الهدي النبوي في فهم الواقع واتخاذ القرارات أمام التحديات والفتن SILATURAHMI NASIONAL

للاستماع إلى المحاضرة

ملتقى العلماء والجمعيات الإسلامية، في جاكرتا، إندونيسيا، الإثنين 28 ربيع الثاني 1447هـ بعنوان: 

الهدي النبوي في فهم الواقع واتخاذ القرارات أمام التحديات والفتن

 

نص الملتقى مكتوب (المحاضرة ثم المداخلات والأسئلة):

الحمد لله الهادي مَن يستهديه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يَكِلُ من توكل عليه، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أعلى أنموذجٍ للخلائق في إقامة أمر الله على ما يرتضيه، وأكرم مأمون من الخالق على هداية خلقه إليه ودلالتهم عليه، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه ومن يتّبعه ويواليه، وعلى آبائه وإخوانه أنبياء الله ورسله وآلهم وصحبهم وتابعيهم. 

اتباع رضوان الله وطلب الهداية

وإذ قد جمعنا سبحانه وتعالى على مقصد كريم نبيل شريف فإنا نرجوه أن ينفعنا بهذا الاجتماع، والمقصد النبيل الشريف أن نستضيء بالنور الذي اختاره الله لنا وأطلعه علينا لنهتديَ بهديه.

قال تعالى: ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ)، أي بهذا النور الإله سبحانه وتعالى، (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ) ومعنى اتّبع رضوانه: صَدَق في إرادته ما يُرضي ربه عنه، موقناً بأنّ الأمر له وإليه يعود، وأنهُ إن أسعد فلن يستطيع غيره ولو اجتمع أهل الأرض كلهم لن يشقوا مَن أسعد، وإن شقي فلا يستطيع جميع أهل الأرض كلهم أن يسعِدوا من أشقى، وأن خير الأرض وبركاتها وأمنها واستقرارها في زرعها وثمارها ومجتمعاتها وأطوارها، والمادة والروح: بيده وحده.

تأثير السمع والبصر

وقد اختبر عباده وقد هيأهم للاختبار بما آتاهم من عقول وأسماع وأبصار، وما فطرهم عليه من الفطرة الحسنة، "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوّدانه أو يُنصِّرانه أو يمجِّسانه"، يؤثّر فيه المؤثرات التي من بين يديه:

  • وأولها: الأم والأب والأسرة والبيت،
  • ثم الأصدقاء والأصحاب، 
  • ثم المدرسة ومحل التلقي، 
  • ثم زملاء العمل ومن يجالسهم،
  • وعموم ما ينظره ويسمعه. 

وبذلك أكد الحق على أهمية كيفية استعمال واستخدام السمع والبصر، قال جل جلاله: ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).

 ومن لم يُحسن الاستماع لخطاب الله ولبلاغ نبيه ﷺ، فهو عُرضة أن يضل في هذه الحياة، فإن الحق يقول في الحديث القدسي: "يا عباد كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم"، ومعنى استهدوني: اطلبوا مني الهداية، وأقوى وسيلة لطلب الهداية وسبب: الإصغاء والاستماع، (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ).

قدوة النبي محمد ﷺ في جميع الأمور

ولما جعل الله القدوة والأسوة نبيه محمدًا، لم يكن ذلك محصورًا في جانب من جوانب الحياة ولا في جانب من جوانب الدين الذي يشمل الحياة كلها، بل هو القدوة في الفكر، وهو القدوة في الاجتماع، وهو القدوة في الحُكم، وهو القدوة في إدارة الأمور، وهو القدوة في قيادة الجيوش والعساكر، وهو القدوة في إقامة العلاقات القريبة والبعيدة، بين القريب وقريبه، وبين الجار وجاره، وبين المسلم وغير المسلم، وبين المجتمعات مع بعضها البعض؛ قدوة كاملة في جميع الأمور والشؤون.

​لكنَّ أمَّتَه يُقَصِّرون؛ في النظر في هديه والعمل بما جاء به، وربما تأثَّروا بمَنْ يُظهِر لهم حلولَ بعض مشاكلهم أو شؤونهم، أو يتكلَّم على ما به النجاح في الحياة، والأشد من ذلك والأخطر أن يعتقد المُتَّبِع له من المؤمنين به أن هذه الشؤون في الحياة لا دخل له فيها، أو هو لم يبيِّنها، أو أن غيرَه أعلم بها منه، وهذا خطأ كبير في فهم الدين وفهم الرسالة ومعرفة الرسول

فإن الرسل كلَّهم بُعِثوا لتكميل وإصلاح المعاش والمعاد معاً، ولإصلاح القلوب والأجساد معاً، ولإدراك حقائق الارتباط بين الأرض والسماء، وقوّة الترابُط والتشابُه بين الدنيا والآخرة. 

