(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس الثامن للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في كتاب: تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب للشيخ محمد أمين الكردي الإربيلي ، في مسجد أبوحفص، مدينة بخارى - الجمعة 24 شوال 1445هـ .
الباب الثاني
في النبوات وهي المسائل التي يبحث فيها عما يتعلق بالأنبياء
هذا هو الجزء الثاني من جزأي الإيمان. لأن الإيمان مركب من جزأين :
أحدهما الإيمان بالله تعالى، وهو حديث النفس التابع للمعرفة بما يجب له تعالى وما يستحيل وما يجوز وقد تقدم بيان ذلك .
والثاني الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أيضاً حديث النفس التابع للمعرفة بما يجب لهم وما يستحيل وما يجوز والمراد. بحديث النفس قبولها وانقيادها لما عرفته بحيث لا يمنعها الكبر عن الإقرار به.
"واعلم أن الرسول هو: إنسان ذكر حر بعثه الله -سبحانه وتعالى- إلى عبيده ليبلغهم عنه أحكامه التكليفية والوضعية. وهي كون الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً وما يتبعها من وعد ووعيد ونحو ذلك . والنبي هو من أوحي إليه بشرع يعمل به سواء أمر بتبليغه أو لم يؤمر، وأن رسالة الرسل لطفٌ ورحمةٌ من الله يَخصُّ بها من يشاء من عباده، وليست النبوة مُكتسَبة برياضات ولا مُجاهدات ولا غير ذلك، بل هي فضل منه وهبة تتضمن حكماً ومصالح.
وطريق ثبوت الرسالة هي المعجزة: وهي أمر خارق للعادة قصد به إظهار صدق من ادّعى النبوة على وفق الداعي، كانفجار الماء من بين الأصابع، وعدم إحراق النار، ذلك أنها بمنزلة صريح التصديق القولي من الله تعالى لما جرت به العادة من أن الله تعالى يخلق عقبها العلم الضروري بصدق المدعي، وإذا علمت أن إيماننا لا يتم إلا بمعرفة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ولا يحصل لنا الإيمان بهم إلا بمعرفة ما يجب وما يستحيل وما يجوز في حقهم عليهم -الصلاة والسلام- فنقول:
يجب لهم عليهم الصلاة والسلام:
1- الصدق في كل ما يبلغونه عن المولى تبارك وتعالى ويستحيل عليهم ضده وهو الكذب في شيء من ذلك. والصدق هو مطابقة الخبر لما في الواقع ونفس الأمر، كقولهم: إن الله واحد ما لكم من إله غيره، فهم صادقون في ذلك، لأن خبرهم هذا مطابق لما في الواقع. والكذب أن لا يكون الخبر مطابقاً لما في نفس الأمر، والدليل على وجوب الصدق لهم -عليهم الصلاة والسلام- واستحالة الكذب عليهم في ذلك عقلاً أنه لو وقع منهم الكذب في شيء مما بلغوه للناس لزم أن يقع الكذب في خبر المولى -تبارك وتعالى-، لأنه أشار إلى تصديق الرسول بإظهار المعجزة على يديه، وتصديقه بذلك مُنزَّل منزلة تصديقه بالكلام الصريح، فإِظهار المعجزة مُنزَّل منزلة قوله تعالى - صدق عبدي في كل ما يبلغ عني- لا فرق بينهما أصلاً، فلو كذَّب الرسلُ لكان المولى تعالى كاذباً في تصديقه لهم، ولا شك أن الكذب مستحيل في حقه تعالى، لأن خبره على وفق علمه، وعلمه لا يحتمل النقيض، فكذلك الكلام التابع له، فلزِم أن يكون الكذب في حقهم -عليهم الصلاة والسلام- مستحيلاً، ولزِم أن يكون الصدق واجباً لهما ونقلاً قوله تعالى: (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسولُهُ) [الأحزاب:22].(وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52].
2- ويجب في حقهم -عليهم الصلاة والسلام- الأمانة ويستحيل عليهم ضدها وهي الخيانة فأما الأمانة فهي حفظ جميع الجوارح الظاهرة والباطنة من التلبُّس بِمنهيٍّ عنه نهي تحريم أو كراهة ولو خفيفة. وأما الخيانة فهي عكسها. والدليل على وجوب الأمانة لهم -عليهم الصلاة والسلام- واستحالة الخيانة عليهم عقلاً أنا نعلم أنهم -عليهم الصلاة والسلام- أكرم الخلق على الله وأتقاهم لله وأعرفهم بالله وأشدهم خوفاً من الله، حيث اصطفاهم واختارهم دون غيرهم، وجعلهم سفراء إلى خلقه لتبليغ ما شرعه لهم من الأحكام مع تصديقه لهم فيما بلّغوه، فوجب أن يكونوا قدوة لأممهم، وقد أطلق الله تعالى في متابعتهم، ولم يجعل فيها تقييداً فلزِم أننا مأمورون بالاقتداء بهم في جميع أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فلو خانوا بفعل محرم أو مكروه للزم أن يكون الشيء مأموراً به ومنهياً عنه وهو باطل، لما فيه من التناقض، فوجبت لهم -عليهم الصلاة والسلام- الأمانة، واستحال عليهم ضدها وهي الخيانة ونقلاً قوله تعالى : (إنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) [الشعراء:107] وقوله -جلّ ذكره- : (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) [الأنفال:58]. وقد علمت أنهم محبوبو الله تعالى فوجب أن لا يكونوا خائنين، وقد ثبت إجماع أهل الحق على أمانة الأنبياء والمرسلين، وأنهم مُنزَّهون عن جميع العيوب والآثام، فوجب التصديق بِأمانتهم -عليهم الصلاة والسلام-"
الحمدلله،، مكرمنا بالتوجّه إليه والتذلل بين يديه فضلاً منه ورحمةً منه واصلةً منه إلينا، اللهم لك الحمد شُكرا ولك المنُّ فضلا، وصلِّ على صاحب المقام الأعلى، خير الملأ سيدنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدالمناف وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن والاهم فيك وعلى منهجهم سار وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأنوار والأسرار وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقربين وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم ياأرحم الراحمين.
أما بعد،، فإننا في توالي الدروس مررنا على ما ذكر الشيخ محمد أمين الكردي الأربيلي عليه رحمة الله تبارك وتعالى، من أوصاف الحق وصفاته العشرين المذكورة في القرآن، ثم ذكر لنا الصفة الجائزة وهي فعلُ كل ممكن وتركه، فله أن يفعل ما يشاء، وله أن يُعدم ما يشاء، وأن يُوجد ما يشاء، وأن يُقرِّب من يشاء، وأن يُبعد من يشاء، وأن يُشقِي من يشاء، وأن يُسعد من يشاء، وأن يُعطِيَ من يشاء، ويمنع من يشاء؛ فهو الملك، فالكل مملكته والعبيد صَنعتُه وخلقه. لا اله الا هو -جل جلاله وتعالى في عُلاه-.
فلا يجب عليه شيء، وذَكَر إن ما جعل من إثابة المُحسنين وهو يضاعف الثواب مَحْضُ فضلٍ منه له لا سبيل للإيجاب عليه. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) [النساء:40] هذا بمحض الفَضْل منه -جلّ جلاله- (يؤتِ) فوق المضاعفة (ويُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40]
فهل حدّثك أحدٌ عن الأجر اللدني؟ نحن نُحدّث عن العلم اللدنّي وإنه علمٌ شريفٌ عظيم، وهذا أجرٌ لدنّي منه، يقول سبحانه وتعالى (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ويُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) ماأعظم هذا الأجر !
قال في الآية الأخرى (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) ولكن (ويُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) حتى ذكر بعض العارفين أن كثيرا من الناس في القيامة يجِدون في صحيفتهم حسنات كثيرةً كبيرة مايذكرون أنهم عمِلوها، فيقولون ربنا ماهذا؟! انّا لم نعمل هذا، فتقول الملائكة: إن أخاكم في الله أو شيخكم فلان فاضت حسناته، ضاعفها الله مضاعفات لا غاية لها، فقُسِّمت على أصحابه . فهذا نصيبكم لأن مضاعته ليس لها حدّ -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- (ويُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)
ثم ينتقل الى الباب الثاني
الباب الثاني
في النبوات وهي المسائل التي يُبحث فيها عمّا يتعلق بالأنبياء صلواتُ الله عليهم وسلامُه عليهم وعلى آلِهم وصحبهم وتابعيهم.
قال تَعَالَى : (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75] فهم محل الاصطفاء -أنبياء الله صلوات الله عليهم- ومحلّ اجِتبَاء الخلّاق -تعالى وجل في عُلاه- وهم أفضل الخلق، أنبياء الله ورسله صَلوات اللَّهُ وسلامه عليهم وآلهم وأصحابهم وتابعيهم؛ فيجبُ على كلِّ مُؤمن ألا يكونَ في قلبه أعظم من في الخلق أجمعين من الانبياء، ويكون مُناقضاً لحقيقةِ وكَمالِ ايمانه ان يَعتقِد عظمةً في ايّ مخلوقِ غير الأنبياء يُشابِه الانبياء ويُماثِل الانبياء كائناً من كان. فهولاء اصطفاهم المُنشِئ البارئ الفاطر-سبحانه وتعالى- فهم أفضل الخلائق على الاطلاق، لذا حتى جعل الله سبحانه وتعالى الجنّة ومافيها ثوابا مُعدّاً لِمَن آمَن بالأنبياء، ونَصَّ على ذلك في القرآن: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ..) [الحديد:21].. قبلها قال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ۖ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ..) [الحديد: 19] فقيل (وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) مبتدأ وخبره: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)، فقيل أنه خبر ثاني: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ۖ وَالشُّهَدَاءُ) فالصدّيقون والشهداء من تحقّقوا بحقائق الإيمان بالله ورسُلُه.
وهكذا لم يقبل الحق تعالى الايمان به من دون الايمان بِرُسُله وملائكته وكتبه -سبحانه وتعالى-. لمّا قال اليهود لسيدنا محمد مَن يَأتيك بالوَحي مِن الملائكة؟ قال: جبريل، قالوا: ذاك عدوُّنا، انزلَ العذاب على قومنا ما نحبه، فلو كان ملَك آخر يُنزِل الوحي رُبّما اتبعناك.
أنزل الله: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ..) [البقرة:97-98] سمّاهم الله أعداء له بمعاداتهم لجبريل، هم ما قالوا: نحن أعداء الله تعالى، قالوا: نحن عدوّنا جبريل؛ فسمّاهم الله أعداء له،
قال:(مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) [البقرة:98].
وهذا معنى ما جاء في الحديث القدسي: " مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْب" فهو -سبحانه وتعالى اعلن الحرب على مَن عادى ولياً من أوليائه، فكيف بملائكته وكيف بأنبيائه؟
فالأنبياء والمرسلون أفضل خلق الله -جل جلاله- وأفضلُهم أولو العَزم. وبذلك قال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35] واختُلِف فيهم. والصحيح عند أهلِ السُّنّة أنَّهم خمسة:
هؤلاء الخمسة أولو العزم، أي أولو الصبر تحمّلوا المشاق، أولو القوة والجلد، الصبر العظيم ، قال تعالى (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)
ويؤيد هذا القول ماذكر الله هؤلاء الخمسة في آيتين من كتابه:
فذكر هؤلاء، فهؤلاء الأربعة مع نبينا هم أولو العزم من الرسل وقيل أنهم سبعة وقيل أنهم أكثر، وهذا القول المُعتَمد عند اهل السُّنّة انهم الخمسة هؤلاء.
محمدٌ ابراهيمُ موسى كليمهُ *** فعيسى فنوحٌ هم اولو العزمِ فاعلمِ
قال: هذا هو الجزء الثاني من جزأي الإيمان لأن الإيمان مركب من جزأين:
لأن من أهل المَعرفة أو الايمان مَن يَجْحَد ولكن ما يُعَد من المؤمنين، اكثر المشركين من قريش كانوا يعلمون أنّ رسول الله صادق، وأنه مرُسَل من عند الله، لكن ما انقادت نفوسهم لهذا وعاندوا، فلهذا لم يُعَدُّوا من المؤمنين، كما قال الله في قوم فرعون لما جاءهم سيدنا موسى بالآيات: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ) [النمل:14]، وقال عن هؤلاء الذين يكذّبون بنبينا: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام:33] عندهم جحود، لكن هم يعلمون أنك صادق.
ومثل اليهود والنصارى وعلماؤهم خاصّة، يوقنون بأنه رسول الله، ويقول قائلهم: إن معرفتي بمُحمد كمَعرفتي لابني، ومعرفتي لِمُحمد أشدّ. قال تعالى: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ۘ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام:20]. ما رضوا أن يُؤمنوا، وهم يعلمون أنّه رسول الله.
وهذا ما حَكَته سيّدتُنا صفيّة بنت حُيَي أم المؤمنين، فقد كانت صغيرة لمّا اول ما وصل رسول الله الى المدينة، وذهب أبوها وعمّها الى عند النبي ﷺ يرَونه، جلسوا معه ورجَعوا، فلمّا رجعوا قالت: كنت عندهم صغيرة، اخرَجوا من كان عِندهم، وبِحُكمِ أنّي صغيرة ماالتفتَوا إليّ، واخذوا يتكلمون ويقول: كيفَ رأيت الرجل؟ قال: انه الذي بَشَّر به موسى، هذا هو الذي بشّر به. قال: فما قرّرت؟ قال: معاداتُه إلى الموت! انظُر، يعلم أنهُ الذي بَشّرَ به موسى لكنْ قرّر مُعاداته! تَبَع نفسه وهواها وظنَّ انه ستُسحَب منهم على قولِهم البِساط من تحتهم - بساط النخوة والمعرفة وأنهم أهل الكتاب وانهم أهل السلطة الزمنية- ظنوا ذلك، مع أنهم لو اتّبعوه لَسَعِدُوا في الدنيا والآخرة ولازدادوا عِزّاً وكرامة، ولكن النفس تعمل بالإنسان هكذا، قرروا معاداته -والعياذ بالله تعالى- ولكن من خلال ما تَسمع مِن احاديثهم وكذا كانت مُتأثِّرة بعض الشيء، ولمّا جاء السَّبي وسُبِيَت ثم تزوجها ﷺ. قالت دخل عليّ فجَعَل يُحدِّثُني يقول: قُلتُ لهم كذا وقالوا كذا، قالت: فذهب جميع ما في بالي وقلبي، وعَلِمْت أنّ قومي كانوا هُم الظالِمون وكانوا هم الخائنون للعهد وكانوا هم، وأنّ رسول الله عاملهم بالرحمة وبأقصى حدود الشفقة، وأَبَوْا إلا الخيانة والمال حتى عامَلَهم بالسيف صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه وسلم.
يقول: "واعلم أن الرسول هو: إنسان ذكر" -المُراد بالمُرسلين في الإيمان بهم خُصوصا البَشر- "إنسان ذكر" فلم يبعث الله امرأةً؛ نبيّاً ولا رسولاً قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا) [النمل:43] "إنسان ذكر حر" فما يبعث الله نبيّا مَمْلوكا ورَقيقا، "بعثه الله سبحانه وتعالى إلى عبيده ليبلغهم عنه أحكامه التكليفية والوضعية. وهي كَون الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً وما يتبعها من وعد ووعيد ونحو ذلك . والنبي هو من أوحي إليه بشرع يعمل به سواء أُمِرَ بتبليغه أو لم يُؤمر"، فهذا ما فرّقوا به بين النبيّ والرسول.
وقالوا إنّ كُلَّ رسولٍ نبي، وليسَ كُلُّ نبيٍّ رسول. فجعلوا بينهما العُموم والخُصوص مِن وَجه.
ولكن الذي عليه عامّةُ أهل السُّنة في التفريق بين النبي والرسول هو أن النبوة مُجَرَّد الوَحْي بأيِّ شَرعٍ ليَعمل به فإن كان لم يُؤمَر بتبليغه فهو نبيٌّ فقط، وإن أُمِرَ بالتبليغ فهو نبيٌّ ورسول. فكل رسولٍ نبيّ، وليس كل نبيٍّ رسول؛ بينهم عُموم وخُصوص مُطلق، ليس كلُّ نبيٍّ رسول لكن كل رسول فهو نبي.
قال: "وأن رسالة الرسل لطفٌ ورحمةٌ من الله يخصُّ بها من يشاء من عباده، وليست النبوة مُكتسَبة برياضات ولا مُجاهدات ولا غير ذلك، بل هي فضل منه وهبة تتضمن حكماً ومصالح"؛ قال تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124]. وقد كان في عهده ﷺ بعض مِن الذين أخذوا عِلم الكتاب وتعبّدوا وظنّوا لمّا سمِعوا الأخبار في الكُتب وعن عُلماء أهل الكتاب قُرب وَقت النبي الذي يُبعَث آخر الزمان، ظنُّوا أنه منهم، هذا وحمَل بعضُهم الذي كان في الطائِف، حَمَلوا على ألّا يؤمنوا والعياذ بالله- كان يتوَقَّع انه هو الذي سيُنبّأ، فلما جاءت النبوة عِند غيره ما طاوعته نفسُه ان يُؤمِن برسول الله ﷺ، (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)؛ بل لمّا انتشر من اهل الكتاب أنّه قَرُب وقت النبي وأنها أيّامُ ولادته، نبيٌّ يُسمَّى مُحمَّد، يَختُم الله به النبوّة، فوُلِد مَواليد في تلك السنة لِجماعة مِن قُريش والعرب فسمّوهم محمد، وصلَ عددهم إلى خمسة عشر، ما أحَد منهم نبي؛ لكن (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124] لمُحمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب هو المَقصود وهو المُراد لله -جلّ جلاله.
قال "وطريق ثبوت الرسالة هي المعجزة: وهي أمر خارق للعادة قصد به إظهار صدق من ادعى النبوة على وفق الداعي، كانفجار الماء من بين الأصابع، وعدم إحراق النار، ذلك أنها بمنزلة صريح التصديق القولي" وذلك أن الله لمّا خلق الخَلق جَعَل لهذا الخلق عادَة، والعادةُ هي النِّظام الكَوني الذي رتّبَ الأمور عليه والأسباب والمُسبَّبات، فإذا جاء المُرسَلُ من عند الله جاء بشيءٍ يُخالِفُ العادة ويخرِقُها وخرق العادة ياتي إما مُعجِزة وإما إِرهَاص وهذا مُتعلِّق بالأنبياء:
وأمّا إحياؤه للموتى فما يُحيي إلا مَيّتا واحدا بإذن الله، أمّا ما إذا جاءَ عِند المَقابِر وقال لهم قُوموا فما هُم إلّا جِن مِن أتباعِه، يَظهرون بِصُوَرِ الذين ماتوا، حتى يَرَون كأنّ هذا خاله وهذا عمه وهي صُوَرُهم وماهم إلّا جان مِن أَتباعه، أما الواحد الذي يُحييه بإذن الله تعالى فهو مِن أفضلِ الشُّهداء آخر الزمان الذي يخرُج له مِن المدينة المنورة، ويَشقُّهُ نِصفين ويمشي بين نِصفَيه، ثم يقول لمَن حَوَالَيه: أَتُريدون أن أَرُدَّه لكم فتَعلمون أنّي ربُّكم، يقولون: نعم، فيَجمَع بين النِّصفَين ويقول: قُمْ فيقوم بإذن الله تعالى، فيقول: عَلِمتَ أني ربُّك؟ فيقول :لا لا أنت الأَعْوَر الدَّجّال الخَبيث الذي حدَّثنا عنك رسولُ الله.
وقوله فيما قَبل القتل وبعد القتل "الذي حدَّثنا عنك رسول الله"؛ اشارة الى أنّ الذين يُثَبَّتون ولا تَضرُّهم فِتنة الدّجَّال أهلُ الاتّصال برسول الله، على قَدْر قُوّة الاتصال بهذا النبي؛ ما تضرّ أنواع الفِتَن ومنها الفِتنة الكبيرة، فِتنة الدجَّال.
يَفِرّ من حَوالَي المدينة إلى الشام فيأتِي عِند باب لُدٍّ فينزل سيّدنا عيسى -عليه السلام- فيُدرِكُه عند باب لُد فيقتُله، إذا أقبلَ عليه سيدنا عيسى صار يَتذاوَب كما يَتذاوَب المِلح في الماء، فلو ترَكه لَمَات مِن نفسه من شِدّة الخَوف، فيقتله سيدنا عيسى وتنتهي فِتنته، لا اله الا الله، هذا هوالوحيد هو الذي يُحيِيه هذا الدجَّال. اختبار من الله باذن الله -سبحانه وتعالى-.
ثم زاد بعضُهم المعونة وهي التي تحصُل لعوامّ النّاس من غير المُستَمسِكين بالتقوى والايمان، ويحصُل لهم أمر غَريب على خلاف العادة. تُسمّى مَعونة.
فتبين من ذلك ان عندنا:
فهذه السَّبع الأوجُه لِخَرق العادة. هذه الاقسام السبعة لخَرق العادة. لكن مُعجزات الانبياء تكون أمرٌ خارقٌ للعادة شاهد لهم بصدقهم يتَحَدُّون به مَن أُرسِلوا إليه ليُؤمِنوا بهذا الإله الذي خَلَق.
قال: "ذلك أنها بمنزلة صريح التصديق القولي من الله تعالى لما جرت به العادة من أن الله تعالى يخلق عقبها العلم الضروري بصدق المدعي، وإذا علمت أن إيماننا لا يتم إلا بمعرفة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ولا يحصل لنا الإيمان بهم إلا بمعرفة ما يجب وما يستحيل وما يجوز في حقهم -عليهم الصلاة والسلام- فنقول:
ما الذي يجب في حق الأنبياء والمرسلين؟ : الواجب في حق الأنبياء والمرسلين أوّلُ صِفة:
1- الصدق" فهم محل ائتمان الحق -تبارك وتعالى- على البلاغ فأصدق الخلائق الأنبياء، "الصدق في كل ما يُبلِّغونه عن المولى تبارك وتعالى ويستحيل عليهم ضده وهو الكذب في شيء من ذلك. والصدق هو مطابقة الخبر لما في الواقع ونفس الأمر، كقولهم إن الله واحد ما لكم من إله غيره، فهم صادقون في ذلك -في جميع مايُخبِرونَ به- لأن خبرهم هذا مطابق لما في الواقع. والكذب أن لا يكون الخبر مطابقاً لما في نفس الأمر".
قال: "والدليل على وجوب الصدق لهم -عليهم الصلاة والسلام- واستحالة الكذب عليهم في ذلك عقلاً أنه لو وقع منهم الكذب في شيء مما بلّغوه للناس لزم أن يقع الكذب في خبر المولى -تبارك وتعالى- لأنهم يُخبِرون عن الله، لأنه أشار إلى تصديق الرسول بإظهار المعجزة على يديه، وتصديقه بذلك مُنزَّل منزلة تصديقه بالكلام الصريح، فإِظهار المعجزة مُنَزّل منزلة قوله تعالى - صدق عبدي في كل ما يبلغ عني - لا فرق بينهما أصلاً، فلو كذَب الرسلُ لكان المولى تعالى كاذباً وهذا مستحيل في تصديقه، ولا شك أن الكذب مستحيل في حقه تعالى، لأن خبره على وِفق علمه، وعلمه لا يحتمل النقيض، فكذلك الكلام التابع له، فلزِم أن يكون الكذب في حقهم -عليهم الصلاة والسلام- مستحيلاً، ولزِم أن يكون الصدق واجباً لهما ونقلاً قوله تعالى : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسولُهُ) [الأحزاب:22].(وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]". (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52] صلوات الله وسلامه عليهم،
فهذا الاول: الصدق.
ثم الصفة الثانية قال: "2- ويجب في حقِّهم -عليهم الصلاة والسلام- الأمانة، ويستحيل عليهم ضدها وهي الخِيانة فأما الأمانة فهي حِفظ جميع الجوارح الظاهرة والباطنة من التلبُّس بِمنهيٍّ عنه نهي تحريم أو كراهة ولو خفيفة." لِمَ؟ لأن الله جعلهم قُدوَة يُقتدى بهم، فلو كانوا يَفعلون المَكروهات فضلا عن المُحرَّمات لكان الله شرَع المَكروهات والمُحرَّمات وهذا مُتناقِض مع الشَّرع؛ فهذا مُستحيل، فلا يفعلون إلا ما هو الأفضل في حَقِّهم دائما -صلوات الله وسلامه عليهم-.
فأمَّا الذي يُقالُ فيما جاء في الحديث، أنّه يقول سيدنا الخليل إبراهيم عند اعتذارِه عن الشفاعة إنِّي كذَبتُ ثلاثة كَذَبات، يُرى فيما ظاهِرُه الكَذِب وليس بِكَذِب في ذاته:
وعلى كل حال فالأنبياء مَعصُومون مِن جميع الخِيانة ومعناها: ارتكاب المَكروه فضلاً عن المُحرَّم، فهُم محلُّ القُدوة (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90] فلو كان في عملهم شيء ِمن المَكرُوهات معناه فِعل المَكرُوهات والله لا يأمُر بالمَكرُوهات؛ فهم مُستحيل عليهم فِعل المكروهات، فضلاً عن المحرمات.
"وأما الخِيانة فهي عكسُها. والدليل على وجوب الأمانة لهم -عليهم الصلاة والسلام- واسْتِحالة الخِيانة عليهم عَقلاً أنا نعلم أنهم -عليهم الصلاة والسلام- أكرمُ الخَلق على الله وأتْقاهُم لله وأعرفَهُم بالله وأشَدَّهم خَوفاً من الله، حيث اصطفاهم واختارَهُم دون غيرهم وجَعلَهم سُفرَاء إلى خَلقه لتبليغ ما شَرَعه لهم من الأحكام مع تصديقه لهم فيما بلَّغوه، فوَجَب أن يكونوا قُدوة لأُمَمِهم، وقد أطلق الله تعالى في مُتابعتهم، ولم يجعل فيها تقييداً فلزِم أننا مأمورون بالاقتداء بهم في جميع أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فلو خانوا بفِعل مُحرّم أو مَكروه للزِم أن يكون الشيء مأموراً به ومَنهِياً عنه وهو باطل، لما فيه من التناقض، فوجبَت لهم -عليهم الصلاة والسلام- الأمانة، واستحال عليهم ضِدَّها وهي الخِيانة ونقلاً قوله تعالى : (إنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) [الشعراء : 107] وقوله -جلَّ ذِكره- : (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) [الأنفال: 58] . وقد علِمتَ أنهم محبوبو الله تعالى فوَجب أن لا يكونوا خائنين، وقد ثبت إجماع أهل الحق على أمانة الأنبياء والمُرسلين، وأنهم مُنزَّهون عن جميع العُيوب والآثام، فوَجَب التّصديق بِأمانتِهم -عليهم الصلاة والسلام-"
رزقنا الله كَمَالَ التَّصديق بهم، وكَمَالَ محبَّتِهم وحُسن مُتابعتِهم، وكمالَ نُصرَتهم، وحَشَرنا الله في زُمرَتهم ومَلأَ قُلوبُنا بمحبتهم وأَكرَمنا بمُرافقتِهم وهو راضٍ عنَّا إنّه أكرم الأكرمين وأرحمُ الراحمين.
26 شوّال 1445