السمو بالهمة والرغبات إلى حقائق العز الدائم والشرف المؤبد بذكرى الدار والرابطة بالأخيار
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في الجلسة الشهرية مع طلاب ثانوية مدرسة دار المصطفى الأهلية بتريم، ضحى يوم الخميس 6 جمادى الآخرة 1447هـ .
فوائد: رسائل في بناء الهمة: خطاب لطلاب المدرسة عن حقيقة العلو والحصانة في زمن الفتن
نص المحاضرة:
مقدمة: مفهوم الإبقاء الإلهي ومصير الخلائق
الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الإله الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه المرجعُ الحتمي لجميع العالمين، وللمُكلّفين على وجه الخصوص، إذ صدر من حضرته سبحانه وتعالى إرادةُ الإبقاء والإدامة لأنواع من الكائنات، وأعظمها العرش والكرسي والجنة والنار، والمكلفون من الإنس والجن بأرواحهم مكوّنةً لها أجساد تعيش معهم دائمًا أبدًا، إما في الجنة وإما في النار.
أمدّهم تعالى بالإبقاء فيبقون على الدوام وإلى الأبد، وعلى الخلود من دون انقطاع، وما سوى ذلك يفنى ويتلاشى، حتى السماوات والجبال والأرض والبحار وما إليها تتلاشى، لكن تبقى هذه العوالم التي أمدها الله بالإبقاء، ويبقى أرواح المكلفين من الإنس والجن ومعهم الملائكة في الجنة أو في النار.
في الجنة مُخلدين، في النار كذلك إلا أنه كما جاء في بلاغات النبي ﷺ: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، أي من مات وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان. فالمؤمنون العُصاة يُعذبون في النار بقدر ما لم يعفُ الله عنهم فيهم من الذنوب والمعاصي، وما لم يُشفّع فيهم أحد، ثم بعد ذلك ينقلون إلى الجنة للاستمرار والدوام.
وتُؤصد النار على بقية الطوائف من كل من مات مشركًا وكافرًا وملحدًا كائنًا من كان إلى الأبد، ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾ بعد أن يخرج آخر من يخرج من النار بعد عذابٍ في النار يستغرق سبعة آلاف سنة، سبعة آلاف سنة آخر من يخرج من النار!
جزاء آخر من يخرج من النار
ومع أن هذا المُعرَّض للعذاب أكثر المُعذّبين من الذي في قلبه مثقال ذرة من إيمان، يُعطى في الجنة مثل الدنيا عشر مرات، ويُحصّل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهو يقف على رأسه كل يوم 300 من الولدان، يطوف في المنازل التي أعدها الله له مدة ألف عام حتى يستوعبها، وهذا أقل واحد في أهل الجنة؛ لأنه ليس في الجنة قليل.
فَعَجبًا للمُغترين بالشؤون التي تعرِض لنا في هذه الحياة وبيوتها وقصورها ومُتعها، ما أحقرها وما أقلها وما أسرع ما تفنى، ولكن إما باستقامتك فيها تكسب النعيم المُخلّد والعطاء الأكبر على الأبد، وإما بخيانتك فيها تُخلّد في النار والعياذ بالله أو يصيبك عذاب ألف سنة، ألفين سنة. كم عمرك أنت؟ وكم تستطيع.. تتعذب ألف سنة وأنت ما تستطيع لعذاب النار الدنيا دقيقة، ثانية.. ثانية، ضع إصبعك ثانية في نار الدنيا، أمر صعب ما تطيقه!
كيف ألف سنة وفي نار ليست نار مثل نار الدنيا، ضُوعفت عليها بسبعين ضعف في شدة حرارتها، قالوا: "يا رسول الله، إن كانت لكافية"، هذه النار وحدها تكفي، قال: "فإنها ضُوعفت عليها بسبعين ضعفًا".
اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار.
أهمية الإيمان بالغيب وتذكر الآخرة
والإيمان بهذه الحقائق هو مُنقذ الخلائق من موجبات الدمار والهلاك الحِسي والمعنوي، الظاهر والباطن، الدنيوي والأخروي.
ولهذا قال في الأصفياء الكبار: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ من الأنبياء والمرسلين، ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾، ذكر الدار الآخرة فهي منصوبة بين أعينهم، ويتذكرونها ليلهم ونهارهم وكأنها قد حضرت وقد حضروا فيها استعدادًا لها.
وقال سبحانه وتعالى عن الغافلين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾، بما نسوا يوم الحساب! ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا﴾، ﴿كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا﴾.
غفلتنا عن هذه الحقيقة المُقبِلة علينا وهو المستقبل الكبير هو سبب لتسلّط النفوس والأهواء والشياطين علينا، وإلا ما لهم أن يتسلطوا علينا إذا عقلنا حقيقة الأمر؟ وإذا أيقنّا بهذا المصير؟
وكنا قلنا لكم إن الشيخ الشعراوي رحمه الله ضرب مَثَل مرة لو جئنا بأعتى شاب وأطغى شاب وقلنا له: هذه الغرفة فيها ما تحبه من ملبوس ومشروب ومنكوح ومطعوم، تقضي ليلة فيها، لكن قبل ما تدخل تعال انظر جنبها غرفة ثانية هنا مجهزة بأحدث أنواع التعذيب، أجهزة التعذيب الحديثة. وإذا دخلت الغرفة هذه تخرج منها في اليوم الثاني هناك، سيقول: لا لا، ما أريد.. كيف ما أريد؟ ما هذه مشتهياتك ومرغوباتك تحبها؟ لكن لما يقارن مع النتيجة يقول لا لا لا، ما أريد! تنتهي، تنتهي الرغبة وتنتهي الشهوة كلها.
لأنه مستحضر، وشاهد بعينه ما الذي سيحصل له هناك، ويقول: لا لا لا، لا أريد، لا أريد، لا أريد، كيف ما تريد؟ تفضل هذه مشتهياتك، أي مشتهيات؟! اذهب إلى هناك، لا أريد شيء..
فمصيبة الناس ينسون الغرفة التي سيدخلونها عن قريب.. وينطلقون في هذه الحياة ما كأن شيء أمامهم! فلذا تغلبهم أهواؤهم، تغلبهم شهواتهم، وأما من أيقَن بالمصير، فيُحسن المسير، ويُحسن التدبير، ويختار ما هو الخير.
العلو الحقيقي والعلو الزائف
ولذلك يرتفع حقيقة الرفعة، ما معنى حقيقة الرفعة؟ إذا قرأنا: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ﴾، علوًا أين؟ في الأرض، لأن الأرض منتهية والبقاء فيها قصير جدًا بالنسبة لأي إنسان، كم يبقى على ظهر الأرض؟ قصير جدًا.
فالذي يريد علو في الأرض هذا أهبل، أبلَه، كم مقدار؟ ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾. وبعد ذلك انتهى، وصار في البحر،. يقول: آمنت أنه لا إله إلا.. وانتهى! مسكين، أي علو معه؟ أي علو معه؟
علو في الأرض هذا ما ليس بشيء، الحق دعانا إلى العلو الحقيقي، ولهذا بعض الناس يتعجب، يقول: تقطعنا في الطريق محبة نفسي للتميُّز وللاعتلاء وللظهور والشهرة بين الناس، أقول له: اسمع، بدل أن تطمع وترغب في شهرة أرضية حقيرة، أمامك ترغيب في أن تطمع في الشهرة في السماء وعند رب الأرض، وشهرة تستمر خصائصها ومزاياها في البرزخ وفي القيامة وإلى الجنة. إلى أين تريد؟ أين الشهرة الحقيقية؟
تريد تتميز؟ نعم، في ميزة لك عند الله تبارك وتعالى؛ بصدقك، بإخلاصك، بأدبك، بإرادتك لوجهه الكريم، هذه الميزة! وميزة أبدية سرمدية فيها لذائذها وخصائصها ونعيمها الدائم المؤبد، فقط ارتفع من تحت واطلع إلى فوق، اترك عنك الرغبة في الحقيرات والمنتهيات والمنقضيات، وارغب في عزٍّ يبقى، في شرفٍ يؤبَّد، في علوٍّ يُخلَّد.
يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾، وقال في الآية الأخرى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
قصة سحرة فرعون: من العلم الزائف إلى الإيمان الصادق
هذا الذي علا في الأرض، فرعون، قابل سيدنا موسى عليه السلام، وفي موقف من أخطر المواقف التي قابله فيها، جاء له بالسحرة كلهم ويريد يغلبونه، وغلبهم سيدنا موسى عليه السلام.
سيدنا موسى لما رأى عصيهم وحبالهم يُخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى، وكميات كبيرة، وخاف أن الله يفتن العباد بالبلية هذه وينقطعوا عن الإيمان، ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ﴾. لا فرعون ولا السحرة، العلو حقهم كذب، صوري، زائف، ما تحته شيء! العلو عندك، أنت اخترناك للنبوة والرسالة، ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ﴾ اخترناك لنبوة ورسالة، والشرف والكرامة.
﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ﴾، أين العلو الذي عندهم هؤلاء؟ ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ﴾.
﴿قال آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾؟ والإيمان يحتاج إذن منك؟ إذا تبيَّن الأمر واتضحت الحقيقة، نحتاج نستأذنك أنت؟ كيف نستأذنك؟ عرفنا السماء فوق، نحتاج نستأذنك: تُرَخِّص لنا نؤمن السماء فوق؟ ما ترخص لنا نؤمن؟ السماء فوق، فوق، ما يحتاج إذن منك، ﴿آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾! هو هذا العلو الساقط، الهابط، أي علو عنده هذا؟ قال: الإيمان بإذني! بإذنك أنت؟ الحقيقة اتضحت، ماذا أردنا من إذنك؟
قال: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾، وقام يعمل له اتهامات أنه ساحر مثلهم، ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾، وغاية ما يدَّعيها للعلو الساقط مثل عامة من موجودين في الأرض الآن، من المغرورين من الرؤساء أو القادة أو الحكام، حتى غاية ما يدعون: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ﴾.
لكن هؤلاء بدأوا يتّصلون بنور العلو الحقيقي فقابلوا العلو الزائف، فقالوا: ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ﴾، مع أنه قبل ما يجيء هذا الإيمان كانوا يتذللون ويتزلّفون لفرعون وأمام العلو الصوري مُتذلِّلين، لكن الآن انتهى هذا!
لما جاء العلو الحقيقي، كانوا يقولون: ﴿أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾؟ قال: ﴿نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ ونعطيكم، متذللين، والآن قالوا: ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ﴾! ما هذا التحول؟ ما هذا التحول؟ قبل قليل كانوا يقولون كذا ويرجون المنزلة عند فرعون والأجر من فرعون، والآن قالوا: ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ﴾! ما نريدك، ما الذي حصل؟ ما هذا التحول؟ جاء الإيمان!
﴿وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، بدأ يشرق في أول لحظة، أول يوم، نور العلو الحقيقي، فبطل أمامهم ظُلمة العلو الزائف، ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ الذي خلقنا وأوجدنا، أنت مخلوق مثلنا، بماذا تتكبر؟ الله أكبر، كيف بسرعة هكذا؟ ﴿وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ﴾، تصرَّف بالذي في رأسك.
كأنكم لم تعودوا تخافون من فرعون؟ وأول كنتم فزعين ومتذللين، ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ﴾، وعبَّروا عن إدراكهم الحقيقي، قالوا: ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾، أنت اختبار وابتلاء من الله سلَّطك في وقت محدد وبقعة من الأرض محددة وستنتهي، ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾.
ونحن اتخذنا قرار رفيع: ﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ﴾.
والنهاية لا قدر يصلبهم ولا قدر... وأوحى الله إلى موسى أخرِجهم في الليل، وسروا في الليل، وجاء يتبعهم، ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ﴾. ما عنده هداية، ما عنده حق، ما عنده حقيقة علو، ما عنده حقيقة شرف، ما عنده حقيقة كرامة.. عنده وَهم، عنده خيال، عنده ضلال، هو الذي يعيش فيه أكثر قادة العالم اليوم من المُغترين بحكمهم أو أسلحتهم وما عندهم، نفسه! باطل في باطل وزيف في زيف.
وانتهى! ومن ذاك اليوم وهو كل يوم يُشاهد النار في الصباح والمساء، ويُقال له: وعدك في القيامة ستدخلها أنت وقومك! وموسى وقومه ما الذي حصل لهم؟ أولًا في الحياة القصيرة: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾، بيت المقدس وما حواليه والشام ومصر رجعت لهم.
﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾، هذا الذي حصل لهم في الدنيا، ومن يوم مات أحدهم وهو يرى الجنة في كل صباح وكل مساء، قال موعدكم القيامة تدخلون وسطها.
يقول الله عن قوم فرعون: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾، في الصباح والمساء، مسكين فرعون الذي كان مغرور بنفسه، كم الأيام له الآن؟ أي أيام! بل كم سنين؟ كم مئات سنين؟ كم ألوف السنين؟ وكل صبح وكل مساء عذاب نفسي فوق الذي هو فيه، يرى النار.. هذا المصير حقك، ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾، فأي عز عنده هذا؟ أي شرف عنده هذا؟
دعوة للمؤمن إلى العزة الحقيقية
فيا مؤمن: أنت بألسُن الأنبياء وعليهم دُعيتَ لأن تكسب حقائق العز والشرف والتميُّز والفضل الأبدي الحقيقي، فماذا يغرك فيما يتكسّب به عدوك إبليس الناس لتطلب شرف يبيد؟ تطلب عز ينقضي؟ بل أيضاً مصيره يكون صعب، اطلب حقيقة العز، اطلب حقيقة الكرامة! ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
فإذن أنت مطلوب منك ترتفع بهمّتك، ترتفع برغباتك، مراداتك، هواياتك؛ إلى قمة شريفة عالية، تكسب بها حقائق العز الأسنى، حسًا ومعنى، هناك وهنا ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
إذا عرفتَ ذلك، فحقيقة هذا الطلب القائم على تذكُّرك للآخرة هو الذي يعطيك القوة والحصانة في معاشرتك لغافلين، سواء من الأسرة أو من خارج الأسرة، ممن لم يتَيَقَّنْ بهذا اليقين، ممن اغترّ بالزيف، الزيف في التميُّز، الزيف في العز، الزيف في الشرف، الزيف في الكرامة، زيف! أهل الزيف هؤلاء كيف تتعامل معهم؟
ثبات السيدة آسية وسط الزيف والغرور
عاشت سيدتنا آسية وسط دار الزيف والغرور الكبير، ما تأثّرت، ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾، الباغي الطاغي هذا المجرم الذي يقول أنا ربكم الأعلى، وهي مثل للمؤمنين، لا أثَّر عليها مُلكه ولا كونها في بيته، نقى وتُقى وطهارة كاملة وصدق مع الرحمن.
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ..﴾، قولها يعبر عن مشاعرها وأحاسيسها وذوقها: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾، انظر شأن الآخرة حاضر في ذهنها، مُستيقنة به كأنه أمامها، وعَظمة الرحمن مالئة قلبها وفكرها.
﴿ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾، حتى قالوا: ما قالت "رب ابن لي بيتًا عندك"، قالت أول "عندك" وبعدها قالت "بيتًا". إيش؟ ملاحظتها للقرب منه هو، ليس البيت، مرادها الجار قبل الدار، مرادها قربه هو ورضاه، ليس البيت، البيت ظرف ووسيلة، ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ﴾، بعدها قالت: ﴿بَيْتًا﴾، ما قالت "رب ابن لي بيتًا عندك"، ﴿عِندَكَ بَيْتًا﴾، قدمت "عندك" أولاً، لشوقها لقربه ورضاه وصدق محبتها له سبحانه وتعالى، ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾.
ونظرها إلى هذا الزيف والولاء والعز المُزيف الباطل: ﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾، يعني هذا شيء ساقط حقير لا له غاية ولا له مستقبل ولا له نهاية، وشر في شر، فساد في فساد ﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
ولهذا كوفئت، وإذا دخلت الجنة في الآخرة يُكافئها الله ويجعلها زوجة لحبيبه وتطلع إلى فوق، ولا عاد يرضى، لأنها عاشت وسط قصر الخبيث هذا، ولكن صدقت.
ما نصيبك من الصدق مع الله ورسوله؟
فأنت إذا معك نصيب من هذا الصدق ولو طرف منه، ما يضرّك من أخوك في البيت منحرف ويظل وراء صور سيئة وإلا أزياء عند أخواتك غير لائقة، بماذا تتأثر؟ أعرض عنهم! ﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
اصدق معه وتهيأ للقائه، وانظر أنت من أتباع حبيبه، ما صِلتك بحبيبه؟ وكم تراه في نومك وفي يقظتك؟ وما لك رغبة في هذا؟ وتلهيك هذه القواطع؟!
كَوِّن بذرة الشوق إلى فوق، ومرافقة النبوة والرسالة، ومرافقة وراثتها، وإن كان يُمكن ما تتمكّن أن يكون لك صدق علاقة بالنبوة حتى تمسك بحبل من حبال إرثها، هذا الذي كان يقول:
ولابد من شيخ تسير بسيرهِ ** إلى الله من أهل النفوس الزكيةِ
موالاتك لآل بيته ولصحابته ولورثته، ومن في زمنك من وراثته، من خلفائه، من حاملي سره ﷺ، عبرهم تدخل لتحصُل لك قوة الصلة بالجناب الأشرف، وما المقصود من الصلة بسيدنا المصطفى إلا وجه الواحد الأحد.
هذا بابه، وهذا صفوته، وهذا أحب الخلق إليه، وهذا أكرم العباد عليه، والطريق منه لا من غيره؛ فلا بد أن نحبه، فلا نُحب بعد الله شيئًا في الوجود أكثر من زين الوجود، أكثر من أنفسنا وشهواتها والهوى، والدنيا والآخرة، نحبه هو صلى الله عليه وسلم من أجل الإله الذي خلق، قوِّ هذه المحبة الطيبة النافعة المفيدة.
تخلَّص من إبليس.. يُعلّقك بشهوات ويقيم بينك علاقة أو محبة هابطة ساقطة، أنت وذا، وأنت وذاك، ومن الذي فرض عليك أن تتَّبع في الجوال أو غيره الكلام السيء والصور السيئة؟ من فرض عليك؟ ولو اشتكيت قلت: "الشيطان"، هو الشيطان في القيامة يقول لأتباعه: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾. تتبعه وبعد ذلك ستلقي اللوم عليه؟ ﴿فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم﴾، هكذا يقول لأصحابه في الآخرة، ما أحد فرض عليك هذا.
آثار الصدق في الأسرة والأصدقاء
بصدقك، بإخلاصك، بيقينك، بعزيمتك، تكون ذا قوة، ما يسيطر عليك شيء من أفكار الأسرة المخالفة لنورانية الوحي، قد يصادف في الأسرة واحد جالس أحد وواحد درس في مكان، وجاؤوا بأخبار غير صحيحة وأفكار مقلوبة معكوسة، ما يضرك! ما هم بأشد ولا أظلم من قصر فرعون الذي عاشت فيه آسية، مَثَل للمؤمنين، ما الذي يضرك في هذا؟
اتخذ لك صِدق، اتخذ لك أصدقاء حق وهدى، اتخذ لك قلب يعشق المراتب العلا والاتصال بالرب الأعلى، ومشاهدة وجه حبيبه المصطفى ﷺ، والاستعداد لمرافقته على الدوام في دار الخُلد.
﴿فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النبيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالْشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾.
التمسك بالسنة في زمن الفتن
فاستجِب، استجِب للداعي الأعلى، استجب لنداء ربك، استجب لدعوة رسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.
والواحد منكم في مثل هذا الزمان وانتشار هذه الأسواء فيه، باستجابته لداعي الله ورسوله يرقى أكثر، ويعلو أكثر، ويُعَز أكبر، للعامل فيه أجر الخمسين منكم - يقول النبي للصحابة - قالوا: منا أو منهم يا رسول الله؟ قال: منكم، قالوا: منا أو منهم؟ قال: منكم، لأنكم تجدون أعوانًا على الخير ولا يجدون هم، فيضاعَف للواحد منهم أجر خمسين.
"من أحيا سُنتي عند فساد أمتي فله أجر شهيد" ، "فله أجر سبعين شهيد" في رواية، "فله أجر مائة شهيد" في الرواية الأخرى، على قدر إحياء السنة مما يكون له أجر شهيد أو سبعين أو مائة من الشهداء، على قدر تمسكه بالسنة عند فساد الأمة، وهَوى فساد الأمة أمامكم.
تمسّكوا بالسنة، استجيبوا لدعوة الله ورسوله، فإن الله يختار في كل زمان وفي الأمكنة المختلفة من يختار من الشباب وينادون من الملأ الأعلى: "أيها الشاب الناسك، التارك شهوته من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي".
"فضل الشاب الذي تعبَّد في صباه على الشيخ الذي تعبَّد بعد ما كبرت سنه كفضل المرسلين على سائر الناس".
"عجب ربك من شاب لا صبوة له" ؛ ما معنى "لا صبوة له" ؟ لا يستجيب لدواعي الشر والسوء، شاب، شاب عنده شهوات.. ولكنه لا يستجيب لها، ويزُم نفسه بزمام أدب مع الله ومراقبة له، والاستعداد للقائه جل جلاله، وينأى بنفسه عن السوء ويلتجيء إلى الذكر والذاكرين ومجالس الخير، وتفكُّر الدار الآخرة.
"عجب ربك من شاب لا صبوة له" ، ما معنى "عجب" ؟ أي: رضي عنه، وأحبه، من يُحبه؟ رب العالمين، الملك الحي القيوم، الله الله الله الله! أما ترى هذا الشرف وهذا العز الأكبر؟
الدعاء
أخذ الله بأيديكم، نوَّر الله قلوبكم، ولا نزال نتذاكر إن شاء الله ليصِحّ منا الاستجابة لله ولرسوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.
هذه الحياة الطيبة، حياة الأبد، أذاقكم الله إياها، حياة القرب، حياة الهناء، حياة اليقين، حياة المعرفة، حياة المحبة للرحمن ورسوله سيد الأكوان، أذاقكم الله إياها ورقّاكم في مرقاها، وجعلنا وإياكم متعاونين على ذلك، والصادقين في سلوك تلك المسالك، السالمين المعافين من جميع الزيغ والشر والمهالك، يا ملك الممالك أجب ما دعونا، وبلِّغنا ذلك وزدنا من فضلك ما أنت أهله هنا وهنالك، بوجاهة حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وأهل قربه، وبسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد.
تحوّل حال الصادق مع الله
ثبَّت الله قلوبكم وأقدامكم، وجعل لكم صدق وإخلاص.
أشد الناس تلطُّخًا في العالم؛ لمّا يصدق مع الله في لحظة يحوِّله إلى صافي، لأنه سبحانه مِن كَرَمه إذا وجد صِدق مع عبده ولو كان أشد أهل الأرض مثلًا تلطخًا بأنواع الذنوب، فجاء بالصدق معه، في لحظة تتحوّل جميع السيئات حسنات، فيصير من أصفى أهل الأرض، في يوم واحد ووقت وساعة واحدة إذا صدق معه، وهذه معاملة الملك الأعلى، فلا تنقطعوا عن المعاملة معه.
رفعنا الله وإياكم مراتب قُربه، وشَرَّفنا بحقائق حُبّه، وأدخلنا في حِزبه، إنه أكرم الأكرمين، والحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
15 جمادى الآخر 1447




