كشف الغمة- 287- كتاب الجنائز (24) انتفاع الميت بالقراءة والدعاء والصدقة وسائر القربات
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 286- كتاب الجنائز (24) انتفاع الميت بالقراءة والدعاء والصدقة وسائر القربات
صباح السبت 21 شوال 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- انتفاع الأموات بقراءة الأحياء أو إهداء الأعمال
- فائدة صلاة الجنازة
- الطاعات المهداة للأموات
- قراءة يس والفاتحة وأواخر البقرة على الميت
- ميزة قراءة القرآن على القبر
- معنى: ليس للإنسان إلا ما سعى
- أحاديث عن انتفاع الأحياء بسبب الأموات وانتفاع الأموات بسبب الأحياء
- حقيقة النفع والضر وتسببنا فيه
- فضل من قرأ سورة الإخلاص في مرض موته
- أفضل الصدقة على الأموات سقي الماء
- من مات على الكفر هل ينفعه شيء؟
- إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث
- الأعمال التي يصل ثوابها للميت وما اختلف فيه
- أحاديث تدل على وصول الثواب إلى الأموات
- الصدقة الباقية
نص الدرس المكتوب:
فرع: في انتفاع الميت بالقراءة والدعاء والصدقة وسائر القربات
"قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: "كان رسول الله ﷺ يحث على الدعاء والصدقة والقرب المهداة للأموات من أقاربهم وإخوانهم ويقول إن ذلك كله ينفعهم"، وتقدم في الباب الأمر بقراءة سورة يس عند من حضرته الوفاة وبقراءةِ الفاتحة عند رأس الميت ورجليه وبقراءة خواتيم سورة البقرة عند وضعه في القبر، وكان ﷺ يقول: "من قرأ: قل هو الله أحد" في مرضه الذي يموت فيه لم يفنَ في قبره وأمن ضغطة القبر وحملته الملائكة يوم القيامة بأكُفها حتى تجيزهُ من الصراط إلى الجنة".
وكان رسول الله ﷺ يقول: "أفضل الصدقة على الأموات سقي الماء"، وكان ﷺ يقول: "تنفع الصدقة والصوم كل من أقرّ لله بالتوحيد ومات على ذلك"، وكان ﷺ يقول: "إذا مررتم بقبر كافر فبَشروه بالنار"، والله أعلم.
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بشريعته الغراء وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الكبرى ومن سار على سبيلهم وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين في الفضل والشرف أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين طُرّا، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وبعد.
فيذكر الشيخ عليه -رحمة الله- في هذا الفرع ما يحصل من انتفاع الأموات بقراءة الأحياء أو إهدائهم لهم شيئا من الأعمال الصالحات بحسب ما جاء في السنة الغراء، والتي بينت المعنى في مثل قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ [النجم: 39] وفي قوله ﷺ: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" هل يقتضي ذلك عدم انتفاع الميت بأي شيء يُعمَل عنهُ أو يُهدى له أو يُدعى لهُ به؟ لا يعني ذلك شيئا من هذا!
-
فإنه أول ما شُرِع على يده ﷺ لعموم الموتى من المسلمين الصلاة عليهم، فرضت الصلاة عليهم فلو لم يكن له نفع وفائدة لما كان لهذه الشريعة معنى، وإذا كان ليس له إلا ما سعى فهذا ليس من سعيه، وإن كان انقطع عمله فهذا ليس من عمله هذا عمل الناس من بعده، وعمل الأحياء الموجودين وهو فرضٌ عليهم من الله يعملونه لهذا الميت، إذًا فهو ينتفع بذلك من غير شك ومن غير ريب، إذًا فلا تحمل الآية الكريمة ولا الحديث الشريف انقطاع إفضالِ الله على الموتى بسبب الذين لا زالوا في الحياة الدنيا.
ويقول: "قال ابن -عباس رضي الله عنها-: ما كان رسول الله ﷺ على الدعاء والصدقة والقُرَب -يعني: الطاعات- المهداة للأموات من أقاربهم وإخوانهم- ويقول إن ذلك كله ينفعهم".
قال: "وتقدم في الباب الأمر بقراءة سورة يس عند من حضرته الوفاة"، وهذا أيضا انتفاع الإنسان بعمل غيره:
-
"واقرؤوا على موتاكم سورة يس" سواء من كان محتضر أو قد مات، فالذي يقرأ هو ولا غيره؟ غيره اللي يقرأ، وانتفع به ولا ماشي فائدة؟ "اقرَؤوا يس علَى موتاكُم" وهكذا، "وبقراءة الفاتحة عند رأس الميت ورجليه" كما جاء في الحديث عن الصحابة -رضي الله عنهم- "بقراءة خواتيم سورة البقرة عند وضعه في القبر".
-
وجاء أن الأنصار كانوا يترددون إلى قبور أهليهم في البقيع يقرؤون عندهم القرآن؛ ولهذا قالوا: لقراءة القرآن ثواب في أي مكان، ولكن إذا أراد إهداءه للميت فإن قراءته عند القبر أعظم مزية فإنه تنزل الرحمة عند التلاوة، ويكون ذلك أبلغ في انتفاع الميت به إذا كان أثبت ﷺ انتفاعه ولو بتسبيح الجريدة، حط الجريدة الخضراء فوق القبر فكيف بالقرآن الكريم؟ وما أعظمه عند الله -تبارك وتعالى-.
وبهذا يُعرَف المعنى في الآية الكريمة أن ما سعى الإنسان فيه فهو لهو لا يبخس منه ذرة ولا فتيل ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ [النجم: 39]، ولكن بعد ذلك أيضا فرق بين العمل والسعي، والسعي: كل ما تسبب فيه الإنسان؛ ما تسبب فيه الإنسان فهو داخل في سعيه، ومع ذلك كله فالحق تعالى يعطي من عنده وبسبب الدعاء. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10]،
كما جاءنا في الأحاديث أن من انتفاع الأحياء بسبب الأموات وانتفاع الأموات بسبب الأحياء، فمنها:
-
الصلاةُ على الميت قوله من صلى عليه ثلاثة صفوف غفر الله له؛ فهذا انتفاع الميت بصلاة الأحياء.
-
ومن صلى عليه أربعون غفر الله له.
-
ومن شهد له ثلاثة فأكثر من المؤمنين غفر الله له، أو أدخله الجنة، أنتم شهداء الله في أرضه أثنيتم على الأول خيرًا فوجبت له الجنة، وأثنيتم على آخر شرًا فوجبت له النار.
-
ثم يقول من صلى على مغفور غفر له يرجع الفائدة له نفسه للحي؛ فينتفع بالصلاة على الميت المغفور له فيغفر الله للحي أيضا.
-
وكما يحصل بسبب الصلاة على الميت قيراط من الأجر، وبسبب تشييعه بحضور الدفن قيراط من الأجر، فهذا انتفاع الحي بسبب هذا الميت.
وكلها أسباب فيها وردت الشريعة الغراء، "الخلقُ عيالُ اللهِ، وأحبُّهم إليه أنفعُهم لعيالِه"؛ ولكن حقيقة النفع والضر كلها راجع إلى الحق -تبارك وتعالى- من حيث الخلق والإيجاد، وأما من حيث السببية فرتب الحق -تبارك وتعالى- منافعًا وأضرارًا في المطعومات والمشروبات والملبوسات والمركوبات وغيرها، ذا ينفعه وذا يضره فرتبه بترتيبه -سبحانه وتعالى-؛ لا يستقل منها شيء بالضر ولا نفع، لا حيوان ولا نبات ولا جماد لا يستقل بالضر ولا بالنفع، ولكن بإرادة الله، وقدرة الله وترتيب الله وتقديره نعم ينفع بمقدار ما أذن ويضر بمقدار ما أذن.
ولهذا جاءنا النهي عن الإضرار بالناس، إذا كان ما أحد يضر إلا الله كيف نحن نضر؟! يا ويل الذي يضر بالناس؟ لأنه من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله الإضرار بالناس، وجاء الثواب لمن ينفع الناس ويقول غير ما ينفع إلا الله كيف ننفع؟ "وأحبُّهم إليه أنفعُهم لعيالِه" يقول ﷺ!!
-
تسبُّبُنا في النفع والضر هو الذين نحاسب عليه والذين نجد أجره ونجد جزاءه.
-
وأما الاستقلال فلا نحن ولا غيرنا يقدر يستقل بشيء، هو الخالق (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96] وهو المُوجد، وهو المكون، وهو المسبب -سبحانه وتعالى-.
يقول وكان ﷺ يقول: "من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه لم يفنَ في قبره" أي: لم تأكل الأرض جسده، وبقي محفوظًا بقراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وفي بعض الروايات إحدى عشر مرة، إذا قرأها في مرض موته، عمل يسير ولكن أجره كبير، إذا مات الميت وهو في مرضه قد قرأ سورة الإخلاص، سورة آياتها معدودة ولكن خيراتها غير محدودة، فيستفيد أن جسده لا يأكله التراب ولا يأكله الأرض، "لم يفنَ في قبره وأمن ضغطة القبر" يعني ما يضغطه القبر إلا ضغطة الأم الحنون كما تضم ولدها إلى صدرها، "وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزَهُ من الصراط إلى الجنة" -لا إله إلا الله-.
وجاءت في روايات أخرى فيمن قرأ (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبباء:87] أربعين مرة في مرض موته، وأنواع أيضا من المثوبات والخصائص في البرزخ والقيامة.
"وكان ﷺ يقول: أفضل الصدقة على الأموات سقي الماء" يقول أخرجه النسائي وابن ماجة وأحمد في المسند، ولقد جاء أيضا وصح في الحديث أن سيدنا سعد لما توفيت أمه قال: يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها وأرى أنها لو بقيت لتصدقت أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم، فحفر لها بئرًا فيها سقي الماء، حفر بئر وسمّى بئر أم سعد؛ لأنه حفرها من أجل أن يكون ثوابها لأمه فنسبه لأمه وسُميت بئر أم سعد، لأنه نوى ثواب من شرب منها ومن انتفع بمائها لأمه.
ومن خير الصدقات سقيُ الماء، ومن سقى مسلمًا شربة سقاه الله من حوض النبي محمد ﷺ يوم القيامة.
وكان ﷺ يقول: "تنفع الصدقة والصوم كل من أقرّ لله بالتوحيد ومات على ذلك"، أما الذي يموت على الكفر فلا ينفعه شيء، ولا تصل إليه قراءة لأنه مقطوع عن رحمة الله -جل جلاله- بإصراره على الكفر، وكان ﷺ يقول: "إذا مررتم بقبر كافر فبَشروه بالنار"، اللهم أجرنا من النار.
ومن هنا علِمنا أيضًا معنى الحديث: "إذا مات ابنُ آدمَ"، وفي رواية: " إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عملُهُ إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ ينتفعُ به، وولدٍ صالحٍ يدعو له" رواه مسلم، وجاء في روايات أخرى غير هذه الثلاثة أيضا؛ يعني: ممّا عمله بنفسه، وبعضهم كأنه من عدم فهمه للمعنى؛ كأن الحديث قال: إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمل غيره له، انقطع عنه عمل الأحياء، ما قال كذا النبي! قال: هو الفرصة التي أتيحت له في العمل كملت -خلاص-؛ الآن ما عاد يقدر يكسب حسنات، ما عاد يقدر يكسب صالحات؛ لأن الفرصة التي معه انتهت بالموت، هو انقطع عمله.. أنت تريد تقطع عملي أنا ليش؟! هؤلاء الناس أحياء خليهم يعملون مالك أنت؟ ما قال انقطع عمل غيره له، أو انقطع عمل الأحياء له! انقطع عمله هو، وهو معلوم انقطع عمله لا بيصلي أو يصوم قد مات. معلوم خلاص انتهى عمله، هذا كلام واضح.
لكن هذه أعمال عملها وأجرها مستمر:
-
سببه في وجود الولد، تربيته له حتى صلُح منسوب له؛ "فإن ولد الرجل من كسبه"، وهذا عمل له يستمر بعد موته أجره.
-
علَّم، انتفع الناس بعلمه يعملون بالعلم؛ فهذا عمل هو اكتسبه، ويستمر له أجره بعد موته.
-
صدقة جارية، تصدّق بها كل من انتفع بها من بعده يجد له ثواب.
فعجيب! فهذا أعمال باشرها وبقَي ثوابها له بعد موته؛ لكن عمل غيره له لم يدخل بعد، إذا كان المعنى هكذا فليبطّل الصلاة على الأموات، ما أحد يصلي على الأموات! أحد يقول بهذا؟ ما يقول به أي عاقل فضلًا عن مسلم أو فقير في دين الله -تبارك وتعالى-.
-
وجاء أيضًا في رواية ابن ماجة وابن خزيمة: "إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ".
-
وجاء في صحيح الإمام المسلم أيضًا: "مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها ، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها" بعده إلى يوم القيامة، عمل ثواب مستمر وهو عمل غيره؛ ولكن هو الذي سن وهو الذي دعاهم إليه من غير أن ينقص من سُنة في الإسلام.
-
"ومن سنَّ سنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها ، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها من بعده لا ينقصُ من أوزارِهِم شيئًا".
وبذلك قال الإمام النووي: أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه.
-
ويقولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) [الحشر:10].
-
يقول ﷺ: "اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".
-
يقول ﷺ: "اللهم اغفر لحينا وميتنا".
ثم ما جعل الأحياء ثوابه للميت من الأعمال:
فيقول أهل السُنة: للإنسان أن يجعل ثواب ما فعله من عبادة لغيره، وهذا محل اتفاق في العبادات غير البدنية المحضة، مثل:
-
الصدقة.
-
الاستغفار.
-
والوقف.
-
وبناء مسجد.
-
أو حجّ عنه وما إلى ذلك، فإذا فعل وجعل ثوابها للميت.
وكذلك اختلفوا في العبادات البدنية:
-
فيقول الحنفية والحنابلة: له أن يجعل ثواب عبادته لغيره سواء مما تقبل النيابة ولا تقبل النيابة مثل الصلاة والتلاوة ونحوها، لماذا؟ قال: وردت أحاديث صحيحة في الصوم والحج والدعاء والاستغفار وهي عبادات بدنية، وأوصل الله ثواب نفعها إلى الأموات؛ فكذلك ما سواها. نعم.
-
وكذلك متأخروا الشافعية أيضا: لاحظوا على قول الإمام فيما عدا الصدقة ونحوها مما يقبل النيابة كالدعاء والاستغفار أنه لا يُفْعل عن الميت، ولكن قال: ثواب القراءة يصل الميت؛ لما جاء في الأحاديث، وسيدنا الشافعي يقول: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي. فكما ذكر ذلك ابن الصلاح والمحب الطبري، وصاحب الذخائر وغيرهم، وجرى عليه العمل من القرون الأولى مستمرًا مستفيضًا بين المسلمين في مختلف الأقطار.
-
حتى يقول ابن قُدامة الحنبلي في المُغني: وأي قُربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم، نفعه ذلك إن شاء الله، فأما الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافًا، قال الله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ)[محمد:19].
ومرَّ علينا حديث سيدنا سعد بن عبادة -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-، وجاء أيضا في الحديث الذي عند الإمام البخاري: "سُئل ﷺ أنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهرٍ أفأصوم عنها؟ قال: نعم" أخرجه البخاري عن ابن عباس.
وجاء أيضا أنّ امرأة جاءت إلى النبي ﷺ قالت: إن فريضة الحج أدركت أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحجُّ عنه؟ قال: أرأيتِ لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدُين الله أحقُّ أن يُقضى" رواه البخاري ومسلم، فتحُجّ عنه.
أحاديث صحيحة فيها انتفاع الميت بالقُرب من صوم ومن حج إلى غير ذلك، وهكذا لأجلِ هذه الأحاديث كان مسلك أهل علماء الأئمة الأربعة، وأهل السُنة أن ذلك كله واصل إلى الميت بفضل الله -تبارك وتعالى-.
وجاء أنّ رسول الله ﷺ في رواية أبي داود والبيهقي، وكذلك الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح: "أنه قال ﷺ لعمر بن العاص لو كان أبوك مسلما -مات على الكفر يعني- لو كان أبوك مسلمًا فأعتقتم عنه، أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك"؛ وفيها أن المسلمين إذا حُجَّ عنهم، أو تُصِدَّقَ عنهم، أو أُعتِقُ عنهم بلغهم ذلك.
فهذه أحاديث صريحة تدل على وصول الثواب إلى الأموات لمن فعل ذلك عنهم من الأحياء، ثم يبقى أيضا للحي ثواب التصدُق بهذا العمل، فإذا تصدق بصدقة فانية على أحد في الدنيا يتحصل ثواب فكيف إذا تصدق بصدقة باقية؟ هذه صدقة الأعمال الصالحة صدقة الباقية؛ فله مثل ذلك يُجعل له ثواب إلى عشرة أضعاف، كما إذا تصدّق في الدنيا بريال يجعله عشرة -بعشر أمثاله-، وإذا تصدق بآية على ميت عادو فهو أحوج، وصدقة بعشر آيات! خذ لك عشر آيات أنت مقابل هذا.. لأن هذه سُنة الله تعالى في من يُعطي أن يعطيهم أكثر؛ (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ) [الأنعام:160]، فإذا تصدقت على الأموات عاد إليك.
وفي الحديث أيضا: "من حجَّ عن أحد والديه -عن أبيه أو عن أمه- كان لهم -لوالدهِ- حجة، وله عشرُ حجات"، في رواية: "سبع"، وفي رواية: "عشر حجات". للذي حجّ عن أبيه أو عن أمه؛ يحصّل والده أو أمه ثواب حجة، وله سبع أو عشر حجات هو؛ لأنه تصدّق بهذه الحجة، وهكذا. -الله لا إله إلا الله-.
الله يرحم موتانا وأحيانَا برحمته الوسيعة، ويوفقنا لإكتساب الأعمال الصالحة.
قد كان بعض الصالحين عندنا والعلماء يُحسن الإنفاق لأموالهم والصدقة لها، حتى لمّا سأله بعضهم آخر عمره قبل وفاته، وقد كان له إبن إسمه سقاف، وواحد من خواصه قائم بالخدمة إسمه مرجان، يقول له: عسى صلحت لكم وصية صدقة؟ قال: ما أنا مستأمن على سقاف ولا على مرجان كل الذي أريده قد مشيته بنفسي تصدقت وأعطيت وأخرَجت، ما عاد أنا منتظر أحد من بعدي يجي.. أنا بنفسي قد انتبهت وقد أخرجت ما أخرجته لله -تبارك وتعالى-.
فالله يكرمنا وإياكم بالصدق والبركة في العمر، والبذل من أجل الرب، والظفر بالفوز والسعادة الكبرى في الدنيا وفي المنقلب، ويدفع عنّا وعن المسلمين الكُرب، والبلايا والآفات والعاهات، ويحول أحوالهم إلى أحسنِ الحالات.
بسرِّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
21 شوّال 1446