شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -37- آداب التاجر

للاستماع إلى الدرس

الدرس السابع والثلاثون من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، ضمن الدروس الصباحية لأيام الست الأولى من شوال 1445هـ، آداب التاجر.

فجر  الخميس 2 شوال 1445هـ.

يتضمن الدرس:

  •  بماذا تظهر آثار قبول رمضان؟ 
  •  ما هي الآداب وما حقيقتها؟ 
  •  المبادرة لصوم الست من شوال
  •  موازين الشرع مع التجارة
  •  القيام بأسباب الرزق الباطنة
  •  عاقبة من لا يبالي بالحرام في الرزق
  •  الخلافة عن الله في أرضه
  •  السعي إلى الحكم وطلبه
  •  أدب التاجر: لا يضيق الطريق
  •  المبالغة في حجز المكان
  •  ميزان ورع الإنسان
  •  توظيف من يخاف الله
  •  الانتباه من التطفيف في الوزن
  •  قصة مع الدرهم المغشوش
  •  أحوال إخفاء الصدقة حتى على المُتصدق
  •  سبب بركة مال أحد الأثرياء
  •  من قنع باليسير جاءه الكثير
  •  قصة إهداء امرأة حُبيبات للشيخ أبي بكر بن سالم
  •  القرآن والذكر وسط الدكاكين
  •  من آثار آداب التجار
  •  حال اختلاف النفوس اليوم
  •  غض الطرف عما حرم الله
  •  تجنب مدح السلع والحلف وتنبيهات أخرى
الأدب في الدين للإمام الغزالي  - آداب التاجر

 

آداب التاجر

"لا يجلس في طريق المسلمين فيضيّق عليهم، ويستعمل غلامًا كيّسًا لا يبخس في كيله، ولا ينقص في وزنه، يأمره بالرجحان، وترك العجلة في الميزان، يكون ميزان دراهمه في حدّته كالطيار، ومن اعتداله كالمعيار، طويلةٌ خيوطه دقيقةٌ ذوائبه، معبرةٌ صنجاته، معتدلةٌ حبّاته، يبتدئ كل يومٍ يمسح ميزانه، ويتعاهد نقص أرطاله وصنجاته، يأمر غلامه بالتوقف فى كيله الأدهان، وإذا وقف عليه شريف أكرمه، أو جار فضّله، أو ضعيف رحمه، أو غير هؤلاء أنصَفه، يبيع على قدر أسعاره، إن نقص سعره زاد زبونه، كما إنه إن زاد سعره نقص زبونه.

وتكون همّته في جلوسه درس القرآن، وغض الطرف عن المحارم والغلمان، يشترى عرضه باليسير من سفيه يقف عليه، ولا يرد السائل، ولا يمنع البشر من النائل.

فإن كان هو المتولّي لأمـره كان ما يُلزم غلامه هو أولى به، ويشترى الأرطال والصنجات والمكيال من الثقات معبرات، ويترك المدح للسلعة عند البيع، والذم لها عند الشراء، ويلزم الصدق عند الإخبار، ويحذر الفحش عند المزايدة، والكذب عند المحادثة، ويقل الخوض مع أهل الأسواق، ومداعبة الأحداث ويقصر في الخصومات."

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله، ونسأله أن يتقبّل منّا ومنكم صيام رمضان وقيامه، وما كان فيه، وإحياء ليلة العيد، وصلاة العيد وإخراج زكاة الفطرة، وما وفَّقنا له من الخير، وأن يَذْخَرَهُ لنا عنده، ويُضاعفه إلى ما لا نهاية إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وتظهر علينا الآثار الطيبة -إن شاء الله- آثار القبول، مَن قَبِلهم البَرُّ الوصول؛ ظهرت عليهم آثار القبول؛ ظهرت عليهم في النِّيَّة والقَصْد والفعل والمقول، ظهرت عليهم في الأحوال، ظهرت عليهم في الإقبال، ظهرت عليهم في الاستقبال، ظهرت عليهم في النَّظَرِ إلى الشؤون، ظهرت عليهم في الرابطة بالأمين المأمون، قُدوَةِ مَن يؤمنون ويُوَحِّدُون ويعبدون ويُطِيعون، رسول الله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله، قَوّى الله روابطنا به، وسار بِنَا في دَرْبِهِ.

ومن فضل الله تعالى علينا ونرجو أن يكون من علامات القبول: مواصلتنا بعد رمضان لمَجْمَعِنَا في الغَدْوَة، وكما نجتمع في الروحة و"لغدوة في سبيل الله أو روحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها"؛ والغدوة: المشي في الصباح، والروحة: المشي في المساء.

فالحمد لله على هذه النعمة، الله يُتمّها علينا وعليكم، ويرزقنا كمال التوفيق، ويُظهِر آثار القبول لرمضان في صلاح أهل الإسلام والإيمان، وصلاح شؤونهم، ودفع البلايا والآفات عنهم، وجمع شملهم على ما يحب ويرضاه.

الحمد لله الذي أكرمنا بالاجتماع للتَّفَقُّهِ في الدين، وتعلُّم ما وجّهنا الرحمن ونبيّه الأمين صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأهل بيته الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى مَن والاهم في الله واتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل المعرفة واليقين، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ،

فيما يُذكَرُ من الآداب المجموعة في هذه الرسالة المنسوبة للإمام أبي حامد الغزالي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- تذاكرنا بعض ما تقدَّم معنا من الأبواب في الآداب التي بُعِثَ بها إلينا مَن قال: "أدَّبَنِي ربي فأحسَنَ تأديبي". فمَا صلاحنا ولا صلاح أحدٍ من الإنس والجن من جميع المكلّفين في دينه ودنياه، ولا خيره ولا فوزه ولا سعادته؛ إلا بـامتثال أمر ربِّه، والتأدُّب بما أدَّبَ به نبيه، والتَّخَلُّق بما خلَّق به نبيّه الكريم الذي خاطبه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4] ﷺ.

فهذه المُنازعات من الأنفس وشياطين الإنس والجن لأن يُحَسِّنوا ما هو قبيح عند الله ويُقَبِّحُوا ما هو حَسَن عند الله وأن يقول الأدب كذا أو كذا؛ منازعاتٌ للألوهية والربوبية، ومنازعاتٌ لمن له الحق في وضع المنهج لخلقه؛ وهو الله جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.

فمَا حقيقة الآداب مُجَرَّد اصطلاحات يَصطَلِح عليها ناس ولا جماعة ولا هيئة ولا بلدة ولا في زمن من الأزمان ولا حكومات ولا دول؛ ما الآداب إلا ما أحبَّ الرَّبُّ مِمَّن خلَق، ما أحب الرَّبُّ مِن هذا المُكَلَّف هو الأدب. ولا طريقة لنعرف ما أحبَّ مِنَّا ولا ما كَرِهَ مِنَّا إلا وحيه، وإنما يوحي إلى أنبيائه ورسله فيُبلِّغوننا عن الله تعالى. جزاهم الله عنَّا خيرًا، وصلى الله على سيِّدهم محمد وعليهم أجمعين، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلينا معهم وفيهم.

فذكرنا عددًا من الآداب الكريمة في العام الماضي في الأيام التالية ليوم الفطر من رمضان، فيما اشتهر عند أهل تريم بتسميتها بـ (أيام السّتّ)؛ إشارةً إلى الذين يُبَاشِرُونَ بصوم سِتٍّ من شوال مباشرةً بعد يوم العيد فيقضونها، فتَكْمُل -كما هو الأفضل في مذهب الشافعية- أن تكون متتابعة، وأن تكون مباشرةً بعد اليوم الأول الذي الصوم فيه حرام وهو يوم الفطر الذي مضى علينا. ومع ذلك فعلى نظَر الأئمة أيضًا من فقهاء الدين إلى هذه السِّتِّ والأفضلية فيها.

فهذا المُقَرَّرُ أقام شعارا مُتَّصِلًا بالدين والشرع في مثل هذه البلدة، فتجد فيها مظهر القيام بالمبادرة إلى صيام السِّتِّ من شوال، في صغير القوم وكبارهم وفي عامة الناس، ولذا تجدهم يقيمون عاداتهم في أيام الست كالبرمجة التي يُرتِّبونها لرمضان.

الآداب: ما بُعِثَ به سيِّدُ الأحباب ﷺ، وأصولها امتثال الأوامر واجتناب النواهي إلى الحرص على السنن والابتعاد عن المكروهات والشبهات؛ فهذا تمام الأدب. مع المراعاة للمروءة والأعراف الصحيحة المُقَرَّة من قِبَلِ الشرع.

وذَكَر لنا: "آداب التاجر" حيث وقفنا في هذه الرسالة، على آداب التاجر، وهو الذي يشتغل بنحو البيع والشراء، وما يَتَسَبُّبُ به لتوفير دخله وكسبه للمال. هذه التجارة التي يُتَكَسَّبُ بها المال لها في موازين الشرع عند الأنبياء مكانةٌ من حيث:

  • وجوب طلب الحلال.

  • ومن حيث فريضة البُعد عن الحرام. 

  • ومن حيث تأكيد العمل بالسنن والآداب.

  • وألَّا تُلهي القلوب عن ذكر الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) [المنافقون:9]، (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور:37]. 

  • وكذلك تجنُّب المكروهات والشبهات فيها.

 فهي بهذا الوجه من جملة ما يُحتاج إليه في ترتيب الحياة الدنيا من حيث رتَّبها الله -سبحانه وتعالى- ويختلف الناس في وعيهم وفهمهم ونشاطهم وحركتهم وقوتهم واقتدارهم، ثم يختلفون في ما قُدِّرَ لهم، فلا يزيد نشاط أحد ولا عقله ولا معرفته ولا ذكاؤه حبَّةً فيما قُدِّرَ له من رزق، ولا يُنقِصُه جهله ولا غباوته عن حبَّة مما كتب الله له أن يرزقه، ولكنهم مكلّفون بأداء الواجب. ومنهم مَن يكون قائمًا بالأسباب وعاملًا عليها في الظاهر، ومنهم مَن يَغلُبُ عليه الأسباب الباطنة ويتسبَّبُ بها، التي رأسها التقوى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3].

  • كما أنه إذا صحَّت النية في طلب العلم الشرع المصون لوجه الله فمن أسباب تيسير الرزق للإنسان.

  • كما أنَّ صلة الأرحام.

  • وعمارة ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.

 وإلى غير ذلك من الفضائل كلها من أسباب تيسير الرزق الطيب المبارك.