أهل الفوز وأهل الخسران

فنظر الرسل أشملُ النظر إلى الوجود وما فيه، وقد بلَّغُوا أُممَهم ما آتاهم مِن الله تعالى، ​فأتباعُهم هم الذين نجحوا في الحياة الدنيا وأفلحوا، ولهم الربح والفلاح والفوز في الآخرة. هذا الفوز محقَّق لأتباعهم، سواء كانوا من ضعفاء الناس أو كانوا من الأمراء أو كانوا من الأغنياء أو كانوا من الفقراء، مَنْ تبعهم أفلح ونجح، ولم يكُن أحد منهم يُقصِر خطابه على صنف من أمته دون الصنف الآخر، بل كل أمته يُخاطبهم، أميرهم ومأمورهم، وغنيّهم وفقيرهم، وقويّهم وضعيفهم؛ لأنَّ صلاح الكل مُرتَّب على ما اختار الله لهم من إيمان وعمل.

والذين كذّبوا الرسول من أممهم أصناف: منهم المُغترون بسلطتهم وقوتهم، كما قالت عاد قوم هود للنبي هود: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، وكما قال فرعون لموسى: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي)، وكما قال المغتر بماله وهو قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي )، وكما قال النمرود لإبراهيم: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، والجميع خسروا ونهاياتهم صارت عِبرة لكل ذي عقل من بني الإنسان.

وهكذا جاء الخاتم للمرسلين والمبعوث بالرحمة للعالمين، المُرسل إلى جميع الخلق، وقال: "ما تركت بابًا من أبواب الخير إلا دللتكم عليه وأمرتكم به، ولا بابًا من أبواب الشر إلا نهيتكم عنه وحذرتكم منه" . 

وقد أتانا خاتم الرسالة ** بكل ما جاءوا به من حالهْ

فعمَّ كل الخلق بالدلالة ** وأشرقت مناهج الكمالِ

فكله فضلٌ أتى ورحمة ** وكله حكم هدى وحكمة

وهو إمامُ كل ذي مُهِمّة ** وقدوةٌ في سائر الخصالِ

وأمته من حين بعث إلى أيامنا هذه لا يخسر منهم حقيقة الخسران أهل حُكم ولا أهل تجارة ولا أهل صناعة ولا أهل زراعة، إلا بمخالفة لهديه الذي جاء به، والذين اتبعوه فحكم الله جرى فيهم: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

أهمية الفقه في الدين وفشل الأنظمة المخالفة

وكان يقول سيدنا عمر بن الخطاب: "من لم يتفقَّه في ديننا فلا يبِع في سوقنا". يعني أن في شريعة الله أحكامًا تتعلق بالتجارة من بيع وشراء ووكالة وتوكيل وإجارة واستئجار وقرض وإقراض وما إلى ذلك، فلا ينطلق فيها حتى يعرف حكم الله ليكون على بصيرة، وكان يقول بعض العلماء: "من دخل إلى التجارة ولم يتفقَّه في الدين فقد ارتطم في الربا ثم ارتطم".

​والمشاكل التي تعلَّقت بأموال المسلمين واقتصادهم منذ القرن الماضي إلى قرننا هذا: اغترارهم بنظام الرأسمالية وبنظام الاشتراكية الذي تبنَّاه الكفار في الشرق والغرب، وقالوا: إنه النظام الأحسن الذي يرفع حال الناس ويُقيمهم على طمأنينة وعلى غنى وعلى ثروة وعلى تنمية وعلى تطوُّر، وكله عاد إلى معانٍ من الاستغلال، ومعانٍ من تسلُّط بعض الناس على بعض، وحلَّ الفشل في النظام الاشتراكي وفي النظام الرأسمالي. 

والذين كانوا يؤمنون بالاشتراكية ويدافعون عنها ويريدون فرضها في بلدانهم ويبذلون الوُسع وراءها بأنفسهم، بعد مرور الوقت الطويل، أبطلوا هذه الفكرة وأيقنوا بخرابها وفسادها وأنها غير مُصلِحة، بل جاءوا إلى صُوَر الذين كانوا يعظِّمونهم من حَمَلة هذا الفكر وداسُوها وحرقوها، وفشل المَسلَك.

​وقبل سنوات لا تخفى عليكم حلت الأزمة المالية في الرأسمالية، وفي ليلة واحدة أصبح كثيرٌ في أمريكا وأوروبا ممن كانوا يملكون أموالاً كثيرة، أصبحوا في اليوم الثاني لا مُلكَ لهم، كان بعضهم يملك مائة ألف دولار، وبعضهم يملك مليون دولار وأقل وأكثر من ذلك، في اليوم الثاني أصبح لا شيء، ومنهم من رمى بنفسه من أعلى، ومنهم من انتحر، وإلى غير ذلك من الوقائع التي حصلت.

​وكذلك نُشرت في الصحف هناك مطالبات بأنَّ النظام الذي قام على الربا هو الذي تسبَّب في هذه المشكلة. وطالب عدد من النصارى علماءهم الذين أفتوا لهم بحلّ ذاك الربا: كيف خانوهم في هذه الفتوى وهي محرَّمة في الشريعة عندهم؟ وطالب جماعة -وقد نُشر ذلك في بعض صُحُفهم- القائمين على الاقتصاد، قالوا: لِمَ لا تُجرِّبوا نظام الإسلام؟ لعله ينجح في هذا!

​ومن المعلوم أن القائمين على مثل ذلك لا يريدون الإسلام ولو كان صالحاً ومُصلِحاً، لكن أبناء الإسلام وأتباع هذا النبي: كيف يتركون شريعتهم والتبعية لمحمد، ويأخذون نظام فكر خارج مخالف للدين والشرع؟ فما أحوج الأمة لأن تتبيَّن هدي نبيها وتمشي عليه، والله يقول: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، وقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

​هدي النبي ﷺ في الاقتصاد والتعامل

​ولما جاء ﷺ إلى المدينة رتَّب نظام الاقتصاد وكيفية الكسب للمسلمين، وجد اليهود مُستحوذين على السوق ويستخدمون المسلمين في حدود وغايات يبقون تحتهم، فاختار مكاناً لسوق المسلمين استراتيجياً حَسَناً، غير ما كانوا مُفرَّقين فيه، فقال: "ليكن اجتماعكم في هذا المكان"، وما منع تعاملهم مع اليهود، لا في بيع ولا في شراء ولا في إجارة ولا غير ذلك، إلا ما حُرِّمَ في الشريعة فلا يتعاملون به لا مع أنفسهم ولا مع غيرهم. 

ومع ذلك ففسح المجال ﷺ للكل ليكتسب، حتى أن كبار أصحابه بعضهم أحياناً يؤجِّر نفسه في شيء من الأعمال ليهودي وغيره ليكسب ما يحتاجه في أسرته، ولكن وضعهم على ترتيب يؤدي إلى أن يرتفع مستواهم الاقتصادي ويغتنون عن أن يكونوا تحت رحمة اليهود. 

قصة اليهودي مع النبي وإسلامه

وفي تسامحه وحُسن تعامله حتى بنفسه اقترض قرضاً من بعض اليهود ورَدَّهُ عليهم، وكان يمشي بنفسه في الأسواق لينظر تطبيقهم لشرع الله في السوق، ​ومرَّ مرَّة على بائع طعام من هذا الحب والقمح والبُرِّ، فأدخل يده فيه فبَرَزَ طعام مستور وهو مُبلَّل، فقال: ما هذا؟ فقال: إنه أصابته السماء -يعني المطر- يا رسول الله، قال: فهلاَّ تركتَه بارزاً ظاهراً؟ أتَغُرُّ الناظر إليه أنه كله يابس وتحته هذا المبلَّل؟ هلاَّ تركتَه ظاهراً؟ أمَا تدري أن مَنْ غَشَّنا فليس منا

​وجاءه مرَّة رجل من أصحابه يُكلِّمه وبلال أمامه، وكان قريباً منه يهودي من علماء اليهود اسمه زيد بن سَعْنَة، يقول الرجل الصحابي لرسول الله: يا رسول الله إن قومي أتيتهم ودعوتهم إلى الإسلام فأسلموا، وإنهم أسلموا على طمع؛ بشَّرتُهم أنهم إذا أسلموا ييسِّر الله رزقهم ويُوسِّع عليهم، فأصابهم الآن قحط شديد بعد أن أسلموا، فأخاف يا رسول الله أن يرتدوا عن الإسلام. فقال لسيدنا بلال: "هل عندنا شيء يا بلال نُغيثهم به؟" قال: ليس عندنا شيء. قال زيد بن سعنة: فاغتنمت الفرصة وقلت: يا محمد، إن أردتَ أن أُقرضَك فعندي طعام كثير، أُقرضُك مقدار كذا وكذا، فقال لبلال اقترضه منه، وأعطى ذلك الطعام للصحابي ليأخذه إلى قومه.

​ثم قبل أن يأتي الموعد بثلاثة أيام، تعمَّد زيد بن سعنة أن يدخل على النبي ﷺ بهذا الأسلوب الغريب، كان ﷺ في المسجد ومعه جماعة من أصحابه، فدخل زيد بن سعنة فأمسك برداء رسول الله ﷺ، وكان ردائه على كتفه ﷺ، فجَبَذَهُ بشدة حتى احمرَّ عنق رسول الله، وقال: أعطني دَيني الذي عليك يا محمد، فما عُرِفتم إلا مَطْلاً يا بني هاشم، تماطلون الناس في حقوقهم، أذى النبي وحمَّر رقبتُه وسبَّهُ وسبَّ قبيلتَه. وغضب سيدنا عمر وقال: يا هذا، أتفعل هذا برسول الله أمام أعيننا؟ ائذن لي يا رسول الله أن أضرب عنقه. قال: "لا يا عمر، كنتُ أنا وهو إلى غير هذا أحوج منك؛ مُرْهُ بحسن الطلب، ومُرْني بحسن الأداء، واعلم أنه بقي من موعد الدَّين ثلاثة أيام لم يحلَّ بعد، ولكن اذهب الآن يا عمر فأعطه مقدار ما له من الطعام وزِدْه عشرين مُدَّاً مكان ما رَوَّعتَه".

​فذهب وأعطاه إياه وزاده العشرين، وقال: هذا لك من رسول الله أمرنا به، خذه. قال: عرفتني يا عمر؟ قال: لا.. قال: أنا زيد بن سعنة، قال: العالم؟ وهم يعرفون اسم هذا عالم من علماء اليهود، ذلك الحَبْر؟ قال: نعم، قال: ما حملك أن تفعل هذا مع رسول الله؟ قال: قرأتُ صِفَته في التوراة فوجدتُها كلها وخبرتُها فيه، إلا صفتين، تعمَّدتُ أن آتي قبل موعد الدَّين لأخبر الصفتين، وهي: الحِلم، وأنه لا تزيدُه شدة الجهل عليه إلا حِلماً، فخبرتُهما اليوم، فأنا أذهب لأُسلِم، والطعام هذا كله صدقة للمسلمين. ودخل المسجد صافح رسول الله، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

​الخلاصة والوصايا

ما أحوَج الأمة لأن يدرسوا هدي نبيهم؛ ينتزِع عنصر الغش من بينهم، وعنصر الكذب، وعنصر إخلاف الوعد، وعنصر تربُّص بعضهم ببعض، فهي المخالفة لهدي النبي. 

ويتقوَّى بينهم عنصر المحبة، والأمانة، والوفاء بالوعد، وإرادة الخير للآخر، وما تعلَّق بذلك من الهدي النبوي الكريم، وأن يرعوا حقّ الجوار ولو لغير مسلم، وأن لا يرضوا بمخالفة شرع ربهم.

أجرى الله على أيديكم الخير واتّباع هدي نبي الخير، وأعانكم على خدمة المجتمع والأمة بهذا الهدي النبوي، وأصلح الله أندونيسيا رُعاتها ورَعاياها، وعلماءها وعوامها، وأغنيائها وفقرائها، ودفع عنهم الفتن والمِحَن، وجمع شملهم على ما هو أحسن. 

وفرج الله كروب المسلمين أجمعين، وأعانكم على القيام بالأمر على ما هو أحب وأطيَب وأنفع للبلاد والعباد، فإن شريعتكم قائمة على شعيرة: "الخلقُ كلهم عِيالُ الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعُهم لِعِيالِه".

وعفواً على التطويل، ومن عنده ملاحظة أو اقتراح أو نصيحة فليتفضّل، والله يجعل الكلام حُجة للمتكلم والسامعين لا على أحد منا، وينفعنا بما علّمنا ويُعلمنا ما ينفعنا، ورزقنا الاهتداء بالنور المبين، الذي يهدي به الله اتبع رضوانه سُبل السلام، سُبل الأمان والاستقرار والطمأنينة، اللهم وفِّقنا بفضلك، برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.

 

فقرة الأسئلة والمداخلات:

 

سؤال 1: التعامل مع التيارات المنحرفة

السؤال: أبثّ إليكم همّي مما شهدناه خلال السنوات العشر أو العشرين الماضية في بلادنا إندونيسيا، حيث يواجه المسلمون فكرًا منحرفًا منظّمًا يدعوهم إلى التباغض والعداوة فيما بينهم بسبب اختلاف الطرق أو المذاهب. وقد أصبحت هذه الدعوات تنتشر وتغزو عقول عامة المسلمين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المختلفة، دون أن نجد طائفةً أو جهةً تُعنى بالردّ على هذه الهجمات الفكرية ومواجهتها، بماذا توصوننا في التعامل مع هذا الواقع؟

الحبيب عمر بن حفيظ:

تحتاجون حاجة قوية إلى التعاون بينكم على الصدق والإخلاص، وتبيين زيغ الفكر المطروح وضرره على الواقع والمجتمع. مستنيرين بما تأخذونه من علمائكم الصادقين المخلصين وما يُبيّنون لكم، وتقومون بدوركم في التبيين لأسركم وأولادكم وأصدقائكم، مع قوة التعاون بينكم، وإن تكاثفت وقويت وكثرت الاتجاهات المعاكسة والمعادية، (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

 ويحتاج أن يجتمع كبراءكم وأهل الوعي منكم وأهل التخصُّص لترتيب كيفية هذا التعاون بينكم البين، لا يقطعكم عنه حِزبية ولا نفسية ولا حساسية، فإذا صدقتم في ذلك وأحسنتم التعاون من دون اصطدامات ولا إثارات مشاكل، فسيكون الحال تدريجيًا ماشياً إلى الأحسن، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). 

وفقكم الله وأخذ بأيديكم. 

 

سؤال 2: الثبات على المبدأ والمرونة في الأسلوب

السؤال: علّمنا النبي ﷺ التوازن بين الثبات على المبدأ والمرونة في الأسلوب، فكيف يمكن للدعاة والمربين والمعلمين اليوم أن يُجسّدوا هذا المعنى في دعوتهم اليوم؟

الحبيب عمر بن حفيظ:

يسأل السائل عن أساس وقاعدة في هدي النبي ﷺ، وهو ثبات أتباعه على الأصل والمبدأ والمرونة مع ما حواليهم، ويسأل كيف يُجسِّد ذلك في واقع الدعاة والقائمين اليوم.

نقول لا يُمكنهم أن يطبقوا ذلك حتى يكون لهم حسن نظر في المقاصد التي جاء بها الشرع المصون، وفقه في الأحكام، ودِقة نظر في الواقع، فبمعرفة المقاصد والثوابت في الشريعة ثم فرعية الحكم عند الأئمة، ثم حالة الواقع، بمجموع ذلك فيمكنهم أن يقيموا الثبات على الأصل مع المرونة وحسن التعامل مع الآخرين.

وكلما كثر بينهم الواعون للمقاصد والثوابت، ثم المتفقهون في الشريعة على مختلف الاجتهاد المعتبر، كاجتهاد الأئمة الأربعة وأتباعهم، إذا كثر هؤلاء ثم حسن النظر في الواقع، فسيهتدون إلى الأمر الذي ذكرته.

 

سؤال 3، 4: حول مواضيع الدعوة وإصلاح الحكام

السائل: لدي سؤالان:

أولاً: لقد سمعنا شكاوى من بعض أبناء الأمة الذين لم يكونوا قريبين من مجالسنا، مفادها أن المواضيع المطروحة في المجالس أحيانًا تبدو بعيدة عن معالجة أمراض الأمة، وأن هناك تكرارًا في بعض الموضوعات التي يتناولها الدعاة والخطباء. فهل هذا التكرار أمرٌ إيجابي لما فيه من ترسيخ للمعاني، أم أنه سلبي لأنه يضعف التفاعل والتأثير؟ وكيف يمكن لنا نحن الدعاة أن نقتدي بالنبي ﷺ في تجديد الطرح وتنوّع الأساليب، بحيث تكون توجيهاتنا أكثر قرباً من واقع الأمة ومعالجةً لأمراضها؟

ثانياً: تفضلتم في توجيهاتكم بضرورة السعي لتطبيق الشريعة في مختلف شؤون الحياة، غير أننا نرى أن كثيرًا من رجال الدولة في بلداننا لم يعيشوا تربية المنهج النبوي، بل نشأ بعضهم على الفكر الاشتراكي أو العلماني أو الإلحادي، ولهذا يرون في محاولات العلماء والدعاة لتطبيق الشريعة نوعًا من التحدي أو العداء. فهل ينبغي أن نوجّه جهودنا نحو إصلاح الأمة كما هي، أم نركّز على بناء جيلٍ جديد يتربّى على المنهج النبوي حتى يكون هو من يتولى مواقع المسؤولية مستقبلاً؟ وما هي الطريقة المثلى التي نسلكها ليكون تطبيق الشريعة أمرًا واقعيًا؟

 

إجابة السؤال 3: هل تكرار المواضيع الدعوية حاجةٌ تربوية أم قصورٌ في الخطاب؟

أما ما يتعلق بالبيان: فيجب نحن معاشر الدعاة أن نُقَوِّم وضعنا ولا نفسح المجال لأن يقوم بالدعوة من لم يتفقه في الدين أو من لم يدرك فقه الواقع، ومعلوم أن هذا في غير الأمور الواضحة الجلية من الفرائض والفضائل التي يمكن لكل المسلمين أن يكونوا دعاة إليها، ولكن التصدي باسم الدعوة والخوض في أحكام في الشريعة أو في مسائل سواء كانت في العقائد، عقدية، أو كانت في الأحكام أو كانت في تحليل واقع الناس، لا بد فيها من الفقه في الدين والرجوع إلى أهل الاختصاص في ذلك. 

ثم لابد أن نملك الصياغة التي نورد بها أحكام الشرع بما يتناسب مع العقليات والواقع الذي يعيش به الناس من دون أن نُغير شيئاً من حكم الشريعة.

 

إجابة السؤال 4: هل الطريق إلى تطبيق الشريعة إصلاح الأمة أم إعداد الحكام؟

أما وجود حُكام إما يجهلون الشرع أو تربوا تربية مخالفة لأمر الشرع وما إلى ذلك، فهذا من جملة الواقع الذي يكون في الأمة، فيجب بالهدي النبوي أن نتعامل معه، وقد قال: "إنه سيكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون".

وأما السعي في الوصول إلى السلطة أو إلى الحكم: فإن ذلك مِن حيث مَن وثق أنه لا ينحرف عن منهج الله وأنه يستطيع القيام بذلك، وله إلى ذلك وسائل أيضاً مطروحة ومشروعة لا يكون فيها شيء من الضر ولا من الشر، فذلك يكون مباحاً غير مرغوب فيه، وغير مستحسن إلا للنادر مِمن صدق وأقام حكم الله تبارك وتعالى. 

بمعنى أنّ طلب الإمارة لا يتحوّل إلا فضيلة في وقت من الأوقات، وعندنا في الحديث الصحيح: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة يوم القيامة"، ولكننا لا نُحرِّم ما أحل الله. 

ونقول: كل من أراد من شعوب المسلمين أن يتخذ طريقاً صحيحاً يقرّه الشرع ويوافق القانون للوصول إلى شيء من السلطة ومن الإمارة فذلك له، وعليه أن يُخلِص مع الله ويُحسِن النية، وأما أنه يُنصح بذلك فليس الأمر  كذلك، ولكن من ولاه الله تعالى فهو المسؤول. 

والمُوَلّى عليهم: عليهم أن ينتهجوا هدي الرسول في مقابلة أولئك المسؤولين كيفما كانوا، حتى تكون بقعة حُكِمَت  بالإسلام وأهلها عامتهم وأكثرهم مسلمون، حَكَمَهم من يتنكّر للإسلام ويُضادّه ويظهر الكفر الصريح، في هذه الحالة وحدها معنا من الهدي النبوي أمر بالخروج على هذا وإزاحته وإبعاده عند رؤية الكفر البواح. 

وحينئذ يتخيّر المسلمون من بينهم من اجتمعت فيه شروط الإمامة العُظمى ويُولّونه عليهم، وإنما يُستحَب أو يجب تَوَلّي السلطة في حالة واحدة: وهي أن يوجد لها غيره، ويُطلَب لها، لا يطلبها هو بنفسه، في هذه الحالة: ما بين مندوب أو واجب عليه أن يتولّى.

ومعلوم لدينا ما جاء في الهدي النبوي أنه مَن طلبها وُكِل إليها، ومن طُلِب لها أُعين عليها، وكذلك قوله: "إنا لا نَوَلّيها مَن طلبها".

ومع ذلك كله فإنه إذا تصدّى لها أحد من الناس فالواجب على بقيّة المسلمين أن ينظروا الأصلح منهم والأنصح للدين فيدفعونه ويُشَجِّعونه، والنفوس لها ميل لأن تتولّى وتسعى لذلك، وقد تتذرّع بأنها تريد إقامة العدل وما إلى ذلك. 

ومع ما ذكرنا مِن إباحة ذلك لمن يرى في نفسه القوة والقدرة على العدل والأهلية للقيام به، فإن ذلك أيضًا لم يكن مُرغَّبًا فيه في هدي النبوة ولا محبوبًا. 

وكان سيدنا عمر يتخيَّر الولاة على الأماكن والمناطق ويذهب بهم فيها، فما ولّى واحدًا إلا اعتذر إليه حتى يعزم عليه ويجزم أن يتولى، وكان يقول: "ويلكم، نجوتُم بأنفسكم ورميتموها في عنقي؟!"، "عزمتُ عليك إلا توليت"، يقول للذي يُريد أن يولّيه. 

ورجع من ولاية مرة سيدنا أبي هريرة، وقال لسيدنا عمر: "يا أمير المؤمنين لا تولّني ولاية بعدها"، قال: لماذا؟ قال: "إني دخلتها وأنا مُكرَه، ولكن الآن استحلَت نفسي الإمارة، فأنا راغِب فيها، فلا تُولِّني فتفتِنَني".

ومن المعلوم كذلك في الهدي النبوي أنه مهما كان الأمير وتمَكّنَّا مِن نصحه فلا نبخل بالنصح عليه وننصحه، وأنّا لا نُطيعه في معصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فباتّساع النظر في مجموع ما جاء في القضية من الهدي النبوي يُعرَف حقيقة الأمر. 

 

الدعاء

وِجهتنا إليك يا عليم السر والنجوى، أن تسلك بنا مسالك أهل التقوى، وأن تُنيلنا المنى والرجوى، وأن تدفع عنا وعنا أهل إندونيسيا والأمة كل بلوى.

أصلح شؤوننا في الدارين، وحلِّنا بكل زين وخلِّنا عن كل شين، واجعلنا لحبيبك المصطفى قرة عين.

 اللهم انفعنا وإياهم بالمجلس واجعله حجة لكل منا لا حجة على أحد منا، واجعله سببًا ووسيلة للاستنارة بنورك الذي بعثت به نبيك محمداً، وثباتنا على قدم الهدى فيما خفي وفيما بدا.

 اللهم يا محوِّل الأحوال، حوِّل حالنا وأحوال أهل إندونيسيا وأحوال أهل غزة وأهل فلسطين، وأحوال المسلمين في المشارق والمغارب إلى أحسن حال، يا مُحوِّل الأحوال حوِّل حالنا وحالهم إلى أحسن حال، وعافنا من أحوال أهل الضلال وفعل الجُهّال. 

وأعِذنا من كل حركة أو سكون تعقُبها حسرة أو ندامة في الدنيا ويوم القيامة، ثبّتنا على الحق فيما نقول، ثبّتنا على الحق فيما نفعل، ثبّتنا على الحق فيما نعتقد. 

واجزِ خير الجزاء كل من قام بهذا المجمع وهذا اللقاء وساهم فيه وخدم فيه، واشكر سعيَهم وضاعِف هباتك لهم، واجزل خيرك عليهم، وتولّى سرهم ونجواهم وظاهرهم وباطنهم في دنياهم وأخراهم يا أرحم الراحمين. 

نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد. وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

 

تاريخ النشر الهجري

12 جمادى الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

03 نوفمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية