(535)
(339)
(364)
الدرس السادس والعشرون من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، ضمن الدروس الصباحية لأيام الست الأولى من شوال 1443هـ، تتمة آداب الجُمعة، وآداب الخطيب.
فجر الأربعاء 3 شوال 1443هـ.
تتمة آداب الجُمعة
"..والمشي بالسكينة والوقار، وترك تشبيك الأصابع، وتقارب الخُطى، ودوام الإطراق، وكثرة الشكر للرزاق، ودخول المسـجـد بالخشوع، وردّ السلام، وترك الصلاة بعد جلوس الخطيب على المنبر، وردّ السلام عليه بعد إشارته، وترك الكلام واعتقاد القبول للموعظة، وترك الالتفات عند إقباله ومخاطبته، وترك القيام إلى الصلاة حتى ينزل من المنبر ويفرغ المؤذن من الإقامة."
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، سيدنا محمد أعلى الخلائق طرّا، وأرفعهم عند الرحمن قدرا، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله من خصّصتهم به ووهبتهم طُهرا، وعلى أصحابه من رفعت لهم به قدرا، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسان سرًّا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رقّيتهم في القُرب منك والمعرفة بك أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا من يَرى ولا يُرى.
أما بعدُ،
فقد ذكّرنا المؤلف -رحمه الله تعالى- بآداب للجمعة، اليوم الذي شرّفه الله من بين أيام الأسبوع، ورزقنا الله بركة كل يوم خيره ونصره ونوره وبركته وهداه، ودفع عنّا شر كل يوم من الأيام، وجعلنا في من يمدّهم بخالص فضله وعظيم إحسانه ومحض طَوْله ومنّته ظاهرًا وباطنًا في الدنيا والبرزخ والآخرة.
وذكر لنا: "المشي بالسكينة والوقار"، وذلك اللائق بمن يمشي لمقابلة حضرة الملك الغفار -جلّ جلاله- وأن يمشي بالسكينة والوقار، وهو الذي يلزم المؤمن في مختلف الأطوار، إلا في حالة ما يكون من سباق وكرّ وفرّ في سبيل الله وتدرّب على ذلك، وما إلى ذلك. وما عدا ذلك فقد وصف الله عباده الذين شرّفهم بالإضافة إليه، فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63]، وأكّد النبي أن تكون هذه كيفية المشي لكل صلاة: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون"، بل ائتوهاوأنتم تمشون "وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتِمّوا" وفي رواية : "فاقضوا"، فهذا يتحتم.
فإذًا، من واجب طالب العلم، ومن واجب السائر إلى الله، ومن واجب الداعي إلى الله؛ أن يكون سيره دائمًا بوقار، إلا في حالة التمرين والتدريب على الجهاد في سبيل الله، وحالة المسابقة، وحالة الضرورة، وما عدا ذلك فلا يكون مشيه إلا هونًا مقتديًا برسول الله ﷺ.
وكان ﷺ بعيد ما بين الخطى، ويرفع رجله من الأرض رفعًا بيّنًا، ويضع رجله جميعًا؛ ما تحت الأصابع والعقب في وقت واحد، ولم يكن لقدميه الشريفتين أخمصان -أي: محل منخفض في الوسط- بل كان مسيح القدمين كلهما على حدٍّ سواء ﷺ. فنمشي بالسكينة والوقار فتتنزل علينا السكينة من ربنا، ومن لا سكينة لهم لا تتنزل عليهم السكينة.
"وترك تشبيك الأصابع"، فإنه ممّا لا ينبغي في كل وقت وخصوصًا:
عند الذكر
وعند الدعاء
وعند الخطبة
فلا يشبك بين أصابعه كما يفعل كثير من المتكبّرين والغافلين.
"وتقارب الخطى"، هذا من أجل ازدياد الأجر عند الذهاب إلى قربة أو طاعة، لأن له بكل خطوة تكفير سيئة وكتب حسنة ورفع درجة. إذا تقاربت الخطى كَثُر عددها فيعطيه الله ولا يحاسبه يقول له كان ممكن تجيبها في خطوات أقل ما بنعطيك إلا الأقل أبدًا! الخطوات التي خطوتها يعطيك سبحانه وتعالى بكل خطوة:
رفع درجة
أو تكفير سيئة
أو كتب حسنة
فهذه من الآثار التي تكون في الأرض، ويدخل في عموم قوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس:12]، فخطى تخطوها في الأرض تؤثر فيها في الأرض، في طاعة للرحمن، في إرادة خير من الخيور.
فكيف تكتب الخطوات لمن كان على دراجة أو كان على سيارة؟
قال بعض أهل المعرفة: نرجو أن يُكتب له بدوران عجلة الدراجة أو عجلة السيارة. ثم قال بعض أهل الذوق والمعرفة: إنه إنما يركب الدراجة أو السيارة لبعد المسافة أو لعجزه، فإني أرى الأثار في الأرض يكثر؛ لأن عامة هذه العجلات لها خطوط؛ فتخط خطوطًا في الأرض، قال فأرجو أن يكون كل خط مقابل خطوة؛ لأن هذا الطريق وهيئة سيره إلى الجمعة أو إلى هذا الخير الذي يقصده.
ولذا يحبون أن يمشوا إلى الخيرات بالطريق الأطول إذا كان فيه طريقين وثلاثة يرى أيهم الأطول يذهب فيه من أجل تكثر الخطى، ويرجع بالطريق الأقصر كما كان يفعل ﷺ عند خروجه إلى المصلى يوم العيد، فيذهب بالطريق الأطول ويرجع بالطريق الأقصر ﷺ.
قال: "ودوام الإطراق"؛ والإطراق:
أن يصغي وينصت
ولا يحرك رأسه
ويجعل طَرْفه نحو الأرض
هذا الإطراق. يكون الإطراق إلى الأرض، الإطراق إلى الأرض علامة الخشوع، وعلامة الحضور والتعظيم. "ودوام الإطراق"؛ وإن بدوام الحضور مع الله وتغلبه على القلب تنكشف الحجب، وتذهب الكدورات والظلمات، حتى تنفتح بصيرة القلب فيرى بالبصر ويرى بالبصيرة، والبصيرة ترى ما لا يدركه البصر، وترى المعنويات وترى كثيرًا من الغيبيات عن البصر، تُدرَك بالبصيرة. ومن لم تنفتح بصيرته فهو الأعمى، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46]، الله يفتح بصر عيون قلوبنا ولا نعيش عميان، لأنه قال: (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسراء:72]، اللهم افتح بصر عيون قلوبنا، و روّح بصر عيون قلوبنا بحق الفحول عليك يا مروّح الأرواح.
قال: "ودوام الإطراق، وكثرة الشكر للرزاق"، رزَقَك الوجود، ورزقك الإسلام، وهذه نعمة كبيرة كبيرة كبيرة ولا أكبر من نعمة الإسلام؛ جعلك مسلمًا له مؤمنًا به. فأحيني لك مسلمًا وتوفّني بك مؤمنًا واجعلني يوم نشورك من كل خوفٍ آمنا.
فاشكر الرزاق، ثم أعطاك صحة وعافية، وسمع وبصر، ورجل تمشي بها، وقُدرة على الذهاب للجمعة والتوفيق لذلك؛ فاشكر الرزاق، فقد أعطاك من خير الأرزاق. و "إنَّ اللهَ تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدينَ إلا من أحبَّ؛ فمن أعطاه اللهُ الدينَ فقد أحبّه". نسألك زيادة في الدين، نسألك زيادة في الدين في كل حين.
يقول: "وكثرة الشكر للرزاق، ودخول المسجد بالخشوع"، وقد علمتم هيبة المسجد، وهو بيت رب العالمين، وقد كان من هيبة بعض الصالحين أن يقف على الباب وينتظر داخلًا يدخل المسجد ليدخل وراءه، يقولون له: ما لك تفعل هكذا؟ قال: إنه بيت ربي، أول ما أدخل بيته ينظر إلى قلبي وليس لي قلب يقابل هذا الرب، فأريد أن ينظر إلى قلب المؤمن الذي قبلي فيدخلني في بركته، يهاب الدخول إلى المسجد حتى يتقدم أحد ويدخل وراءه.
وأين هذا ممن يسرع ويكون هناك من هو أسن منه، أو شايب جنبه ويدخل قبله، غافل وجاهل! أما هذا الواعي العاقل ما رضي يدخل حتى يتقدم أحد ويمشي وراءه تعظيمًا وهيبة من الله، وطلبًا للرحمة، وشفاعة قلب مؤمن يظن فيه أنه أقرب إلى الله منه، وأطهر قلبًا منه؛ هكذا دخول المساجد.
ولهذا تُجنب الصبيان غير المميزين الذين يحدث منهم اللعب أو الحدث في المسجد، فما ينبغي. وإذا ميّزوا وانضبطوا فلا بأس مع آبائهم، وأما أبوه في جانب وهو في جانب ويسبب فوضى أو يؤذي من بجانبه، أو أبوه ليس في المسجد كله، يقول للولد روح المسجد لأجل يهدأ في بيته ويخليه يزعج آل بيت الله!!. سوء تربية.
تعظم المساجد، ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)[النور:36]، تُعظّم وتُميّز على غيرها، تُرفع تُبجل وتكرم.
"ردّ السلام"، هذا ولو أثناء الخطبة، ولكن لأجل الأمر به مثل: تشميت العاطس إذا عطس فحمد الله فيجوز تقول له يرحمك الله، وإن كان أثناء الخطبة لوجود الأمر به، أما عدا ذلك فلا. فإذا سلّم، رُد عليه السلام.
"وترك الصلاة بعد جلوس الخطيب على المنبر"؛ لأن من كان جالسًا في المسجد فلا يجوز له أن يحدث بعد صعود الخطيب على المنبر صلاة. قال الشافعية ومن وافقهم: ولو قضاءً؛ ما يجوز أن يقضي في هذا الوقت بل يستمع إلى الخطبة. إلا من دخل المسجد والخطيب يخطب فيُسنّ له أن يركع ركعتين، ويُسنّ له أن يتجوّز فيهما -أي: يخفّفهما- فينصت إلى الخطيب. هذا إذا دخل والخطيب يخطب، أما جالس في المسجد بعد ما يدخل الخطيب يقوم يصلي.. فلا.
مثل بعض البادية يكونوا جالسين في المسجد قبل الخطيب، فلما يقوم للخطبة الثانية يقومون يصلون سنة الجمعة! يكون في المسجد قبل أن يدخل الخطيب، فيُصلِّ سنة الجمعة قبل أن يدخل، أما إذا قد صعد على المنبر فلا يجوز لأحد جالس أن يقوم، بل يجب الإنصات للخطبة.
ولهذا قال: "وترك الصلاة بعد جلوس الخطيب على المنبر". بل ترك الذكر كذلك وأي شيء إلا الإصغاء إلى الإمام، إلا من كان أصم لايسمع شيئًا، أو بعيد لا يسمع؛ لا مباشرة ولا من مكبرات الصوت لا يسمع منها. فهذا يشتغل بذكر الله سِرًّا. وأما من يسمع الخطبة:
يوقف الذكر والقراءة وكل شيء ويستمع إلى الخطيب.
أما عندما يذكر الإمام تسبيح الله فيسبحه، ويذكر تحميده فيحمده، ويذكر النبي ﷺ فيصلي عليه فلا يضر ذلك.
وأما استمراره في ذكر من غير الإنصات للخطبة فهو الذي لا ينبغي.
بل ينبغي أن يعُد نفسه هو المخاطب بكل ما يقول الخطيب وأنه المقصود به لينتفع ويرتفع، وقلبه على الله يجتمع، وعن كل غفلة يرتدع، ويخرج بفائدة من الجمعة.
قال "ورد السلام عليه بعد إشارته"؛ إذا سلم الخطيب فيرد السلام على الخطيب، والرد واجب، وإذا قام به البعض خُصّوا بالثواب وسقط الإثم عن الباقين، فينبغي يردون كلهم عليه، وهو ينبغي له أن يُسلّم كما سيأتي عند دخول المسجد. فإن كان يمر على الصفوف فيسلم على كل صف، وإذا أراد الصعود إلى المنبر فيسلم ثم يصعد، فإذا صعد فيكون قد انصرف عنهم فيواجههم ويسلم عليهم سلامًا عامًّا.
قال: "و ترك الكلام"، وقد سمعنا حديث خير الأنام: إذا قلت لأخيك أنصت -أو: صه- والإمام يخطب فقد لغوت، و "من مسّ الحصى فقد لغى".
"واعتقاد القبول للموعظة"، وأن ينزلها على نفسه. وقد سمعتم قصة سيدنا ثابتة بن خزيمة وكان جهوري الصوت، صوته مرتفع من أصله. فلما نزلت الآية فسمعها، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات:2]، أنزلها على نفسه فثقل ما قدر يمشي المسجد وانتحى ناحية في الطريق يبكي، مرّ عليه بعض الصحابة فقالوا: ما لك؟ قال: آية أُنزلت ما أراها إلا فيّ وقرأ الآية، وأنا صوتي جهوري فما أظنّي إلا أني قد حبط عملي وأني من أهل النار. فذهب رجل إلى عند النبي ﷺ وأخبره قال له: هذا ثابت في الطريق يقول كذا وكذا. قال له: اذهب إليه فأتني به، ذهب فما وجده في الطريق، ذهب إلى أهله قال: أين ثابت؟ قالوا له: ثابت دخل هناك وسط إسطبل حق الخيل، قال لنا أغلقوا عليّ الباب فلا أخرج حتى يغفر الله لي أو أموت. فناداه فقال له: إن رسول الله أرسلني إليك، قال: رسول الله قال لك كذا؟ إذًا اكسر الباب، فخرج وجاء مكبًّا يبكي عند النبي ﷺ وقال: إني خشيت يا رسول الله أن الآية نزلت فيّ، قال: بل أنت من أهل الجنة، رضي الله عنه، أنزل الآية على نفسه، ونحن نسمع آيات وأحاديث وننزلها على هذا وذاك.. وأنت؟! أنت مخاطب بسماع الموعظة كذلك، والخطبة تصرفها على الغير، وأنت؟! لعلك المعني بها.
قالوا للحبيب حسين بن عبد الله عيديد: لماذا يحبك شيخك الحبيب علي الحبشي ويقدّمك؟ قال: ما سمعت كلمة من كلماته إلا أنزلتها على نفسي، قال كل كلامه الذي يقوله أُنزله على نفسي، وأعد نفسي أنا المخاطب به.
حضر بعض الصالحين الحبيب علي بن عبد الرحمن المشهور في مذاكرة ذكر الحبيب علي في فضل القرآن وتلاوته وأن سيدنا الإمام عبد الرحمن السقاف وصل ورده إلى أربع ختمات بالليل وأربع ختمات بالنهار، فلما خرج قال للذي يقوده بعدما عَمِي -يمسك بيده يخدمه- الشيخ سلمان باغوث عليه رحمة الله، هل سمعت المذاكرة يا شيخ سلمان؟ إنها عليّ وعليك، كم نقرأ من الأجزاء؟ قال كذا كذا جزء يقرؤون في اليوم، قال: لابد نزيد، فيقول نحن مقصرين في قراءة القرآن والكلام عليّ وعليك وهو عنده عدد من الأجزاء كل يوم فزاد عليها؛ أنزل الكلام على نفسه. فكيف حالنا نحن مع الله؟ ننزل المواعظ على من؟..
يقول "واعتقاد القبول للموعظة" وكان في كلامه الحبيب علي يقول:
من نصحني فإني منه للنصح قابل *** وين ناصح لخلق الله للنصح باذل؟
حِرت في وقت ما حد فيه بالعِلم عامل *** ……………………….
قال: "وترك الالتفات عند إقباله ومخاطبته"؛ فلا يلتفت يمنة ولا يسرة. وكان ﷺ ما يحب الالتفات وهو يمشي، فإذا التفت التفت جميعًا.
"وترك القيام إلى الصلاة حتى ينزل عن المنبر يفرغ المؤذن من الإقامة"،
فهذا أيضًا عند الشافعية ومن وافقهم.
وعند المالكية وغيرهم: من حين يبدأ في الإقامة.
وعند بعضهم من حين يقول: قد قامت الصلاة.. يقومون يصفّون.
ويُروى عن سيدنا علي: أنه لما خرج يصلي بهم وجدهم قد قاموا كلهم قبل دخوله، قال ما لي أراكم سامدين، لا أنتم في صلاة ولا أنتم جالسين! اجلسوا حتى يصل الإمام. لهذا قال ﷺ "إذا أُقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني". وهذا على مذهب الشافعية ومن وافقهم هو الأفضل.
والذي يدخل المسجد في يوم الجمعة والمؤذن يؤذن يجوز أن ينتظر إجابة المؤذن؛ لأنها أيضا واردة ومأمور بها. ويجوز أن يصلي أولًا التحية ويخفّفهما ثم يجيب المؤذن ويتدارك جواب المؤذن. ويجوز أن يبادر هو الجواب وإن لم يفرغ المؤذن فيأتي بألفاظ الأذان كلها حتى يكملها ويقرأ الدعاء ويدخل في صلاة التحية.
وتُكره الحبوة أثناء الخطبة؛ لأنها تجلب النعاس، وهي علامة عدم التركيز والانتباه. وإن كان بعض الناس اعتادها فيرتاح إليها، لكن أثناء الخطبة لا يحتبي لا بيده ولا بخرقة ولا بأي شيء، فلا يحتبي أثناء الخطبة.
كذلك المصافحة لمن دخل من غير كلام جائزة، والأفضل الاشتغال بالإنصات من الكل. كذلك الذي يسمع الخطبة إلا أنه لا يفهم معناها لأنه لا يعرف اللغة فيُسنّ له أيضًا الإنصات ولا يذكر إلا بقلبه؛ لأنه يسمع، وإذا تنوّر قلبه سيستفيد حتى وإن لم يفهم المعنى.
قال بعض الذين حضروا مؤتمر كان في إندونيسيا عندهم سماعة الترجمة باللغات، حضر السيد محمد بن علوي المالكي -عليه رحمة الله- فلما قدّموه، أحد الضباط عنده قال أنزل سماعة الترجمة وجلس يسمع، قال أنا أعرف أنه ما يعرف العربية. فجئت قلت له: أنت ما تعرف العربية؟ قال لما أسمع منه هكذا يتنور قلبي ويتأثر أكثر من الترجمة!
وكنا في مجلس وتكلم واحد بلغة غير عربية، وكان واحد عربي يترجم له، ثم ذكر كلامًا بغير العربية -والمجلس كلهم عرب- وبكوا الناس، ثم ترجم المترجم لهم بالعربية فما بكوا. وهو قد اعتذر من قبل، وقال: أنا لا أستطيع أترجم مشاعر هذا الإنسان وذوقه، لكن سأترجم لكم اللغة والكلام الذي قاله. وجاء بالكلام الذي بكوا الناس منه بلغة أخرى لا يعرفونها، وجاء به بلغتهم التي يعرفونها وما تأثروا ولا بكوا!..
وللقلب على القلبِ دليلٌ حين يلقاه
الله ينفعنا بكلام الصالحين. كثير الآن حتى بعضهم وهو لازال في الكفر يسمع آيات من القرآن يهتز لها، لا يعرف ما معناها لكن يدرك أن هذا كلام عظيم وله تأثير جيد قوي، حتى تعالج بعضهم بالقرآن وهو كافر؛ لأنه كلام يحمل عظمة وسر ونور. وكثير من المسلمين ما يعرفون قدر القرآن، ولا يتداوون به، و "من لم يستشفِ بالقرآن فلا شفاه الله"، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء:82]، (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت:44]. اللهم اشفنا بالقرآن برحمتك يا أكرم الأكرمين.
آداب الخطيب
"يأتي المسجد وعليه السكينة والوقار، ويبدأ بالتحية، ويجلس وعليه الهيبة، ويمتنع عن التخاطب، وينتظر الوقت؛ ثم يخطو إلى المنبر وعليه الوقار، كأنه يحب أن يعرِض ما يقول على الجبّار، ثم يصعد بالخشوع، ويقف على المرقاة بالخشوع ويرتقي بالذكر، ويلتفت إلى مستمعيه باجتماع الفكر، ثم يشير إليهم بالسلام ليستمعوا منه الكلام، ثم يجلس للأذان فزعًا من الديان، ثم يخطب بالتواضع، ولا يشير بالأصابع، ويعتقد ما يقوله لينتفع به، ثم يشير إليهم بالدعاء، وينزل إذا أخذ المؤذن في الإقامة، ولا يكبر حتى يسكتوا، ثم يفتتح الصلاة، ويرتل ما يقرأ."
ثم يذكر لنا: "آداب الخطيب"، قال "يأتي المسجد وعليه السكينة والوقار، ويبدأ بالتحية"، وذكرنا أنه:
عند الدخول.
وإن مر على الصفوف فعلى كل صف.
وعند إرادة الصعود إلى المنبر.
وعندما يصعد المنبر فيواجه الجمع ويسلّم عليهم تسليمًا جهريًا يشملهم.
"ويجلس وعليه الهيبة، ويمتنع عن التخاطب" مع أحد، "وينتظر الوقت ثم يخطو إلى المنبر وعليه الوقار كأنه يُحبّ أن يعرض ما يقول على الجبّار، ثم يصعد بالخشوع، ويقف على المرقاة بالخشوع، ويرتقي بالذكر" بقلبه، "ويلتفت إلى مستمعيه باجتماع الفِكر، ثم يشير عليهم بالسلام ليستمعوا منه الكلام، ثم يجلس للأذان فَزِعًا من الديّان"، ويُجيب المؤذن ويقرأ الدعاء ويستاك، "ثم يخطب بالتواضع" القلبي "ولا يشير بالأصابع" أثناء خطبة الجمعة، ولا يستشهد بأبيات الشعر في خطبة الجمعة ذلك أولى، لأن خُطَبه كانت كذلك ﷺ.
قال: "ولا يشير بالأصابع"؛ بل يمسك العصا بيده اليسرى ويضع اليمنى على حرف المنبر ويخطب. في غير خطبة الجمعة يستعمل الإشارة، ولكن في خطبة الجمعة يبقى على الوقار.
قال: "ويعتقد ما يقوله لنفسه" ويخاطب به نفسه، "ليَنتَفِع به" وليُنتفع به، ينتفع به هو وينتفع به غيره. فيوجِّه الخطيب الكلام إلى نفسه ويرى أنه المخاطب حتى ينفع الغير ويؤثّر في الغير. "ثم يُشير إليهم بالدعاء، وينزل إذا أخذ المؤذن في الإقامة، ولا يكبّر حتى يسكتوا"، يتم ويفرغ من الإقامة وتستوي الصفوف ثم يكبر، "ثم يفتتح الصلاة ويرتل ما يقرأ"، ويقرأ بعد الفاتحة:
إما سورة الجمعة والمنافقون
أو سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية.
فهذا أفضل ما يُقرأ في الجمعة وقد ورد عنه ﷺ.
رزقنا الله الآداب، ورضوان رب الأرباب، واتباع سيد الأحباب، والعمل بالسُّنة والكتاب، وارتقاء مراتب الاقتراب، وكسوة رمضان التي تدوم معنا حتى نجني خيرها في المآب، يا ربّ الأرباب يا كريم يا توّاب، يا من يُعطي بغير حساب، وفّر حظنا من عطائك المنساب، وغيثك السكّاب، وكُن لنا بما أنت أهله وبما كنت به لمحبوبيك والمقرّبين إليك أهل حضرة الاقتراب، بوجاهة المصطفى وآله وصحبه وأهل الصدق والوفاء، ومُنّ علينا بالعافية والشفاء،، واجعلها أعياد من أبرك الأعياد علينا وعلى جميع أمة حبيبك الداعي الهاد، وأصلح لنا كل خافٍ وباد، وجسمٍ وفؤاد بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
15 شوّال 1443