وبعد ذلك تُوُعِّدَ مَن لا يُبالي في عمله وتكسُّبِهِ بأخذ الحرام والشبهات.. تُوُعِّدُوا بالوعيد الشديد من قِبَلِ الجبَّار الأعلى -جَلَّ جلاله-، حتى كان يقول سيدنا علي: "مَن لم يبالِ مِن أيّ باب دخل عليه الرزق لم يبالي الله به في أيِّ وادٍ من أودية جهنم أهلكه" والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وكما أنه -سبحانه وتعالى- حذَّرَ المؤمنين من أن يجعلوا هذا الكسب والتحصيل غايةً لهم، ومقصدًا أساسيا يغفلون به عن المقاصد الكبرى، وعن أنه مجرد وسيلة لآدائهم تلك المقاصد من الإيمان به وعبادته وتنفيذ أمره في الأرض؛ وهي الخلافة التي اختار الله لها آدم ومَن صَلَح مِن ولد آدم إلى أن تقوم الساعة.

الخلافة التي شُهِرَ شأنها بين الملائكة (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة:30]، وهي: الإيمان، واليقين، والعمل بطاعة الحق -جَلَّ جلاله- وتنفيذ شريعته على ظهر الأرض والقيام بحقِّها، هذه الخلافة عن الله تعالى في أرضه. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) [النور:55]، أي: يُشرِّفهم بالمنزلة لديه والاعتبار عنده في قيامهم بأمره على ظهر هذه الأرض. جعلنا الله وإياكم ممن يُقيموا أمر هذه الشريعة، ويُطبّقها ويُنفِّذها في قلبه وأعضائه، وفي بيته وأسرته، وفي أعماله وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، ومعاملاته في الحياة كلها.

فهذا الشأن في القيام بها وأدائها على وجهها هو الخلافة الشريفة وكرامة الخلافة عن الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض، يُتَوِّجُ بها مَن يشاء من عباده. فعلى قدر صحة الإيمان وحسن العمل الصالح وقوّته؛ تكون رتبة في الخلافة التي أشار إليها بقوله جل جلاله: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور:55].

ومن غير شك أنه من حين بُعِثَ نبينا ﷺ وعهد الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم إلى يومنا هذا لم تخلُ الأرض من جماعات من أهل الايمان الصحيح الصادق القوي، وأهل العمل الصالح القويم السويّ، فهم خلفاء عن الله -تبارك وتعالى- في أرضه، لا علاقة لذلك بخلافة الحُكم التي تتداول بين البَرِّ والفاجر والقريب والبعيد والمؤمن والكافر والصغير والكبير؛ الإمارة التي يقوم بها مَن وُلِّيَ على الناس مِن كافر ومن مسلم، وأكثر مَا تولاها في أكثر القرون الكفار، فبُعِثَ النبي نوح والأمراء كفار والحكام كفار، وبقوا هم الحكام حتى في أيام بلاغه ودعوته لهم، إلى أن أهلكهم الله تعالى وحكم سيدنا نوح ومن معه بمنهج الله في الأرض فكانوا الخلفاء عن الله جل جلاله.

هذه الخلافة العجيبة البديعة الرفيعة القدر لا دخل لها بأن تسعى إلى الحكم، بل السعيُ إلى الحكم من المخالفات لأمر هذه الخلافة والشريعة،  "إنكم ستحرصون على الإمارة وإنها ستكون ندامة يوم القيامة".

ولهذا:

  •  يَصِحّ للمؤمن أن يكون مُرَاده: أن يُحْكَمَ بشرع الله عليه وعلى غيره.

  • ولا يَصِحّ أن يكون مراده: أن يَحكُم هو على الناس بشرع الله تبارك وتعالى؛ فإن هذا طلب للإمارة وطلب للولاية، ومَن طلبها وُكِلَ إليها، ومَن وُكِلَ إليها انقطع عنه عون الخلَّاق، ومَن انقطع عنه عون الخَلَّاق مَن يُوفِّقه؟ مَن ينصره؟ من يقوم به؟

ولذا جاءتنا الأخبار فيها عن رسول الله ﷺ، وعرفنا حال الصحابة وعزوفهم عن هذه الإمارات، حتى في أيام الخلافة الصحيحة في الظاهر والباطن أيام الخلفاء الراشدين، حتى لا يَكَاد سيدنا عمر يُولِّي أحد على قُطُر من الأقطار إلا بالإلزام والأمر لا بالفرح منهم ولا بالطلب منهم. وكان أيضًا في أيام خلافته يقول: إنَّا لا نُعطيها مَن طلبها.

فكان أيضًا من سُنَّة الله في الأرض أنه لا يقوم قومٌ يصدقون ويخلصون معه بقوةِ إيمان، بتطبيق أمر شرعه في أنفسهم وأحوالهم، في كل ما استطاعوا، إلا ولَّى عليهم أخيارًا أو أوصل إليهم، إلى أخيارهِم أمر هذا الحكم، لأنه: "كما تكونوا يُوَلَّى عليكم"، (وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام:129]، فكذلك يولي بعض المتقين بعضًا، فلا تكون ولاية المتقين إلا من المتقين، ولذا قالوا: "أَعْمَالَكُمْ عُمَّالُكُمْ" أي: ولاة أموركم الحاكمون فيكم هي أعمالكم، هي تتصوّر لكم وتقع بها حُكّام عليكم (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) [الإسراء:7].

 يقول: "آداب التاجر" فـ للتاجر آداب؛ "لا يجلس في طريق المسلمين فيضيّق عليهم"، وهذا مُتصل بالقاعدة أنه في أمر الشرائع "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ". ولا يجوز الإضرار بأحدٍ من الناس ولا التضييق عليهم بغير حق، لأي أحد؛ تاجر أو غيره، ومن جملة ذلك:

  •  ما يتعلّق بالتاجر في مكانه، وما يسمونه من البساط، وما يبيعون ويشترون فيه، لا يتعرّضون للتضييق طريق المسلمين، فيكون لهم أماكن يملكونها أو يستأجرونها يجعلونها محل بيعهم وشرائهم.

  •  وإما أماكن لا ضيق فيها على المارّة ولا ضيق فيها على من يحتاج إليها من المسلمين، سواءً بالسعي بالأرجل أو بالدراجات أو بالسيارات تدخل إلى ذلك المكان.

  • أو في بلدة تكثر فيها السيارات فيحتاجون في هذا الممر إلى خطّين: خط للذهاب، وخط للإياب، ما يجوز تضييق شيء من ذلك؛ لا بدكّان ولا بغيره من الأعمال؛ فإن ذلك ممّا حرّمته الشريعة وأوجبت مراعاة حق الناس. 

وبذلك تعلم الخطأ الذي يقع فيه بعض التُجار، والأخطاء التي صارت شائعة بين الناس في إيقاف سياراتهم وإيقاف دراجاتهم في أماكن غير مناسبة، وغير لائقة، تضيق أحيانًا حتى على المُشَاةِ بالأرجل وهم يحتاجون المشي بهذا المكان، وتضيق على المُشَاة بالدراجات والمُشَاة بالسيارات، وأحيانًا شارع يسع ثلاث سيارات يمر فما يصلح يَسع حتى الواحدة إلا بالتعب بسبب هذا موقّف هنا وهذا موقّف كذا… وبعضهم يوقف ويقول: لحظات وأرجع، وفي هذه اللحظات يمر مريض، يمر صاحب وعد يفوت عليه، وأنت في هذه حقك اللحظات ذي التي ستذهب فيها وترجع، أبعد من طريق المسلمين، لا تؤذي المسلمين في طريقهم. وإذا كان وضع الأذى في طريق المسلمين من الأمر المحرّم المنهي عنه، وهذا من جملة الأذى للمسلمين والعياذُ بالله تبارك وتعالى. 

كذلك فيما يتّخذه من فرشٍ يفرشه، أو بساطٍ يمدّه، أو كراسي ينصبها لأجل شراب يبيعه أو مقهى يجعله لذلك.. فلا يأخذ من طريق المسلمين شيء يضيّق فيه عليهم. ما كان معروف أنه طريق ومرتّب للمرور فلا يجوز مضايقة الناس في ذلك.

ثم أنّ الناس بعد ذلك بالغوا في مسائل الإيجارات والبيع لهذه الأماكن، والأكثر منهم ما يسمونه في مصطلحهم مدّخر بنقل القدم؛ أن يتنازل له عن هذا المكان، وهو غير مالك له، لكن مستأجر له، ليستأجره الثاني، ويأخذ عليه هذا الأول أموال كثيرة، وإذا كان كَرِه من كره  من فقهاء الشريعة أن يأخذ الإنسان من الربح في المال فوق الثلث وفوق النصف، هذا من دون ما يأخذ كم.. يأخذ له ملايين وألوف لأن المكان استراتيجي كما يقولون، هذا أخذها فيه شبهة واضحة، فيه شبهة واضحة.. مقابل إيش؟ خذ لك شيء معقول وشيء مقابل… ولكن صار الناس عندهم هوس أخذ المال بأي طريقة كان، لا يفكرون في منزلته في الشريعة وإباحته وعدم إباحته.. من أي طريق! وصاروا أشبه بمن لم يبالِ من أي بابٍ دخل عليه المال، وقال ﷺ عن قوم يدخلهم الله تعالى النار يوم القيامة قالوا: يا رسول الله وهم يصلّون؟! قال: كانوا يصلون ويصومون ولهم هيئة من الليل.. لكن كانوا إذا عَرَض لهم شيءٌ من الدنيا وَثَبوا عليه! يقع ما يقع.. ما يبالي، لهذا يُهينهم الله تعالى ويذلّهم في القيامة والعياذ بالله تبارك وتعالى.

ولذا كان ابن عمر يصيح يقول: "لو قُمتم حتى تكونوا كالحَنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار لم يتقبل له ذلك منكم إلا بورعٍ حاجز"، وقال: لا يغرّنك من المرء قميص رقّعه، وإزار فوق نصف الساق منه رَفَعه، أرِه الدرهم تعرّفْ غيّه أو ورعه؛ اختبره بالدينار والدرهم. ولهذا لمّا أراد أن يزكي بعضهم بعض الناس عند سيدنا عمر أنه عَدل، قال: له جاورته في منزل؟ قال: لا، قال: عاملته بالدينار والدرهم؟ قال: لا، قال: صاحبته في سفر؟ قال: لا، قال: اذهب، فإنك لا تعرفه! كيف تزكّي واحد ما تعرفه، اذهب.. لعلك رأيته يصلي في المسجد؟ قال: نعم، قال: اذهب ليس هذا الميزان؛ الميزان تراه وقت الدرهم والدينار كيف هو، وقت السفر تُعرف به أخلاق الرجال، والجوار في المنزل، وعرفت مدخله ومخرجه، قال: لا، قال: فاذهب، فإنك لا تعرفه. كيف تزكي واحد لا تعرفه! اذهب هات لي واحد يعرف الرجل من خلال هذه المعاملات.

"لا يجلس في طريق المسلمين فيضيّق عليهم، ويستعمل غلامًا كيّسًا لا يبخس في كيله"، من يستعين بهم أو يشغلّهم عنده ويستأجرُهم للعمل عنده، يطلب فيهم: 

  • الكيْس والوعي 

  • والتقوى 

وإذا وظّف من لا يخاف الله -تبارك وتعالى- ربما أعانه على المعصية أو أدخل عليه في مال سوءًا. 

وقال: "لا يبخس في كيله، ولا ينقص في وزنه" فأول آية نزلت بعد هجرة نبيّنا إلى المدينة: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين:1-5].

وهذا محمد بن عبدالقادر بن أحمد بن طاهر بن حسين، المشهور عندنا بعبد المولى، اشترى طعامًا من بعض الناس في السوق، وجاء للبيت كاله بمُد عندهم حصّله ناقص، تعجّب.. قال له: عسى ما نقّصت أو تنقّص على غيري.. ليش؟ قال: أبدًا! أعطيتك حقك كامل، قال: أنا كِلته في البيت حصّلته ناقص، قال له: اسمع! أنا أعرف أهلك يا سيّد، أهل ورع، عندكم في البيت مكيالين؛ واحد مكيال مثل حق الناس هذا كان أهلك يأخذون به، واحد أوفى منه قليلًا زائد.. كانوا يخرّجون به، إذا سيُعطون يخرّجون به احتياط خوفًا من التطفيف، تعجّب الرجل، رجع قال: حصّلته صدق! أنا كِلته بالمكيال الذي أهلي يخرّجون به ما كان يأخذون به، وهذا البائع قد عرف حالهم، المجتمع كان متماسك مترابط ويعرف بعضهم البعض قال له: ليس كذا بل الأمر بالعكس.

 والمطففين الصغير هو الذي يخرّجون به، والكبير يأخذون به، أما هؤلاء عكسوا الأمر تمامًا تقوى لله، ولهذا كان بعضهم إذا وَزَن زاد قليل، قالوا: ما لك؟ قال: لن أشتري الويل بحبّة! حبة حبتين سأشتري بها الويل (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) يزيد قليل ولا ينقص حتى تكون ذمّتي كاملة.

 قال: "لا يبخس في كيله، ولا ينقص في وزنه، ويأمره بالرجَحان"، أن يرجح للآخِذ ويتساهل فيما يأخذ، "وترك العجلة في الميزان، يكون ميزان دراهمه في حدّته كالطيّار، ومن اعتداله كالمِعيار، طويلةٌ خيوطه دقيقةٌ ذوائبه، معبرةٌ صنجاته، معتدلةٌ حبّاته"، هكذا  احتياطًا. وكان بعضهم في قلبه غِل، يجيء كل يوم، هو يبيع بميزان عنده بعض الطعام، يحصّل أثر الغبار، فيتعمّد النفخ من الكفة التي يضع فيها المثاقيل والأواقي حقه، ويترك الثانية متعمّد حتى يخف قليل، والغبار إنما هو حاجة بسيطة لكنه الغل الذي في القلب، فلمّا أدركته الوفاة، كان عند الموت يقولون: لا إله إلا الله، ما يقدر يتكلم، وإن تكلموا كلام ثاني يتكلم، ثاني مرة قالوا: لا إله إلا الله.. سكت! كلام ثاني يتكلم.. صاحبه قال: ما لك؟ تتكلم معنا وإذا قلنا لا إله إلا الله تسكت!! قال: كلما أردت أن أنطق بها جيء بشوكة الميزان فوُضعت على لساني فمنعتني أن أقول.. مثّل الله له شوكة الميزان، مع أنه أمر يسير لكن الغل الذي في القلب وعدم المبالاة وعدم الاحتياط في الدين هو الذي أوصله إلى أن يُحرَم الإيمان عند وفاته، والنطق بلا إله إلا الله لكونه كان في هذه الصورة.   

قال: "يبتدئ كل يومٍ يمسح ميزانه، ويتعاهد نقص أرطاله وصنجاته، يأمر غلامه بالتوقف في كيله الأدهان، وإذا وقف عليه شريفٌ أكرمه" فهذا الاحتياط كله للمعاملة، وهذه القيم الشريفة التي تظاهرت بعض الحضارات بها، ثم أقامت حقيقة معاملتها على ضدّها، ويقولون في بعض دروسهم وفي جامعاتهم المتخصّصة: أن هذه القيم لو قُمتم بها لخَسِرتم وخسّرتم الجهات التي تعملون معها والشركات التي تعملون فيها، ويقولون لهم: اجعلوها مظهر وصورة في واقعكم، وشوفوا إيش تقدرون تستفيدوا منه كذا أو كذا…  كذب، غش، خلاف واحد، أي شيء عندكم ما عليكم المهم أنّك تربّح شركتك.. هكذا يقولون! وقالوا هذا في جامعاتهم في الدول المتحضرة المتقدمة المتطوّرة.. إنا لله وإنا إليه راجعون!  لكن هذه القيم التي بُعث بها الأنبياء لم يزل العاملون عليها مهما كان أمرهم رابحون، وكثيرًا ما يتعجّل لهم نصيبٌ من الربح في الدنيا، ثم ربحهم في الآخرة أعظم وأكبر، ثم يضع الله تعالى البركة لمن يشاء.

 هكذا كانوا على مجال احتياطٍ في هذا الأمر، ومما جاء أن بعض الصالحين الأخيار كان في بعض قُرانا هنا بجانب تريم، جاءوا عنده ضيوف، فأخرج درهم معه ووصّى القائم عنده بالخدمة في العمل إلى السوق في تريم؛ من يشتري له عشاء يعشّي به الضيوف، فأبطأ، لما جاء قال: ما لكم منتظرين؟  قال: ما طاع ينفق حقك الدرهم، قال: إيش؟! قال: عرضناه على ناس ما مشى، قالوا فيه غش، فيه زيف.. قال: وبعدين؟ قال: رحت عند واحد با نياني من منطقة كذا ومشّاه لي، قال له: هكذا تعمل؟ هيا خذه، واذهب إلى عند البانياني ورد له حقه، ورُدّ لنا درهمنا المغشوش وارمِه في البئر. ودخل للضيوف قال لهم: العفو منكم، كان عندنا درهم وطريقتنا كذا .. والآن من منكم سيبيت مثلنا طاوي ، نحن طاويين فمن سيبيت طاوي يا مرحبا بكم البيت أمامكم، ومن يريد شيء فالبلد تسعكم وتمشون محلّكم. ولا رضي أن يقع في الحرام ولا في الشبهة ولو أمام الضيوف، وقال: هذا واقعي وأنا لن أغشّكم ولا أغش نفسي، إن أردتم مثلي فأنا سأبيت طاوي ما عندي شيء، سنبيت معًا … وهكذا خوفهم من الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.

وهكذا كان واحد في السوق من الأخيار يأتي به واحد أيضًا من الكفار بالدراهم المغشوشة، فكان يأخذها منه كل يوم ويبيع عليه، وهو داري أنها مغشوشة،  واحد قال له: أنت مجنون؟ قال: ليش؟ قال: هذا يغشّك كل يوم!! قال: أنا داري به، قال: ولماذا؟ قال: سيغش غيري من المسلمين! فأحسن أنا داري به، سيتحملها هو، وأنا سأحصّل حقي  قدامه هناك في القيامة، والدرهم هذا حقه أرميه  في البئر، حتى لا يغش غيري به، آخذه منه كل يوم، هو يغش كل يوم دارهم أنا آخذه حتى لا يغش به آخرين. فهكذا طريقة التفكير عند الأخيار وعند الصالحين، فهؤلاء هم أن اتّجروا فهم تجار دنيا وتجار آخرة، (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور:37].

قالوا "وإذا وقف عليه شريف أكرمه، أو جار فضّله، أو ضعيف رحمه، أو غير هؤلاء أنصَفه"، الدين المعاملة، فإذا أحد من أهل الشرف والتقوى، أو العلم أو الصلاح أو المكانة.. أكرمه، وإذا كان جار فضّله قدَّمه على غيره وعرف حق الجوار. وإذا كان ضعيف، فقير.. يرحمه، وغير هؤلاء يُنصِف، يُنصِف، (فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُون) [البقرة:279] كما قال الله تعالى.

وهكذا شأن المعاملة، وقد سبق أن ذكرنا أن من حِرص بعض هؤلاء الأخيار في تجارتهم على الصدقة الخفيّة، وصلوا من حِرصهم على إخفاء الصدقة، أن لا يعلم المتصدَّق عليه أنه تُصُدِّق عليه، كيف؟ بعضهم تُجار من الذين يبيعون، وبعضهم من أهل البلد يشترون، فهؤلاء التجار عندما يجيء له واحد من أهل البلد يعرف أنه فقير، وأنه محتاج، يعرفه ويعرف وضعه وحاله، عندما يدخل عنده، البضاعة قيمتها عشرة مثلًا، ويبادئه يقول له: بكم هذه؟ اسمع هذه بثمانية أو سبعة لكن لن أنقِّص لك ولا قرش واحد ولا ريال، ستشتريها بسبعة أو ثمانية ولا خلاص؟ ذاك يدري إن سعرها زائد، يقول نعم نعم سأشتري، يظن أنه غبن هذا، وهذا بينه وبين الله أراد الثلثين والثلث ذا الذي تركها صدقة، سر ما يعلمها إلا هو، حتى المتصدَّق عليه هذا ما يظن أن أحد تصدّق عليه يظن إنه شاطر وانه قمر هذاك وهو ما غبنه.

وكذلك بعض الأخيار من المشترين أهل البلد، يعرف أن بعضهم مساكين يطلب قوت يومه، يبرز له برزة أي شيء، أو يبيع له أي حاجة يطبخها أو أي شيء يجيبه وهو داري بالسعر، داري إنه سعرها مثلا عشرة، يجيء عنده يقول: يا أخي بتبيع لي هذا باثني عشر أنا ما عندي زايد على اثنى عشر بتعطينا بإثنى عشر ولا بروح من عندك بشوف غيرك؟ يقول: لا، تفضل تفضل…، هو يظن أنه ذاك مغبون وهو ليس مغبون، هو متعمّد، أراد الاثنين الزائدة فوق العشرة صدقة بينه وبين الله سرّيّة ما يعلمها إلا الله جل جلاله. فيأخذها لأنه داري به أنه من أسرة فقيرة أصلًا، إنما يتسبب في قوت يومه بشيء فهو يريد أن يتصدق عليه، لكنه لا يريده أن يعرف أنه يتصدّق عليه، فهو يجعلها من جملة المعاملة بينه وبين الله، فيتبارك ماله ويتبارك حاله وهكذا. 

كان بعض الأثرياء الكبار الذين قبل خمسين سنة من أكبر أثرياء العالم، ما يفتح له مشروع ولا شيء من الأعمال إلا وجعل في ضمن المرتّبات واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة… من الفقراء المساكين، ما يعملون شيء لكنه يجعل لهم مرتب عنده، ويصِلهم كأي واحد من الموظفين. ما فتح شيء إلا تبارك، ونظر الله إليه، وصار من كبار الأثرياء، وهو أُمِّي، ما يقدر يكتب سواء، ولكن بارك الحق -تبارك وتعالى- له فيما عمل؛ لأنه أحسن المعاملة معه جل جلاله. 

يقول: "يبيع على قدر أسعاره، إن نقص سعره زاد زبونه، كما إنه إن زاد سعره نقص زبونه"؛ يعني: اليسير من الربح مع استمراره يكون أبرك وأنمى من الكثير مع انقطاعه، مع أيضًا ضيق النفس أو شدة الحرص والطمع. ويقول بعضٌ في حكمتهم: ثُعل يدور خير من أسد محصور؛ فدِرْهم يدور ويتبارك أحسن من كثير مخزنها وهكذا.. ومن قنع باليسير جاءه الكثير.

ولما جاءت بعض النساء الخيّرات، جمعت لها مُدّ أو مُدَّيْن من الطعام الدوني عندنا نوع يسمونه كنب؛ أقل من البُرّ أقل من الذُّرة أقل من الأرز، وجاءت تريد تسلّمها للشيخ أبو بكر بن سالم، ووصلت عند باب بيته، فوجدت القائم بالخدمة قالت له: أين الشيخ أبوبكر؟ قال: الآن وقت قيلولته نائم استريحي، قالت: ادعُه، قال: لماذا؟ قالت: سأعطيه هذا، قال: تريدين أدعي لك الشيخ وأقوّمه من نومه من أجل هذا؟!! في مطبخه كل يوم يطبخون سبعمائة قرص ألف قرص إيش يسوى الذي معك؟ كان انكسر خاطرها مسكينة، وهو يتكلم معها سمع حركة في الدرج وإذا به الشيخ خارج، قال: مرحبا من هذه؟ قالت: ألّا عندي قليل…، قال: يا مرحبا أنتِ من أجل الله جئتِ زُرتينا ومن أجل الله وهبتينا هذا؟ قالت: نعم، قال: الله! كم حبات هذه؟ كل حبة توزَن في القيامة وتحصلي فيها كم ذرات، بارك الله فيك، مسكينة فرحت وراح انكسر خاطرها وانجبر، أهلا وسهلا.. حمله وقبّله وأعطاها الهدية. 

قال: ماذا تقول للمرأة؟ قال: أرادت أن أوقظك من النوم لأجل هذا، قال: أما تدري أنّا لو لم نشكر على القليل ما جاءنا الكثير؟ ما قدَّرت سيرها من أجل الله في الطريق هذه كلها؟ ولمجيئها مؤمنة محبة من أجل الله تبارك وتعالى؟ احذر تكسر خاطر أحد! ومن جاء بقليل أو كثير لا ترد أحد! واجبر خواطر الناس كلهم. فهكذا كان شأنهم ومعاملتهم مع الله جل جلاله. ومع ذلك في تواضعه يمر على الخبازين يقول لطّفوها أنا ما أنا سلطان ولا ملك أنا ألّا ولد سالم بن عبدالله، ولا السلاطين وقته أحد يعمل مثله ولا أحد يضيّف مثله ولا أحد ينفق مثله؛ ولكن خضوعهم لله وأدبهم لله، هكذا الأدب النبوي تسلسل فيهم ووصل إلى عندهم، الله يرزقنا بنصيب من هذا الخير العجيب.

قال "وتكون همّته في جلوسه درس القرآن، وغضّ الطرف عن المحارم والغلمان" هكذا كان أمرهم. وكنا ذكرنا أنه يذكر لنا بعض أهل الاتصال بالحجاز والحرمين الشريفين أن الناس إلى ما قبل ستين سنة، ما كان دكان حول الحرم المكي ولا حرم المدينة إلا ووسطه قرآن ودلائل الخيرات، في الدكاكين كلها، وأنهم كانوا أصحاب البيع والشراء في الساعات التي ما يأتيهم زبائن تجدهم يقرؤون القرآن وسط دكاكينهم، سمعت؟ ومع ذلك ما يفتحون الدكاكين في الصباح، إلا وهم آخر الليل في الحرم، وصلاة الصبح جماعة، وذكر إلى طلوع الشمس أو درس يحضرونه، ثم يصلون الإشراق ويخرجون يفتحون الدكاكين. بين المغرب والعشاء ووسط الحرم، قبل المغرب يقفلون ويذهبون إلى الحرم. 

وكانوا في كريم أخلاقهم، يراعي بعضهم بعض، يدخل الزبون عند هذا يشتري منه بضاعة، يبيع عليه، يجيء الزبون الثاني، يقول له: اسمع شوف البضاعة هذه مثلها تمامًا عند جاري هنا نفس السعر، هو ما استفتح اليوم بعد؛ يعني: ما جاء أحد عنده اشترى، أنا قد استفتحت، اذهب عند جاري هناك واشترِ من عنده، ايش العقلية هذه؟! وعاشوا عيشة كريمة في بركات وفي سرور وفي طمأنينة، ولهم صدقات ولا عليهم ديون، ولا عليهم هموم، ولا عليهم غموم، عاشوا بهذه الصورة كانوا يتعاملون، وتعرض لأحدهم حاجة، يروح بيوصّل حاجة لبيته أو جاء عنده ضيف، يقول: أنا الآن سأذهب انتبه للدكان حقي، يقول له:  ما عليك اذهب، يجيء الزبون للدكان الثاني يخرج هذا من محله للمحل الثاني: مرحبا تفضل إيش تريد؟ وهو يعرف الأسعار ويعطيه ويأخذ الفلوس يحطّها في درج صاحبه، ويأخذ من درج صاحبه ويعطيه ويخرج، فإذا جاء وقت صلاة الظهر أو العصر وهم في السوق، يحطّون على بٌسطهم خرقة صغيرة وحتى الدكان يستر عليه بخرقة ويدخلون يصلّون، ما أحد يسرق أحد، ما أحد يأخذ من أحد، وهذا أثر من الآداب النبوية والجمال في الشريعة. 

إلى ما قبل ستين سنة كان موفّر جنب الحرمين… ضاع، ضاع علينا اليوم! بعضهم حتى أصحاب ذهب وجواهر يرد الباب كذا، ما يقفله يردّه فقط أو يسدل الستارة ويروح يصلي في الحرم ويرجع، هذا حال الناس بهدي هذا النبيّ، وبما أوحى الله إليه، وصلوا إلى هذه المستويات العالية. 

إنما كل دولة من الدول التي يسمونها متقدمة لو انطفأت الكهرباء في حي من أحيائها عشر دقائق حصلت مشاكل كبيرة ونهب وسرقة بغياب الكهرباء فقط، مثل هؤلاء الذين عندنا الذين يقفون في الطريق وغيرها لا يوجد رادع من المرور، ما يبالوا، ولو وُجد رادع المرور وفوقها خسارة عليهم أو بنشرت حقهم الكفرات، كل واحد سيبحث عن موقف مناسب، وأفزعوك هؤلاء لأجل بنشر أو لأنهم يأخذون فلوس عليك!.. وذا ربك يقول لك لا يليق، لا ينبغي.. ما أفزعك؟ ما خفت منه؟ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) [النساء:108].

وربك أحقّ أن تخافه، ولكن صارت نفوس الناس هكذا، إذا أحد سيأخذ عليهم فلوس غرامة.. صاروا أديبين، جاء الأدب! هذا أدب فلوس كما يضربون به المثل عندنا العوام يقول: أدب قطط! إذا قد جاءت لها شهوتها ما عاد تعرف شيء، تقفز ويذهب الأدب حقها، في غيره تتملق وهكذا…فيضربون بهذا المثال يقول واحد أنا أدّبت عندي قطة، فهي وصلت إلى حد أضع السراج على رأسها وأنا أطالع ما تتحرك، قال له صاحبه لكنه: أدب قطط! قال: أبدًا هذه أنا ربيتها، قال: له هيا خير.. متى تطالع؟ قال: وقت الفلاني، قال: بشوفها بجيء، قال: تعال، فجاء وأخذ معه فأر، لما وصل فكّه، وذا يطالع.. قفزت فوق الفأر وتأكله وسقط السراج والزيت حقه فوقه، وقال له: شفت هذا الأدب الذي قلت عنه؟!

والناس هكذا يتأدبون من أجل الغرامة، ومن أجل البنشرة، أو من أجل الحبس، ومن أجل الله لا أدب عندهم!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.. اللهم زِدنا إيمانًا ويقين وارزقنا التأدّب بأدب خاتم النبيين. 

يقول: "وغضّ الطرف عن المحارم والغلمان" فإن للشيطان عملًا في ذلك، فيجب أن يحتاط لنفسه ليكون على أدبٍ مع الله، وورعٍ مع الله، لا يمدّ طرفه إلى ما حرّم الله تبارك وتعالى، فلا يمدّ الطرف، ولا يرقّق الصوت، ولا يتعمّد التبسّم في وجه الأجنبية، وما إلى ذلك من كل ما يؤدي إلى السوء.

قال: "يشتري عرضه باليسير من سفيهٍ يقف عليه، ولا يردّ السائل" ولو بكلامٍ طيب وقولٍ حسن، ولو بيسيرٍ مما يُيسر الله له. "ولا يمنع البِشر من النائل." فيكون بسّامًا.

وهكذا يذكر عليه رحمة الله: "فإن كان هو المتولّي لأمـره كان ما يُلزم غلامه هو أولى به، ويشتري الأرطال والصنجات والمكيال من الثقات معبرات، ويترك المدح للسلعة عند البيع، والذم لها عند الشراء، ويلزم الصدق عند الإخبار". فإن الذي يقول هذه السلعة ممتازة وما ستجد مثلها، لا يسلم من أن يدخل في الغش أو في الخيانة وفي تهييج الآخر لأجل البيع منه، ومهما كان غير محقّق في كلامه فيرجع الإثم عليه والعياذ بالله تبارك وتعالى.

مثل الذي ينفّق سلعته باليمين؛ والله إنها تسوى كذا.. والله أنا اشتريتها بكذا.. وكذب ما اشتراها بكذا، فالمنفّق سلعته باليمين الكاذبة ممّن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم؛ ينفّق سلعته باليمين الكاذبة والعياذ بالله تعالى. قال "ويلزم الصدق عند الإخبار، ويحذر الفحش عند المزايدة، والكذب عند المحادثة، ويقل الخوض مع أهل الأسواق، ومداعبة الأحداث ويقصر في الخصومات". "رَحِم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى". 

الله يبارك لنا وللأمة، ويكشف عنّا وعنهم كل غمّة، ويجعل لنا آثار من رمضان يصلح بها السِرّ والإعلان، وينتشر خيرها بيننا وبين الأمة في الأكوان، يا محوّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضلال والجهّال بِسرّ الفاتحة الى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

01 شوّال 1445

تاريخ النشر الميلادي

10 أبريل 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام