شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -36- آداب الحج: آداب دخول المدينة

للاستماع إلى الدرس

الدرس السادس والثلاثون من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، ضمن الدروس الصباحية لأيام الست الأولى من شوال 1444هـ، آداب الحج: آداب دخول المدينة. 

فجر  الخميس7 شوال 1444هـ.

يتضمن الدرس:

  • شرف البقاع والأماكن بشرف ساكنيها
  • من خصائص المدينة المنورة
  • محبة المكان الذي حله ﷺ من ضرورة الإيمان به
  • أحوال الإمام مالك وأدبه في المدينة المنورة وتعظيم حديث النبي ﷺ
  • أدب دخول المدينة بالوقار
  • ما قاله الإمام الحداد في زيارته للمدينة
  • قصة زيارة الأعرابي
  • حال الدواب في طريقها للمدينة
  • قصد زيارة النبي ﷺ عند زيارة المدينة
  • (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)
  • زيارة النبي وسيدتنا فاطمة لشهداء أحد
  • من فضائل سيدتنا فاطمة ابنة رسول الله ﷺ
  • السلام على أبي بكر وعمر، وموضعهما في الحجرة الشريفة
  • أدب زيارة النبي ﷺ كزيارته في حياته
  • شوق المؤمن لرسول الله ومحبة مواطنه وآثاره
  • مخاطبة النبي في الصلاة
  • قصيدة توجه الإمام الحداد للمدينة المنورة في الحجرة الشريفة
  • أبيات الإمام الحداد عند سفر ابنه للمدينة
  • تنبيه عن الاشتغال بالجوالات في مواضع الخير والبعد عن الخشوع

 

آداب الحج: آداب دخول المدينة

 

آداب دخول المدينة

"يدخلها بالوقار مع السكينة، والمشاهدة لما كان فيها من الشريعة، والنظر إليها بالعين الرفيعة، ثم يأتي مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومنبره كأنه مشاهد لصَلاته وخطبته، ثم يأتي قبره وكأنه ناظر إلى شخصه الكريم، ومخاطبته مع خفض الصوت بحضرته كأنَّه معاين لجلسته، فَيبدؤه بالسلام، ثم يسلم على ضجيعيه، ويشهد محبتهما له، ومشيته بينهما، وإقباله عليهما، ويعاين هيبتهما له وإقبالهما عليه، وإذا ودّع القبر فلا يوليه الظهر."

 

نص الدرس مكتوب:

 

اللهم صلّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك الذي جاءنا منك بالبشرى سيدنا محمد، وعلى آله وأهل بيته من منحتهم به طُهرا، وعلى أصحابه من رفعت لهم به قدرا، وعلى من تابَعهم وسار بمَسيرهم مخلصًا لوجهك صادقًا معك سرًّا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رقَّيتهم في الفضل أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، عدد ما خلقت وملء ما خلقت، وعدد ما في الأرض والسماء وملء ما في الأرض والسماء، وعدد ما أحصى كتابك وملء ما أحصى كتابك، وعدد كل شيء وملء كل شيء، كما تحب وترضى، عدد خلقك ورضى نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك. 

وبعدُ،

فإننا في ذكر الآداب نختم دروس هذا العام لأيام الست من شوال بآداب دخول مدينة سيدنا المصطفى محمد ﷺ. 

قد علمنا أن الله ميّز البقاع عن بعضها البعض، كما ميّز الأزمنة، وكما ميّز الأشخاص والناس، والفضل في الأشخاص والأماكن وفي الشهور واردٌ في القرون، وحسبنا الله وما شاء يكون، فميّز بعض الخلق عن بعضهم وميّز بعض البقاع عن بعضها، ورأيناه سبحانه وتعالى ربط شرف المَواطن في الأرض بمن يحِل فيها ويسكنها، حتى قال عن مسجد نبينا ﷺ: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ) [التوبة:108]؛ فميزة البقاع بميزة أهلها.

وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها *** تشقى كما يشقى الرجال وتسعد

وإنما المنازل بنازليها، وإنما المكان بالمكين. وإذا كان الأمر كذلك فإن أكرم خلق الله على الله، وأفضلهم لديه أحلّه المدينة وجعل مدفنه المدينة ﷺ، وجعل لها خصائص، وقد صحّ في الأحاديث قوله: "اللهم إنّ إبراهيم - عبدك وخليلك- حرّم مكة فجعلها حرامًا وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها" وفي رواية: "ما بين لابَتيها"، ودعا لها بالبركة في صاعها وفي مُدّها، ولم يزل على مدى القرون من أيام رسول الله ﷺ إلى أيامنا هذه يشاهد كل من سكن المدينة بركة في الطعام لا تكون في غيرها، حتى من سكن في أي بقعة ثم انتقل إلى المدينة فسكن فيها يجِد فائض في طعامه، ويكفيه بعض ما ينفقه من مرتَبه في المحلات الأخرى بنفس الأسرة الذين يعيشون معه، ونفس الضيوف الذين ينزلون عنده، وبارك لها في مدّها وصاعها ﷺ.

يقول: "وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ" ويقول: اللهم بارك بالمدينة كما باركت بمكة، ضعف ما باركت بمكة، "واجعل مع البركة بركتين" ﷺ، وهكذا جاءنا في الروايات الكثيرة عنه ﷺ. 

فكانت التي حلّها حبيب الرحمن، ومن ضرورة الإيمان به وتصديقه أن يُحب المكان الذي حلّه ونزله، وبذلك عبّر سيدنا ثمامة بن أثال قال: ما كان من دين أبغض إليّ من دينك فقد أصبح والله دينك أحبّ الأديان كلها إليّ، وما كان من وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح والله وجهك أحبّ الوجوه كلها إليّ، وما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فقد أصبح والله بلدك أحب البلاد كلها إليّ، أحب البلاد كلها إلي.. يعني: أحبّ إليه من منطقته اليمامة وبلدته و موطنه، بعد أن دخل الإيمان في قلبه أحبّ البقعة التي حلّ فيها رسول الله، وبذلك يقول قائلهم:

أحب طيبة ومن هم وسط طيبة يحِلّون *** وأعشق القاع لي سادَتي فيها يسيرون

وهكذا.. فإن كان الحقّ يشرّف البقاع بأهلها؛ فلا أشرف لديه من عبده محمد ﷺ، وقد صحّ في الحديث أنه يقول: 

  • "من أخاف أهل المدينة" وأذاهم "أخافه الله يوم القيامة، ولعنه الله وغضب عليه ولم يقبل منه صرفًا ولا عَدْلا".

  • وقال: "من أرادها بسوء"، وأراد أهلها بسوء "أذابه الله كما يذوب الملح في الماء".

  • وقال في الحديث: "من أحدث فيها حَدثاً أو آوى مُحدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صَرْفًا ولا عَدلاً".

  • وقال: "إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خَبَث الحديد".

  • وقال: "من سكن المدينة وصبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعًا يوم القيامة"، وفي رواية: "كنت له شهيدًا يوم القيامة" ﷺ.

وهكذا قال: "يدخلها بالوقار والسكينة"؛ لأنها مدينة حبيب الرحمن ﷺ. وقد كان لا يجرؤ ولا يقوى على الركوب فيها سيدنا مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ولا يلبس النعلين، وإذا أراد قضاء الحاجة خرج من حدود حرم المدينة كلها إلى الخارج -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- وكان له منصة في المسجد النبوي لا يجلس عليها إلا عندما يريد أن يحدّث بحديث رسول الله ﷺ، وكان يسرد سنده حتى إذا وصل إلى الصحابي قال: عن صاحب هذا الضريح وأشار إليه ﷺ أنه قال كذا، وكانوا يجلسون بين يديه كأن على رؤوسهم الطير، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

قالوا: وقد احمرّ وجهه يومًا وهو يُملي الأحاديث، ولما انتهى وفرغ، قال: انظروا ماذا يلسعني في ظهري فوجدوا عقرب قد لسعه أربعة عشر لسعة، قالوا: لماذا ما تتكلم من أول ما تحس؟ قال: كنت في حديث رسول الله، فكرهت أن أقطعه لشيء، رضي الله عنه.

وهكذا كان تعظيمهم؛ وعليه حمل الأئمة قوله ﷺ: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة"، قالوا: هذا ينطبق على أنس بن مالك الأصبحي -عليه رضوان الله- الذي انتهت إليه رئاسة العلم في زمانه بالمدينة المنورة، ومن فقهه في الشريعة وسِعة اطلاعه على حقائقها قال له أبو جعفر المنصور: تشخص معنا فإننا نريد الخروج من المدينة، ونريد أن نحمل الناس على الموطأ؛ ما رويته في موطَئِك نجعله له مذهب واحد للناس يمشون عليه، فقال له سيدنا الإمام مالك: أما الخروج من المدينة فلا سبيل إليه وقد قال ﷺ: "والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون"، وأما حملك الناس على الموطأ فلا سبيل إليه، فإن أصحاب رسول الله ﷺ تفرّقوا في الأمصار ومع كل قومٍ علم، فإن تَفعلها تكن فتنة؛ تقيّد الناس في بعض العلم الذي ورد عن نبي الله وتحملهم على مذهبي وعلى ما انتهت إليَّ روايته تكن فتنة، تفتن المؤمنين؛ لأن علم رسول الله ﷺ قد انتشر في الآفاق ومع كل قوم علم. هذا فقهه في الدين رضي الله تعالى عنه.

وكان يأتيه السؤّال يسألونه، فكان إذا عندهم سؤال في فقه أو في تاريخ أو في غيره من العلوم يُجيبهم، فإذا قالوا في الحديث -يسألون في الحديث- اغتسل وتوضأ وتطيّب ولبس أحسن ثيابه وجلس لحديث رسول الله ﷺ.

يقول: "يدخلها بالوقار والسكينة، والمشاهدة لما كان فيها من الشريعة، والنظر إليها بالعين الرفيعة"

يقول الإمام الحداد عليه رحمة الله:

وَلَمَّا أَتَيْنَا بِالْمَنَاسِكِ وَانْقَضَتْ *** وَذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ كَرِيمٍ وَقَادِرِ

حَثَثْنَا المَطَايَا قَاصِدِينَ زِيَارَةَ الْـ*** حَبِيبِ رَسُولِ اللَّهِ شَمْسِ الظَّهَائِرِ

وَسِرْنَا بِهَا نَطْوِي الفَيَافِي مَحَبَّةً *** وَشَوْقًا إِلَى تِلْكَ القِبَابِ الزَّوَاهِرِ

فَلَمَّا بَلَغْنَا طَيْبَةً وَرُبُوعَهَا *** شَمَمْنَا شَذَى يُزْرِي بِعَرْفِ العَنَابِرِ 

شممنا شذى؛ و المزكوم ما يشم!…

وَأَشْرَقَتِ الْأَنْوَارُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ *** وَلَاحَ السَّنَا مِنْ خَيْرِ كُلِّ المَقَابِرِ 

مَعَ الْفَجْرِ وَافَيْنَا الْمَدِينَةَ طَابَ مِنْ *** صَبَاحٍ عَلَيْنَا بِالسَّعَادَةِ سَافِرِ

إِلَى مَسْجَدِ المُخْتَارِ ثُمَّ لِرَوْضَةٍ *** بِهَا مِنْ جِنَانِ الخُلْدِ خَيْرِ المَصَائِرِ 

إِلَى حُجْرَةِ الهَادِي البَشِيرِ وَقَبْرِهِ *** وَثَمَّ تَقَرُّ العَينُ مِنْ كُلِّ زَائِرِ

وَقَفْنَا وَسَلَّمْنَا عَلَى خَيْرٍ مُرْسَل *** وَخَيْرِ نَبِيٌّ مَا لَهُ مِنْ مُنَاظِرِ

فَرَدَّ عَلَيْنَا وَهُوَ حَيٌّ وَحَاضِرٌ *** فَشُرِّفَ مِنْ حَيَّ كَرِيمٍ وَحَاضِرِ

زِيَارَتُهُ فَوْزُ وَنُجْحٌ وَمَغْنَم *** لأَهْلِ القُلُوبِ المُخَلِصَاتِ الطَّوَاهِرِ

بِهَا يَحْصُلُ المَطْلُوبُ فِي الدِّينِ وَالدُّنَا *** وَيَنْدَفِعُ المَرْهُوبُ مِنْ كُلِّ ضَائِرِ

بِهَا كُلُّ خَيْرٍ عَاجِل وَمُؤَجِّل *** يُنَالُ بِفَضْلِ اللهِ فَانْهَضْ وَبَادِرِ 

وَإِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفُ وَالكَسَلَ الَّذِي *** بِهِ يُبْتَلَى كَمْ مِنْ غَبِيٌّ وَخَاسِرِ 

فَإِنَّكَ لَا تَجْزِي نَبِيَّكَ يَا فَتَى *** وَلَوْ جِئْتَهُ قَصْدًا عَلَى العَيْنِ سَائِرِ 

فَبُورِكَ مِنْ قَبْرٍ حَوَى سَيِّدَ الوَرَى *** وَسَامِي الذُّرَى بَحْرَ البُحُورِ الزَّوَاخِرِ

قد تناقل الأئمة والعلماء من المفسرين ومن الفقهاء قصة العُتبِي، التي أوردها الإمام ابن كثير في تفسيره وغيره من المفسرين، وأورده الإمام النووي في (المناسك) وغيرها، يقول: كان العتبي أحد أهل الصلاح والعلم جالسًا في الحجرة الشريفة، فرأى أعرابيًا جاء ووقف على القبر وقال:

إني سمعتك يا ربي تقول: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) [النساء:64]، وقد ظلمت نفسي وجئتك، وجئت إلى رسولك مستغفرًا فاستغفر لي يا رسول الله.

يا خير من دُفنت في التُّرب أعظمه *** وطاب من طيبها القيعان والأكم

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه *** فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وانصرف الأعرابي، قال: فأخذتني عيني -نعِست- فرأيت النبي ﷺ وقال: قم يا عُتبي فالحَق الأعرابي وبشّره أن الله قد غفر له. 

يا غفّار اغفر لنا، يا خير الغافرين، وارزقنا زيارة نبيّنا في الدنيا ورؤيته عند الموت وفي البرزخ ويوم القيامة، وعلى حوضه المورود وفي دار الكرامة يا رب.

وقد كان المسلمون على مدى القرون يشاهدون الأثر حتى في الحيوانات، وقد كانت أسفارهم على الجِمال غالبًا أو على الحمير والخيول، فكانت كلها إذا بدت المدينة تحرّكت ومشت بسرعة، ولم تقِف إلا بجوار القبة الشريفة، بجوار القبر الشريف والحرم الشريف، ويخفّفون عنها من أحمالها ولا عاد تشعر بشيء وتتحرك، بل يشاهدون دموعًا تخرج من عيون تلك الحيوانات. لذلك ذكر الحافظ الديبعي في مولده الأبيات التي يقول الشاعر فيها: 

حدا حادي السُّرى باسم الحبائب *** فهز السُّكر أعطاف الركائب

فهزّ السكر أعطاف الركائب: الجِمال

ألم ترها وقد مدّت خُطاها *** وسالت من مدامعها سحائب

ومالت للحمى طربًا وحنّت *** إلى تلك المعالم والمراتب

فدع جذب الزمام؛ خلاص لا عاد تقودها.. 

فدع جذب الزمام ولا تسُقها *** فَقائد شوقها للحيّ جاذب

الله!! بعدين يخاطب الإنسان نفسه يقول: أنت 

فهِم طربًا كما هامت…… 

الحيوانات تكون أحسن منك تشعر وأنت ما تشعر! وتحس وأنت ما تحس! تبكي وأنت ما تبكي!

فهِم طربًا كما هامت وإلا *** فإنك في طريق الحب كاذب

أما هذا العقيق بدا …………. 

فهو وادٍ مبارك، قال ﷺ: "أتاني جبريل وقال: صلًِ في هذا العقيق، فإنه وادٍ مبارك"، وهو عند مدخل المدينة لمن يجي من جهة مكة.

أما هذا العقيق بدا وهذه *** قِباب الحي لاحت والمضارب

وتلك القبة الخضرا وفيها *** نبيٌّ نوره يجلو الغياهب

وقد صحّ الرضا ودنا التلاقي *** وقد جاء الهناء من كل جانب

فقُل للنفس دونك والتملّي *** فما دون الحبيب اليوم حاجب 

تملّي بالحبيب بكل وصلٍ ………… 

نفسه وبعقله أنه يدخل المسجد وإلا ما بيدخل؟ بيصلي في المسجد وإلا ما بيصلي؟ ولا واحد ينوي أنه ما يدخل المسجد ولا يصلي في المسجد، وأي مؤمن ينوي يدخل المسجد يعرف نفسه أنه لا بد يسلم على الحبيب، وإلا شيء نفاق ولا جفاء زايد؟! يمكن يكون يتركه يدخل مسجده ولا يسلم على رسول الله ﷺ، وإلا من يقصد المدينة ثم لا ينوي السلام على رسول الله؟!! أو لا ينوي الصلاة على رسول الله!! ما معنى نوى أنه كذا لا كذا..، كلام فارغ أصلا ما له وجود، أنت يا من ظنّيت بعقل ونويت المسجد يعني تنوي أن لا تسلم على النبي؟! لا لا لا، إيش الكلام هذا؟! وأنت يا من نويت تسلم على النبي وتزور قبره ناوي انك ما تدخل المسجد؟! يقول: أستغفر الله، كيف أنوي ما أدخل المسجد، إيش العقل هذا أدخل طبعا.. فإذًا، إيش معنى الكلام هذا؟ لعبة في لعبة.. لعبة في لعبة ومسخرة، اقصد ما تقصد!!… 

المهم ما تقصد حرام، ما تقصد إثم، ما تقصد عمل معصية، هذا الواجب عليك، وأما قبر أو مسجد أو غيره..إيش الذي حصل؟! ما الذي تنوِه؟ لا إله إلا الله!... 

إن كان المفهوم الخاطئ فيما أشرنا إليه سابقًا في قوله: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وجاء عنه ﷺ أنه كان يزور أُحدًا على رأس كل عام؛ على رأس كل حول، من حين وفاته في شوال في كل سنة يذهب إلى أُحُد يسلم عليهم، وهو القائل عند دفنهم: "والذي نفسي بيده لا يقف عليهم أحَد فيسلم عليهم إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه السلام".

وكانت ابنته سيدتنا فاطمة تسير من المدينة كل خميس إلى قبر سيدنا حمزة -عم أبيها- فتسلم عليه وعلى شهداء أُحُد وترجع، مسافة من المدينة إلى أحد تخرج هناك تسلم عليهم وتزور عم أبيها سيدنا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، وتسلم عليه وعلى شهداء أحد وتعود، عليها رضوان الله. من المعلوم أن فقهها من عند أبيها، وأن معرفتها للدين من عند أبيها، الذي ربّاها وسمّاها أم أبيها، كان يقول لها: يا أمّ أبيها! وجاء في الحديث أنه ﷺ قال:  إن مَلَكاً لم يزرني من قبل استأذن ربه فزارني، وأخبرني أن فاطمة سيّدة نساء أمّتي، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة ﷺ.

يقول: "كأنّه مشاهد لصَلاته و خطبته، ثم يأتي قبره وكأنّه ناظرٌ إلى شخصه الكريم، ومخاطبته مع خفض الصوت بحضرته كأنَّه معاين لجلسته". وقد رأينا استدلال سيدنا عمر على منع رفع الصوت المسجد بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [الحجرات:2]، قال: "فَيبدؤه بالسلام، ثم يسلم على ضجيعيه"؛ الذيْن جعل الله مضجَعيهما  و قبريهما بجواره ﷺ: سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا عمر بن الخطاب. 

  • لمّا قبر الصحابة سيدنا أبو بكر أخَّروا رأسه عن رأس رسول الله ﷺ، فجعلوا رأسه قريبًا من مقابلة منكبيه الشريفين ﷺ ورجلاه إلى جهة الشرق متأخرًا عن رسول الله ﷺ.

  • فلما قبرُوا سيدنا عمر أخرّوه وجعلوا رأسه يحاذي إلى ظهر أبي بكر ورجلاه متأخرة إلى جهة القبلة.

 وهي التي برزت من بعض التوسعة في المسجد في عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز، وخاف سيدنا عمر بن عبد العزيز وما درى قبر مَن هذا منهم، وكان بعض الصحابة موجودين، خاف أنها رجليّ رسول الله ﷺ، نظر بعض الصحابة، وقالوا له: هذه رجلي عمر يا أمير المؤمنين -لمّا كان أميرهم في المدينة- فخفَّ الأمر عليه وردّها كما كانت ورجعها، قالوا إنهما رجلي عمر هذا بنفسه يعرفونها.

قال: "يسلم على ضَجيعيه" ولما سُئل سيدنا جعفر الصادق مرة، سأله بعض الذين يقعوا في تشويش الغلو والافتتان، قالوا: ما كان منزلة أبو بكر وعمر من رسول الله ﷺ؟ قال: كمنزِلتهما منه الآن! منزلتهم منه الآن أين هم؟ جنبه.. قال: فهم كانوا في الحياة هكذا، حياتهم في أيام حياته كان منزلتهما عنده هكذا في جواره، قال: مكانهما من رسول الله كمَكانهما منه الآن، قال رُح شوف هم مكانهم قريب منه ﷺ.

قالوا: وما يُقبر أي إنسان إلا في المحل الذي فيه ذرّة ترَابيته من تلك البقعة، ففيه أن الذرة الترابية للجسد النبوي من تلك البقعة وأن من جنبها أُخذت ذرة تربة أبو بكر وعمر، عليهما رضوان الله تبارك وتعالى.

"ثم يسلّم على ضَجيعيه، ويشهد محبتهما له وتَفانيهما فيه، ومشيته بينهما وإقباله عليهِما"، كان كثيرًا ما مشى بينهما، حتى جاء في بعض الأحاديث أني أُحشر بين أبو بكر وعمر، ويأتيني أهل البقيع، ثم يلقاني أهل مكة؛ السيدة خديجة والمقبورين من المؤمنين في مكة المكرمة، فيكونون من أوائل من يُحشر في مرافقة خير البشر ﷺ، وما أكثر ما كان يقول: مشيت أنا وأبو بكر وعمر، دخلت أنا وأبو بكر وعمر، جلست أنا وأبو بكر وعمر ﷺ.

قال: "ويعاين هَيبتهما له وَإقبالهما عليه"، إنهما بعد نزول الآية (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [الحجرات:2]، كانا يخفضان أصواتهما في حضرته، فلا يكلمَانه إلا كالمُسارِر الذي يسارّ أخاه بالكلمة، حتى قد يستبين الكلام منهما، يقول: ما قلت؟ من شدة مخافتتهما بالصوت ما يسمعهما، فكانوا كذلك وفيهم نزل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ) [الحجرات:3].

وعلى مدى القرون وما كنا في السنوات السابقة نسمع صوت في المسجد النبوي، والناس على خشوع وعلى هدوء، سواءً في الروضة أو في بقية المسجد وحوالي الحجرة الشريفة، فصرنا نسمع الآن كلام وضجيج ولا حول ولا قوة إلا بالله!! ضاعت مشاعر، ضاعت أذواق، ضاعت أحاسيس، ضاع وجد، ضاع أدب.. فالله ينقذ الأمة ويردّ إليها ما فقدت وما فاتها من الآداب والأخلاق.

قال: "وإذا ودّع القبر فلا يولّيه الظهر"، صحّ عن سيدنا الإمام مالك إمام دار الهجرة، أن أبا جعفر المنصور زار معه يومًا في الحجرة الشريفة وسلّم على النبي ثم قال: يا أبا عبد الله -يقول لسيدنا مالك-: أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل القبر وأدْعو؟ قال له: ولمَ تولي وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم من قبل؟! الكعبة عظيمة وشريفة، ولكن حرمة المؤمن أعظم من الكعبة، فكيف برسول الله ﷺ؟! قال: هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم من قبل توسّل به، عليه الصلاة والسلام .

وهكذا جاءنا في عدد من الروايات وقد جمع من أسانيدها وحقّقها الإمام السُبكي في كتابه: (شفاء السقام في زيارة خير الأنام)، وفي عددٍ من الروايات: 

  • "من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي" ﷺ.

  • يقول: "من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي" ﷺ.

  • و "من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني".

إلى غير ذلك مما ورد من الأحاديث، التي يحب بعض الناس متناقضًا مع حقائق الإيمان السامي إلى المسارعة إلى الطعن فيها وتضعيفها على غير بصيرة، ولا شك أن مجموع تلك الأحاديث التي وردت قوية بتقوية إسناد بعضها البعض على مختلف المعايير التي وُضعت لعلم الحديث، ولِأسماء الرجال، وعامّتها ليس في سندها وضّاع ولا كذّاب، وفيها ما سنده واضح الصحة ومتنه كذلك. 

ولا يخالج قلب مؤمن قطع الشك في شوق المؤمن إلى رسول الله وإلى بقعته وإلى أماكنه، وإنه لو أحب أحدًا من قرابته أو من أصحابه لأحبّ موطنه ومكانه وحيثما كان، ولَأحبّ رؤية آثاره وذلك متلازمًا طبْعًا وشرعًا، صلى الله على زين الوجود محمد ﷺ. 

وقد أُمرنا بذكره في كل صلاة، و بالسلام عليه في التحيّات والتشهّد، ويقول المؤمنون في شرق الأرض وغربها: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ومن العجب أن في الصلاة مخاطبة أي مخلوق تُبطِل الصلاة، إلا نبيّ الله محمد فإن مخاطبته هذه من أركان الصلاة، فلم تصحّ الصلاة إلا بها؛ "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".

بل قد جاءنا في الحديث الذي صحّ أنه لمّا نادى بعض أصحابه كان الرجل يصلي، بعد الصلاة جاء قال له: ناديتك من قبل، قال: كنت أصلي، قال: ما منعك أن تجيب وقد سمعت قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ) [الأنفال:24]؛ يعني: إذا أجبتني ما تبطل صلاتك، قال له: أجِب حتى وأنت تصلي، لأنه عندك أمر من الله تستجيب لي، إذا دعاك تستجيب له، فاسْتجِب له، ولو قال لك وأنت تصلي امشِ فامْشِ ما تبطل صلاتك، لأنك في أمر. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

وهكذا لم تزل قلوب المؤمنين تحنّ، وقد نقشوا قصيدة للإمام الحداد وسط القبة الشريفة، وبقي منها البيت الذي فوق الشباك الثالث في المواجهة الشريفة، في الوسط؛ الشباك الأوسط هذا الذي  يواجه قبور الثلاثة؛ قبر الحبيب ﷺ وسيدنا أبو بكر وسيدنا عمر، ومن الجانب الشرقي أيضًا شباك، ومن الجانب الغربي شباك متصل بالروضة، وبالجانب الشرقي لا يزال البيت مكتوب:

نَبِيٌّ عَظِيمٌ خُلْقُهُ الخُلُقُ الَّذِي *** لَهُ عَظَمَ الرَّحْمَنُ فِي سَيِّدِ الكُتُبِ

أي: في القرآن الكريم.

ونُقشت القصيدة كلها هذه للإمام الحداد التي أولها:

سلكنا الفيافي والقفار على النُّجب *** ………………….

يذكر قصة توجهه إلى المدينة المنورة، بعد أن أتمّ الحج عليه رحمة الله تبارك وتعالى، فيقول فيها: 

سَلَكْنَا الفَيَافِيَ وَالْقِفَارَ عَلَى النُّجْبِ *** ……………………………

القفار:  الأرض ما بين مكة والمدينة، على النّجب: على الجِمال.

………………………….. *** تَجِدُّ بِنَا الأَشْوَاقُ لَا حَادِيَ الرَّكْبِ

الذي يجدّ بنا يحركنا ليس حادي الركب ونشيده، بل الشوق الذي في قلوبنا هو الذي يحركنا ويدفعنا

سَلَكْنَا الفَيَافِيَ وَالْقِفَارَ عَلَى النُّجْبِ *** تَجِدُّ بِنَا الأَشْوَاقُ لَا حَادِيَ الرَّكْبِ

فَنَهْوِي عَلَيْهَا بِالعَشِيَّةِ وَالَّذِي *** يَلِيهَا مِنَ اللَّيْلِ البَهِيمِ عَلَى القُتْبِ

فَنَهْوِي عَلَيْهَا؛ على النجائب هذه. 

عَلَى القُتْبِ؛ فوق شدود الجِمال.

يَلَدُّ لَنَا أَنْ لَا يَلَنَّ لَنَا الكَرَى *** لِمَا خَالَطَ الأَرْوَاحَ مِنْ خَالِصِ الحُبِّ

الكَرَى: النوم؛ يلذ لنا أن نترك لذة النوم

وَيَبْرُدُ حَرٌّ بِالهَجِيرِ تَمُدُّهُ *** سَمُومٌ إِذَا هَاجَتْ تُزَعْزِعُ لِلكُثْبِ

وَيَبْرُدُ حَرٌّ بِالهَجِيرِ؛ وقت الصيف كان توجهّه في شدة الحر، حتى لما وصل إلى قرية الآن معروفة اسمها قرية مستورة، وصلها في وقت الظهر والهجر والحر شديد والرياح حارة والتراب فيها وغبار كثيف وهو مار في الطريق قال: 

مستورة دار صبر *** والصبر خلقٌ كريم

الترب فيها كثير *** والريح فيها سموم

قال:

وَيَبْرُدُ حَرٌّ بِالهَجِيرِ تَمُدُّهُ *** سَمُومٌ إِذَا هَاجَتْ تُزَعْزِعُ لِلكُثْبِ

سموم: الريح الحارّة.

وَمَا زَالَ هَذَا دَأْبَنَا وَصَنِيعَنَا *** إِلَى أَنْ أَنَخْنَا العِيسَ بِالْمَنْزِلِ الرَّحْبِ

نَزَلْنَا بِخَيْرِ العَالَمِينَ مُحَمَّدٍ *** نَبِيِّ الهُدَى بَحْرِ النَّدَى سَيِّدِ العُرْبِ

رَسُولٌ أَمِينٌ هَاشِمِيٌّ مُعَظَّمٌ *** وَسَيِّدُ مَنْ يَأْتِي وَمَنْ مَرَّ فِي الحُقْبِ

مَلَاذُ البَرَايَا غَوْثُ كُلِّ مُؤَمِّل *** كَرِيمُ السَّجَايَا طَيِّبُ الجِسْمِ وَالقَلْبِ

يُؤَمِّلُهُ العَافُونَ مِنْ كُلِّ مُمْحِل *** كَتَأْمِيلِهِمْ لِلسَّاكِبَاتِ مِنَ السُّحْبِ

كَرِيمٌ حَلِيمٌ شَأْنُهُ الجُودُ وَالوَفَا *** يُرَجَّى لِكَشْفِ الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ وَالكَرْبِ 

رَحِيمُ بَرَاهُ اللهُ لِلخَلْقِ رَحْمَةً *** وَأَرْسَلَهُ دَاعِ إِلَى الفَوْزِ وَالقُرْبِ 

وَأَرْسَلَهُ بِالحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالهُدَى *** وَبَذْلِ النَّدَى وَالرِّفْقِ وَالمَنْطِقِ العَذْبِ

بِهِ اللهُ أَنْجَانَا مِنَ الشِّرْكِ وَالرَّدَى *** وَمِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَالجِبْتِ وَالنُّصْبِ

وَأَدْخَلَنَا فِي خَيْرِ دِينِ يُحِبُّهُ *** وَيَرْضَاهُ دِينُ الحَقِّ فَالْحَمْدُ لِلرَّبِّ

لَهُ المِنَّةُ العُظْمَى عَلَيْنَا بِبَعْثِهِ *** إِلَيْنَا وَمِنَّا عَالِيَ الذِّكْرِ وَالكَعْبِ

نَبِيٌّ عَظِيمٌ خُلْقُهُ الخُلُقُ الَّذِي *** لَهُ عَظَمَ الرَّحْمَنُ فِي سَيِّدِ الكُتُب

وَأَيَّدَهُ بِالوَحْيِ وَالنَّصْرِ وَالصَّبَا *** وَأَمْلَاكِهِ وَالمُؤْمِنِينَ وَبِالرُّعْبِ

وَبِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَاتِ الَّتِي نَمَتْ *** عَلَى القَطْرِ عَدًّا بَعْدَ مَا كَلَّ مَنْ نُبِّي

وَآتَاهُ قُرْآنَا بِهِ أَعْجَزَ الوَرَى *** جَمِيعًا عَلَى التَّأْبِيدِ يَا لَكَ مِنْ غَلْبِ

وأخذ يخاطب الحضرة المشرَّفة، قال: 

أَلَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَرَابَةٌ *** وَذُرِّيَّةٌ جِئْنَاكَ لِلشَّوْقِ وَالحُبِّ

وَقَفْنَا عَلَى أَعْتَابٍ فَضْلِكَ سَيِّدِي *** لِتَقْبِيل تُرْبِ حَبَّذَلِكَ مِنْ تُرْبِ

وَقُمْنَا تُجَاهَ الوَجْهِ وَجْهِ مُبَارَكِ *** عَلَيْنَا بِهِ نُسْقَى الغَمَامَ لَدَى الجَدْبِ

أَتَيْنَاكَ زُوَّارًا نَرُومُ شَفَاعَةً *** إِلَى اللهِ في مَحْوِ الإِسَاءَةِ وَالذَّنْبِ

وُفُودٌ وَزُوَّارٌ وَأَضْيَافُ حَضْرَةٍ *** مَكَرَّمَةٍ مُسْتَوْطَنِ الجُودِ وَالخِصْبِ

وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَثُمَّ مَطَالِبٌ *** نُؤَمِّلُ أَنْ تُقْضَى بِجَاهِكَ يَا مُحْبِي

تَوَجَّهُ رَسُولَ اللَّهِ فِي كُلِّ حَاجَةٍ *** لَنَا وَمُهِمٍّ فِي المَعَاشِ وَفِي القَلْبِ

وَإِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ وَالقَلْبِ سَيِّدِي *** هُوَ الغَرَضُ الأَقْصَى فَيَا سَيِّدِي قُمْ بِي

عَلَيْكَ صَلَاةُ اللَّهِ يَا خَيْرَ مَنْ تَلَا *** كِتَابًا مُنِيرًا جَاءَ بِالفَرْضِ وَالنَّدْبِ

قال أهل التاريخ: أنه عند وصوله زار معه عدد من علماء المدينة وأخْيارها، فلمّا كانوا عند المواجهة الشريفة وسمعوه يسلّم سمعوا صوت من القبر الشريف يردّ عليه، ويقول له: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وهكذا؛ فإذا كان شهداء أحد يردّون على من يسلم عليهم فكيف بحبيب الواحد الأحد ﷺ؟! لا إله إلا الله.. 

وهكذا لم يزل في معاني شوقه ومحبته يذكر في قصيدة أخرى له أيضًا يقول في التوديع بعد طواف الوداع، بعد الحجّ متوجه إلى المدينة، يقول: 

ثُمَ جِئْنَا نُوَدِّعُ البَيْتَ مِنْ غَيْرِ مَا *** طَيْبَةٍ مِنَّا بِفُرْقَةِ الأَجْسَامِ 

وَرَحَلْنَا نُحَثحِثُ العِيسَ حُبًّا *** وَاشْتِيَاقًا لِقَبْرِ خَيْرِ الأَنام 

وَطَوَيْنَا بِهَا المَهَامِه لَا نَلْـ *** ــوي بِلَيْلِ عَلَى لَذِيذِ المَنَامِ 

فَإِذَا مَا بَلَغْنَا العَقِيقَ الـــوَادي المُبَارَك وَفَاحَ عَرْفُ الخِيَامِ

وَوَصَلْنَا المَدِينَةَ الشَّرِيفَةَ مَنَاخَ الـ ***ــدّين وَالإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ

وَدَخَلْنَا المَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسْ عَلَى *** التَّقْـوَى بِتَأْسِيسِ إمَامِ كُلِّ إِمَامٍ 

وَقَصَدْنَا لِرَوْضَةٍ فِيهِ مِنْ جَـ *** ــنَّاتِ دَارِ الخُلُودِ دَارِ السَّلَامِ 

وَدَنَوْنَا مِنْ حُجْرَةٍ وَضَرِيحٍ *** لِنَبِيَّ الهُدَى وَمِسْكِ الخِتَامِ

وَوَقَفْنَا تُجَاهَهُ بِخُشُوعٍ *** وَخُضُوع وَهَيْبَةٍ وَاحْتِرَامِ 

وَقُلُوبِ طَوَافِحٍ بِسُرُورٍ *** وَابْتِهَاجٍ وَلَوْعَةٍ وَغَرَامِ 

وَوُجُوهِ مُبْتَلَّةٍ بِدُموع *** مِنْ جُفُونٍ تَفِيضُ فَيْضَ الغَمَامِ

 وَقَرَأْنَا السَّلَامَ أَكْرَمَ خَلْقِ اللَّـهِ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَزْكَى السَّلَامِ 

وَحَظِينَا بِالرَّدِّ مِنْهُ وَنِلْنَا *** كُلَّ خَيْرٍ وَرَغْبَةٍ وَمَرَام 

وَرَجَوْنَا أَنْ يَغْفِرَ اللهُ فَضْلًا *** كُلَّ ذَنْبٍ وَحَوْبَةٍ وَآثَامِ 

وَيُشَفِّعْ رَسُولَهُ الظُّهْرَ فِينَا *** فَهْوَ الشَّافِعُ الحَمِيدُ المَقَامِ

 ذُو الشَّفَاعَةِ فِي المَعَادِ خُصُوصًا *** وَعُمُومًا وَالسَّجَدَاتِ التَّوَامِ 

بَعْدَ مَا أَحْجَمَ النَّبِيُّونَ عَنْهَا *** وَأَقَامُوا عُذْرًا عَنِ الإِقْدَامِ

يُنْقِذُ الخَلْقَ مِنْ كُرُوبٍ عِظَامٍ *** وَشَدَائِدَ شَيَّبَتْ بِالغُلَامِ 

وَلَهُ الحَوْضُ وَاللُّوا وَالمَزَايَا *** وَالخَصَائِصُ كُلُّهَا بِالتَّمَامِ

ثُمَّ زُرْنَا بِإِثْرِهِ صَاحِبَيْهِ *** الجَدِيرَيْنِ بَعْدَهُ بِالقِيَامِ

وَأَتَيْنَا البَقِيعَ خَيْرَ مَزَارٍ *** لازْدِيَار الصُّدُورِ وَالأَعْلَامِ

وَالمَشَاهِدَ وَالمَآثِرَ زُرْنَا *** كَقُبَاهَا وَقَبْرِ خَيْرِ هُمَامٍ

وَقَبْرِ خَيْرِ هُمَامٍ؛ على قبر سيدنا حمزة.

وَأَقَمْنَا بِطَيْبَةِ الخَيْرِ حِينًا *** نَتَمَلَّى بِنُورِ بَدْرِ التَّمَامِ

وكان أقام أربعين يوم بالمدينة. 

الرَّسُولِ الأَمِينِ أَفْضَل هَادٍ *** لِسَبِيلِ الهُدَى وَدَارِ السَّلَامِ 

سَيْدِ الرُّسُلِ وَالخَلَائِقِ طُرًّا *** مَا لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ مِنْ مُسَامِي 

فَإِذَا مَا دَنَا الرَّحِيلُ أَتَيْنَا *** لوَدَاعِ الحَبِيبِ وَالدَّمْعُ هَامِي 

وَوِدَادُ القُلُوبِ فِيهَا مُقِيمٌ *** فِي مَزِيدٍ وَالوَجْدُ وَالشَّوْقُ نَامِي 

وَوَدِدْنَا طُولَ الإِقَامَةِ فِيهَا *** بَيْنَ تِلْكَ الرُّبُوعِ وَالأَطَامِ 

وَمَغَانٍ تَشَرَّفَتْ وَاسْتَنَارَتْ *** وَأَضَاءَتْ مِنْ نُورِ مَاحِي الظَّلام 

غَيْرَ أَنَّا وَمِنْ وَرَانَا شُجُونًا *** وَشُؤُونًا جَذَّابَةً بِالزَّمَامِ

رُبَّمَا رُبَّمَا بِهَا قَامَ عُذْرٌ *** وَمِنَ العُذْرِ مُسْقِطٌ لِلمَلَامِ 

فَارْتَحَلْنَا مِنْ طَيْبَةٍ وَمَرَرْنَا *** لاعْتِمَارٍ بِمَكَّةِ الإِعْتِصَامِ 

وَلِتَجْدِيدِ آنِفِ العَهْدِ وَتَأْكِيد *** مُحْكَمِ العَقْدِ وَالوَفَا بِالذِّمَامِ 

وَجَعَلْنَا نُرَحِّلُ العِيسَ حَتَّى *** وَافَتِ الحَيَّ حَيَّ قَوْمٍ كِرَامِ 

حَيَّ قَوْمٍ كِرَامِ؛ يقصد تريم.

مِنْ بِلَادٍ بِهِ نَشَأْنَا وَإِيَّـــــــــ *** ـــاهُ أَلِفْنَا إِلْفَ النُّفُوسِ لِلأَجْسَامِ 

هُوَ مَرْعَى وَلَيْسَ كَالسَّعْدَانِ وَمَاءٌ *** وَلَا كَصَدَّى وَالأَمْرُ لِلعَلَّام 

وَهُوَ بَعْدَ المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَمِنْ *** خَيْر بِلَادِ اللهِ فِي جَنُوبِ وَشَامِ 

ثُمَّ هَذَا المَسِيرُ وَالعَوْدُ مِنْهُ *** نَحْوَ مَا قَدْ سَمِعْتُ أَقْصَى المَرَامِ

تكون لنا عودة أخرى، فما كتبت له في الظاهر عودة. 

تَتَمَنَّى النُّفُوسُ وَالرَّبُّ يَقْضِي *** مَا يَشَاءُ مُدَبِّرُ الأَحْكَامِ 

الإلهُ العَظِيمُ رَبُّ البَرَايَا *** ذُو الجَلَالِ الرَّفِيعِ وَالإِكْرَامِ 

الجَوَادُ الكَرِيمُ ذُو المَنِّ وَالطَّوْلِ وَالفَضْل والأَيَادِي الجسام

فَلَهُ الحَمْدُ وَلَهُ الشُّكْرُ دَأْبًا *** دَائِمًا سَرْمَدًا بِغَيْرِ انْصِرَام

وَصَلَاةٌ مِنْ رَبِّنَا وَسَلَامٌ *** كُلَّ حِينٍ عَلَى شَفيع الأنام 

أَحْمَدَ المُصْطَفَى وَآلٍ وَصَحْبِ *** وَعَلَى التَّابِعِينَ طُولَ الدَّوَامِ 

مَا تَغَنَّتْ حَمَائِمُ الأَيْكِ وَهْنًا *** وَسَرَتْ نَسْمَةٌ بِعَرْفِ الخُزَامِ 

وَخَتَمْنَا بِمَا بِدَأْنَا ادّكَارًا *** قُلْ لِأَحْبَابِنَا بِسُوحٍ المَقَامِ

الله أكبر! وسافر بعض المرات ابنه الحسين فوصّاه أن يقوم هناك بالآداب والدعاء له والنيابة عنه في زيارة الحبيب ﷺ، وقال: 

مَرَابِعُ أَحْبَابٍ بِهَا وَمَارِبٌ *** لَنَا لَمْ تُقَفَّى بَعْدُ فِي زَمَنِ البُعْدِ

وَهَلْ تَنْقَضِي فِي البُعْدِ آرَابُ طَالِبٍ *** وَلَكَنَّهُ يَدْنُو فَيُدْنَى مِنَ القَصْدِ

وَقَدْ كُنْتُ وَافَيْتُ الأَبَاطِحَ مَرَّةً *** وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرْوَ مِنْ ذَلِكَ الوِرْدِ

وَلَمْ أَشْتَفِي مِنْ قُرْبِ سَلْمَى *** وَوَصْلِهَا وَتَقْبِيل خَالِ الخَدِّ مُسْتَوْدَعِ العَهْدِ

سلمى: يقصد الكعبة.

وَوَافَيْتُ أَيْضًا دَارَ طَهَ وَرَبْعَهُ *** مُحَمَّدٍ المَبْعُوثِ بِالحَقِّ وَالرُّشْدِ 

فَهَلْ لِي إِلَى تِلْكَ المَعَاهِدِ عَوْدَةٌ *** وَقَدْ طَالَتِ الأَيَّامُ فِي البُعْدِ وَالصَّدِ

وَعِنْدِيَ أَشْوَاقٌ وَحُزْنٌ وَلَوْعَةٌ *** تَزِيدُ مَعَ التَّذْكَارِ وَجْدًا عَلَى وَجْدِ

وَقَدْ قَعَدَتْ بِي النَّاهِضَاتُ مِنَ القُوَى *** وَمِنْ غَيْرِهَا فَاسْمَعْ لَكَ الخَيْرُ مَا أُبْدِي 

على ولده الحسين هذا

وَكُنْ نَائِبًا عَنِّي بَإِهْدًا تَحِيَّةٍ *** مُعَنْبَرَةٌ كَالمِسْكِ فِي العَرْفِ وَالنَّدِّ

وَبُلَّ تَرَى أَرْضِ الحَبِيبِ بِدَمْعَةٍ *** مُسَلْسَلَةٍ تَجْرِي عَلَى الخَدِّ كَالمَدِّ

وَفِي دَعْوَةٍ مَسْمُوعَةٍ مُسْتَجَابَةٍ *** عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْسِلْ بِهَا دَرَنَ الْعَبْدِ

وَيَهْدِيهِ لِلحُسْنَى وَيَخْتِمْ لَهُ بِهَا *** وَبِالعَمَل المَرْضِيَّ الخَالِصِ الْمُجْدِي

وَصَلَّى الإِلَهُ الحَقُّ دَأْبًا وَسَرْمَدًا *** عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ الكِرَامِ بِلَا حَدَّ

مَعَ الآلِ وَالأَصْحَابِ يَا رَبِّ وَاجْمَعِ الْـجَمِيعَ بِفَضْلَ مِنْكَ فِي جَنَّةِ الخُلْدِ

يا رب واجمع الجميع بفضلٍ منك في جنة الخلد

 يا رب واجمع الجميع بفضلٍ منك في جنة الخلد

 

فيا ربِّ واجمعنا وأحبابًا لنا *** في دارك الفردوس أطيب موضِع

آمين يا ربنا، آمين يا ربنا، آمين يا ربنا، يقبل الله زائري نبيّه، وعمّار وحجّاج بيته، ويعيد كل منهم إلى أهله وبلده بالعافية والسلامة ونور القبول والإيمان والتقوى والإخلاص والصدق، ويفرّج كروب المسلمين في المشارق والمغارب، ويرزقنا حسن الاعتبار والادِّكار.

قال: إن بعض الوافدين إلى مكة والمدينة تشغلهم الجوالات والتصوير بها ولا عادهم حول الذكر ولا الخشوع، يا ليته تكسّر جواله أحسن له ولا سيّب -ترك- الخشية والخشوع في هذا المقام وفي هذا المكان! المسائل ما هي صور، المسائل: قلوب وأرواح وحقائق، و "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم. ولكن ينظر إلى قلوبكم".

الله يهدي المسلمين، شغلوهم.. حتى في مجالس العلم، وحتى في الصلاة بعضهم يخرج جواله يشوفه! لا حول ولا قوة بالله، ولا عاد هيبة للرب ولا أنه واقف بين يديه!.. ضيّع الخشوع، هذا مصيبة إذا قده بهذه الصورة، ورجع هو هذا كعبتك رُح طف به خلاص لا عاد تجيء عند الكعبة، طف بجوالك هذا لأنه صار قبلتك وصار كعبتك!.. الله ينقذ المسلمين إن شاء الله.

كما ختم لنا بذكر المدينة، يُثبِتنا في ديوان مشرّفها، ولا يفرّق بيننا وبينه، ويجمعنا به في الحياة وعند الوفاة وفي البرزخ وفي يوم الموافاة، ويحرسنا به وأهلنا وأولادنا وذرياتنا وطلابنا وأحبابنا وأصحابنا، ويفرّج كروب أمته، ويدفع البلاء عن أمته، ويجمع شمل أمته، ويجعلنا في خيار أمّته وأنفع أمّته لأمّته، وينفعنا بأمّته عامّة وبخاصَّتهم خاصة، ويصلح للأمة الشؤون كلها ويدفع عنا وعنهم الشرور كلها، ويبلغنا الآمال في خير ولطف وعافية، مع صلاح كل حال في الدنيا والمآل ويصلح العاقبة، والفرج العاجل واللطف الشامل والختم بالحسنى والله راضٍ عنا في عافية وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

07 شوّال 1444

تاريخ النشر الميلادي

27 أبريل 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام