(535)
(339)
(364)
الدرس الرابع العشرون من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، ضمن الدروس الصباحية لأيام الست الأولى من شوال 1442هـ، آداب القراءة، وآداب الدعاء.
فجر الأربعاء 7 شوال 1442هـ.
آداب القراءة
"مداومة الوقار والحياء، ومجانبة العبث، ولزوم التواضع والبكاء."
الحمد لله الأول الآخر، الباطن الظاهر، المُقدِّم المؤخر، الرافع الخافض، من بيده ملكوتُ كلِ شيء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُبدئ ويعيد وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعّالٌ لما يريد، ونشهد أن سيدنا ونبينا ونور قلوبنا مُحمدًا عبد الله ورسوله، هادينا إلى المنهج الرشيد والطريق السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على من ختمت به النبوة والرسالة سيدنا مُحمّدٍ وعلى آله وصحبه ومن اتّبع منهجه ومنواله، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك مظاهر الفضل والجمال والجلالة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فقد ذكّرنا الإمام الغزالي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- بآدابٍ من آداب الصلاة؛ التي يجب أن تحظى منا بهَمٍ وهِمة لنرقى بها القمة، ونحوز من خير الصلاة وسرّها ما يجمعنا على من نصلي له؛ فنمتلئ بالصدق والمحبة والشغف والعشق والوله. وأشرنا إلى ما في الصلاة من عظيم المزايا، وكبير العطايا من رب البرايا لمن أخلص وصدق في النوايا، وصلى صافي السريرة والطوايا.
وذَكرَ -عليه رحمة الله- بعد ذلك: "آداب القراءة"، وذلك أنّ خير ما نتقرّب به إلى الرحمن ما جاءنا منه، فنخاطبه بما أوحى وأنزل على نبيه ﷺ.
وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:29-30]. لا إله إلا هو.
وقال جلَّ جلاله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف:204].
وقال تبارك وتعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال:2] .
وقال جلَّ جلاله وتعالى في علاه: (االلَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر:23]. اللهم اهدنا في من هديت.
وهي رسائل ربنا إلينا، أوصلها على يد أكرم خلقه عليه وأحبّهم إليه، فحُقَّ لنا أن نُقدر هذه الرسائل من الإله الحق، وإيصاله إياها لنا على يد جامع الفضائل سيد الخلق ﷺ، فيسرها الله لنا بلسانه:
(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان:58].
(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا) [مريم:97].
يذكرُ في "آداب القراءة: مداومة الوقار"؛ فإنه عظيمٌ جاء من عند عظيم، وقد ذكر أهل العلم في آداب القرآن: أنه لو نُوّلهُ المؤمن ينبغي أن يقوم ويقف واقفًا ليتناول القرآن وهو قائم تعظيمًا للقرآن. وكان إذا تناول المصحف عكرمة -رضي الله عنه- من الصحابة أخذ المصحف فوضعه على وجهه ويقول: كلام ربي، كلام ربي، كلام ربي، ويبكي وقد يُغشى عليه. لا إله إلا الله!..
قال تعالى في كتابه المكنون: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ) [الواقعة: 77-78]. وقال: (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة:79]. فلابُد أن يتوقَّر ويعظم التلاوة، فيتم القراءة والتلاوة بالوقار. ومن أعلى المراتب والدرجات في التلاوة أن يتلوها قائمًا في صلاةٍ خاضعًا خاشعًا، "من قرأ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها لا أقولُ (الـم) حرفٌ ولكنْ (ألفٌ) حرفٌ و(لامٌ) حرفٌ و(ميمٌ) حرفٌ".
وجاء عن سيدنا علي بن أبي طالب: أنّ من قرأ القرآن على غير طهارة، فله بكل حرفٍ عشر حسنات، فإن قرأه وهو مُتطهر - يعني: قرأ حفظًا من دون أن يمسّ المصحف على غير وضوء؛ أي: وعليه الحدث الأصغر- فله بكل حرف عشر حسنات، فإذا قرأه على طهارةٍ فله بكل حرف خمس وعشرون حسنة. هذا على القراءة أما مسّ المصحف فله ثوابه على قدر تعظيمه، ونظر العين إلى المصحف أو وضع الإصبع على الكلمات فله ثواب آخِر. ويحبون لاستجلاب الخشوع كما شغلوا أبصارهم بحروف القرآن أن يشغلوا أيضًا أياديهم بالمرور على ورق القرآن؛ فيكون أجمع للتدبر.
ثم يجوز قراءة القرآن لكل من لم يكن جُنبًا ولا حائض، لقوله ﷺ: "لا يقرأ القرآن الجنب ولا الحائض"، ولكن أن يكون له نصيبه من التلاوة على الطهارة واستقبال القبلة والوقار أو في الصلاة ذلك أفضل وأولى.
قال: "وَالْحَيَاءُ"؛ أن يكون مستحيًا ملاحظًا تفضُّل الله -جلّ جلاله- عليه بإنزال الكتاب إليه، ومستحضرًا أنواع تقصيره نحو كتاب الله، وتدبّره وتفهّمه والعمل بمقتضاه. فإنه "من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار"، فيكون عند التلاوة ممتلئًا بالحياء من الإله الذي أذِنَ له بقراءة كلامه، ووعده عليه الثواب العظيم مع كونه غير أهل أن يتلو، ومع ذلك كله كم أضاع من حرمة هذا القرآن، والعمل بما فيه، فيقرأه وهو مستحيٍّ.
"مداومة الوقار، والحياء، ومجانبة العبث"؛ عند التلاوة للكتاب العزيز، مجانبة العبث بأنواعه؛ فلا يكون مشدود الانتباه أو الالتفات لشيءٍ غير القرآن عند التلاوة، ما يتفرج على شيء أو يلعب بشيء في يديه أو يلاعب أحدًا من الأطفال وغيرهم عند التلاوة.
"ولزوم التواضع"، إكبارًا لمُنزل هذه الآيات وإجلالًا وحياءً. "والبكاء"؛ قال: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ) [الزمر:23]. ولما رأى سيدنا أبو بكر بعض الوفد لما قُرئ عليهم القرآن بكوا كثيرًا، قال: كنا هكذا على عهد رسول الله ﷺ ثم قست القلوب..
فكان الأصل عندهم في قراءة القرآن دمع العين؛ "إن هذا القرآن نزل بحزن"؛ يعني: بهمٍّ وتعظيم، فإذا قرأتموه فتحازنوا، في لفظٍ: "فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا"، أي: اطلبوا البكاء. ولما وفدَ وفدٌ في عهد النبي ﷺ وتخاطب معهم، ثم قالوا: أقرا لنا شيئا من الذي أنزل عليك، فتلا آيات ﷺ ودمعت عينه ومسح وجهه من الدموع، قال له بعض الوافدين: أمِن خشية الذي أنزل عليك هذا تبكي؟ قال: أجل، ﷺ.
وبذا نعلم واجب حال المسلمين مع القرآن وواقع حالهم مع القرآن، فإن المقاصد الكبرى من هذا الكتاب العزيز:
دعوة الخلق إلى الحق.
وخروجهم من الظلمات بأنواعها إلى النور.
وارتقائهم من جميع الانحطاط إلى العلو.
وتنزهّهم عن ذميم وسيء الصفات إلى حسنها وحميدها.
هذا المقصود من نزول القرآن، وما يتحصّل على هذا المقصود الذي وراءه مقاصد كبيرة حتى يؤخذ بحقّه، ويُعظّم ويُتلى بالتعظيم واستشعار عظمة منزِله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- وتفهّم معانيه، وحمل النفس على العمل بما دعا إليه ودلَّ عليه الكتاب العزيز.
فهجْره مما جعله الرحمن شكوى من صاحب الرسالة، من هؤلاء الذين يهجرون القرآن ويهملونه، (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30]. بعدها آية تدل على أن هجر القرآن يوصل إلى البُعد وإلى المعاداة للحق؛ (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [الفرقان:31]، لنبيه مُحمّد ومن اتصل بهذا النبي والقرآن الذي أُنزل إليه؛ يهديهم وينصرهم سبحانه وتعالى. ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، ومن حكم به عَدَل.
فيجب أن يرجع القرآن إلى مكانته في القلوب والعقول للمسلمين، وأن يسري محبتهم له وتعظيمه إلى أطفالهم، ويكون ذلك السائد في مجتمعاتهم كما كان في عهد الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- وعند خيار الأمة على مدى القرون، لم يكن في نفوسهم أعظم من كتاب الله تبارك وتعالى.
وقد جاءنا في الأثر: من أوتي القرآن ثم رأى أن أحدا أوتي أفضل مما أُعطي فقد استصغر ما عظّم الله! استصغر ما عظّم الله… وهكذا قال بعض أولياء الأمور وقد ختم ابنه القرآن عند المعلم، فأخذ كل ما في وسعه من الهدايا فرحًا بختم ولده للقرآن وأهداه للمعلّم، فقال المعلم: قل لأبيك هذا كثير! فلما جاء الولد وأخبر أباه بذلك، قال: هو يقول لك كذا؟! مُعلم القرآن، يقول لك كذا؟ ما عرف قدر القرآن! لو جئت له بالدنيا بما فيها فلا كبير أمام القرآن ولا كثير؛ إذًا أبحث لك عن معلم آخر، لا عاد تقرأ عند هذا، هذا قلبه عظّم المتاع الذي أعطيناه أكثر من القرآن، فقال هذا كثير لو من أجل آية واحدة ما تساويها الدنيا بما فيها، كيف وأنا فرحت بختم القرآن! إذًا، قلب معلمك هذا فيه مرض، اتركه، نذهب بك إلى معلم ثاني، لا أعظم من القرآن كيف يُعظم الدنيا أمام القرآن؟! لا اله الا الله.
هكذا، انتُزع من قلوب كثير من المؤمنين تعظيم القرآن، تعظيم السنة الغرّاء، تعظيم الذكر لله، ليحِل محلّها إما لعب وإما غناء وإما علوم مبتكرة وإما وظائف… أي شيء يأخذ العظمة في القلب غير القرآن غير الذكر؛ وهذا ظلمة نفاق، خروج عن ميزان الخلاّق -جلّ جلاله وتعالى في علاه- فلا تزن الدنيا وما فيها آية من كتاب الله، ولا كلمة من كتاب الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- وهو من أعظم شعائر الله (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
وفي ذلك سمعنا في الحديث قوله ﷺ: من حفظ القرآن وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجًا من نور ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا. ثم قال: هذا لوالديه، فما الظن بالذي عمل؟ الذي عمل إيش يلبسه الله وإيش سيعطيه، هذا جزاء لأبويه؛ لأنهم سبب وجوده وفي الغالب سبب تشجيعه على حفظ القرآن والعمل به، "حَفِظ القرآن وعَمِلَ به".
فمن بين هجره وبين اتخاذه رياءً وسمعة أو وسيلة إلى شيءٍ من الدنيا، وكلاهما باطل، إلى مسلك قويم في تعظيم كلام الله -جلّ جلاله- وتدبر لمعانيه وعملٍ بما فيه. اللهم ارزقنا تعظيم كتابك، وفهم خطابك، والعمل على منهاجك الذي دعوتنا إليه في كتابك وعلى لسان خاتم أنبيائك ﷺ.
ولما رأى بعض أخيار وعلماء بعض المناطق في جهات المسلمين التي كان منتشر فيها في الفقه مذهب الإمام الشافعي، والمعتنون بالتعلم في الفقه يقرؤون كتابين للإمام الشيرازي (التنبيه) و (المهذب)، في ذلك المكان ذاك الزمان رأى بعض أخيارهم رسول الله ﷺ، فقال له: يا رسول الله من أولياء الله؟ قال له: دَرَسة التنبيه والمهذب! يعني هؤلاء المهتمين بأمر الشريعة والدين عندكم، قال فسأله مرة أخرى: يا رسول الله من أولياء الله؟ قال: درسة التنبيه والمهذب، قال: فقلت ثالث مرة: يا رسول الله من أولياء الله؟ قال: دَرَسة التنبيه والمهذب، قال: فقط ودَرَسة القرآن؟ قال: أولئك أهل الله، أولئك أصفياء الله، أولئك أهل الله، لا إله إلا الله. وقد قال في حديث: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته". فالله يجعلنا من أهل القرآن.
آداب الدعاء
"خشوع القلب، وجمع الهمّ، وإظهار الذل، وحُسن النظر، وخفض الجناح، وسؤال الفاقة، ولجأ الغريق، ومعرفته بقدر نفسه، وعظيم حُرمة المسؤول، وبسط الكفّ عند الرغبة، واليقين بالإجابة، والخوف من الخيبة، وانتظار الفرج، وترك العدوان، وصحة القصد واللجأ، ومسح الوجه بباطن الكف بعد الدعاء."
ثم ذكر أداب الدعاء؛ وهو مأمورٌ به في القرآن (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ) [الأنبياء:90]، هذا حال الأنبياء.. فالدعاء عُدّة ورُكن وثيق قويّ لكل مؤمن على ظهر الأرض لصلاح قلبه وجسمه ودنياه وبرزخه وآخرته ودفع كل الأسواء ونيل كل الخيرات؛ الدعاء، (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ) [الفرقان:77].
فيجب أن يقيمه المسلمون بينهم سببًا قويًّا من أقوى أسباب الصلاح والفلاح والنصر ودفع البلايا والشرور والآفات؛ بل قال ﷺ: "وإنّ البلاء ليَنزِل فيَتلقّاه الدُّعاء"، وقال: "لا يردّ القضاء إلا الدعاء".
قال: "آداب الدعاء"؛ وهو:
الشاهد للداعي بالحاجة والفقر والمسكنة.
وهو الإقرار للمدعو بالعظمة والقدرة والإرادة.
يقول سيدنا الإمام الحداد:
قد كفاني علم ربي *** من سؤالي واختياري
فدعائي وابتهالي *** شاهدٌ لي بافتقاري
فلهذا السِرّ أدعو *** في يساري وعساري
أنا عبدٌ صار فخري *** ضمن فقري واضطراري
وقد كان ﷺ كثير الدعاء، في الصلاة وخارج الصلاة، في البيت، وفي الشوارع في الطريق، وفي المسجد، وفي الأسواق وفي مختلف الأحوال؛ وشرع لنا الأدعية للدخول والخروج وللنوم واليقظة والطعام والشراب، وشرع لنا الأدعية للباس والدخول للخلاء والخروج من الخلاء، علمنا الدعاء، وهو سيد الدّاعين ﷺ.
قال: "خشوع القلب"؛ من أدب الدعاء، "واعلَموا أنَّ اللهَ لا يَقبلُ دُعاءً مِن قلبٍ غافلٍ لاهٍ".
"وجمع الهمّ"، حتى ذكروا أن رجلًا جاء إلى سيدنا موسى بن عمران -عليه السلام- يقول له: لي حاجة إلى الله فعلمني دعاء أدعو الله به لقضاء حاجتي، فعلّمه الدعاء، فذهب يدعو مدة سنة ورجع، قال: يا كليم الله دعوت الله ما انقضت حاجتي! قال: إذا خاطبت ربي سأذكرك له، وناجى موسى ربه، قال: كلمك أحد من عبادي عنّي؟ فقال: يا رب عبدك فلان يقول له حاجة وعلّمته دعاء يدعوك به فلم تجبه، هو يلحّ عليك بهذا الدعاء لمدة سنة، وأنا عبدك مخلوق لو كان يطلب منّي سأرحمه وأعطيه! فأوحى الله إلى موسى، وقال: يا موسى إنه يدعوني وقلبه عند غنمه! فلو دعاني مرة واحدة وقلبه معي لأجبته! وقضيت حاجته، لكنه طول السنة يدعي والقلب عند الغنم.. معه غنم فرحان بهن ويرعاهن ويستثمرهن ونسي، وصار قلبه معهن ما حضر مع الله في الدعاء، قال: إنه يدعوني وقلبه عند غنمه فلو دعاني مرة واحدة وقلبه معي لأجبته. فرجع سيدنا موسى وقال: تعال هنا ربك يقول كذا كذا، فتعلم الحضور مع الله، فأجاب الله دعاءه.
انظروا.. لما حضرت قلوب المشركين وسط الشدة في البحر أجابهم وهم مشركون، يجيبهم وينجيهم.. لكنهم أخلصوا له الدعاء وحده وبحضور. وحصّل الإجابة منه إبليس قال: (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ) [ص:79-80]، صادف وقت إجابة وأجابه جلّ جلاله تعالى في علاه.
فتعرّض لنفحاته وأكثر الدعاء.. وأنت تعرف نتائج الدعاء؟
إما أن يعجل لك ما طلبت.
أو يدفع عنك من البلاء مقابل ذلك.
أو يدَّخره لك ثوابًا وذُخرًا عنده يوم يبعثون.
مستفيد في كل الأحوال؛ فإذا دعوته في حاجة مرة ومرتين وثلاث وأربع… عشر مرات، فأجابك؛ يكون الإجابة واحدة وتسع محفوظات لك ثواب عنده -جلَّ جلاله- المعامِل للحق رابح، خلق الخلق ليربحوا عليه لا ليربح عليهم.
قالوا: فإذا عُرضت ثواب الدعاء للدّاعين في الآخرة وقالوا لهم هذه الدعوة التي ما عُجّلت لك، يقول: يا ليت ما عجّل لي ولا دعوة واحدة! يا ليت كل الدعوات ادّخرها لي لهذا اليوم؛ لما يرى من عظيم الثواب.
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ) [الأعراف:55].
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ) [الأعراف:180].
وقال عن سادتنا الأنبياء: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90].
"جمع الهمّ" قالوا: هذا المقصود من الدعاء؛ أن يجتمع همك على المدعو. "وإظهار الذُل"
قد تحققت بعجزي *** وخضوعي وانكساري
"وحُسن النظر"؛ فيختار من الأدعية:
ما جاء في الكتاب
ثم ما جاء في السُّنة
ثم ما دعا به الصالحون
ثم ما كان أهم فأهم...
ويقدّم أمر القلب على الجسم
وأمر الآخرة على الدنيا
ويدعو للمؤمنين فإن الله يثيبه على عددهم، ومن استغفر الله للمؤمنين والمؤمنات في كل يوم سبعة وعشرين مرة كان ممن يُستجاب لهم وبهم يُرزق أهل الأرض ويُمطرون.
"وخفض الجناح، وسؤال الفاقة"؛ أي: الحاجة والاضطرار، "ولجأ الغريق"؛ مثل الغريق لما يلجأ يتشبث خلاص الموت قدامه فأي شيء يتمسك به بقوة ويدعو بصدق. قال سيدنا حذيفة بن اليمان: يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريق.
"ومعرفته بقَدْر نفسه"، وأنه العبد الذليل الحقير وأن لله حِكمة في كل تقديمٍ وتأخير، ورفعٍ وخفض، وإعطاء ومنع؛ فيرعى حق المنع كما يرعى حق العطاء، ويقول:
يا نفس إن لم تظفري لا تجزعي *** وإلى موائد جود مولاك اهرعي
ولئن تأخّر مطلبٌ فلربما *** في ذلك التأخير كل المطمع
فاستأنسي بالمنع ……. *** ……………………
إذا مُنعتي استأنسي؛ لأن المانع غني كريم ما يحتاج إليك ولا يعجزه شيء، ولكن من كرمه ورحمته منع للمصلحة والفائدة لك..
فاستأنسي بالمنع وَارعَي حقّه *** إن الرضا وصف المنيب الألمع
وإذا بدا من ناطق الوجدان ما يدعـــــوك لليأس الذميم الأشنعِ
فاستيقظي يا نفس ..
فاستيقظي من نومة الغفلات وليـــــكن الرجاء لكِ مرتعُا فيه ارتعي
إن العطاء إمداده متنوّعٌ *** يا حُسن هذاك العطاء المتنوّع
وأما عموم فائدة الدعاء:
وردوا على نهر الحياة وكلهم شربوا *** وكم في الركب من متضلّعِ
حاشا الكريم يردّهم عطشى وقد وردوا *** وأصل الجود من ذا المنبعِ
يا ربِّ لي ظنٌّ جميلٌ وافرٌ *** قدّمته أمشي به يسعى معي
كل الذي يرجون فضلك أُمطروا *** حاشاك أن يَبقى هشيمًا مربعي
قال: "وعظيم حُرمة المسؤول"؛ يستحضر عظمة حُرمة من يسأله، ومن يطلبه. "وبسط الكفّ عند الرغبة"،
فإذا دعا بنيل مطلوب وتحصيل خير فيجعل باطن كفّه نحو السماء.
فإذا دعا بردِّ شرّ وكفِّ سوء فيكون ظاهر كفّه نحو السماء.
"واليقين بالإجابة"، "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" يقول نبينا ﷺ.
"والخوف من الخيْبة"، أن يعرض الله عنه، وأن لا يقبل منه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- لإساءته الأدب، ولذنبه، ولوقوع السخط عليه.
"وانتظار الفرج"، فذلك عبادة، "وترك العدوان"؛ أهلك فلان، كسّر فلان، اهدم بيت فلان! المعتدي بالدعاء كالمعتدي باليد، تُحاسب على ذلك إذا دعا بإثم أو قطيعة رحم، قال تعالى:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف:55].
"وصحة القصد واللجأ، ومسح الوجه بباطن الكف بعد الدعاء"، ما لم يكن في الصلاة فلا يحتاج إلى مسح الوجه، وإذا دعا خارج الصلاة مسح بعد الدعاء وجهه للاتباع.
هكذا يُذَكرنا بآداب بالدعاء، ونحن ندعو الحي القيوم أن يصلح قلوبنا وينوّرها ويطهّرها ويصلح شؤوننا وشؤون أمة النبي محمد أجمعين إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
كما فارقنا وفقدنا رمضان وأيامه، ثم توالى علينا يوم العيد وهذا السادس بعد يوم العيد فهو السابع من شوال؛ يختم الذين باشروا الصوم للست من شوال صومهم في هذا اليوم، فتكون عيدهم الليلة وفي الغد، عيد من باشر بصوم الست، فهو عيد أهل صيام الست من شوال مرتبط بالعيد الأكبر عيد الفطر، فشوال كله عيد للمؤمنين بعد خروج شهر الصيام العظيم المبارك، لا جعله الله آخر العهد منّا ومنه وأعادنا الله إلى أمثاله وقَبِله منّا.
وكان أهل القرون الأولى يقولون: ستة أشهر بعد رمضان يودّعونه بسؤال القبول والإلحاح على الله أن يقبله، ثم ستة الأشهر الأخرى يستقبلونه بطلب حضوره وأن يمتعهم إلى الوصول إليه، فهم ما بين توديعه واستقباله في طول سنتهم، فهو سيد الشهور، انقضى والحمد لله.
اللهم اقبل منّا ما وفقتنا فيه من الخير، تجاوز عنّا كل تقصير، اجعله شاهدًا لنا لا شاهدًا علينا، وحجةً لنا لا حجةً علينا، وأعدنا إلى أمثاله في صلاح أحوالنا وأحوال أمة نبيّك محمد صلى الله عليه وعلى صحبه وآله، واملأنا بالإيمان واليقين، وأعنّا على حسن التلاوة لكتابك الكريم، وارزقنا تلاوته على النحو الذي يرضيك عنّا، وارزقنا العمل بما فيه، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا اللجأ إليك وحسن دعائك في الغيب والشهادة، وحسن دعائك في الرخاء والشدة، وحسن دعائك في كل شأن يا حيّ يا قيوم، إيقانًا أن الأمر بيدك، واعترافًا بالعبودية والذلّة لعظمتك، ورجاءً فيما عندك من عظيم الجود يا بَرّ يا ودود.
وقد يُطلع الله بعض أهل الجنة على تساوي رتبته في الإيمان وأعماله مع آخر، لكن يجده فوق رافع في درجة أرفع، يقول: يا رب هذا استويت أنا وإياه في الإيمان والعمل فكيف رفعته؟ فيقول الله: انظر في عمله هو دعاني بالدرجة العالية وأنت ما دعيت! ما عندك في عملك هذه الدعوة، وهو دعاني أن أرفع درجته فرفعتها، دعاني وطلب مني الدرجات العُلى.
ووجدنا في بعض أدعيته ﷺ كلما دعا قال: "وأسألُكَ الدرجاتِ العُلى منَ الجنة"، ثم يدعو قال: "وأسألُكَ الدرجات العُلى منَ الجنة" ﷺ، مع أنه فوق الكل درجته ﷺ، وأعلى درجة في الجنة المسماة بالوسيلة، قال: "لا ينبغي أن تكون لعبد" يعني متحقق بحقائق العبودية "وأرجو أن أكون أنا" هو، ومن غيرك!.. هو أنت.
فيا رب آتِ سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة والشرف والدرجة العالية الرفيعة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، واجعلنا في زمرته واجعلنا في دائرته، واجعلنا في فريقه، واجعلنا في صفِّه، واجعلنا في حزبه، واجعلنا في أهل قُربه، وأكرمنا بمرافقته وأنت راضٍ عنّا في خيرٍ ولطفٍ وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
اعتاد سلفنا عند انتهائهم من الأيام وصيام الست من شوال بعد رمضان، أن يجتمعوا جُموعات يستمدّوا فيها واسع استمدادات ويستمطروا سحائبًا أنشئت من سر رمضان وصيامه وقيامه، ومن سر المبادرة للعمل بالسُنة الكريمة، فيجدون فيها واسعًا من إمداد الله لم يحصل لهم في أيام رمضان وليالي رمضان من فضل الرحمن -جلّ جلاله- ويتوادّون ويتحابّون ويتهانّون بجود ربهم عليهم وتوفيقه لهم، ويُعلنون شكره ويدعونه ويتضرّعون إليه.
فالله يبارك لنا وللأمة في هذه اللقاءات والاجتماعات، ويعيد علينا عائدات السعادات، وإسعاده إيانا في الظواهر والخفيات بما أسعد به أهل العنايات والرعايات، يا مُسعد السعداء أسعدنا بأعلى السعادة، واجعلنا من أهل الحسنى وزيادة، وتولّنا بما أنت أهله في الغيب والشهادة برحمتك يا أرحم الراحمين.
08 شوّال 1442