(364)
(535)
(604)
الدرس السابع من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، متابعة شرح أدب المؤمن بين يديّ الله تعالى، الجزء السادس.
فجر الأحد 2 شوال 1439 هـ.
متابعة أدب المؤمِن بَين يَدي الله تعالى
"والغضب عند انتهاك المحارم، ودوام الهيبة، واستشعار الحياء."
الحمد لله الذي أكرمنا بالمِنن والمواهب، وأرسل إلينا عبده سيد الأطايب، ختم به الرسالات، وأوضح به الحجج البيّنات، وأنزل عليه عظيم الآيات، وفتح الله لنا به أبواب المثوبات، وواسع الرحمات وعظيم الخيرات. اللهم صلّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك خير البريّات سيدنا محمد وعلى آله الغرّ الميامين، وأصحابه حماة الدين، وعلى من سار في سبيلهم بالصدق واليقين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكتك المقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وقد خرجنا من الشهر الكريم بما كان فيه من التكريم من الإله الكريم والخير العظيم، والله يجبر مصابنا في فقده بتمام القبول، ونيل البركات التي تدوم لمَن أوتيها في ذلك الشهر الفضيل، والعودة إلى أمثاله في لطفٍ وعافيةٍ وتوفيقٍ لما يحبه الملك الجليل.
وكنا في أيام الست الأولى من شوال في العام الماضي ابتدأنا نقرأ في كتاب (الأدب في الدين) للإمام حجة الإسلام الغزالي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- وقرأنا جملًا من: "أدب المؤمن بين يديّ الله" -جل جلاله- وإن من أعظم ما نخرج به من رمضان ومدرسته وطاعاته وعباداته وصيامه وقيامه وما كان فيه؛ أن يستحكم في قلوبنا شهود أننا بين يديّ هذا المولى مهما غبنا وغفلنا فلن نستطيع أن نخرج من بين يديه، وأننا في قبضته، وأننا تحت نظره -سبحانه وتعالى- وإحاطته بنا، وعلمه بنا من حيث لانعلم بأنفسنا من أنفسنا، لا إله إلا هو، به آمنا وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإياه سألنا أن يوفقنا لما يحبه منا ويرضى به عنا.
ينتاب قلب المؤمن غفلة كثيرة تطول وتقصر، أنه بين يدي هذا الإله، وهو الذي لا يفارقك، وهو القائل جل جلاله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7]. وإن استشعار المؤمن وتذكره اطّلاع ربّه عليه، وإحاطته به وعلمه بما في ضميره وصدره وباطنه؛ هو مفتاح الإحسان؛ ومفتاح الحضور مع الرحمن جل جلاله وتعالى في علاه. وبالحضور مع الرحمن تنساق وتنساب بركة الحضور، فإنك لا تحضر مع أي أحد ولا مع أي شيء إلا وانساق وانساب إليك مما يخصّ ذلك الأحد وذلك الشيء شؤون وأحوال وآثار وأذواق… لا تجالس أحد ولا تحضر مع أحد ولا تحضر مع شيءٍ بقلبك إلا وانساق وانساب من ذلك الشيء ما يناسب ذلك الشيء إليك من آثارٍ متنوعة في صورٍ متعددة.
وفي خصوص ما يحصل بين ملاقاة المؤمنين، وملاقاة الناس وبني آدم ومصاحبتهم لبعضهم؛ جاءتنا الأحاديث: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"، والمرء من جليسه.
إذا علمت ذلك أنك بالحضور مع أي جهاز تعرف من خصائص ذلك الجهاز وشؤونه وتركيبته أمور على قدر حضورك معه. من حضورك مع أي شخص تعرف من أوصاف ذلك الشخص وشؤونه، ويسري إليك ما ينساب منه وينساب إليك من تلك الصفات، وتلك الأخلاق التي في ذلك الشخص. ومن حضورك مع أنواع المباني والعمائر والجمادات، أو الجبال أو الكهوف أو غيرها.. تطلع على كثير من صفاتها وشؤونها وخصائصها؛ وينساب إليك ما يناسب هذا الاطلاع.
هلّا شرّفت نفسك بالحضور مع رب كل شيء؟ مع إله كل شيء؟ مع القادر على كل شيء، مع من بيده ملكوت كل شيء. وقد شُرعت أنواع الطاعات والعبادات ليكتسب المؤمن العابد بها سر الحضور مع الله ويزداد إيمانه ويقينه. وهذه أدب المؤمن بين يدي الله، وأنت إن كنت في المسجد أنت بين يديه، وإن كنت في البيت أنت بين يديه، وإن كنت في السوق أنت بين يديه، وإن كنت في الشارع أنت بين يديه، وهل يمكن أن تخرج عن قبضته وعن إحاطته وعن علمه؟ لا إله إلا هو.. لهذا ما كان ينبغي لك أن تعطي وتعظم شأن أحد من المصاحبين لك كما ينبغي أن تعظم شأن صاحبك الذي لا يفارقك، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من شؤونك الظاهرة والباطنة من حيث لا تعلمها أنت من نفسك، هو أحق أن يراقب وأحق أن يُعظَّم جلّ جلاله. ولكن في الحضور معه مراتب ودرجات ومفتاحها الذي قلنا:
استشعارك أنه يراك
وأنه يطلع عليك
وأنه محيط بك
عمق هذا الاستشعار وقوّته ودوامه هو السلّم الذي به ترتقي وتلحق بركب كل تقيّ نقي.
ولقد ذكر لنا جملة فيما مضى من "أدب المؤمن بين يدي ربه"، وانتهى الى ما سمعته. من ذكر أدب: الغضب عند انتهاك محارم هذا الإله. ولا شك أن ذلك على قدر إيمانك به، ومحبتك له، ومعرفتك به، وتعظيمك له. فتغضب أن تنتهك حرمات الله. وبذلك جاءتنا سيرة نبينا ﷺ، كان يعفو عن الذنب إذا كان في حقه وسببه، فإذا أضيع حق الله لم يقم أحد لغضبه؛ إذا انتهكت حرمات الله انتصر لله، ﷺ.
ولما وسّط له الصحابة، حِبّه وابن حِبّه: أسامة بن زيد بن حارثة -عليه رضوان الله- في قضية الشفاعة في حد سرقة امرأة مخزومية، سرقت فأمر بإقامة الحد عليها، بقطع يدها، فلما كلمه أسامة، قال: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ وحلف أن لو سرقت فاطمة بنت محمد -حاشاها- لقطعتُ يدها.. وهي الطاهرة الأمينة، فضرب المثل بأحب أهل بيته إليه، وهي البتول الطاهرة، لو وَقَعَت في الحد هذا لأقمت حد الله عليها.
وبهذا تعلم حقائق من حقائق الإيمان بهذا الإله، فإن الناس يعيشون بينهم على مداهنات وعلى مجاملات وعلى اعتبارات كثيرات أمام مختلف الأنظمة والقوانين. ومهما كان يكن شيئًا من ذلك، فإنك أمام حكم الإله ونظام الإله لا تملك إذا آمنت به إلا أن تغضب لله جل جلاله. ولمَّا أرسلَ الله ملكًا بالعذاب على قرية في بني إسرائيل، قال: يا ربي ولكن فيهم عبدك فلان، كثير العبادة والطاعة لا يعصيك، قال: به فابدأ، قال الله له به فابدأ. قال: ولمَ يا رب؟ قال: إنه رآني اُعصى فلم يتمعّر وجهه فيّ قط! ما غضب من أجلي، ولا تحققت كراهة هذه المعاصي في قلبه. فقال: فبه فابدأ؛ أي: أنه لم تكن عبادته قائمة على صحة من الإيمان واليقين والمحبة والمعرفة، ولكنه كان سطحيّ المعاملة والعبادة، لا يجد في قلبه تعظيمًا لأمر الله -سبحانه وتعالى- فلم يغضب لانتهاك حرمات الله ولا للتجاهر بمعاصي الله جلّ جلاله.
فأدب المؤمن بين يدي ربه: "الغضب عند انتهاك المحارم"، فإن قدر على إزالتها بيده أزالها، أو بلسانه أو بقلبه أنكرها، ويُفارق الموضع والقوم الذين يعملون تلك المحرّمات والمنكرات ولا يُجالسهم ولا يُمالئهم ولا يُداهنهم في دين الله. هذه حقائق من حقائق الإيمان تقيم لك الميزان، تبيّن لك الفوارق بين معاملة الرحمن وبين معاملات الناس وتحيّلهم على أنظمتهم وقوانينهم وادّعاءاتهم التي يدعونها، ولكن هذا الإله الحَكَم العدل الحي القيوم.. حقّه فوق كل حق على جميع الخلق، ولا رخصة لأحد أن يغير حكمه ولا أن يبدله ولا أن يسمح لأحد فيما حرّم الحق -تبارك وتعالى- عليه.
ثم يكون قدر هذا الغضب على قدر ذلك المنكر والانتهاك للحرمة ما بين:
خلاف أولى
ومكروه
ومحرّم مختلف فيه
ومحرّم مجمَع على تحريمه
فينبغي أن يكون في نفسك اشمئزازٌ من المكروه وخلاف الأولى فضلًا عن الحرام المختلف فيه، لا تنبسط لفعله ولا تحضر مع أهله من المكروهات من دون ضرورة ولا حاجة داعية تفوق على شر وبلاء الحضور مع فعل المكروه، فكيف بفعل الحرام؟..
ولذا لمّا كان في بني إسرائيل من يتجاهر بمعصية الله، والذين لم يعصوا الله تعالى:
منهم من أنكر عليهم ثم جالسهم وآكلهم وشاربهم وسكت عنهم.
ومنهم من رآهم لما أصروا اعتزلهم وبقي منكرًا ناهيًا لهم عن ذلك.
ونزل العذاب فشمل العصاة والمذنبين والذين سكتوا، ونزلت الآية في لعن الذين لم يبالوا ولم يتناهوا عن المنكر، في قول الله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79]. وجاء في تفسير ذلك ما ورد في الخبر والأثر: أنه كان يرى الرجلُ الرجلَ منهم على معصية الله فينهاه عنها ثم يسِرّ ذاك ولا يمنع هذا من أن يباسطه ويجالسه وهو مرتكب لتلك المعصية ولا يبالي، لم يغضب لربه.
وفي إخلال هذا الأدب تعرض للغضب والعطب.
فلا يجوز الإقرار على معصية الله
ولا التواطؤ مع أهلها
ولا الرضا بفعلهم
قال الله تعالى عن رعيلها الأول بما كوّن فيهم من صفات: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) [الحجرات:8-7].
وكل ما ذكرنا له حدوده وقيوده وموازينه في هذا الشرع المطهر، وليس فيه ما يبرر من يقصد المجيء إلى أماكن العاصين، ولا من يقصد الجلوس معهم؛
من دون ضرورة
ولا إكراه
ولا عذر
ولا حسن مقصد في استنقاذٍ على وجه صحيح
أو إبعاد منكرٍ أكبر من ذلك المنكر
فإن لم يصح في ذلك وجهٌ قويم، ونيّة صادقة، فلا مبرّر قط للسكوت ولا للجلوس ولا للحضور مع أهل معصية الله سبحانه وتعالى، ومن يخالف شرع الله. ولذا جاء في الخبر: "لا يقفنّ أحدٌ منكم موقفًا يُقتل فيه رجل ظلمًا"، لا تحضر.. ابعد .. إذا لم تستطع أن تمنع وتزجر عن قتله وتخلصه.. فابعد، قال ﷺ: "فإن اللعنة تنزل" على القاتل "وعلى من حضره"؛ من يقتل ومن يحضر تنزل اللعنة عليهم كلهم، بل في الحديث: "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لقيَ الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله" والعياذ بالله تعالى.
وفي ذلك جاء الحديث أيضًا في شأن الخمر، يقول ﷺ: "لعن الله الخمر؛ شاربه وعاصره ومعتصره وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه"؛ ثمانية كلهم يشتركون في اللعنة، ولا يفيد أحد منهم أن يقول لا أنا ما أشرب.. فلماذا حملت؟ ولماذا حُملت إليك واسطة لتصل إلى الآخر؟ لماذا؟.. وقال ﷺ أيضًا في الربا: "لعن الله الربا؛ وآكله وموكله وكاتبه وشاهده"، وإن قال أنا ما أكلت ربا، فلماذا شهدت؟ أنا ما أكلت ربا، إذا ما أكلت فلمَ تُعطي غيرك الربا؟ لا تأكل ولا تؤكل ولا تكتب ولا تشهد، حتى الكاتب الذي يكتب بينهم داخل في اللعنة والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فهكذا يجب أن يعامل صاحب العظمة، أتَهاب مخالفة قانون وتترقب عيون مخلوقين ثم لا تهاب نظام ملك الملوك وهو الناظر إليك والمطلع عليك؟ قال تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء:108]. ثم يقول لمن يتواطأ ويتساهل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) [النساء:109] يجب أن تعلم ذلك.
وانظر ذلك في سيرة الصحابة -رضي الله عنهم- وقيامهم بأمر الله -جلّ جلاله- على أنفسهم وأولادهم وأسرهم قبل غيرهم، لا يعرفون في ذلك مداهنة، حتى قالوا في وصف سيدنا عمر: قوله الحق لم يترك له في الناس من صديق! -عليه الرضوان- ومع ذلك كله كم تاب على يده من عاصي، وكم آب بسببه من هارب؛ لأنه لم يكن يتخذ هذا الغضب والحِدة بدافع مجرد طبعٍ ولا لعصبية ولا لحمية ولا لغرضٍ له؛ إنما كان عن إيمانٍ وتعظيمٍ لأمر الله خالص، فلذلك وضع الأشياء في مواضعها ونفع الله به العباد والبلاد.
وقيل له عن رجل كان قد صاحبه وصادقه في المدينة ثم سافر الى الشام، وسأل عنه بعض الوافدين من الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين إن الرجل قد انحرف وانصرف عن طاعة الله وعاقر الخمر، فكتب كتاب له معهم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر:1-3] قال: سلّموه هذا الكتاب، قرأه، فامتلأ هيبة من الرب وقال صدق الله ونصح عمر، وأناب وتاب ورجع إلى الحق -جل جلاله وتعالى في علاه- كذلك كانت معالجاته.
علمتم انتهاك حرمة مؤّمَنٍ قبطي في بلده من قِبَل ولد عمرو بن العاص بلطمةٍ لطمه إياها فأخذ حق الله، كتب كتابًا يأمر فيه أمير مصر أن يفِد ويوفد معه ولده، لما جاءه القبطي يقول ولدي هذا سابَق ولد عمرو بن العاص، فسبقه ابني فغضب ابن عمرو فلطمه، وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين. قال: انتظر، وتأكد من الأمر، كتب كتاب: إذا وصل الكتاب هذا فأقبل إليّ وأحضر معك ابنك فلان، ووصل الكتاب واهتز قلب الرجل لماذا يريدني عمر.! تعال يا ولد إيش عملت؟ هذا أمير المؤمنين وجّه أحضرك معي ايش عملت؟ قال: أنا ما عملت شيء.. وما تذكر هذه الحادثة، وصلوا المدينة المنورة، حرك أمير المنطقة كلها ولده يجيء إلى هناك، جاء به من أجل لطمة في ولد واحد قبطي لم يسلم بعد، تعرف موازين الغضب لله كيف تكون؟… وإن كان ولده قبطي كافر تركه يرفس ولده، ليس في الشريعة هذا عصبية أو هذا محاباة في الدين ومداهنة.. وكذلك فعل رسول الله قبله.
فهذا ابن الأبيرق المسلم تغويه نفسه بسرقة درع، فسرق درع من بعض الصحابة، وأخذ الدرع ومشى وخاف أن يحسوا به فأراد تعمية الأمر، جاء إلى عند صاحب له جاره يهودي قال له: ضع هذا الدرع أمانة عندك، فاستلمه منه وكان فيه دقيق وكان الدقيق يتناثر من الدرع، ولما فقد الرجل درعه، قال: أين الدرع؟ ما دخل عندي إلا فلان، قال: يا فلان رأيت الدرع؟ فقال: أبدًا، اليهودي سرقه تتبعوا أثر الدقيق وجدوه وصل عند اليهودي قالوا عجيب! قال له الرجل: عندك الدرع؟ قال لهم: عندي، قال: تسرق؟ قال لهم: ما سرقت، من أين؟ قال: جاء به فلان الذي بات عند الرجل هذا، قال: لا، أبداً هذا يكذب عليّ هؤلاء اليهود أعداء كذابين يكذبون على المسلمين، وراح عند قومه قالوا كذا كذا، فتجمع جماعة من قومه وقالوا روحوا إلى عند النبي ﷺ وأخبروه أن اليهود هؤلاء يكذبون وأن الرجل بريء وما عنده شيء، ولكن اليهودي نسب هذا ولصقها في ولدنا، فجاءوا يكلمون النبي ﷺ، أخذ ينظر في الأمر ﷺ ويترقّب حقيقة الوضع هنا وهناك، وإذا بالوحي ينزل: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) ما قال بين المسلمين (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ)؛ أهل الخيانة من غوته نفسه وسرق، لا تقم بالمجادلة عنه وإن كان نسب ذلك إلى اليهود، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء: 108-107]، ولما نزل الوحي برأ النبي ساحة اليهود على هذا، شرد الرجل وارتد -والعياذ بالله- وذهب وكان ما كان، وهذا حكم شريعة الله، يريك معاني الغضب لله كيف تكون، فكيف بعد ذلك تتساهل بالأمر؛ لأنه من ولدك؛ ولأنه من أخوك ولأنه واحد له يد عليك أو يعطيك مرتب أو يجيء لك من كذلك… أين الله؟ أين عظمة ربك في قلبك؟ أين عظمة إلهك الذي تعود إليه؟ أهكذا حالك مع الله؟ أين أدبك مع الله جل جلاله؟
يقول: "والغضب عند انتهاك المحارم"، فلما وصل عمرو بن العاص مع ابنه قال له أسابَقَ ابنك ابن القبطي هذا ثم لما سبقه مد يده عليه ولطمه؟ قال: فعلت ذلك يا ولد؟ قال: نعم،… فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ نظرة الإسلام، نظرة الدين إلى البشرية إلى الإنسانية، إلى الحقوق، قم يا ابن القبطي الطمه كما لطمك، أعطها إياه، وقل له: خذها وأنت ابن الأكرمين، ثم أدِر السيف فوق رأس عمرو، قال عمرو بن العاص: ما حولي أنا؟ أنا ما أمرت بهذا! قال: إنه لم يفعل ذلك إلا ملتجئًا إلى إمارتك، لو ربّيته ما يفعل هذا بالناس، علِّمه كيف يراقب الله، لا إذا غضب يلطم عيال الناس لأن أبوه الوالي؛ لأن أبوه الحاكم في المنطقة.. فجعلهم يمروا بالسيف فوق راسك تنبيه لك، انتبه، لا يتسلّح أولادك بإمارتك ويظلمون حقوق الخلق، تعرف كيف الغضب لأمر دين الله ولأمر الله جل جلاله؟… وفعلها وطأطأ رأسه أمير المنطقة. وكان من حين ما ولّاه قال له: اتقِّ الله فيهم واعلم أنما هما أحد اثنين:
إما أخوك في الدين.
وإما مثيلك في الخلق.
فإن أكثر الناس كانوا غير مسلمين في مصر لما حكمها الإسلام؛ نسبة المسلمين إلا قليلة جدًا وقت حكم الإسلام في مصر، وإلى القرن الثاني والثالث كان نسبة المسلمين قليلة ثم اتسعت بسبب جمال الإسلام وعدل الإسلام، ودخل الناس في دين الله طواعية، وبدأ يكثر المسلمون حتى صاروا هم الأغلب في البلاد بعد قرون من حكم الإسلام في مصر، يقول له: واعلم أني ولّيتك عليهم فأنت فوقهم، وأنا فوقك، والله فوق الجميع، هذه وصيته له أول ما ولّاه على أهل مصر، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
وكان في أدبه مع الله، يراقب فلا يُقِر النفس على شيءٍ يخاف منه أن لا يُرضي الله تعالى، ولو كان خواطرًا وشعورًا في القلب، ولما أراد دخول فلسطين "بيت المقدس" كان فيه قميص فيه بعض رقع، بعضها من جلد، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين تقابل فئات من غير المسلمين ويرون فيك هذا المنظر، فأحسن خذ هذه الحُلّة ودع القميص، نزع القميص ولبسه، ومشى خطوات ثم قال: ردّوا علي قميصي، ونزع الحلة كالكاره لها، قالوا: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: أنكرت قلبي، أنكرت قلبي.. انظر كيف يراعي حق الله في نفسه وباطنه، يغضب لله على نفسه، يقول: إنّا قومٌ أعزّنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزّة في غيره أذلنا الله! إذا صار تفكيرنا منحط أننا نطلب الأُبهة بين الناس بالمناظر جاءت الذلة، صدق أو ما صدق؟… صدق.. كانت العزة للمؤمنين في قلوب المؤمنين لما كان المؤمنون معتزون بالله وبدينه وإيمانهم، فلما اعتزوا بالأُبهات والأشكال.. إيش حصل؟ ضربت عليهم الذلة، رجعت عليهم -والعياذ بالله- فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
ودخل بقميصه المرقع، وصادف أن عندهم في الكتب السابقة فاتح بيت المقدس من أمة محمد ﷺ عمر بن الخطاب يدخلها عليه قميص مرقع حافي القدمين، يقود جملاً يركبه خادمه، مكتوب في الكتب عندهم من قبل. صادف كان يتناوب هو والخادم، خرج من المدينة هو وخادم له.. وتساءل الناس من هذا؟! أمير المؤمنين ،على مستوى كم دول؟ هذه الدول كلها دولته، رئيسها كلها وأميرها كلها يسافر لأجل المقابلة يمشي معه واحد. يقول له: اسمع بالنوبة، نوبة أنت تركب وأنا أمشي، ونوبة أنا أركب وأنت تقود الجمل. يقود الجمل الخادم يقول: خلاص انتهت النوبة اركب، يقول خادمه: يا أمير المؤمنين أنا أكفيك؛ أقدر على المشي، يقول: اركب، فيصير أمير المؤمنين يقود الجمل ولما تنتهي نوبته يرجع يركب، ولما وصلوا إلى عند مدخل بيت المقدس والنوبة عند الخادم كان بينزل الخادم قال له: ما تنزل محلّك، ودخل، علماؤهم هناك يشوفون يسألون المسلمين عندهم يقولون مَن الأمير الذي على الجمل أو الذي يقود الجمل؟!
قالوا: الذي يقود الجمل، قالوا هذا هو وصفه اسمه عمر بن الخطاب نعرفه، وأرجله بلا نعل، قالوا: ما له بلا نعل؟ قيل: انقَطعت نعله، تَركهُن ومشى، ما بقيت عندهم ريبة، خلاص هذا هو الذي سيفتح البلاد، ليس هناك كلام، سلموا له المفاتيح كلها. ودخل إلى بيت المقدس وصلى في بيت المقدس، وأقام الأمور وحُكم الشريعة وسيرة المصطفى ﷺ وتنفيذ الشريعة على وجهه، ورتب كل واحد في موضعه و في مكانه، تركهم في كنائسهم التي كانوا عليها، وخاطب بعضهم وهم عند الكنائس. وحضر وقت الصلاة فخرج يصلّي خارج الكنيسة، قال لهم: لو صليت في كنيستكم لاحتجّ عليكم المسلمون بأنها لهم بعد ما أسافر، إذا سافرت سيقول المسلمين هنا صلى عمر هذه حقنا الكنيسة، مراعاته للحقوق، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
هذا هو الشديد الغضب من أجل الله، لكن معه ميزان ما يتصرف بعقله ولا بكيفه ولا بنفسه ولا بهواه، كان معه ميزان متّبع لمحمد ﷺ، يأخذ الميزان... يعني عبد لله خالص ما يغلبه عقل ولا هوى ولا غير ذلك، (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65]. وهكذا غضب مرة على نفسه راح حمل قربة ملأها ماء، يمشي في السوق حامل القربة، كلما يصل إلى بيت واحدة فقيرة يقول لها افتحي أصب لك شيء من الماء في وعائك، وصب لها الماء ورجع ، ويرونه الناس كلهم يقول له بعض الصحابة: يا أمير المؤمنين غيرك يكفي هذا، قال: لا، إن وفود العرب أتوني سامعين مطيعين فدخل في نفسي نخوة، فأردت أن أذلّها!.. رضي الله تعالى عنهم.
واحد يغضب على نفسه من أجل الله هذا ما يرضى الله عنه؟ (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرحمن:60]، وهكذا، قلوا أنفسهم من أجله فرضيهم، ورضي عنهم -سبحانه- وارتضاهم.
يقول : "الغضب عند انتهاك المحارم"؛ بمعنى:
لا تُقِر
لا تداهن
لا تقدّم مصلحة لك على القيام بأمر الله
أمّا أن تعالج بحكمة أو ترتب الأمر، لكن مستقر في باطنك الغضب لله ومن أجل الله، فما عليك في ذلك، وعلى ذلك مضوا عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
أرسلت بعض أمهات المؤمنين صَحفة بها طعام إلى النبي ﷺ وعنده بعض الضيوف في بيت السيدة عائشة، فاستلمتها السيدة عائشة وقالت: ما هذا؟ قيل لها: من فلانة؛ يعني: من ضَرّتها، قالت: حسنًا أرادت أن تتجمل عند النبي ﷺ في بيتي، وسط بيتي، أنا عندي طعام أخذته ورمته، فانكسرت الصحفة، التفت ﷺ رأى فعرف الأمر وقام، وهي هربت إلى الداخل، وهو جاء قال: غارت أمّكم! جاءت الغيرة حق أمكم، غرف الطعام وجاء بصحفة من عند بيت عائشة، وجمع الطعام ودخّله للضيوف وأكل هو والضيوف قال: احملوا المكسور أعطوها عائشة، خذوا هذه الصحيحة وردّوها إلى بيت أم سلمة، رجّعوا هذه إلى بيتها، أدّبهم، وانتهت المسألة، قالوا وكيف يبدّل صحفة مكسورة بصحفة صحيحة؟
كانت الصحاف له أصلاً التي هنا والتي هنا، كانت حقه ملكه، فلمّا تصرفت هذا التصرف، قال بس خذي المكسورة أنت كسرتيها و الصحيحة ردّها لتلك، لم تكن ملك أمهات المؤمنين كانت ملكه.
وهكذا؛ يتكلم معها وهي تعرف مكانتها لديه عنده ومنزلتها عنده، فذكروا واحدة، وقالت: حسبك من فلانة.. أشارت بيدها إشارة أنها قصيرة، غضب ﷺ وقال: يا عائشة، لقد قلتِ كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته، تغيّر ماء البحر، نِتَن الكلمة هذه وهي إنما إشارة أنها قصيرة، وتابت عائشة تابت، وما صارت تذكر أحد بسوء.
وهكذا؛ قالت: ما غِرتُ من أحدٍ من النساء كما غرت من خديجة وما أعرفها؛ لأنها توفيت سيدتنا خديجة وهي كانت صغيرة ما تعرفها، وما تزوجت إلا بعدها، ولكن من كثرة ما أسمعه يذكرها ﷺ ويعظم شأنها. حتى أنه كان ليذبح الشاة فيقسمها في صويحبات خديجة، وكان تأتيه المرأة العجوز يقوم بإكرامها ويخدمها بنفسه أقول له: لماذا؟ يقول: إنها كانت تأتينا أيام خديجة. واستأذنت هالة مرة فأتته، قال: اللهمّ خديجة! كانت تشبه السيدة خديجة، بنت أبي هالة، ربيبة خديجة بنت خويلد، فقلت له: ما تذكر من عجوز شمطاء قد أبدلك الله خيرًا منها! فالتفت إليها ﷺ وقال: لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذّبني الناس، وآوتني حين طردني الناس، وفدتني بنفسها ومالها ورُزقت منها الولد، فلا والله ما أبدلني الله خيرًا منها. قالت: وعليّ أن لا أذكر خديجة بعد اليوم إلا بخير.
ثم كانت مناقب للسيدة خديجة ما عرفناها إلا من طريق عائشة، هي التي نشرتها في الأمة، وقالت قال النبي عنها كذا، وقال النبي عنها كذا، ومنها هذه الحادثةة التي كانت بينه وبين عائشة وحدها ونشرتها للأمة قالت تقول عن خديجة ما أبدلني الله خيرًا منها لقد كانت وكانت وكانت… عليهم رضوان الله وهذه تربية النبوة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وهكذا كان ضعف ومرض في رجل الجمل الذي حمل صفية بن حيي أم المؤمنين في حجة الوداع، وكان عند زينب بنت جحش عدد من الجمال، فدخل النبي ﷺ عليها وقال: إن صفية تعب جملها وضَعُفَ وفي رجله علة، فلو أعطيتها من جمالك؟.. فغلبها الطبع البشري وغيره، وقالت: أنا أعطي هذه اليهودية!.. فغضب عليها ﷺ وهجرها حتى لم يكن يقسم لها الليالي في طوال الحج، وإلى أن رجع من الحج، وإلى المدينة المنورة، حتى ندمت وتابت على هذه الكلمة، واسترضَت صفية، هي مسلمة مؤمنة بالله وبرسوله كيف يهودية.. كانت يهودية وكان أبوها يهودي وعمها يهودي، والآن خلاص هي مؤمنة بل أم المؤمنين عليها الرضوان، فما قَبِل هذا الكلام من هذه على هذه حتى آيست، و طوت فراشه من بيتها ﷺ وهي تبكي، فلما صحّت وصدقت توبتها ما شعرت به إلا جاء يدق الباب عليها ﷺ ، وكانت معه فيما بقي من الأيام المعدودة لأنه رجع من الحج قرب أجله ﷺ، فلقي ربه وهو راضٍ عنها.
انظر هذه الموازين، كل الأمة يعرفون أنه كان يحب الحسن بن علي كثيرًا، إلى حد أنه وهو ساجد يطلع على ظهره فيبطئ في السجود ﷺ، حتى أن الصحابة ظنوا أنه حدث لرسول الله شيء في السجود، أو أنه قُبِض ﷺ، بعد مدة رفع رأسه، قال: الله أكبر، فلما سلّم من الصلاة وقرأ أذكاره، التفت إليهم قال: لعلكم استَغربتم في طول سجودي وظننتم أنه حدث شيء، قالوا: بلى يا رسول الله!.. نعم، قال: أما إنه لم يحدث شيء ولكن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أخرجه حتى يكون هو الذي يخرج، يعني طوّل السجود بسبب هذا، رأيت كيف محبته للحسن؟
جاء الحسن في طفولته وصِغره يوم وهو جائع، وتمر من تمر الصدقة في بيت جده ﷺ، هوى بيده على تمرة أدخلها فمه فرآه ﷺ فقام: كخ كخ.. وأدخل إصبعه الشريف وسط فمه و خرّجها، ما أحد يشك في محبته له، ولكن ما رضي له بتمرة من الصدقة، يقول: أما تعلم أنّا لا نأكل الصدقة، إنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس، وخرّجها ﷺ من وسط فمه وهو طفل صغير ما يعرف ولا عليه شيء وهي تمرة وحده سهلة، ما قال هكذا ﷺ، وخرّجها من داخل فم الحسن. وقال له: كخ كخ؛ اتفل هذه إنها أوساخ الناس لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ﷺ، فما أعظم هذه الموازين، وما أعجب معاملة رب العالمين عند من آمن برب العالمين.
يقول: "ودوام الهيبة"؛ وهو متعلق بذلك، دوام الهيبة، والهيبة التي يورثها الحياء؛ ولهذا قال: "استشعار الحياء" بعد ذلك، فمن استحيا من الله أورثه الله في قلبه هيبة الربوبية والألوهية؛ وإذا هاب الألوهية حَصَّل حظًّا من شريف معرفة الله -تبارك وتعالى- يعظُم بها تنعمّه عند لقائه، حتى لا يكون شيء أهيّب عليه من الله، وهي حالةٌ في القلب من التعظيم مع استشعار الحياء؛ لهذا ربطه بقوله: "دوام الهيبة، واستشعار الحياء"، قال ﷺ: "من اسْتحيا من اللهِ حقَّ الحياءِ فلْيحفظِ الرأسَ وما وعى، والبطنَ وما حوى، وليذكرِ الموتَ والبِلى".
فنسأل الله أن يرزقنا كمال الإيمان واليقين، والغضب عند انتهاك محارمه، والهيبة منه، والحياء منه، والخوف منه، والرجاء فيه، وأن يمكّننا في ذلك، وأن يقوّي فينا ذلك وأن يسلك بنا أشرف المسالك، اللهمّ اجعل إنالتك إيّانا كل هذه المزايا بركةً من بركات رمضان، وهدية من هديّات الشهر الذي مضى علينا، نسألك القبول فيه يا رب، وأن تقبل ممن شرع يصوم ستًّا من شوال بعد أن صام رمضان طلبًا للمنزلة والمثوبة، وتلبيةً لإرشاد عبدك المصطفى محمد ﷺ، اقبلنا وإياهم أجمعين، وكل من عَزَم على خير في الحاضر والمستقبل فارزقه الصدق في النيّة وأعِنه على ذلك، وتقبّل منا ومنهم، ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
02 شوّال 1439