شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -3- أدب المؤمن بين يديّ الله تعالى (2)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، متابعة الحديث عن أدب المؤمن بين يدي الله تعالى، الجزء الثاني.

فجر  الأربعاء 4 شوال 1438 هـ.

 

متابعة أدب المؤمِن بَين يَدي الله تعالى

"وقلة الاعتراض، وحسن الخلق، ودوام الذكر، وتنزيه الفكر، وتقييد الجوارح، وسكون القلب."

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بالبيان والتقريب والعطاء الرحيب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له السميع القريب المجيب، ونشهد أن سيّدنا ونبيّنا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا محمّدًا عبده ورسوله أكرم كريم على الله وأحبّ حبيب. اللهم أدِم الصلوات والتسليمات على جامع الكمالات الإنسانية عبدك المصطفى محمّد وعلى آله وأصحابه ذوي المراتب العلا والمقام الأمجد، وعلى من والاهم واتّبعهم بإحسانٍ إلى يوم غد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من كل أطيبٍ أسعد، وعلى آلهم وصحبهم أجمعين والملائكة المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

ولقد جعلتَ بفضلك للملائكة آدابًا بها تأدّبوا، وجعلت للإنسان وبني الإنسان آدابًا يتأدّبون بها، وجعلت النماذج فيها أنبياءك ورسلك واخترت من أممهم من يكون أقرب وأطيب فيتهذّب ويتأدب وتسري إليه سرايات ذلك الأدب، فيحوز أسرار القرب من القُرَب؛ فيطيب له الحال والمآل، ويرتقي إلى المراتب العوال، ويُسقى من أحلى سلسال من عذب ماء المحبة الزلال، اللهم فاسقنا من تلك الكؤوس، وزكّي لنا النفوس، وأدبنا بما أدبت به أهل ذلك الناموس برحمتك يا أرحم الراحمين. 

ويسرد الشيخ لنا في الأدب في الدين أدب المؤمن بين يديّ ربه وإله رب العالمين، وقد ذكر لنا من الآداب ما ذكر، وآخر ما مرّ معنا شرحه: "قلة الاعتراض"؛ أي عدم الاعتراض على ربّ الأرباب في حكمٍ حكمَ به أو قضاءٍ قضاه؛ فما يليق بالعبد المخلوق أن يعترض على الإله في أحكامه، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65]، وقال في الرد على الذين أرادوا أن يتخذوا من أفكارهم وآرائهم وعقولهم آلهة كأنها خلقتهم وهي مخلوقةٌ لهم من قِبل خالقهم تعالى، يقول: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) فكان الجواب: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة:275]، بأي ميزان تقولون البيع مثل الربا ولكم إله يحل ويحرم؟! والحلال ما أحلّ، والحرام ما حرّم، فمن تتخذون غير هذا الإله في تحليل الأشياء والحكم عليها؟ (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فلا يبقى بعد ذلك ينفعكم شيء من أفكاركم وإرادة طرحكم للأمور بعقولكم وآرائكم، إنما واقع الأمر والحقيقة (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)؛ هؤلاء الذين يتّخذون من دون آلهة أخرى؛ من آراء أو عقول أو أفكار… وما إلى ذلك، وهي مخلوقة مثلهم، بل خُلقت لهم ليُحسنوا استعمالها، فحوّلوها كأنها الآلهة أو الإله الذي خَلق! ولا خالق إلا الله سبحانه وتعالى فلا اعتراض على ما أمره .

قال الله تعالى في تقويم هذا الأدب عند كل مؤمن: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) فالحقّ في التحليل والتحريم له سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل:116-117] وفي هذا أيضًا جاءنا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النحل:51-52]. وهكذا الأقضية والأقدار، ومن هنا قال ﷺ يؤدّبنا بهذا الأدب: "لا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، بل قل قدّر الله وما شاء فعل"، فإننا تحت حقيقة: ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن. 

ويذكر بعض أهل المعرفة من خيار الأمة ما نازل قلبه من سرّ هذا الأدب فيقول: بَرَدَ جأشي على ما شاء الله وكان ما لم يشاء لم يكن، فصرت بارد الجأش؛ لا حَزَن ولا همّ ولا غمّ ولا قلق ولا اضطراب من شيء؛ لأنني أعلم أنه لا يكون شيء إلا ما شاءه الله. وقال الإمام الشافعي في هذا المعنى يخاطب الرب: 

وما شئت كان وإن لم أشاء *** وما شئت إن لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما أردت *** ففي العلم يجري الفتى والمسن 

على ذا مننت وهذا خذلت *** وهذا أعنت وذا لم تُعِن

 فالأمر لك سبحانك. فهكذا يجب، بل جاء في الحديث أنه ﷺ يُهيئ الواعين والمراعين للحقّ من الأمة أنهم إذا أُصطفوا فنازلهم شيء من الإبتلاء، أن يكونوا ذوي بصيرة ويقظة لحسن الأدب قال ﷺ: "إنّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط". قال الإمام الحداد: 

وكن راضٍ بما قدّر المولى ودبّر *** ولا تسخط قضى الله ربّ العرش الأكبر 

وكن صابر وشاكر     

   تكن فائز وظافر      

 ومن أهل السرائر 

  رجال الله من كل ذي قلبٍ منوّر *** مصفّى من جميع الدنس طيّب مطهّر

وما عيش صافي هني إلا مع أهل القلوب، فلا اعتراض على الله تعالى.

قال تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23]،  قال للذين شذّوا وخرجوا عن الصراط المستقيم، وانتهكوا الحرمات فخرجوا إلى القول بألوهية سيدنا عيسى ابن مريم أو أمه سيدتنا مريم أو أن الله ثالث ثلاثة والعياذ بالله تعالى، (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) [المائدة:17]، المسيح ابن مريم وأمه ذوي مكانة عند الله وقدر ومكانة لا يهلكهم، ولكن الله يقول اعرفوا حق الألوهية والربوبية، تتكلمون مع من؟ تخاطبون من؟ ما هذه الأفكار؟ ما هذا الانحراف ما هذا الغباء؟ أيأتي مخلوق فيحتلّ محل خالق؟! هيهات ما المخلوق مثل خالق! (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) الملائكة (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:26-28]؛ هذا وصف الملائكة، وهذا وصف الأنبياء، وهذا وصف الصدّيقين والأولياء، وهذا وصف جميع الصالحين، فالحقّ خاطبهم: (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) اعرفوا حق الألوهية، اعرفوا حق الربوبية… فلا اعتراض على الله تبارك وتعالى، والمُلك ملكه، والحكم حكمه جلّ جلاله وتعالى في علاه.

لكن سبق في إرادته وقضائه أن يمضي أمد للناس هو طويل بالنسبة لهم، ولكن بالنسبة لما بعد هذه الحياة: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء:77]، ومن هذا القليل: كل فرد منهم معه قليل، ما أحد عايش من أيام أبونا آدم إلى اليوم، طيب من أيام إدريس؟ ولا من أيام إدريس، من أيام نوح في أحد موجود إلى الآن؟ هو كله قليل.. وكم معهم من ذلك القليل؟ دع  نوح انزل إلى عند هود، ولا من أيام هود في أحد من أيام هود وقومه الذين أهلكهم الله؟ يقول الله تعالى: (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) [الحاقة:8].

خلاص انزل من أيام هود وتعال إلى عند أيام إبراهيم، اقطع آلاف السنين وتعال الى أيام إبراهيم، ولا من أيام إبراهيم في أحد موجود؟ طيب ملوكهم؟ ولا ملوكهم ولا مملوكيهم، أغنيائهم؟ ولا أغنيائهم ولا فقرائهم، رؤسائهم؟ ولا رؤسائهم ولا مرؤوسيهم، لا أحد… انزل من عند إبراهيم وتعال الى يوسف، ومن الذين كانوا الملوك؟ ومن الذين كانوا أعزة؟ ومن الذين كانوا الجبابرة ومن الذين كانوا أهل القوة؟ ومن الذين كانوا أهل المال؟ هل هناك أحد منهم؟ لا يوجد أحد منهم، ولا واحد، ولا رجل ولا امرأة.

انزل من عند يوسف، تعال إلى أن تصل إلى عند موسى، مَن مِن أيام موسى باقي؟  فرعون؟ فرعون غرق في البحر، روح تفرّج على جثته لكي تسبح بحمد ربك، لكي تعظم إلهك هذا الذي كان يقول ويقول والآن هو جثة هامدة! أين روحه؟ وروحه تشوف النار كل صبح وكل عشي وموعودة بدخول النار -والعياذ بالله- أعوذ بالله من غضب الله! 

وانزل من بعد موسى إلى أن تصل إلى عند عيسى، وهل من أحد من أيام عيسى باقي؟ لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى، لا ملك ولا مملوك… فإذا كل واحد منهم معه من القليل كم؟ وجئنا نحن من بعدهم وكم سنبقى؟! ومرّ علينا الدهر الطويل ما لنا وجود أصل! ، ووُجدنا، وبفترة قصيرة، خلاص نرحل وما يبقى منّا أحد،  ما تمر في كل مئة سنة إلا ومن حين بداية المئة إلى نهايتها لا يكاد يبقى أحد من الموجودين على ظهر الأرض، إذا بقي ذا المكان وجوه ثانية أشخاص آخرين، وقوم آخرين، وناس آخرين، ليسوا هؤلاء، خلاص ما أحد من هؤلاء، وهكذا سنُة الله، فكم معهم من القليل؟ قليل! ومع ذلك كله يريدون الاعتراض، يريدون التطاول على الجبّار، أدبك مع هذا الإله "قلة الاعتراض"؛ عدم الاعتراض ،الأمر أمره والملك ملكه وله الحكم كله سبحانه وتعالى. 

"وحسن الخلق"؛ لأنه يحب منك ذلك، وهو ما تقرب به إليه؛ لأن كريم الصفات لله، وبمعناها الأعظم اللائقة لجلاله لا يشاركه فيها أحد، والسير وانتشار وامتداد نورها بمعانيها اللائقة بالخلق هي كرامة الخلق وهي شرف الخلق، وشرف كل مخلوق بالاتصاف والتخلق بأخلاق الله تعالى المبيّنة في العالم الخلقي في الرسل والأنبياء (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90]، صلوات الله وسلامه عليهم. فحسن الخلق من أعظم ما يقرّب إلى الله، حسن الخلق مع الجمادات، مع النباتات، مع الحيوانات، مع بني آدم، مع الكائنات كلها… أحسِن أدبك، أحسِن خلقك، قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) حتى مع الأرض عندهم أدب (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63] كَثَّرُوا كَلَامٌ جَابُوا مُثيراتٌ واستفزازات (سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِى ٱلْجَٰهِلِينَ) [القصص:55]، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان:72] ولذا يقولون على الأبرار ما تتأذى منهم ذرة، الذرّة ما تتأذى منهم، هكذا عباد الرحمن -جلّ جلاله- أهل حسن الخلق. 

يقول نبينا ﷺ: "إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربَكم منِّي مجلسا يوم القيامة محاسنُكم أخلاقًا الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون"، اللهم حسّن أخلاقنا، وأدِّبنا بآداب نبيّك محمد، وخلّقنا بأخلاق نبيّك محمد. وقال ﷺ: "إن العبد ليبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم"، "درجة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتُر"، ومع ذلك هذا قليل عندهم صومه، وقليل عندهم قيامه، ويفوقهم، يبلغ درجتهم ويفوقهم. قال ﷺ: "أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة حسن الخلق". يقول بعض تابعي التابعين لما يرويه عن سيدنا الحسن البصري عن سيدنا الحسن بن علي عن أبيه عن النبي ﷺ يقول: حدّثنا الحسن عن الحسن عن أبي الحسن عن جدّ الحسن: "أن أحسن الحَسَن الخُلُق الحَسَن"؛ أحسن شيء، خير ما تكسب في حياتك: تقويم أخلاقك، وتقويم هذه الأخلاق يأتي على مراتب ودرجات:

  • فأما مع ذوي الهيئات وذوي الاعتبار والشيوخ ومن أكبر منك تنقاد اليها الفطرة بطبيعتها ويسهل على النفس.

  • لكن مع قرينك، مع من مثلك، مع من لا يؤبه له، مع الضعيف، مع الفقير، مع المسكين،…

  • وهناك مقياس يأتي مع أهلك، كيف أخلاقك مع أهلك؟ يقول ﷺ فيه: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" أتظنون أني أمامكم أتخلّق بخُلُق، وفي البيت أفتعل المشاكل! أنا في البيت خير واحد لأهله ﷺ، فكان هكذا مع أهله ﷺ.

فهذه الموازين يُعرف بها وجود حُسن الخلق؛ الذي هو: الهيئة الراسخة في النفس التي تصدر عنها الأفعال الجميلة بسهولة؛ فإذا رسخت في النفس هيئة تصدر عنها الأفعال القبيحة بسرعة فهو: سوء الخلق، فحسن الخلق هيئة تصدر عنها الأفعال الجميلة بيُسر بسهولة من دون تكلّف، وإلا فهو تخلّق وليس حسن خلق، كيف؟ تصبّر… إلى أن يرسخ في قلبه نور الصبر، فيصير صابرًا بالطبيعة؛ 

  • بمجرّد ما ينازله الأمر ويحصل ما يُثير هو صابر مباشرة، هذا الصابر

  •  أما الآخر يجد تعب ويمسك نفسه ويمسك لسانه؛ هذا متصبّر.

 والصبر بالتصبّر، أن تصبّر تصبّر صار صابر بعد ذلك، كما أن العلم بالتعلّم والحلم بالتحلّم. وهكذا أراد من أراد أن يكتسب خُلُق الحِلم، راح دوّر له واحد سليط اللسان مؤذي استأجره يسبّه حتى عوّد نفسه الحلم، فصار يُضرب به المثل بعد ذلك، تعوّد، كان غضوب لكن عوّد نفسه بالتحلّم حتى صار حليمًا.

وهكذا "حسن الخلق"، الله يكرمنا منه بنصيب وافر؛ لأن من عظيم مقاصد أنواع العبادات:

  • أن يقوَى إيمانك

  • ويحسن خلقك

 إن كان صلاة، إن كان زكاة، إن كان صوم، إن كان حج، إن كان بر والدين، إن كان قراءة قرآن، أي نوع من العبادات، من المقاصد المنطوية فيه أمرين مهمّين: زيادة الإيمان و زيادة حسن الخلق فإن لم تُحدث العبادات فيك هذا فالخلل قائم لم تقم بالعبادات على أصلها، العبادات التي تقوم على أساسها تزيدك إيمان وتحسّن اخلاقك، تكسب بها الحلم، تكسب بها الصبر، تكسب بها التواضع، تكسب بها الخشوع، تكسب بها الخضوع، من كل عمل صالح تعمله مخلص لوجه ربك على وجهه فيفيدك هذا؛ لأنه الذي يسقي بذرة الإيمان في القلب، تُسقى بأنوار الطاعات، ولذلك يقول صاحب الزبد: 

فكُن من الإيمان في مزيد *** وفي صفاء القلب ذا تجديد 

بكثرة الصلاة والطاعات *** وترك ما للنفس من شهوات

زادنا الله إيمانًا، حسّن الله أخلاقنا. 

وقد سمعتم ما قال ﷺ لما سُئل عن امرأة صوّامة قوّامة لكنها تؤذي جيرانها بلسانها قال: "لا خير فيها هي من أهل النار"؛ يعني: ما استمرت في أذى الجيران إلا وقلبها مكسوف، ما فيه حقائق الإيمان، "والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه"، الله يكرمنا بحسن الخلق، ويجعل لنا من بركة رمضان وصيام الست -لمن باشر صومها أيضًا بعد ذلك- نورًا يزداد به خلقنا حسنًا، ويزداد بها إيماننا قوة. 

وبعد ذلك قال: "دوام الذكر" إيش هو من الأدب مع الله؟ "دوام الذكر" (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ) [آل عمران:191] وإيش عندك حالة غير هذه؟ قائم أو قاعد أو على جنبك… حالاتك كلها، إن كنت قاعد أو كنت قائم وإن كنت على جنبك تذكر الله. جاء في وصف الإمام القدوة الأعظم ﷺ: "كان يذكر الله على كل أحيانه". 

قال الله تعالى في وصف المنافقين: (وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:142] لا حول ولا قوة إلا بالله! فالذكر القليل وصف المنافقين. (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) [الأحزاب:41]. لكن قال:  "دوام"، دوام لا تغفل عنه؛ لأنه في كل حال، في كل شأن في كل وقت، هو ناظر إليك، محيط بك، مطّلع عليك، قادر عليك، مراقب شأنك، سميع بصير، في كل حال، كيف تتغافل عنه؟ كيف تنساه؟! ولذا لما تذوق حلاوة الذكر أرواح المؤمنين يعدّون الغفلة نار! بل يقولون: أن الغفلة عن الله ساعة أشدّ من دخول نار!

ودوام الذكر يبدأ:

  • بالمحافظة على الأذكار 

  • وتلاوتها باللسان مع إصغاء القلب لمعانيها أو اشتغاله بها كما يشتغل بها اللسان؛ فهذه أول مراتب الحضور في ذكر الله تعالى.

أن ما نُدبنا إليه وما وفقنا له من تلاوة ومن أذكار حتى ولو مع المصافحة، وأنت قائم وأنت جالس في أي مكان، ينبغي أن يتلوها لسانك وقلبك معًا؛ القلب:

  • إما بإجراء اللفظ عليه كما يجري على اللسان

  •  وإما بإصغائه إلى معنى ما يقول اللسان، 

هذا أول مراتب الحضور، ثم إن المعاني لكل الأذكار من تحميد تسبيح تهليل تكبير دعاء إلى غير ذلك، هذه المعاني مع كثرة جريانها على القلب أو تفكّر القلب فيها بإصغاء إليها؛ ترسخ في القلب؛ وإذا رسخت صارت تُقارن الذكر باللسان، ثم صارت تسبق الذكر قبل أن يذكر اللسان؛ فيتحوّل الإنسان من حال آخر،

  • كان أول يذكر بلسانه ويصغي قلبه

  • ثم صار يذكر بقلبه ويترجم لسانه عمّا في قلبه وما في باطنه؛ لرسوخ المعنى في القلب.

إذا همّ بالتسبيح انساق معاني التقديس للحق إلى قلبه الممتلئ به، فيقول سبحان الله، فإذا باللسان يترجم عن شيء وسط الضمير والفؤاد قد رسخ، وإذا أراد أن يحمد انبسط في قلبه شهود عظمة المنّة من الحق جل جلاله وموالاة النعم فيقول: الحمد لله، فيسبق الثناء إلى القلب ويحضر في القلب قبل أن تنطق اللسان من رسوخ المعاني في القلب.

وهكذا، إلى أن يأتي ما أشرنا إليه مما ذكره أهل الصلاح والعارفون عمّا يحصل لهم من أنه عند غلبة سلطان الذكر على القلب، حتى عند وقوف اللسان يتحرك القلب ويبدأ سماع ذكر القلب وأن وراءه نطق الروح والسرّ بذكر الله تعالى.

 يقول ﷺ في حديثه الصحيح: "ما عَمِلَ آدمي عملًا أنجى له من عذاب الله.."؛ يعني: أقوى شيء ينجّيك ويسلّمك من العذاب، "من ذكر الله"؛ لا شيء أنجى لك من الذكر، أكبر ما ينجّيك من أنواع العذاب: ذكر قلبك لربك! ولمّا رسخ من أجل الله ذكر حبيبه ﷺ في قلب العارفين بالله، قال الإمام الحبيب علي الحبشي عليه رحمة الله:

يذكره قلبي ويتبع ذكر قلبي اللسان *** بل لا خلون يطلق في المديح العنان 

شونا إذا ما ذكرته صاب قلبي جُنان *** لي في محبة في ساعة سبعين شان

 يذكر قلبي ويتبع ذكر قلبي اللسان، فالله يجعل قلوبنا حاضرة معه ويلهمها ذكره .

ولذا يتمّ نعيم أهل الجنة، حتى بالماديات التي فيها من مأكولاتٍ، ومشروباتٍ وملبوساتٍ إلى غير ذلك، بأسرار الذكر لمن رضي عنهم، قال: "يُلهمون التسبيح والتقديس والتحميد كما تُلهمون النَفَس"، أنت تتنفس في الدنيا كل يوم كم مرات؟ بأي كلف؟ ولا ينقطع عنك النفس… داخل الخارج طول اليوم! في الجنة عيشهم الطيّب.. يلهمون التحميد والتكبير والتقديس كما تلهمون النفس، دائمًا في حمد، دائمًا في شكر، ولهذا هم دائمًا في مزيد، يقول الله تبارك وتعالى" (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:35]، الحمد لله على فضله، اللهمّ أتمم علينا النعمة.

"دوام الذكر"، تعرف دوام؟ ليس قليل قليل قليل…، بل يستمر معك، تنقطع الغفلة؛ يضيق وقتها ينقص ينقص ينقص حتى تذهب نهائيًا، وعند ذلك تصير حتى وأنت نائم القلب يتعلق بالذكر، ولذا ترى عامة ما يطرأ على أكثر الناس من مرائي في النوم ما كانت قلوبهم ذاكرة له في اليقظة، ما كانت معلّقة به ذاكرة له في اليقظة هو الذي يرونه في نومهم، وكانوا يقولون لبعض الذين يتحفّظون القرآن ردّد حفظك قبل أن تنام، ثم نم، فإن روحك طول الليل تردّد، في الصباح تصبح تذكره تجده راسخ؛ يرسخ في باطنك. 

ومن هنا إذا أراد ابن آدم أن ينام، يقول الملك: اختم بخير، ويقول الشيطان: اختم بشر، فأيّهما أصغى إليه، مضى وراءه، إما يختم بالخير أو يختم بالشر. ولهذا علمنا النبي ﷺ كلمات نجعلها آخر ما نقول، وقال ﷺ: إن من قالها في آخر ما يقول قبل نومه فمات من ليلته، مات على الفطرة؛ فالأمور بخواتيمها، يقول: "اللهم أني أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوّضت أمري إليك رهبةً ورغبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت"، ولما علمها بعض الصحابة وقال له اجعلها من آخر ما تقول فإنك إن مت مت على الفطرة، ثم قال: ردّها عليّ ماذا قلت لك؟ ليسمع منه الذكر كما علّمه إيّاه، فردّها وجاء بها وقال: ورسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيّك الذي أرسلت، أنا قلت لك نبيّك الذي أرسلت؛ فصحّحها له الكلمة حتى يأتي بها كما علّمه النبي ﷺ. 

 "دوام الذكر"، أحد من شيوخنا في البلدة الذي بدأنا نتحفظ القرآن عنده، كان إذا نام قرأ القرآن، هو حافظ، وإذا نام يقرأ، وإذا نام مرة ثانية حيث وقف أول مرة يواصل… هو نائم ولسانه تتلو، الله! "دوام الذكر". وهكذا شأن الذكر إذا ثبَت وصحّ.. يفسح لك مجال في الفِكر النزيه العالي الشريف، يذهب الفكر إلى استجلاء معاني أسماء الحقّ، وصفات الحق، وجلال الحق، وعظمة الحق، وإذا بها تنفتح علوم ومعارف وأسرار يصعب التعبير عنها من صفاء الفكر.

لهذا يقول: "وتنزيه الفكر"؛ وهذا مقتضى دوام الذكر؛ فإذا دام حضور القلب مع الله مع التنزّه عن الدنايا والرعونات النفسية.. انفتق الحجاب وفُتِحَ الباب، وفي الأمر أصلين: الذّكر والفِكر، يقول سيدنا الإمام الحداد:

وَإِن رُمتَ أَن تَحظى بِقَلبٍ مُنَوَّرٍ ***  نَقِيٍّ عَنِ الأَغيارِ فَاِعكِف عَلَيَّ الذِكرِ

وَثابِر عَلَيهِ في الظَلامِ وَفي الضِيا *** وَفي كُلِّ حالٍ بِاللِسانِ وَبِالسِرِّ

فَإِنَّكَ إِن لازَمتَهُ بِتَوَجُّهٍ  ***  بَدا لَكَ نورٌ لَيسَ كَالشَمسِ وَالبَدرِ 

وَلَكِنَّهُ نورٌ مِنَ اللَهِ وارِدٌ *** أَتى ذِكرُهُ في سورَةِ النورِ فَاِستَقرِ

في سورة النور قال الله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) [النور:35]، إلى آخر ما ذكر الحق تعالى.

وَصَفٌ مِنَ الأَكدارِ سِرَّكَ أَنَّهُ ***   

صفِ من الأكدار؛ كل خواطر السوء، وكل التصوّرات الفاسدة، وكل الإرادات لغير الله؛ أكدار!

وَصَفٌ مِنَ الأَكدارِ سِرَّكَ أَنَّهُ *** إِذا ما صَفا أولاكَ مَعنى مِنَ الفِكرِ   

تَطوفُ بِهِ غَيبُ العَوالِمِ كُلِّها *** وَتَسري بِهِ في ظُلمَةِ اللَيل إذا يَسري

فالذكر نور البصيرة، والفكر كحل البصيرة، فلك بين يدي ربك أدبان: ذكر وفكر، اللهمّ أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

  • وبالذكر: يزداد الأنس بالله

  • وبالفكر تزداد المعرفة بالله

 وإذا زادت المعرفة زادت المحبة، والمحبة إليها المنتهى في المقامات، وما بعدها إلا نتيجة عنها.

  يقول: "دوام الذكر، وتنزيه الفكر"، وفي تحقيق هذا المعنى جاءنا في الحديث الصحيح: رسول الله أيّ المصلين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، رسول الله فأيّ المتصدّقين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا" رسول الله فأيّ الصائمين أعظم أجرًا؟ من الذين صاموا رمضان وصاموا الست، أيّ الصائمين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، رسول الله أي المجاهدين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"! انظر منزلة الذكر، هل تذكر؟ هل تذكر؟ إن كنت عايش سنوات في صورة الذكر فارقى إلى الحقيقة.. اذكر.. إذا ذكرته بصدق وأنت عبد له واصلك بكرم الربوبية، بما به تتولّه، حتى خيار الأمة على مدى القرون بصدقهم مع الله يصيرون لا يصبرون عن ذكره، تعرف معنى لا يصبرون؟ ما يصبر، ما يقدر أن يصبروا عن ذكر ربهم جل جلاله وتعالى في علاه. 

لما سمع الجوابات هذه من النبي ﷺ سيدنا أبو بكر -كان حاضر في المجلس معه سيدنا عمر- قال: يا عمر ذهب الذاكرون لله بخير الدنيا والآخرة! سمعه النبي ﷺ وقال: "أجل"، ذهب الذاكرون لله بخير الدنيا والآخرة، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

وبذا قالوا: بكثرة الذكر يظهر سرّ ما في الغيوب، بكثرة الذكر، لا أنه يذكر ساعة، ساعتين، نص ساعة… وقدها نفسه تميل للغفلة وإيقاف الذكر. 

"دوام الذكر وتنزيه الفكر"، وكان بارز في حياة الصحابة العبادة بالفِكر وكان أحدهم يقضي برهة وزمان طويل من الليل في الفِكر، وفي غير الليل، حتى أن أحدهم ليطرق باله معاني في عظمة الله أو شيء من أسمائه أو في الآيات، فيقف واقف في شارع أو في سوق أو في برية أو في بيت ، مدة طويلة وهو مشغول بالفكر! لذا سيدنا الحسن البصري يقول: لو رأيتموهم لقلتم مجانين! وهم أعقل الناس.. وهكذا، حتى ذكروا من كبار الصحابة من تكون عامة عبادته بالليل فِكر، ينتحي ناحية في بيته إما قائم وإما قاعد مطرق في فكره. 

وسمعتم حديث أسماء بنت عميس لمّا تزوجت سيدنا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-  فدخل عليها ليلة في يوم من أيام خلافته بعد وفاة النبي ﷺ، قالت: فقام في ناحية من البيت فصلّى ثم جلس فوضع رأسه بين رجليه وأخذ يقول: واشوقاه إلى رسول الله! واشوقاه إلى رسول الله! ويبكي، حتى أشفقتُ عليه، وقمتُ وقلتُ: يا أبا بكر، يا خليفة رسول الله، صحبت وجالست وشهدت المشاهد معه، ومات وهو راضٍ عنك، وستلقاه بعد هذا ستلقاه، تخفّف عنه شدة فِكره في الشوق إلى لقاء النبي ﷺ، رأيت عبادة أبو بكر أيام خلافته؟! 

ومن جُملة عبادة سيدنا عمر التي شغلت قلبه وباله أيام خلافته إلى آخر أيام الخلافة بعد الطعنة، عندما طُعن وحُمل إلى البيت قال لإبنه: يا عبد الله اذهب إلى أم المؤمنين عائشة واستأذنها أن أُدفن عند رسول الله وأبي بكر في حجرتهم، وذهب ووبقي منتظره، ولما رجع يقول له: ما قالت؟ قال: قالت إنها كانت تُعدّ المكان لنفسها ولكن قد طيّبت نفسها لك وأذنت، قال: الحمد لله، لم يكن في نفسي شيء أهم من ذلك! هذه عبادة عمر بن الخطاب بالفِكر، كان يشغل باله وضميره أن يقرب من تربة رسول الله ﷺ ويُدفن في حجرته، هذا لون من الفِكر الذي كان غالب، بل كان هام عند سيدنا عمر؛ لم يكن في نفسه شيء أهم من ذلك، أنت تعلم أنه له فكر في الفتوحات، وله فكر في نشر الإسلام، لكن قال ما عندي أهم من ذلك! عليه الرضوان.. ولكن أخشى أن تقول ذلك حياءً، فإذا أنا متُّ فاحملوا جنازتي وءاتوا إلى عند باب الحجرة واستأذنوها، وقل لها عمر، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني قد متّ ولم أعد أمير المؤمنين،  قل لها عمر يقول إنه يستأذن فإن أذنت كان الذي أحببت، وإلا فادفنوني عند المسلمين في البقيع، ونادوها عندما جاءوا بجنازة سيدنا عمر قالت: قد طيّبت له ذلك حيًّا وميتًا، عليهم الرضوان.

"تنزيه الفكر"؛ تطهيره عن الرذائل، ألا ترى وتعلم أن الفكر محادثةٌ بينك وبين الرحمن فصحِّح فكرك، وأن الحق يرقبك وينظر إليك، بل وعماد الحضور الذي يقوم عليه الحضور، أساس الحضور: استشعار بالك وضميرك أنه يراك، وأنه يطّلع على ما في بالك وضميرك؛ هذا الأساس الذي يقوم عليه الحضور مع الله تبارك وتعالى. 

"دوام الذكر، تنزيه الفكر، تقييد الجوارح" عن أن تعبث  أو أن تتحرك في غير طاعة وفي غير قربة، فضلًا عن أن تفعل المكروه، لا العين، ولا اللسان، ولا الأذن، ولا شيء من جوارحك كلها.. قيّدها بقيد الشريعة و قيد الدين، لذا كانوا يرون أن من رأى في النوم أنه مقيّد أو فيه قيد؛ يفسّرونه بالدين، يقولون هذا صاحب دين؛ لأن ما يقيّدك عن الدنايا إلا دينك، ما يقيدك عن الرذائل إلا حالك مع الله، هو الذي يقيدك؛ وهذه نتائج العقل الصحيح السليم .

يقول: "وتقييد الجوارح" حتى لا تتصرف ولا تنصرف إلا في طاعة الله، مع قدرةٍ أعطاك الله تعالى لتقييد جوارحك، قيّدها لا تطلقها فتضرّك، كما يقولون عن اللسان: إن زنته زانك؛ إن حرسته وحبسته، وإن أطلقته أهانك؛ إذا أطلقته بالبلبلة والكلام سيُهينك.. 

 فكم ندمتُ على ما كنت قلت به *** وما ندمت على ما لم أكن أقلِ

"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمت" اسكت.. أمسك لسانك! وكم ضرّ الناس أنفسهم بالبلبلة والكلام فيما لا يعنيهم؛ أضرار بدنية، أضرار اجتماعية، أضرار ماديّة، أضرار أخروية. 

"تقييد الجوارح، وسكون القلب" فحقٌّ لمن شَهِد أنه بين يديّ هذا الإله الأعظم أن يسكن قلبه، بل تسري السكينة منه إلى من حواليه.

 لهم من التقوى أجلّ زينة *** عند لقاهم تنزل السكينة

 اللهم أكرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثِرنا ولا تؤثر علينا، واجعلنا وإياكم من الرابحين الفائزين الحائزين لخيرات الحياة، وخيرات الوفاة، وخيرات ما بينهما، وخيرات الصلاة، وخيرات الصيام، وخيرات الزكاة، وخيرات القيام، وخيرات القرآن، وخيرات مجالس العلم، وخيرات التذاكر فيك، أعطِنا كل تلك الخيرات، واجعلنا من حائزيها، والفائزين بما فيها، مع خواصّ أهليها، مراقين في مراقيها، وأنت راضٍ عنّا يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

 

سؤال:

"قلة الاعتراض" أُريد به اجتناب الاعتراض، وكما قال في الغضب: "قلة الغضب"، فهل يمكن أن يُحسَب من الاعتراض؟

القِلّة في اللغة العربية عندنا يُعبّر عنها عن عدم الكثرة وعن عدم الشيء؛ يقول: "كان ﷺ أقلّ الناس كِبرا"؛ يعني: عديم الكبر؛ لا أثر عنده للكِبر، وقِلّة شيء:

  • إما تكون عدمه نهائيًا، وهذا مُستعمل في اللغة.

  •  أو وجود اليسير منه.

 يستعمل هذا وهذا، لكن من مناط الكلام ومساقه يُعرف أن المراد بهذه القلة: العدم أو الأمر اليسير؛ فهنا المراد به: العدَم؛ عدم الاعتراض فعبّر عنه بالقلة.

 

تاريخ النشر الهجري

06 شوّال 1438

تاريخ النشر الميلادي

29 يونيو 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام