شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -11- آداب المتعلِّم مع العَالِم، وآداب المُقرئ

الأدب في الدين -11- آداب المتعلم مع العالم ، وآداب المقرئ
للاستماع إلى الدرس

الدرس الحادي عشر من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي،  آداب المتعلِّم مع  العالِم ، وآداب المقرئ.

فجر الخميس 6 شوال 1439 هـ.

 

آداب المتعلِّم مع العالِم

"يبدؤه بالسلام، ويُقلُّ بين يديه الكلام، ويقوم له إذا قام، ولا يقول له: قال فلان خِلافَ ما قلت، ولا يسأل جليسه في مجلسه، ولا يسأم عند مخاطبته، ولا يشير عليه بخلاف رأيه، ولا يأخذ بثوبه إذا قام، ولا يستفهمه عن مسألةٍ في طريقه حتى يبلغ إلى منزله، ولا يكثر عليه عند ملله."

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا ببيان منهج الهدى والصواب، وهادينا على يد حبيبه محمد سيّد الأحباب، الذي أدّبه بأحسن الآداب وجعله المثل الأعلى فيها رفيع الجناب. اللهم أدِم صلواتك في كل لمحةٍ ونفسٍ وحينٍ على عبدك المصطفى محمد بن عبد الله سيّد أهل الاقتراب، المخصوص منك بأشرف وأجلّ وأسمى خطاب، وعلى آله خير آل وأصحابه خير أصحاب، وعلى من سار في طريقه على منهج الهدى والرشاد إلى يوم المآب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفعت لهم الدرجات بين المقرّبين من الأحباب، وعلى آلهم والأصحاب، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا ربّ الأرباب.

وقد ذكر لنا الشيخ -عليه رحمة الله- في هذا الفصل: "آداب المتعلم مع العالِم"، وخير المعلمين الأنبياء والمرسلون، وخير المتعلمين من جعلهم الله في رفقتهم وصحبتهم، عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين. ولقد أجمل الحق -جلّ جلاله- هذه الآداب فيما نقل عن سيدنا موسى الكليم، وقد لقيَ الذي أراد أن يتعلّم منه، وهو سيدنا الخضر -عليه السلام-  قال تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) [الكهف:65].

أثنى الحق على ذلك المعلّم، وذكر اجتهاد سيدنا موسى الكليم، الذي جاء بوصف متعلم وإن كان في المقام والرتبة أعظم، وأنه قال لفتاه: (لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) [الكهف:60]؛ أي: أزمنة طويلة، ففيه الحرص والرغبة والطلب بِنَهم، ومضى -عليه سلام الله تعالى- حتى لقيَه فلما لقيَهُ قال له موسى: هل أتبعك؟ فابتدأه موسى بالسلام كما سمعت في الآداب، وقال له: وأنّى بأرضك السلام؟  ثم سأله: من أنت؟  قال: موسى قال: كليم الله موسى بن إسرائيل؟  قال نعم، ما الذي جاء بك؟ فذكر له: أن الله أخبره بأنه عنده علمٌ ليس عنده، فقال: هل أتبعك؟ ولم يقل هل أصاحبك أو أجالسك أو أكون معك، ولكن عبّر بلفظ الاتّباع، هل أتبعك؟ تعرف الأدب؟.. (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف:66] وفي قراءة: (رَشَدًا). 

(قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) [الكهف:67]؛ نوع العلم الذي علمني الله إياه يغيب عن مُدركاتك وما سيّرك الله فيه من الذوق، فلن تستطيع أن تصبر، إنك على علمٍ علّمك الله إيّاه لم يعلّمني إياه، وأنا على علمٍ علمني الله إياه لم يعلمك إياه، وفي هذا أيضا إثباتُ أنّه لا مجال لأن يدّعي أي مخلوقٍ كان أنه يحيط بالعلم،  الذي يتعلمه الخلق، أما العلم بكل شيء فهو بعيد، ليس إلا للرب، ولكن العلم الذي ينتشر بين الناس ويدركه الناس، لا يمكن لواحد مِنّا أن يحيط به، ولهذا لما سأل ابن لقمان أباه: من الذي يحيط بالعلمِ؟ -يعني عَنوتُ للمخلوقين- قال: كل الخلق؛ مجموعهم يحيطون به، واحد وحده لا، ولا حتى اثنين.. عشرة.. مائة… لا يمكن يحيطون، إنما مجموعهم، مجموع الخلق إنس وجن وملائكة ومن معهم من بقية الكائنات هؤلاء يحيطون بما علّمهم الله، فمجموعهم؛ أما جزء منهم ما يحيط، وهكذا..

وهذا يقول: إن الله علّمني علمًا لم يعلمك إياه، وعلّمك علمًا لم يعلمني إياه. ثم إنه جاء أيضًا في حديثهم: أن طائرًا وقف على خشبة السفينة ونَقَر بمنقاره في البحر، فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كمقدار ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر! كم نقص؟ ربع البحر بقي؟ نصف، ثلث، عُشُر؛ يعني ما يساوي شيء، ما نقص شيء، فكذلك العلوم، يعني وضع علوم موسى الكليم وعلوم الخضر عليه السلام، هم بهذا الحال؟ قال ما نقص علمه، فكيف بعلوم غيرهم وماذا تساوي؟!... (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) فأبانَ عن بقية الآداب، (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) [الكهف:69] أنا ممتثل، (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ) اسكت ساكتًا، مهما استغربت، مهما استشكلت الأمر.. لا تسأل، اسكت، (حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)  [الكهف:70] أذكر لك وأستفسرك بعد ذلك اسأل، فقصّ الله علينا من خبرهم الثلاث الوقائع التي وقعت، وقال نبينا ﷺ: وددتُ من موسى أنه صبر فحدّثنا الله من أمرهم عجبًا، ولكن تيقن بعد الثالثة أنه لا حاجة له إلى هذا العلم وأنه على مهمة خلقه الله لها ويقوم بها، ولا يقصر عليه من مقامه عند الله شيء أن لا يعلم هذا العلم، فتعمّد الثالثة وقال له: (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف:77-78]. 

يقول: "يبدؤه بالسلام"؛ هذا أدب يذكرونه من المتعلّم مع العالم، كان سيّد العلماء يحمل هذا الأدب مع كل المسلمين، وهو معلم الجميع، فكان يبدأ من لقيه بالسلام، ما يسبقه أحد لمّا تلاقيه في الطريق يبدؤك بالسلام قبل ما تسلم أنت، يبدأ من لقيه بالسلام ممّن عرف ومن لم يعرف كل صغير وكبير وأصفر وأحمر وأبيض وأسود من المسلمين، كل ما لقيَ أحد يبدأ بالسلام قبلهم ﷺ.، فما أعظم أدب هذا النبي، وإلا فالأولى إذا تلاقى الناس في المشي في الطريق أن يسلّم الماشي على القاعد، ويسلم الراكب على الماشي، وأن يبدأ بالسلام الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، لكن هذا زين الوجود يبدأ من لقيه بالسلام وهو راكب وهو ماشي، صغير، كبير، قليل، كثير، هو الذي يبدأ بالسلام ﷺ.

 "يبدؤه بالسلام، ويُقلُّ بين يديه الكلام"؛ خصوصًا:

  • فيما لا يعني، وفي الفضول 

  • وفيما لا يتعلق بالإفادة والاستفادة 

  • أو إدخال السرور على قلب المعلم

فلا داعي لكثرة الكلام عند الشيوخ، وقد سمعت ما قال الربيع: ما اجترأت أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ؛ هيبة له، وما قال الشافعي: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحًا رقيقًا لئلا يسمع وقعها! لا إله إلا الله… 

"يُقلُّ بين يديه الكلام". وقد نهى الحق -تعالى- أصحاب نبينا عن كثرة السؤال، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة:101]. وقال ﷺ: "ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم". 

قال: "ويقلّ بين يديه الكلام، ويقوم له إذا أقبل" أو إذا قام، وقد كان ﷺ يتأخر عن القيام له بعض أصحابه لما يعلمون من كراهته لذلك، لما يعلمون، وهو أحب إليهم وأكرم عليهم من أي أحد، ولكن بعضهم ترك القيام لما يعلم من كراهته لذلك، وبعضهم رأى أن هذا حق لازم عليه وإن لم يلتفت إليه ﷺ أو لم يحبّه، من حيث هو له، لا من حيث هو فعل الإكرام والإعظام فذلك قربةٌ إلى الله، وفي ذلك يذكر أن شاعره حسان كان في جماعة فأقبل ﷺ فقام، فقال ﷺ: حسّان ألم أنهكم عن القيام لي؟ قال:

 قيامي للعزيز عليّ فرضٌ ***وترك الفرض ما هو مستقيم

عجبتُ لمن له حِسٌّ وعقلٌ *** يــرى هذا الجمالَ ولا يقـوم 

فتبسم ﷺ، قام الصحابة كلهم، فتركهم ﷺ. وقد جاء قيامه ﷺ لفاطمة كلما دخلت عليه، وأمره بالقيام عندما أقبل سعد بن معاذ، "قوموا إلى سيّدكم"، ﷺ ففيه أن القيام للإكرام والاحترام، وألّف في ذلك رسالة الإمام النووي سماها: (الترخيص بالقيام)، على وجه الإكرام والاحترام، 

  • للوالدين 

  • وللمعلم 

  • وللشايب الحذق في السن الذي شاب شيبةً في الإسلام 

وأمثال هؤلاء، وما وقَّر شاب شيخًا لكبر سنّه إلا سخر الله له من يوقِّره إذا كبرت سِنُّه.

 "ويقوم له إذا قام، ولا يقول له: قال فلان خِلاف ما قلت"؛ فإن مسائل العلم مجالاتٌ واسعة في نظر العلماء وفي اجتهادهم، ومن الأدب العام في مسائل العلم ما أشار إليه الإمام أحمد بن حسن العطاس وقال: إذا سمعت خلاف ما سبق عندك في العلم فلا تردّه، وأضِف هذا إلى هذا تظهر لك الحقائق؛ ضع هذا فوق هذا وضم هذا إلى هذا، تجد معلومتين تولد معلومة ثالثة ومعلومة رابعة ويتسع لك المجال، أما إذا رددت ما طرأ عليك مما يخالف ما عندك فقد خسرت في ذلك الأمر ولم تنفتح لك أبواب الفائدة والاستفادة، لا إله إلا الله! 

"ولا يسأل جليسه في مجلسه"؛ جالسين في مجلس المعلم والشيخ، وهو يسأل الذي بجانبه ويتكلم مع الذي بجانبه! وقد كانوا يقولون: "لا يُفتى ومالك بالمدينة"، وكان الأمير إذا ورد الحج ينظر أعلم من ورد من أهل العلم ويأمر منادٍ ينادي: لا يفتي إلا فلان بن فلان. وكان في بعض السنين قدِم عطاء بن أبي رباح كان أصله من الموالي اتسعت علومه ومداركهُ، فأمر الأمير أن ينادي في موسم الحج: ألا لا يُفتيَنَّ إلا عطاء بن أبي رباح رضي الله عنهم. وفي هذا الرجوع إلى الأعلم أو الأعظم أو الأقوم أو الأورع. وقد كان من نباهة بعض الوافدين إلى المدينة المنورة -وهو شاب- مع وفد له من بلده، أن يحرص على مجالس النبي ﷺ فإذا لم يجده بحث عن أبي بكر، فإذا لم يجده بحث عن عمر، فكان يجالسهم، فلما عادوا إلى بلدهم كان أفقههم هذا، ثم تقدم عليهم في الإمامة لكونه الأعلم والأفقه والأقرأ، كان يرتبهم إذا ما وجد الحبيب الأعظم ذهب الى عند سيدنا أبي بكر ما وجد سيدنا أبي بكر ذهب الى عند سيدنا عمر.

فهكذا يقول: "ولا يسأل جليسه في مجلسه، ولا يسأم عند مخاطبته"، قال سيدنا علي بن أبي طالب: إنما المعلم كالمطر، لا تدري متى ينزل عليك فلا تملّ من مجالسته. يقول: "ولا يُشير عليه بخلاف رأيه"، فإن: في اتباع الرأي وترك رأي النفس ما يوحي إلى الاتصال بالقدس، وتعالي هذا الإنسان عن أن ينصب صنم رأيه وعقله أمامه، بل يُحطم الأصنام ويسجد للملك العلام، ويرى أن رأي الشيوخ والكبار أصوب من رأيهِ مهما بدا له خلاف ذلك. لهذا ضرّ كثير من أهل الانتماء الى العلم  والخير في مختلف القرون وحجبهم عن إفاضة النور وإمدادات الروح بالمعارف، من قِبِل صلحاء زمانهم وأولياء زمانهم أنهم استحسنوا آراءهم على رأي الشيوخ، وأنهم ظنّوا أنهم في شيءٍ من المسائل وجوانبها أعلم منهم، وبذلك حُجِبوا عن أن ينالهم أنوار معارفهم، وتنالهم ملاحظة رعاياتهم وعناياتهم، فأعرض الله عنهم، ولكن كان استفاداتهم على مختلف أحوالهم من الشيوخ على حسب تذلّلهم، وقد قالوا: 

العلم حربٌ للفتى المتعالي*** كالسيل حربٌ للمكان العالي

 ما يطلع السيل المكان العالي ينزل إلى كل مكان منخفض وكلما كان أخفض كان حظه من السيل كثير، يستقر فيه ويتجمع فيه السيل؛ فكذلك المعارف والعلوم تتطلّب القلوب المنخفضة لجلال الله فتحلّ فيها.

فكم ابتُلي كثير من أرباب الذكاء والعقل الحسي هؤلاء الشباب برؤية أنهم أعلم بالأمور وأدرى ببعض قضايا العصر على الأقل من شيوخهم، وهْمًا!... ومن تُدورِك منهم يرجع بعدين بعد كبر سنه ويعرف أنه كان هو أقل إدراكًا وأضعف رأيًا وأن أولئك كانوا أعظم نظرًا فيصِل إليه شيء ولكن الكثير قد فاته، إلا أنه يموت على حال مسالم، أما أن يموت وهو يرى أنه أفضل منهم هذا أقل ما يتعرّض فيه لعتاب يؤلم الروح، أقل ما يتعرض… ولكن كثير منهم يتدارك.

وقد قال لي بعض أهل العلم الواسع، في آخر عمره يقول: كنا في شبابنا نسمع بعض كلام الحبيب علوي بن شهاب ونظن أنه منحصر الفكر ومتحجّر في شيء ورثه، ولما مرّت بنا السنين عرفنا أنه كان أبعد نظرًا منا، وأعرف بالدقائق والحقائق مما كنّا نتخيله، فهكذا تكون نهاياتهم ولكن قد فات شيء كثير.. لو كان هذا الاعتقاد من السنين الماضية كم سينساب إلى  الروح من المعارف واللطائف، فهذه مصيبة.. ولهذا نجد مراتب الصحابة -عليهم رضوان الله- الأعظم كان توقيرًا للمصطفى وخضوعًا له واستسلامًا له هم الأعظم في القدر والمقام والمنزلة عند الله، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

وهكذا يُذكرُ أن سيدنا عمر بن الخطاب مرّ على بيت العباس بن عبد المطلب فرأى ميزابًا قريبًا من الأرض، فباجتهادهِ ونظرهِ وعلمه قال: هذا إذا مرَّ راكب على جمل أو صاحب حمول ربما آذاه ودقّه، فأمر بنزعه ونُزع الميزاب ووُضع على الأرض، وبينما هو جالس أقبل العباس فقال: ما بالك يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الميزاب رأيناه قريبًا من الأرض فخفنا أنه يؤذي، قال: أتدري من وضعه في هذا المكان؟ قال: من وضعه؟ قال: رسول الله! قال: ويح عمر يا ويل عمر، ارجع ورده في مكانه واطلع على ظهري، قال له: من غير ظهرك قال: لا أطلع على ظهري هذا، فاجلس واطلع برجليك فوق ظهري، قام ورد الميزاب في محله الذي هو فيه، خلاص؟ انتهى اجتهاد عمر وعقل عمر وعلم عمر، هكذا كان، حتى وُصف بقول: كان وقّافًا عند كتاب الله.

وهكذا أساء الأدب عليه بعض الحاضرين في مجلسه، فأقبل عنده بعض الصحابة يقول له: أتسمع ما يقول هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين، والله يقول: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف:199] وأخذ يردد: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) أعرض عنه.. قال له قم ما عليك شيء لا نعاقبك ولا نحاسبك ولا نفعل لك شيء، أمشي في طريقك، قالوا: وكان وقافا عند كتاب الله. 

وهكذا وقفوا مع معلمهم ﷺ في حفر الخندق فخطَّ لهم الخطوط لحفر الخندق، كان في أكثر المساحة عرض أربعين ذراع وعمق تسعة أذرع، وخطَّ لهم ﷺ الخط من هنا ومن هنا، فجماعة من أصحابه اعترضتهم كُدية من الأرض، محل متلبّد متماسك ما عملت المعاول فيه وهم يضربون ويضربون، لمّا قال بعضهم: نتقدّم أو نتأخر، قال أحدهم: كيف، انظر الخط هذا خط من؟ رسول الله، قال كيف تتقدم أو تتأخر؟ محل الخط لا تتقدم ولا تتأخر، تعبوا ضربوا ضربوا، ما أثّر ما قدروا يهدمون الكدية هذه، قالوا: ارجعوا إليه، فرجعوا اليه ﷺ، لمّا جاءه الصحابة وقالوا لرسول الله ﷺ: اعترضتنا كدية لم تعمل المعاول فيه، قال: إني نازل، فخرج ﷺ رآها قال: ناولني المِعْول وأخذه وضرب ضربة فإذا ثلثها يتحول كالكثيب الأهيب، وبرقت منه برقة وقال: الله أكبر! فُتحت قصور صنعاء، ضرب الثانية وبرقت بارقة منها قال: الله أكبر هذه مدائن كِسرى، ضرب الثالثة قال: الله أكبر! هذه قصور الروم فُتحت، فازداد المؤمنون إيمان، وقال بعض المنافقين: نحن فزعين خائفين في رحْلنا، وسط قريتنا، وسط المدينة، وهو يُمنيّهم بصنعاء والروم وفارس، (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب:12].أعوذ بالله من غضب الله.. وانحلت مشكلة الكُدية، صلى الله على سيدنا محمد وآله.

وهكذا، اجتهد مرة سيدنا عمر وهو داخل على أرض، قالوا: إنها ظهر بها الطاعون، قالوا أندخل بالجيش ونزُجّ بهم يتعرضون للطاعون هذا أم  نرجع؟ فتشاوروا فرأى سيدنا عمر، وقال: نرجع، قالوا له: أتفرّ من قدر الله؟ قال: نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أين نفر؟… فجاء سيدنا عبدالرحمن بن عوف ووجدهم قالوا: تشاورنا في كذا، قال عندي خبر من رسول الله، التفت سيدنا عمر: ماذا يقول رسول الله؟ قال: سمعته يقول: "إذَا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بهَا فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا"، فتهلل  وجه سيدنا عمر، أن رأيه وافق القول النبوي ففرح سيدنا عمر وأخذ به ورجع، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. أسمعت؟.. هؤلاء أهل العقول الكبيرة والإيمان الكبير كانوا أمام كلام الله ورسوله لا شيء، إذا قال الله ورسوله انتهت المسألة، ارتفعت درجاتهم وهم عباد الله حق، تحطمت أصنام العقل والعلم ما بقي  صنم، كل أصنام الكون تحطمت ما عندهم إلا الله، عليهم رضوان الله.

 قال: "ولا يأخذ بثوبه إذا قام"، وإذا فتر أو إذا فلا يقول نريد كذلك كذا ونريد كذا، وعاد نصلّح كذا، يسكت، وإذا أشار عليه بترك السؤال يسكت عن السؤال. "ولا يأخذ بثوبه إذا قام، ولا يستفهمه عن مسألة في طريقه حتى يبلغ إلى منزله، ولا يكثر عليه عند ملله"؛ فيراعي هذه الأحوال تعظيمًا للباب الذي يأخذ منه العلم لأجل الخيط الذي يوصل إلى مدينة العلم، فيكون معظّمًا لله ولرسوله عبر تعظيم مَن حَمَل سند العلم، فيعظّمهم لله ورسوله فيكون معظّمًا لله ولرسوله ﷺ.

وهكذا كان المعلّمون والمتعلّمون يتعلمون علوم الشريعة على وجه الخصوص ثم بقية العلوم، وبذلك انفتحت معانيها واتسعت المدارك فيها وحلّت خيراتها واستُثمرت استثمارًا حسنًا في واقعهم، فكيف صار الناس يتعلمون العلم؟ وكيف صاروا يأخذون العلم؟ وكيف يتلقّونه؟ وكيف الرابطة والعلاقة بين المعلم والمتعلم؟ وجاءوا هؤلاء بعقلياتهم القاصرة، ومنهم الذين يسجدون لصنم معلوماتهم أو صنم عقولهم، ويا ليتهم عندهم حقيقة علم؛ لقَادَهم إلى أن لا يسجدوا إلا لله أو حقيقة عقل، لكن لا حقيقة عقل ولا حقيقة علم، عقول ناقصة ماشية على غير حسن الاستخدام والاستعمال للعقل، وعلوم ناقصة كذلك، فعظّموها وصاروا يقولوا للناس: حرية القول والكلمة والمناقشة للأستاذ والتلميذ وكلهم سواء، من أين جئتوا بهذا الخبر؟ من أين جئتم به؟ تريدون نضعكم أساتذة كذا على طول؟ من أين جئتوا بالخبر هذا؟ من أين تعلمتوه؟ على أي أساسٍ أقمتموه؟ أنتم بعد ذلك في حياتكم الدنيوية الطبيعية القانونية، تجعلون صلاحية هذا لا يتناول هذا، وهذا لا يتناوله هذا، وإلا اختلَّ نظام الدولة كله، ولابد أن يرجع ذا إلى ذا، وذا إلى ذا وإذا تصرّف هذا فوق صلاحيته يعاقبه هذا الذي فوقه، عجيب والله! أنتم مضطرون إلى الطريقة التي أخذناها، ثم تريدون في بقية شؤون الحياة تتهمونها وتمسحونها، من أي جئتم بهذه الأخبار؟ أين المصدر حقكم؟ لكن حصلتوا لكم رعاع منّا خلوكم أساتذة وأنتم بقر، خلوكم أساتذة وأنتم ما تساوون شيء، وإنا لله وإنا إليه راحعون! 

ولو أن أهلَ العلم صانوه صانهم *** ولو عظّموه في الصدور لعُظِّمَا

 ولعَظَّمَا.. 

ولكن أهانوه فهانَ، ودنّسوا *** …………….

ولو أن أهل الدين صانوه صانهم ولو عظموه في الصدور لعُظِّما… 

ولكن أهانوه فهانَ، ودنّسوا *** محيّاه بالأطماع حتى تجهّمَا 

أتباع كل ناعق؛ إمّعات يتبعون ما يقال لهم، قال له كما تقول الببغاء تسمع كلامه وتمشي وراءه، ما تعرف ما معناته، لا إله إلا الله!.. الحمد لله على نعمة الإسلام.

 كم صلحوا من أساليب للتدريس والتعليم؟ الآن نفس الكفار، نفس هؤلاء أصحاب التقدم على قولهم، رجعوا إلى تقويم التلاميذ عبر الشيوخ، الذين انتهوا الآن إلى غاية في بلدان الكفر موجودة الآن، ما عاد صار الاعتبار بالشهادة الثانوية ولا الشهادة الجامعية، صار الاعتبار: يجالس الأستاذ في فترات معينة ويقوّمه ويعطيه.. وعلى ضوء ذلك يُعتبر، هذا الذي رموه في العالم الإسلامي وعاد ماشيين الناس عليه قد زهدوا فيه هم. وقد كان شيبان العالم الإسلامي العقال يقولوا لهم: ما هذه طريقة في التعليم ولا هذه طريقة تربية، ارجعوا! ما صدقوهم، قالوا متحجّرين قالوا متعصبين، حقهم السادة أولئك الذين قالوا لهم كذا، قالوا: لابد نرجع لابد من مجالسة الشيوخ، ولا يقوِّم  قَدْر الطالب في العلم ولا في المهارة والقدرة إلا الشيخ عبر المجالسة، هكذا يقولون هم الآن، لا إله إلا الله!.. يقول من يقول منهم ذلك.

إذا انتهوا إلى غاية ومشوا مشي وفِّقوا فيه من الشذوذ سينتهون إلى ما عندنا؛ لأن ما عندنا قمة جاءت من فوق، أكبر من اجتهادات عقليات البشر، وهم ما عندهم من أين؟ من أين جاء؟ يريدون وحي سفلي يقابل وحي علوي؟! (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ) [الأنعام:112]، وهذا يقول: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ) [النساء-163] هل الوحي هذا كما ذاك؟ (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ)ن وهذا: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ)، (تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42] (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل:6]. شوفوا المصدر الوحي ذا وأين مصدر الوحي ذاك… والآن ينادوننا أن اتركوا ذا وتعالوا هنا، أين نذهب؟ الحمد لله معنا مسكة من عقل أعطانا الله إياها، يقول العوام عندنا: ما حد يبدل بأبوه جِنّي! أبوه إنسي ويجيء له بأب جنّي بدله!.. والأمر أبعد من ذلك وأكبر، أستبدل ربي ونبيّه وصفوته بثلة وحثالة من المتضمّخين بكثير من الدنايا ومتخبّطين في فهمهم كل يوم يغيّرون معلوماتهم؟! فياربّ ثبّتنا على الحق والهدى.

 

آداب المُقرئ

 

آداب المُقرئ

يجلس جلسة الخشية، واستماع الأمر، وإنصات الفهم، وانتظار الرحمة، والإصغاء إلى المتشابه وإشارة الوقف، وتعريف الابتداء، وبيان الهمزة، وتعليم العدد، وتجويد الحرف، وفائدة الخاتم، والرفق بالبادئ والسؤال عن المتعلم إذا غاب، والحث له إذا حضر، وترك الحديث، ويبدأ بالمتلقّن يلقنه ما يصلي به لنفسه، أو احتاج إلى أن يؤم غيره.

 

المقرئ لكتاب الله -تبارك وتعالى- "يجلس جلسة الخشية"، (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف:204]. يجلسُ جلسة الخشية، (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ) [الزمر:17-18]. 

"واستماع الأمر"؛ يعني: امتثالها وتطبيقها، 

  • كلما مرَّ على أمرٍ من الأوامر في القرآن يحاسب نفسه، أيقوم به على وجهه أم لا؟ 

    • فإن رأى من الله توفيقًا أنه يقوم بهذا الأمر فيطالب نفسه بزيادةِ الإتقان والارتقاء في معانيه، 

    • وإن رأى نفسه مقصرًا تدارك التقصير بعزمٍ صادق 

  • وإذا مرَّ بنهيٍ كذلك يرى ساحة قلبه وعقله وعمله هل هو مُبرّأ عن هذا العمل وهذا النهي أم لا؟ وفي أي درجات البراءة من النهي؟ 

    • فإن رأى توفيقًا من الله أنه منتهٍ عنه فليحمده وليشكره وليزدد بُعدًا وغضبًا لهذا الفعل المنهي عنه.

    • وإن رأى تقصيرًا فليتدارك تقصيره 

    • وإن رأى نفسه واقعًا فيه فلينزع نفسه، 

هذه مهمة قراءة القرآن كان سيدنا ابن عباس يقول: إذا سمعت (يا أيها الذين آمنوا) فأحضِر قلبك فإنه إما أمر أو نهي بعدها، خطاب من الله يأتي بعده؛ إما أمر أو نهي؛ أحضر قلبك وانظر ماذا يقول لك؟ بِمَ يأمرك؟ وعن ماذا ينهاك؟

"واستماع الأمر، وإنصات الفهم"؛ أي: التفهّم فإن للقرآن معاني تتسع لمن أحسن التدبر والتأمل، قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) التدبّر والفهم (فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، يقول بعض الصحابة كما أورد البخاري: "هل من طالب علم فيُعان عليه"، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:17]، هل من طالب علم فيُعان عليه بالقرآن، يأخذ العلم من القرآن.

"وإنصات الفهم، وانتظار الرحمة" (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف:104]. قال سيدنا أُسيد بن حُضير: يا رسول الله كنت البارحة أقرأ سورة الكهف في القرآن، وإذا بخيل لنا وفرس تجول وتتحرك بشدة، وإذا بظُلّة من السماء تقع فوقنا فيها أمثال المصابيح، قال: فقمت إلى فرسي وأصلحته وقطعت، قال: تلك السكينة نزلت للقرآن لو مضيت في قراءتك  لأصبحت والناس ينظرون إليها، هذه ملائكة أو السكينة نزلت للقرآن، فتُسْتَنزل الرحمة بالقرآن. 

ويذكر أن بعض الناس ابتلي ببغض بعض الناس بينهم مخاصمة ومشادة ومشاحنة وإياه، حتى توفي ذلك المأثوم وعاد هذا غيظ قلبه ما انقطع بعد الوفاة، يعلم قبره وجاء بعدما راحوا الناس في اليوم الثاني أوالثالث من الوفاة إلى عند القبر جاء قال: يا ملائكة العذاب (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الخاقة:30-32]، وذهب… فرأى الميت في النوم قال له: ألست قد مُتّ؟ قال: أنا مُتّ، وكنت في عذاب من أول ما وُضعت في القبر، لكن أمس لما مرّيت عند القبر وقرأت الآيات هذه نزلت الرحمة ورحمني الله! ذهب له يريد العذاب يزداد عليه، قال: يا ملائكة العذاب (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) آيات من القرآن… قال: ببركة الآيات التي قرأتها نزلت الرحمة ورفع الله العذاب عنيّ أصبح يقول عاد نحن أفدناه! 

وليس الأمر كذلك؛ كل من جاوز حده في الغيظ بلا حق؛ كل ما يعمله يرجع في مصلحة الآخر، من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر. فكن معه فقط.. والملك كله ملكه، كن معه وهو يصلح لك كل شيء.

"والإصغاء إلى المتشابه" مع التسليم، قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران:7]، وهي آياتٌ ما تحيط العقول بحقائق معناها ولا ما قصد الله بها من المعنى المتشابه، ولكن عامة القرآن محكمات؛ آيات محكمات، (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)، هذا كلام الذين رسخوا في العلم ويتذكرون المصير، (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:7-9].

والثانيين قال: فإذا رأيت من يتتبع ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم.

يقول: "وإشارة الوقف"؛ فيقف حيث يحسن الوقف، "وتعريف الابتداء" ويبتدئ من حيث يحسن ولا يبقى إذا انقطع نفسه أو رُدَّ عليه، يقف ويجعث الكلام فيصير لا هو جملة سواء، ويأتي بكلمة من الوسط معناها خربطة! رُدّ الجملة من أولها، هات الآية تمام تنتظم.. هات الكلام المرتبط بعضه ببعض. وبعض الأوقاف في آيات في القرآن لا ينبغي أن تقف عليها فتصلها بما بعدها؛ لأن المعنى يتغير. كانوا دائمًا يقرؤون سورة العصر، فيقف عند قوله:  (لَفِي خُسْرٍ)، (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) هل هذا وقف صحيح؟ هل الإنسان في خسر أنبياء ورسل ومقربين وصدّيقين في خسر؟  اقرأ الذي بعده، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) كيف تقف؟ يُفهم غير المراد غير المقصود. 

أو يقرأ: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ) ما تريد الناس تصلي؟ إيش عندك؟ هات الذي بعده بسرعة لا تقف، (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4-5]، هذا يسمى وقف ممنوع، يعرف كيف وأين يقف.. هذا ما يعرف!.. (وَالْعَصْرِ) هذا قسم وبعدين؟ (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، وخسرنا كلنا ولا أحد مننا ناجي ولا رابح!!... لا تقف هذا كلام مربوط بالذي بعده، (لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، خلاص الآن عرفنا من خاسر ومن ناجي، (لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:2-3].

كما قال الشيخ كشك -الله يرحمه- يقول: هؤلاء ناس كسلانين يلعبون بصلاة التراويح في رمضان، ويقرأوا كلمة من وسط الآية ويقف عندها! وبعدين يكون مربوط ما قبلها مربوط ما بعدها، ولكن فقط يقرأ بعض الآية ويركع، إذا قالوا ولا الضالين قالوا آمين يقرأ كلمتين من آية ويركع… قال: حتى قرأ بعضهم سورة الضحى في عشر ركعات! ولا الضالين يقولوا: آمين يقول: (وَالضُّحَىٰ) ويركع!.. قال فواحد يقرأ وصل عند قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا) وركع!.. وفي الركعة الثانية قرأ الفاتحة، وقرأ بعدها: (إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ) [المائدة-82] وركع!!.. إذا أنتم نصارى لمَ تصلون في المسجد؟؟!! وقف عند الآية قبلها (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا) و (إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ) جاء بها في الركعة الثانية. لا حول ولا قوة إلا بالله! 

وهذا مهمة طالب العلم حتى في أي كتاب يقرأخ؛ ما يجيبها من وسط ونصف العبارة ونصفها يترك المعنى غير معروف، ولا يقف في موقف ما يحسن الوقف فيه، فكتاب الله أولى أن يُتعلّم أين يقف وأين يصل حتى لا يخربط.

وكل ما ذُكر من الآداب له موازين لا تناقضات معه، مع المراجعة في بعض المسائل على وجه الأدب، ولا نقل ما يُحتاج إلى نقله على وجه الأدب كذلك، وذلك:

  •  باعتبار الحال 

  • واعتبار المكان 

  • واعتبار الزمان 

  • واعتبار شأن القلب وشأن النية وما إلى ذلك

فما هناك إشكال في كثير من المراجعة. وقد روجع ﷺ في كثير من المسائل، وقَبِلَ المراجعة من الصغير والكبير -صلوات الله وسلامه عليه- ولكن يبقى عموم الأدب. والذين كانوا يراجعون من المتأدبّين:

  • كانوا على غاية الإنكسار والتذلل 

  • وعلى كمال الشهود في عظمة الشيوخ ومن تلقّوا عنهم، رضي الله عنهم. 

والله يعلي درجات حبيبنا في الله المنتقل إلى رحمة الله السيد الكريم الصالح: طه بن محمد بن طه السقاف، ويجمعنا به في دار الكرامة ومستقر الرحمة، ويكرم وفادته عليه وعلى رسوله وعلى سلفه الصالحين، ويخلفه فينا وفي أهل الإسلام والإيمان والأمة المحمدية بخير خَلَف، ويسكنه أعلى الغرف، ويجمعنا به في أعلى درجات دار الكرامة من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، ويجعل من كرامة وفادته عليه توسيع جاهه وشفاعته أن الله ينقذ المسلمين ويخلّصهم من البلايا والآفات، ويفرّج على أهل اليمن والشام والشرق والغرب ويكشف كل كرب عنّا وعن أمة النبي محمّد، ويتداركهم بالغياث العاجل واللطف الشامل، ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، ويجعل له من عذابه وقاية وجُنّة، ويتقبل جميع حسناته ويضاعفها إلى ما لا نهاية، ويتجاوز عن جميع سيئاته ويبدّلها إلى حسنات تامّات موصلات، ويتحمّل عنه وعنّا جميع التبعات، ويدخل عليه في قبره رَوحًا منه وسلامًا منّا في كل لمحةٍ وفي كل نفس، ويبارك بالبركة الواسعة التامة الكاملة في أولاده وأحفاده وأسباطه وأحبابه والمنتمين إليه، ويجمعهم أجمعين في دار الكرامة ومستقر الرحمة من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، ويجعلنا وإيّاه وإيّاهم مع الذين أنعم الله عليه من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقًا، ويطيّب له لقاء من مضى من أحبابه أهل حضرة الاقتراب وأرباب المراتب العلى، وأن الله -سبحانه وتعالى- يُسِرُّ روحه بأعلى ما يُسرُّ أرواح المحبوبين من عباده، وينشرله من البشائر أسناها وأعلاها في ذلك العالم، ويجمعنا به وهو راضٍ عنا وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

 

 

تاريخ النشر الهجري

07 شوّال 1439

تاريخ النشر الميلادي

20 يونيو 2018

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام