محاضرة في مسجد الإمام حسن بن عبدالرحمن السقاف بتريم 29 جمادى الآخرة 1447هـ

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الإمام حسن بن عبدالرحمن السقاف، بحارة الخليف، مدينة تريم، ليلة السبت 29 جمادى الآخرة 1447هـ

 

نص المحاضرة:

 

مقدمة في الثناء على الله وصَفوة خلقه

الحمدلله فاتح أبوابه، جزيل الإحسان والامتنان والعطاء لطلابه، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أرسل إلينا سيد أحبابه، وإمام أهل حضرة اقترابه، المخصوص منه بأشرف خطابه، المخصوص منه بأشرف ندائه، المخصوص منه بأشرف اصطفائه، المخصوص منه بأشرف اجتبائه، المخصوص منه بأعلى معاني قُربه، المخصوص منه بأعلى معاني رضاه التي لا تزال تتوالى عليه بما لا يستطيع الملأ الأعلى فَمن دونهم أن يحصروا حقائق ذلك الرضا والزيادة منه في كل لمحة وفي كل نفس، وتتوزع على من رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه من أهل أرضه ومن أهل سماواته.

وقد جمعنا الرحمن رب العرش وإياكم في هذا المسجد المبارك، وليلة سعيدة وختام هذا الشهر، نستقبل شهراً يُذكر فيه معراجه ﷺ، ويُذكر فيه حمل أمه آمنة به ﷺ، ويُذكر فيه تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة إرضاءً له وتلبيةً لرغبته ﷺ.

تحويل القبلة وأدب المصطفى ﷺ مع ربه

وكان في ذلك عظيم أدبه عليه الصلاة والسلام؛ طبع الله قلبه على محبة الكعبة المشرفة، ولما كان في مكة كان يأتي إلى ما بين الركنين اليمانيين، ويستقبل الكعبة ويستقبل بيت المقدس، فلما جاءت الهجرة إلى المدينة كان بيت المقدس أمامه في ناحية الشمال، وكانت مكة من خلفه في ناحية الجنوب، فأحبَّ من الله وتمنى أن يُحوِّل القبلة إلى الكعبة ليستقبلها؛ لما طبع الله على قلبه وعلى محبتها، ولما كانت قِبلة أبيه إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

ثم كلَّم جبريلَ وقال له: إذا سألتَ الله أن يحوِّلنا، فقال له جبريل: أنت أقرب إليه مني، أنت أحبُّ له مني، اسأله أنت، فلم يسأل ﷺ مِن أدبه مع الرب، ولكن أحسَّ بقلبه أن الرب سيُجيب مطلوبه ومراده من دون السؤال، فأخذ يُقلِّب وجهه الكريم في السماء ينظر إلى نزول الوحي والأمر، فأوحى الله إليه على يد جبريل: (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

وكانت آية من آيات الله تعالى وتلبية لرغبة حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبقيت القبلة لكل المؤمنين إلى يوم الدين، الكعبة المشرفة؛ حماها الله وحرسها وزادها كرامةً وشرفاً وعزاً، وزاد من شرّفها وكرّمها ممن طاف بها وحجّها واعتمرها شرفاً وتوفيقاً وعناية، إنه أكرم الأكرمين. 

وحمى الله البلدة التي شرَّفها به صلى الله عليه وسلم "طيبة الطيّبة" والمدينة المنورة، وحمى الله لنا بيت المقدس، وحمى الله بلادنا، وفرَّج كروب المسلمين، ودفع البلاء عن المؤمنين في جميع البلدان والأوطان، إنه الكريم المنان جل جلاله وتعالى في علاه.

خصوصية الاصطفاء والمحبة النبوية

اجتمعنا في هذه التوجُّهات إلى الرب جل جلاله، لنستجلي معاني هذه الخصوصيات في رضاه، والخصوصيات في محبته، والخصوصيات في قُربه، والخصوصيات في معرفته، التي خصَّ بها حبيبه ﷺ، خصَّ بها مُجتباه ومصطفاه محمداً ﷺ.

اصطفى الحق كثيراً لكنهم دون اصطفائه، واجتبى كثيراً لكن دون اجتبائه، وأحبَّ كثيراً لكن دون محبّته صلى الله عليه وسلم، وتعرَّف إلى كثير لكن دون تعرُّفه إليه، فهو الأعرف ﷺ، بل جعل جميع الاصطفاء والاجتباء والتعرُّف والمحبة مُتفرِّعة عن محبته لهذه الذات، لخير البريات، لسيد أهل الأرض والسماوات. 

بينكم وبينه حبالٌ وثيقات، تجتمعون في هذه الاجتماعات لو عرفتُم قدرها وقدر ما فيها لسعيتم إليها ولو على العيون، ولو من أبعد الأماكن، ولكن الله يختص من يشاء.

والحاضرون على قدر استعدادهم وتَهَيُّؤهم ونقائهم وصدقهم يُحصِّلون محاصيل كبيرة، يعرفون قدرها في المحاشر، وإن كان يبدو قدرها من عند الغرغرة وفي البرزخ، ولكن يظهر قدرها الأكبر في يوم المحشر، ثم يُعرَف ما يُعرف منه على الحوض والكوثر، ثم في جنات الله تبارك وتعالى. 

وفي ذلك يقول القائلون:

هم العلماء العارفون الذين في ** مجالسهم للمرء أعظمُ إسعادِ

الله يُسعدنا بهذه السعادة، ويَهب لنا سبحانه الحُسنى وزيادة، ويصلح شأننا في الغيب والشهادة.

فضل شهر رجب والاستعداد لرمضان

تعَرَّض لتوديع الشهر هذا، ولعلها تكون آخر ليلة من ليالي شهر جمادى الآخرة، ويستقبلنا شهر رجب الذي كان يفرح به الحبيب الأطيَب ﷺ، وإذا هلَّ هلاله قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

يُبيِّن لنا عظمة هذه الأشهُر ويطلب البركة في رجب وشعبان، ويطلب البلوغ لرمضان (الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ)، قال لنا ربنا: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). الله يُشهدنا هذا الشهر، ويُشهدنا ما فيه من جوده وكرمه لأهليه، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

فينبغي لنا أن يكون لنا من إيماننا بهذا الإله الحق - جل جلاله وتعالى في علاه - : أن نُحسِن طَرق بابه، والوقوف على بابه، واللياذ بأعتابه جل جلاله، والتذلُّل بين يديه، والخضوع لجلاله، وحُسن سؤاله، وتلَقِّي فيض نواله جل جلاله. 

هذا ربك الذي بيده ملكوت كل شيء، ويعطي ولا يبالي، ويغفر ولا يبالي؛ كيف حالك معه؟ يمرّ يومك وليلتك، وشهر بعد شهر، وأنت في الغفلة عنه، وأنت في الإعراض عنه، وأنت في الحضور مع غيره جل جلاله! انطرح على بابه. 

"قِف على باب ما يقلده يا سعد قالِدْ

باب مولاك لي منّه ورود الفوائدْ" 

وهكذا حتى قال في ذكر هذا الاتصال بهذه المعاني والأوساط:

"فإنّ لولا الرجاء في الله وحسن العقائد 

في الرجال الذي زانوا صفوف المساجد

كان ما عاد أنا باغي في العمر زايد"

قال: لولا الرجاء في الله، وحسن العقائد في أهل الله، نجالسهم، نسمع منهم، نرتقي بهم، وإلا ماذا أردت بالعمر وفي الدنيا والبقاء فيها؟ قال: "ما عاد أنا باغي في العمر زايد". 

ولكن هذه غنيمة العمر: تقرُب منه، تزيد معرفتك به بتعرُّفه إليك جل جلاله، تطرح شؤونك عليه، تتذلَّل بين يديه، تشتاق إلى الركوع له والسجود له، والحضور معه سبحانه وتعالى، يعجبك كلامه في القرآن، تلتَذ بمعانيه وما فيه وتدبّره، وتأخذ لك نصيباً في الدخول في هذه الدوائر الشريفة، الكريمة، الرفيعة، النظيفة، التي لا يدخلها إلا النِظاف، ولا يدخلها إلا أهل السوابق من الرب جل جلاله وتعالى في علاه. نِعمَ الإله الخالق، الله يُلحِقنا بهم ويجعلنا منهم، حتى نحوز هذه المزايا في الحياة، ويقع الاجتماع.. 

"في مقعد الصدق الذي قد أشرقت ** أنواره بالعند - عند مليك مقتدر - 

أشرقت أنواره بالعند يا لك من سَنا

والمتقون رجاله وحضوره ** يا رب ألحقنا بهم يا ربنا 

يا رب ألحقنا بهم يا ربنا.

المسارعة إلى الله وصحبة القوم

وهل رأى ربك من قلبك إلحاحاً صادقاً على اللحوق بهم، وطلباً قوياً على أنك تريد اللحوق بهم؟ حتى يرحمك ويكشف الحجاب، ويُقرِّب الطريق ويطوي المسافة، ويبعد الآفة ويدخلك في حماهم، نظرة منه أدخلتَك ورَقّتَك ودخلتَ بينهم، ونازلك مِن جوده سبحانه وتعالى ما لا يتِّصل به عملك ولا بشيء من حالك، ولكنه فضله سبحانه وتعالى للدخول في دوائر القوم الذين تحدَّث عنهم رسوله ﷺ، وقال إنه يقول للملائكة سبحانه: "همُ القوم لا يشقى بهم جليسهم".

وفي ذلك يقول الإمام علي الحبشي عليه رحمة الله: 

"أُفيدكَ أنني جالستُ قوماً ** حَدَوني بالمقال وبالفعالِ

رجالاً ما رأيتُ لهم مثيلاً ** يزعزع حَدوُهُم صُمَّ الجبالِ

فحرَّك حَدوُهُم قلبي فأبدى ** غراماً منه في حُب الجمالِ"

وكانت النتائج الكبيرة مِن هذه المجالسات والمؤانسات، والولوج إلى الحضائر القدسية، وليتأهل أصحابها لمقعد الصدق: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ).

وهؤلاء يغتنمون رجب، ويغتنمون ما قبل رجب، ويغتنمون ما بعد رجب وشعبان الذي بين رمضان وبين رجب، ويظهر لأكثر الأمة يعرفون شيئاً من قدر رجب ورمضان ويجهلون قدر شعبان، فأكثرَ فيه من الصيام صلى الله عليه وسلم، ولما سُئل عن ذلك قال: "إنه شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان، وإنه تُعرَض فيه الأعمال على الله، وإني أحب أن يُعرض عملي وأنا صائم" ﷺ.

يا ما أحسنه وما أحسن عمله! ويا ما أحسن صيامه! ويا ما أحسن فطره! ويا ما أحسن قيامه! ويا ما أحسن حركاته وسكناته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم! قال له رب العرش العظيم: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا). ويا ما أعجب حركاته! ويا ما أعجب سكناته! ويا ما أعجب قيامه وقعوده عليه الصلاة والسلام!

الارتباط بالله والتحذير من الغفلة

الله يربطنا به ربطاً لا ينحل، ويربط به أهالينا وأولادنا ومن في بيوتنا وقراباتنا وطلابنا وأصحابنا؛ لا تضيع علينا الأيام مِن دون قوة في هذا الربط. تشغلنا عنها إما نفس، أو  هوى، أو شرب، أو طعام أو لباس! أو  شيء من الذي يشتغل به الغافلون، ويشتغل به المحجوبون، ويشتغل به القاصرون الذين ما عرفوا الله، ولو عرفوا الله ما رضوا لأنفسهم أن يمرّ عمرهم في الشغل هذا، بان أن الشغل بهذه الأشياء من أقبح الوصف، ما معك رب تشتغل به؟ ما معك رب تشتغل بالقرب منه، وتتعرّف إليه ليتعرّف إليك فتعرفه، ولتنال نصيباً مِن رضوانه الأكبر سبحانه وتعالى، الذي خَصَّص بأكبره وأجزله حبيبه محمداً صلى الله وسلم عليه وعلى آله، ووعده أن يُرضيه، ونصَّ على ذلك في الآيات: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ).

تحويل الشرع هذا، في تحويل القبلة إلى يوم القيامة إلى الكعبة المشرفة، قال له سبحانه وتعالى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)؛ من أجل رضوانك! تأملت السيدة عائشة هذا الكلام وقرأت في الآية الأخرى تقول له: (تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ عَيْنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ)، قالت: "رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"؛ رب العرش يُحب مرضاتك ويُحِب ما تحبه جل جلاله وتعالى في علاه، ويُنزل الوحي على ما أحب ﷺ، على ما أراد ﷺ. 

عظمة القدر النبوي والمعراج

ثم قال لنا: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، خاطبه ليُبلّغنا: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ).

يا ما أعظم قدره عند ربه! هذا العبد المُقرَّب المحبوب، ما أحد عرف مزاياه، ولا قدر أن يستوعب خصائصه، كتبوا في الخصائص كتب وفي السيرة وفي الفضائل، ولكن أين هم؟ أين هم من حقيقته؟ صِفوه بما شئتم، فما احتوى على مثله أم ولا أب ﷺ.

فوجدتُ قولي لا يفيءُ بذرَّةٍ ** مِن عُشر معشار العطا الرباني

من أين يُعرِب مِقوَلي عن حضرةٍ ** عن مدحها قد كَلَّ كلُّ لساني

من بعد ما جاء الكتاب به فما ** مقدار مدح العالم الإنساني؟

تعرف ما فوق سدرة المنتهى حتى تعرف تمدحه؟ ما عرفت حتى السماء الأولى! قد جاوز السبع الطباق؛ ستمدحه كيف؟ هذا جاوزها كلها! وجاوز سدرة المنتهى إلى مواطن سيدنا جبريل أمين الوحي لا يقدر أن يرتقي إليها ولا يقدر أن يدخل فيها، وقال له: "ما منا إلا له مقام معلوم، إن تقدمتُ احترقت، وأنت إن تقدمتَ اخترقت" ﷺ.

(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ). 

فلو قابلتَ لفظة "لن تراني" ** بـ "ما كذب الفؤاد" فهمتَ معنى

أنه أرفع ﷺ وأنه أجلُّ، ومع رِفعة وعَظمة قدر الأنبياء والمرسلين لكن هذا فوق، يا رب صلِّ عليه واربطنا به ربطاً لا ينحل. 

الاستغفار ونتائجه في شهر رجب

تُعرَض عليك الرابطة به والصِّلَة به؛ هذه البضاعة التي لا نعرف أغلى منها، كيف تتوانى وكيف تتخلَف؟

وما نيتك في استقبال رجب، ولياليه وأيامه؟ وما نيتك في الاستغفار تقتدي به، كان ﷺ في المجلس الواحد يُعدُّون له مئة استغفار، يقول: "توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" ، "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" يقول ﷺ. 

يقول أصحابه: وإن كنا لنعد له في المجلس الواحد مئة مرة من قوله: "رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم". 

يجب أن نكره الذنوب والمعاصي، ونتخلّص منها صغيرها وكبيرها، ونستغفر الله استغفار الصادقين، ونستقبل رجب بهذا الاستغفار الصادق، وفي كل صباح وفي كل مساء: "رب اغفر لي وارحمني وتب علي".

 تنتعش بها المساجد والساجد، تنتعش بها قلب الساجد، وتنتعش بها الديار والمنازل، في استغفارٌ قال عنه من قبل سيدنا نوح لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، ونتائج الاستغفار: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينٍ وَيْجَعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا * مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا). 

ما تهابون هذا الإله الذي بيده ملكوت كل شيء؟ وتذهبون وراء الأسباب، وراء فلان وفلان؟ هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيء: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا) جل جلاله.

التدبر في خلق الله وعلامات الهداية

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا). هل أحد غيره عمل هذا؟ هل أحد شاركه في هذا؟ جل جلاله وتعالى في علاه.

(وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا)، ما عملتها لكم حكومات، ولا دول، ولا أحزاب، ولا هيئات؛ هو الذي بسط الأرض لنا، هو الذي مدَّها لنا، وهو الذي مهّدها لنا: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، قال: (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)، لا أحد غيره سيقدر أن يُسخِّرها لنا ولا يُمهِّدها لنا.

وأرساها بالجبال فَرَست، وهكذا يقول شاعرهم: 

"أرسى الجبال بأوتادٍ لها فَرَسَت ** وفي الرجال جِبالٌ بل وأوتادُ"

ترسى بهم أراضي المعرفة، وأراضي النور، وأراضي القُرب، ترسى بهؤلاء كما ترسى الأرض هذه بهذه الجبال.

"أرسى الجبال بأوتادٍ لها فَرَسَت ** وفي الرجال جبالٌ بل وأوتادُ".

ولله في خلقه شؤون، يقول قائلهم:

" أَمُرتقب النُّجومَ مِنَ السَّماءِ ** نُجومُ الأَرضِ أَبهرُ في الضِّياءِ

فتِلكَ تَبينُ وَقتاً ثُمَّ تَخفى ** وَهَذه لا تُكَدَّرُ بِالخَفاءِ

هِدايَةُ تِلكَ في ظُلَمِ اللَيالي ** هِدايَةُ هَذه كَشفُ الغِطاءِ"

رفع الستارة عن إدراك الحقيقة، والقُرب من الرب ورسوله ﷺ! فيا ما أعجبها مِن نجوم ومن كواكب ومن بدور، تاضي في ساحات قلوب المُقبلين والمُتوجهين للرحمن جل جلاله وتعالى في علاه!

الليالي الأربع والختام بالدعاء

الله يُقرِّبنا مع مَن قرَّب، ويوفِّر حظّنا من شهر رجب؛ من أول ليلة ومن ثاني ليلة ومن لياليه وأيامه كلها. 

كان سيدنا عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عامله في البصرة يقول له: "ارقب أربع ليالٍ في السنة فإن الرحمة تُفرَغ فيها إفراغاً: أول ليلة من رجب، وليلة النصف مِن شعبان، وليلة الفطر، وليلة الأضحى". قال ترقَّب هذه الأربع الليالي فإن الرحمة تفرغ فيها إفراغاً.

وكان سيدنا علي يُفرِّغ نفسه للعبادة في أربع ليالٍ: أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة عرفة، وليلة النحر؛ يُفرِّغ نفسه للعبادة في هذه الليالي، مُترقِّياً في المقام العالي، الله يُوفِّر حظنا من هذه الليالي ومن هذه الأيام.

يا ربّ بارك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان، بلغنا رمضان على خير حال في صلاح للبلاد والعباد والأمة، يا من بيده ملكوت كل شيء سألناك. 

ارحم الحاضرين ومن في ديارهم، وأدخلنا وإياهم في أنوار أهل القرب منك والصدق معك، والمتذللين بين يديك والمُعلّقة قلوبهم بك، اللهم نَزِّه قلوبنا عن التعلق بمن دونك، واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك، برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين. 

 

تاريخ النشر الهجري

29 جمادى الآخر 1447

تاريخ النشر الميلادي

20 ديسمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية