشا لله أن يعجز عن شيء، والعجز وصف المخلوقين.

قال: 

"والدليل على وجوب اتصافه تعالى بالقدرة وعَلى أنها تتعلق -بجميع- الممكنات عقلاً، أن هذا العالم كله حادث أي مسبوق بالعدم كما وضحناه سابقاً، وكل حادث لا بد له من صانع ضرورة ولا بد للصانع من قدرة يتأتى بها إيجَاده وإعدامه، إذ لا يتأتى تأثير بدون قدرة، فلو لم يكن قادراً لكان عاجزاً ولو كان عاجزاً لما وجد شيء من هذا العالم، فلزم اتصافه تعالى بالقدرة، وأنه لو تعلقت قدرته تعالى ببعض الممكنات دون بعض لكانت حادثة لاحتياجها إلى مخصِّص كيف وقد تقدم أنها قديمة وإلا لزم الترجيح بلا مرجِّح وهو باطل، ونقلاً قوله تعالى : (إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:109]، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الطلاق:12]، وقوله تعالى :(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شيء في السَّمَوَاتِ وَلاَ في الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) [فاطر: 44]، وقوله تعالى : (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ) [فاطر:3]، وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر) [القمر:49]"

تسليم المؤمن لتقديرات الحكيم الخلاق:

 بتقدير وبتحديد وبتخصيص، فإنَّ واسع القدرة -جلَّ جلاله- له حكمة عظيمة تُبْهر العقول وهو من وراء عقول الناس فيما يقدم ويؤخر، ليست محكومة بعقل أحد ولا بعلم أحد؛ لا من الملائكة ولا ممن سواهم من الخلق، بل هي أوسع وأعظم من ذلك، وإنَّما يُعَلِّم من شاء من ملائكته وأنبيائه وأوليائه من أسرار الحكمة شيء كثير، ويُظهِر على العامة من أسرار حكمته في فعل هذا وتركه، وإلا فلا يحيط بحكمته في تحريك أيِّ ذرة أو تسكينها إلا هو -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

فله الحكمة البالغة وله الحجة البالغة -سبحانه وتعالى-، فهو الحكيم الذي رتَّبَ ودَبَّرَ كلَ شئٍ بتقديرٍ عظيم، ويُجري الأمور في الظواهر على غير ما تستوعبه كثيرٌ من عقول الناس، ولكن عقول من أحسن استخدام العقل تقضي بأنَّ له في كل شيء حكمة وإن لم يدركها هذا الإنسان، وإن لم يدركها هذا العقل؛ فهي تقضي بذلك، وبذلك يهتدون بالهدى والنور.

وجاء أنَّ سيدنا النبي سليمان -عليه السلام- سأل ربه مرة أن ُيريهُ العدل، عدْله بين الناس في الدنيا -قال: فما يظهر للناس- قال: فأوحى إليه أن اذهب الى المكان الفلاني، وقم انظر إلى النهر وانظر ماذا يجري فيه، فإنِّي أُرِيك نموذجًا من أسرار حكمتي وعدلي بين الناس في الدنيا، فذهب؛ وأمروا إليه أن لا يتكلم وأن لا يُحدِث شيء."، فرأى شابًا جاء وأخرج نقودًا كانت معه في صُرَّة وضعها، وخفف ثيابه واغتسل في النهر ثم لبس الثياب وركب فرسه ومشى ونسي الصرة -فيها مال- وهذا مأمور ألا يتكلم فبقي ينظروإذا بشاب آخر جاء ورأى الصرة فحملها وسرقها وذهب، وإذا بعده بشائب كبير السن يصل إلى عند النهر ويخفف ثيابه ويغتسل، وإذا بالشاب الأول الذي نسي الصرَّة يصل على فرسه.

وجاء يقول لهذا الشايب: أين الصُرَّة التي كانت فيها نقودي في هذا المكان؟ قال: أنا ما رأيت شيء. قال: تكذب، ما جاء بعدي إلا أنت في هذا المكان، فأنت الذي أخذت الصرَّة. قال: ليس أنا الذي أخذتها. قال: أنت كذاب، فقتله. تَعجَّب! قال: يا رب واحد يسرق، والثاني يُقتَل ظلم، وهذا يأخذه، كيف العدل بهذا؟!

فأوحى الله إليه: إن هذا الشايب كان قد قتل أب هذا الشاب خُفْية -غِيلة- ولم يعلم به أحد، فمكَّنتُ اليوم ولده أن يأخذ القصاص لأبيه، وإنَّ والد هذا الشاب كان قد سرق على والد الشاب الثاني الذي جاء يأخذ نقودًا بمقدار هذه النقود ولم يدرِ به أحد، فاليوم مكّنتُ ابن ذاك أن يأخذ حقه من ابنِ هذا، من ترِكة هذا، فهذا أخذ مقدار نقوده، وهذا قتل هذا بنفس أبيه.

قال: سبحانك،، لا يحيط بحكمتك محيط، ظاهر الأمر أنه مشكلة وإجحاف وظُلم ما في شي، وكلُّه عدل بحكمة الله، وكم وراء هذا من أسرار ولا يحيط بحكمته إلا هو.

ولذا علَّمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نقول: "قَدَّرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ"؛ مهما غُلِبنَا عن أمر، ومهما أعجَبَنَا شيء في الدنيا نقول: "لبيك إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ" ونُسلِّمَ الأمرَ لله فهو أعلم وأحكم في جميع الشؤون، رضينا بقضاء الله وبحكمه وسألناه كمال الرضا والتوفيق، وأن يهبنا من خيره ما هو أهله، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

قال: "وكذلك إجماع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبالجملة، فالكل مستندٌ إليه تعالى ابتداءً من غير واسطة على وجه الاختيار؛ عقلاً ونقلاً وإجماعاً." هذا ما يتعَّلق بالقدرة، وكم في شأن القدرة ما لا يُوصف وما لا يُكَيَّف، وعلَّم الله خواص خلقه من أسرار القدرة ما لا يمكن التعبير عنه ولا يحيط بها إلا هو.

الإرادة الإلهية: المشيئة المطلقة في تخصيص الممكنات:

قال:

"وأما الإرادة فهي: صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى يتأتى بها تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه دون بعض من الممكنات المتقابلات على وفق علمه تعالى . فكل ما علم أنه يكون أو لا يكون فذلك مراده جل وعلا فلا يقع في ملكه تعالى إلا ما أراد، وقولنا (بها) إشارة إلى أن التخصيص للذات بها لا لها. والمتقابلات ستة وهي: الوجود والعدم والمقادير والصفات والأزمنة والأمكنة والجهات. فالمُمكن يقبل كل واحد منها قبولاً مساوياً لقبول ما يقابله، وليس أحد المتقابلين أولى بالقبول من الآخر فهو سبحانه وتعالى :

1 - يخصص الممكن بالوجود بدلاً عن مقابله وهو العدم، أو بالعدم بدلاً عن مُقابله وهو الوجود، وليس الممكن أولى بقبول أحدهما منه بقبول الآخر .

2- ويُخصصه بالمقدار المخصوص في الطول والقصر والتوسط بينهما بدلاً عن سائر المقادير التي يقبلها الجرم على السواء.

3- ويُخصصه بصفة مخصوصة بدلاً عن مقابلتها كالسواد بدلاً عن الحمرة أوالبَياض مثلاً. وكالحركة بدلاً عن السكون والعلم بدلاً عن الجهل. وغير ذلك من الصفات المخصوصة التي يقبلها الجرم ويقبل ما يقابلها على السواء.

4- ويُخصصه بالوجود في زمان كذا بدلاً عن مقابله مما قبله أو بعده، بأن يوجده في ساعة كذا من يوم كذا في شهر كذا من سنة كذا بدلاً من الزمان المتقدم والمتأخر .

5 ـ ويُخصصه بالوجود في جهة كذا بدلاً عن مُقابله كوجُوده ببولاق بدلاً عن وجوده بالعراق.

6 - ويُخصصه بالوجود في جهة كذا بدلاً عن مقابلها كوجُوده في المشرق بدل المغرب. فيجب أن نعتقد أن الله تعالى إرادة عامة التعلق بجميع الممكنات وضدها الكراهة .

والدليل على وجوب اتصافه تعالى بالإرادة وأنها عامة التعلق بجميع الممكنات، واستحالة الكراهة عليه عقلاً أنه لو لم يكن مريداً لكان مِكْرَهاً والكراهة نقص في حقه تعالى والإرادة كمال له والنقص في حقه تعالى محال، وأيضاً لو لم يكن مريداً مختاراً لكان مقهوراً مجبوراً ، فلا يكون قادراً كيف وقد سبق البرهان على وجوب اتصافه تعالى بالقدرة وأنها عامة التعلق بجميع الممكنات وأيضاً فقد خصص الحوادث ببعض الطرفين الجائزين على السواء، وكل مخصص لا بد أن يكون مريداً مختاراً ولو تعلقت ببعض الممكنات دون بعض لكانت حادثة لافتقارها إلى مخصص يخصصها بالبعض وقد تقدم دليل وجوب قدم صفاته تعالى وإلا لزم الترجيح بلا مرجح وهو باطل.

ونقلاً قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لِآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس :99]، وقوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ له كُنْ فَيَكُون) [النحل:40] ، ولا فرق بين المشيئة والإرادة.

واعلم أن القدرة والإرادة لا تتعلقان بالواجب ولا بالمستحيل بل لا تتعلقان إلا بالممكنات وبيان ذلك مما يطول به المقام، وبالجملة فيجب أن نذعن ونقر بأن كل ما برز في ملك الله من العدم إلى الوجود فهو مخلوق مقدور لله وحده على وفق ما أراده تعالى أزلاً فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهو ولي التوفيق"

ثم ذكر الإرادة: الصفة الثانية من صفات المعاني الإرادة.

قال: 

"وأما الإرادة فهي: صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى، يتأتى بها تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه دون بعض من الممكنات المتقابلات على وفق علمه تعالى . فكلُّ ما علِم أنه يكون أو لا يكون فذلك مراده -جل وعلا- فلا يقع في مُلكه تعالى إلا ما أراد،" -هذا هو المَلِك- "وقولنا (بها) إشارة إلى أن التخصيص للذات بها لا لها." -ليس للإرادة-.

"والمتقابلات ستة وهي: الوجود والعدم والمقادير والصفات والأزمنة والأمكنة والجهات." هذه كلها يخصص الله بها ما يشاء بالإرادة.

"فالمُمكن يقبل كل واحد منها قبولاً مساوياً لقبول ما يقابله" إمَّا يكون موجودًا أو معدومًا، والله يخصص بإرادته فيُوجد هذا ويعدم هذا.

"وليس أحد المتقابلين أولى بالقبول من الآخر" كذلك المقادير؛ طوله، عرضه، قصره، لونه كلها صفات الله يحكم فيها. "وليس أحد المتقابلين أولى بالقبول من الآخر" كذلك الكون في هذا الزمان وفي هذا الزمان، فوجودنا في هذا العالم من آثار عظمة الله تعالى.

الإنسان بين قهر القدرة وغرور الاستغناء:

أي مخلوق منا -معشر بني آدم- وغيرنا رتَّبَ أن يكون خلْقهُ في هذا الزمان؟ نريد واحد منهم هو رتَّب أن يكون خلْقهُ في هذا الزمان! هذا المتطوِّر المتقدِّم هل اختار وقت ولادته؟ هل اختار وقت وجوده في العالم؟ فجميع من في العالم جاء بقدرة قادرٍ قهَّار، فهم شواهد على عظمته لو عقلوا، ومع ذلك يكابرون وينكرون، ولا واحد منهم اختار بلاده؛ ولا اختار أمه؛ ولا اختار أباه؛ ولا اختار الزمن الذي يحيا فيه.

أما ترى، من أين جئت؟! وهذا القهر محيط بك من كل جانب، ثم تكابر! ثم تنكر! ثم تجحد! ثم تقول !! ما لك؟! ألا تعقل؟ (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ ..) [الإنسان:1-2] فما فينا صغير ولا كبير، ولا صاحب تكنولوجيا، ولا من وصل للقمر كما يدَّعي؛ رتَّب خلْقه؛ ولا زمنه؛ ولا وقته؛ ولا أمه؛ ولا أباه؛ كلهم مقهورون، فالذي جاء بكم بهذه القدرة كيف تتنكرون له ولعظمته؟ وكيف تخالفون أمره -جلَّ جلاله-؟ ما ذاك إلا الخذلان -والعياذ بالله تعالى-؛ لهذا كلهم في القيامة يقولون: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10]، لكن ضيعوا عقولهم وسيَّبوا عقولهم في الدنيا، وما أحسنوا استعمالها.

والحمد لله على نعمة الإسلام، يا رب زدنا إسلام، كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه، يا أرحم الراحمين.

 قال: "1- يخصص الممكن بالوجود بدلاً عن مقابله وهو العدم، أو بالعدم بدلاً عن مُقابله وهو الوجود، وليس الممكن أولى بقبول أحدهما منه بقبول الآخر." بل هو الذي يخصص ذلك، (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آلعمران:6]، لَوْننا منه ليس باختيارنا، طولنا وعرضنا منه ليس باختيارنا، من منهم يقول أنا خلِقتُ بمقدار كذا؟ ويصل طولي في الحياة إلى مقدار كذا باختياري؟ ولا باختيارك، ولا باختيار أمك، ولا باختيار أبيك، ولا باختيار حكومتك، ولا باختيار حزبك، ولا باختيار الهيئة، ولا باختيار أحد؛ باختيار الخلَّاق -جلَّ جلاله-، أنت وهم؛ يختار لكم الطول، يختار لكم القِصر، يختار لكم اللون، يختار لكم المكان، يختار لكم الزمان -لا إله إلا هو-، وفي كل شيء له آية تدلُّ على أنَّه الواحد -جلَّ جلاله-.

يقول: "- ويُخصِّصه بالمقدار المخصوص في الطول والقصر والتوسط بينهما بدلاً عن سائر المقادير التي يقبلها الجِرم على السواء."

"3- ويُخصصه بصفة مخصوصة بدلاً عن مقابلتها" قد يقول بعضهم أحيانًا: نستخدم بعض المواد تكبِّر حجم الفاكهة مثلًا ونوسِّع قدْرها، ونقول له: هذا أيضًا ليس باختيارك، وجَعل هذا التكبير في توسيع المادة في هذه المادة مِنْ جَعلِه هُو ليس مِنْ جَعلِكَ أَنتْ، هو جعل هذا مُسبب لهذا، ثم إن أراد أن يمشِّيه مشَّاه كما يمشِّي الري عند تناول الماء، وإن أراد أن يقف أوقفه، وتستعمل السبب كله وبعد ذلك تفسد الثمرة عليك، تفسد النتيجة عليك، ولا ما قد حصل؟ هذا حصل!.

فإذًا ليس الفعَّال المادة ولا اختيارك أنت، علَّمك هو بأن هذه المادة تؤثر كذا، وهذه المادة تؤثر كذا، وهو الذي رتَّب تأثيرها ليس أنت، وليس الشركة، وليس الجهاز، هو الذي رتَّب هذا وهو الذي قدَّره، فما عندكم إلا أن تمشون تحت قدرته، فإذا قلنا لك أنت الآن بما تدَّعي القدرة والعظمة والتقدم في العلم، اترك المادة هذه، نريد بدل هذه المادة، مادة أخرى تفعل نفس المفعول، إعمل ! تحرك؟! ولا يقدر بشيء، إلا أن يستقرئ مراد الله في الموجودات، كيف هذا يؤثر في هذا؟ إلى أي حد وإلى أي مدى؟ وبأي وجه؟ ولا يقدر هو أن يخلق تأثير من عنده، ولا يُبدِّل تأثير هذا إلى تأثير هذا -لا إله إلا الله الواحد القهار-.

وما أكثر غرور الإنسان!! ما أكثر غرور الإنسان؛ يغترُّ كثيرا، (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق:6-7] كيف رآه استغنى؟! يعني: تصوَّر هو برؤيته وبوهمه أنَّه استغنى، وإلا ما في أحد مستغني أصلًا، ولا الملحد ولا الكافر ولا المؤمن، لا أحد مستغني، كلهم تحت قدرته وتصرفه لكن (.. أَن رَّآهُ ..) هو ظن نفسه استغنى، فيطغى وبعد ذلك تأتي له لحظة ينتهي كل شيء، ويعلم أنَّه كان في وهم وفي خيال.

قال تعالى عن فرعون: (.. حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ..) [يونس:90]، وكيف أنت تطرح -من قبل- عقائد وقواعد وتقول (.. أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، وبعد ذلك تترفَّع وتتجبَّر أكثر تقول: (.. مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي ..) [القصص:38]، والآن في لحظة واحدة (لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ..) هذا ربُّ موسى هداك وارجع معهم هو ربنا، أنا لستُ رب ولا أحد غيري ولا أحد ثاني رب، إلا هو، انتهى كل شيء في لحظة، قال تعالى: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:91].

فما أعظم غرور الإنسان (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [عبس:17-21]، وهو مع ذلك يقول أنا وأنا وأنا ولا إله إلا الله، الحمد لله على نعمة الإيمان، اللهم زدنا إيمانًا.

قال: 

"3- ويُخصِّصه بصفة مخصوصة بدلاً عن مقابلتها؛ كالسواد بدلاً عن الحمرة أوالبَياض مثلاً. والحركة بدلاً عن السكون والعلم بدلاً عن الجهل. وغير ذلك من الصفات المخصوصة التي يقبلها الجِرم ويقبل ما يقابلها على السواء.

4- ويُخصِّصه بالوجود في زمان كذا بدلاً عن مقابلِهِ مما قبله أو بعده، بأن يوجده في ساعة كذا، من يوم كذا، في شهر كذا، من سنة كذا، بدلاً من الزمان المتقدم والمتأخر"

والأجل كذلك (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34].

"5ـ ويُخصصه بالوجود في جهة كذا بدلاً عن مُقابلهِ، كوجُوده ببولاق بدلاً عن وجوده بالعراق" مثلاً وجوده في ما وراء النهر، وجوده في أرض العرب، وجوده في المغرب، وجوده في أمريكا، هو الذي رتبها وخصصها سبحانه وتعالى ويتصرف فيها كما يشاء.

 

"والدليل على وجوب اتصافه تعالى بالإرادة وأنها عامة التعلق بجميع الممكنات، واستحالة الكراهة عليه عقلاً أنه لو لم يكن مريداً لكان مِكْرَهاً والكراهة نقص في حقه تعالى والإرادة كمال له والنقص في حقه تعالى محال، وأيضاً لو لم يكن مريداً مختاراً لكان مقهوراً مجبوراً ، فلا يكون قادراً كيف وقد سبق البرهان على وجوب اتصافه تعالى بالقدرة وأنها عامة التعلق بجميع الممكنات وأيضاً فقد خصص الحوادث ببعض الطرفين الجائزين على السواء، وكل مخصص لا بد أن يكون مريداً مختاراً ولو تعلقت ببعض الممكنات دون بعض لكانت حادثة لافتقارها إلى مخصص يخصصها بالبعض وقد تقدم دليل وجوب قدم صفاته تعالى وإلا لزم الترجيح بلا مرجح وهو باطل. 

ونقلاً، في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لِآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاًۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس :99]، وقوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ له كُنْ فَيَكُون) [النحل:40]،" -أي مجرد الإرادة تنفعل بها الأشياء- "ولا فرق بين المشيئة والإرادة"

ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بسم الله والحمد لله والخير والشر بمشيئة الله.

"واعلم أن القدرة والإرادة لا تتعلقان بالواجب ولا بالمستحيل بل لا تتعلقان إلا بالممكنات وبيان ذلك مما يطول به المقام، وبالجملة فيجب أن نذعن ونقرَّ بأن كل ما برز في مُلك الله من العدم إلى الوجود؛ فهو مخلوق مقدور لله وحده على وفق ما أراده تعالى أزلاً فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهو ولي التوفيق"

وقد كتب من قبل خلق السماوات والأرض، مجلس في هذا المسجد، ويكون المسجد بهذا الشكل، ويكون فيه فلان وفلان وفلان بأسمائهم، ويدخل الساعة كم ويخرج الساعة كم، ويجلس على أي هيئة، ويتحرك كم حركة؛ محصيَّة من قبل خلق السماوات والأرض، ما جئنا إلا فقط نُمشِّي الشريط هذا القديم الذي رتبه الله تعالى، ويمشي كما أراد من دون تقديم.

فنحمده على ما جمعنا على الإسلام وعلى الإيمان وعلى المودة في الله والمحبة في الله، المجيئ إلى إخواننا هؤلاء، ولاءً لهم في الله -تبارك وتعالى- وجدنا المسلمين في المنطقة يوالونهم في الله لأنَّهم من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففوق عموم الولاء الواجب للمؤمنين والمؤمنات، فالله يجعل هذا كله محل رضوان منه وسبب لقربنا منه ومن رسوله، وسبب لحشرنا مع رسوله يوم القيامة، وجمعنا في مواطن المتحابين في الله والمتزاورين في الله والمتجالسين في الله، اللهم أكرمنا بذلك واسلك بنا أشرف المسالك، واعذنا من الزيغ والمهالك، واقبلنا على ما فينا وأَقبِل بوجهك الكريم علينا برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين، بسر الفاتحة إلى أرواح مؤلف هذا الكتاب والمتقدمين في هذا المكان من سلطان السادات ومن جميع الذرية الغرّاء، ومن سيدنا الإمام محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، والإمام الحكيم الترمذي، وجميع من تقدم من الأولياء والعلماء والصلحاء خاصة، وأهل لا إله إلا لله عامة، ووالدينا ووالدي الحاضرين خاصة، وموتانا وموتى المسلمين وأحياءهم إلى يوم الدين عامة.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تاريخ النشر الهجري

25 شوّال 1445

تاريخ النشر الميلادي

03 مايو 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام