(228)
(574)
(536)
(311)
الدرس السادس من شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب: فتح الكريم الغافر في شرح جلبة المسافر، للعلامة الحبيب عقيل بن عمران.
فجر الإثنين 17 ربيع الأول 1445هـ
ضمن فعاليات موسم الاحتفال بذكرى المولد النبوي في صلالة.
شراعها يشرع إلى المحبة * يفوح من ريح الهوى بهبّة
لما رفع قلعه فكان حسبه * إله يعلم بأغمض السرائر
وطلعوا الجهد القوي ربان * على بساط الصدق والتمكان
وسافر في لج بحر الأذواق * يجرها نود الهوى والأشواق
أمست إلى وصل الحبيب تشتاق * تروم بندر فائق البنادر
لتحميل الكتاب نسخة pdf:
https://omr.to/fathalkarim-pdf
وما يقرب إليه، و بذلك يصلُ إلى أحوالٍ عجيبة من أحوال المحبين الصادقين.
وقيلَ لبعض المحبين –و كان قد بلغ المجهود في بذل ماله و نفسه حتى لم يبقَ منه بقية-: ما كان سببُ حالك هذا في المحبة؟. قال كلمة: سمعتها من خَلقٍ لخلق. قيل: و ما هي؟ قال: سمعت محباً خلا بمحبوبه و هو يقول: أنا و الله أحبك بقلبي كله و أنت تعرض عني بوجهك كله. فقال له المحبوب: إن كنت تحبني فأي شيء تنفق علي؟ فقال: سيدي أُمَلِّكك ما أملك ثم أنفق عليك روحي حتى أهلك. فقال هذا خلْقٌ لخلق وعبدٌ لعبد، فكيف بخلقٍ لخالق وعبدٌ لمعبود.
قيل: أوحى الله إلى عيسى -عليه السلام-: أني إذا اطَّلعتُ على قلبِ عبدٍ فلم أجد فيه حب الدنيا ملأته من حبي. قلت: فهذا حال المحب الصادق الذي خرج كل شيء من قلبه سوى محبوبه، و أما من ادَّعى المحبة و لم يظهر عليه شيء منها مما ذُكِر فهو كذَّاب في دعواه متخِّذٌ إلههُ هواه. و قيل أيضاً: أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود، إني حَرَّمتُ على القلوب أن يدخلها حبي و حب غيري فيها.
ثم إن هذه المحبة أصلُها ومنشأها من محبة الله تعالى، كما قال عز من قائل: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54]، فمن سبقت له المحبة بالعناية الأزلية والمواهب السرمدية، فحصلتْ منه المحبة حينئذٍ -ضرورةً من غير تكلُّف ولا تصنُّع- فيبادر في مرضاة محبوبهِ لا محالة، وظهرت عليه أحوال المحبين من اللهج بذكر المحبوب والهيام والشوق فيحمله على ما ذُكِر، وهذا هو نور الهوى المذكور، إلى غير ذلك. وللمشايخ أقوال كثيرة في المحبة فلا نطوِّل بذكرها. والمحبة هي غاية المطالب و بُغْية الآمال والمآرب.
الحمد لله حمداً يُلحقنا الله به بمن أحب، ويَجعلنا فيمن له أحب، ونشهد أن لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له، ما لنا غَيره من إلٰه ولا ربّ، ونشهدُ أن سيدنا ونبينا وقرّة عَيننا ونور قُلوبنا مُحمداً عَبده ورَسوله، أَكرم وأولى من لأَجل الله يُحَب، صلى الله وسلم وبارِك وكَرم عليه وعلى آله وصحبه ومن سارعلى مَنهجه وباتباعه إلى الله اقترب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين المُرتقين في محبة الله أعلى الرُتب، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والمَلائكة المُقرَّبين وجَميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يواصِلُ وَصفَ الطَريق إلى الله والسَيرِ إلى الله ومَثَّل تلك الأحوال والأعمال والمُعاملة والصِفات بالسفينة، وقال شِراعُها يشْرع الى المحبة، الشراع الذي بِسببه تُحمَل هذه السفينة وتَمضي من مكان إلى مكان، قال هذا الشراع في هذه السفينة المَعنوية في السيرإلى الله ما يَشرع إلى المحبة، وصارت المحبة شِراع هذه السفينة، ومن أَحبّ شيء اجتهد في طلبهِ وبَذلَ روحه وماله في مرضاته.
كذلك من صَحَّت له محبة رب العالمين -جل جلاله- يُسارع في مَرضاة الإلٰه ويُنفق كل ما قَدَر عليه وكل ما استطاعه ولا يزال في زيادة من هذا الولع -بالله تبارك وتعالى- والتقرب إليه بأنواع الطاعات.
يقول: وبَذَلَ روحه وماله في مرْضاته قال والمَحبوب الذي يَجِب على جميع الخَلق حُبه، وأن لا يُحبُ شيئاً سواه إلا من أجله، والمحبة من أجله من جُملة مَحبته -سبحانه وتعالى- مَحبوب جَميع المَلائكة والأنبياء والمُقربين من عباده الصالحين مَحبوبهم الله -جل جلاله-، ومَحبتهم لسيدنا رسول اللهﷺ، حتى لا يكون في الكائنات شيءٌ أحب إليهم بعد الله من رسوله -صلى الله عليه وعليه وعلى آله وصحبه وسلم -وهي من جملة محبته -سبحانه وتعالى- فإن:
الحُب من أجله حُبًّا له -سبحانه وتعالى-
وتعظيم سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام - قُرْبة إلى الرب هو من تَعظيم الرب لأنه الآمر بهذا التعظيم.
وقال لنا في حَق سادتنا الأنبياء والمُرسلين (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ…) [المائدة:12]، أي: عَظمتُموهم (...وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا…) [المائدة:12]، وقال عن نبيه محمد ﷺ (...فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157].
فإذا صَدَق المؤمن في إيمانه -بالله تبارك وتعالى- يتنزَّه قلبه عن محبةِ شيءٍ لا يحبه الله، أو محبة أحدٍ لا يُحبُّه الله -تبارك وتعالى- ، بل كما قرأنا في دُعائه ﷺ في الفجر كل يوم: "نُحبُ بِحبك الناس ونُعادي بعداوتك من خالفك من خَلقك"، فلا يكون مَحبته إلا للإيمان بالله وما أحب الله من أنواع الطاعات والقُرُبات، وهذه محبةٌ في الله -تبارك وتعالى-.
يَرتقي المُؤمن في ذُرى إيمانه وتَحققه بِحقائقه فيصيرُ لا يُحبُ طعاماً إلا لله، ولا شرابا إلا لله، كيف يَتَحوّل حُبه الطَبعي للطعام والشراب إلى حب شرعي:
يأخذُ فيه بالاحتياط
يأخذ فيه بالورع
يتجنب فيه الشبهات
يعمل بالآداب عند تناول الطعام، وكذلك الشراب، وكذلك بقية المباحات، حتى من نوم.
فإنه لا يحب النوم لذاته ولا لأصله أصل، وإنما يحبه لكونه ضرورة للإستعانة على بقية طاعات الله -تبارك وتعالى-، الإستعانة على القيام بأوامر الله -سبحانه وتعالى-، وهو بذلك عاملٌ بالآداب عند المنام وقارئ للأدعية الواردة عنه ﷺ، كذلك حتى مَحبته لأهله ومحبته لولده تندرج في مَحبته -لله تبارك وتعالى- بصفاءِ سَريرته وصِحة قَصده لوجه الله -جل جلاله- ،فَيُحب المُسلمين عامة وخاصتهم خاصة من كل مُعلِّم ومُذكِّر ومن ظهرت عليه آثار الولاية والصِدِّيقية والأنبياء وأتباع الأنبياء، إذاً يُحبهم من أجل الله -تبارك وتعالى- على مراتبهم في الاتباع والانقياد والإيمان.
وقال لا يَستَحقُ المَحبة غيره تعالى وهو متفضِّل على خلقه بالإيجاد وتوالي الإمداد دُنيا وأخرى، يَتَحَبب إليهم بإحسانه ويتفضل عليهم بإمتنانه، فهو الذي يَستَحق المَحبة وهو الذي يجب على المؤمن أن لا يُحب شَيء غيره، إلا له ومن أجله وقُربةً إليه -سبحانه وتعالى-.
وذَكر لنا سؤال بَعض أهل الصِدق في المحبة لما سُئل وقد بلغ المجهود في بذل ماله ونفسه ولم يُبقِ منه بقية قالوا: ما كان سبب حالك هذا في المحبة؟ إذا أنت وصلْتَ لهذا المستوى، قال: سبب هذا كلمة سمعتها من مخلوق لمخلوق، قال: سمعتُ أن مُحباً خَلا بمن يُحبه - كلهم بشر-، قال: أنا والله أُحبك بقلبي كله وأنت تُعرض عني بِوجهك كله، قال له المحبوب: إن كنت تُحبني فأي شيء تنفق عليَ؟ حتى أُصدِّقك بأنك تُحبني، وأن لي مَنزِلة في مَحبة قلبك قال: ماذا ستعطيني من مقدوراتك ومُلكك ومالك إذا كنت تُحبني؟ قال له هذا: أُملِّكك جَميع ما أملك من المال، ثم أُنفق عليك روحي حتى أموت وأَهلك فيك، قال: فهذا كلام مَخلوق لمخلوق وعبدٌ ضعيف، كيف بخلقٍ لخالق وعبدٍ لمعبود!.
فإذا كان هكذا المحبة بين الناس كما من يَدَّعي مَحبة بعض النِساء، فقالت له لمَّا أخذَ يُكلمها أنه على مَحبتها، قالت: لكن انظر فلانة هناك واحدة أحسن مني وأجمل مني فالتفت، فقالت: قم، ياكذاب لو كُنتَ صادق فيما تَقول من مَحبتي ما تَلتَفت التِفاتتك، هذا دَليل أنك كذاب ليس لك محبة لذاتي تتشوَّف الذي تتعشَّقهُ نفسك من هنا ومن هناك فما أنت بمحِب.
كذلك، هذا مَحبة مَخلوق لِمخلوق، فَكيف بمحبة المَخلوق للخالق -جل جلاله- يجب أن لا يشرك فيها شَيء ولا يُدخِل عليه أحد، ولا يحب شيئا إلا من أجل الله (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات:7]، فمحبة الإيمان من محبة الله، محبة المعرفة من محبة الله، محبة الصلاة من محبة الله، محبة "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان"، محبة قراءة القرآن من جُملة محبة الله -سبحانه وتعالى- وهكذا، وكل ما يَصِح أن تَعد محبته محبة لله -تبارك وتعالى- كل ما تَحتاجه في أمر دينك ودنياك حتى لا تحب إلا هو- جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
قال سيدنا الحسن:
أما أنا والله ما بقلبي ولا بأسراري ولا بِلُبِّي***من جُملة الأحباب غير حِبي.
ويقول أن الله أوحى إلى سيدنا عيسى -عليه السلام-: أني إذا اطَّلعتُ على قلبِ عبدٍ فلم أجد فيه حب الدنيا ملأته من حبي، إشارة إلى أن تَولُّع القلب بالفانيات والإلتفات له يمنعهُ حقيقة المحبة لله -سبحانه وتعالى-، قال سيدنا الحداد:
فما أُرجي اليوم كشْف كربة *** إلا أن صفا لي مشْرب المحبة
ونلتُ من ربي رضا وقُرْبة *** يكون فيها قطْع كل الأسباب
على بساط العلم والعبادة *** والغيب عندي صار كالشهادة
هذا لعَمري منتهى السعادة *** سبحان ربي من رجاه ما خاب
سبحان ربي من رجاه ما خاب .
يقول أني إذا اطَّلعتُ على قلبِ عبدٍ فلم أجد فيه حب الدنيا ملأته من حُبي.
قال؛ ولا يجتمع حُب الفانيات مع محبة الله تعالى الباقي الدائم -جل جلاله وتعالى في علاه- هو فيما رَبَّى به وزَكَّى عبده الخليل سيدنا إبراهيم -عليه أفضل الصلاة والسلام-، أنه لم يُبقِ فيه مَيلاً إلى شَيء من حَيث الطبع قط، وأول ما جاءهُ المولود وقد بَلغ الكِبَر وامرأته كذلك عجوز وحَملت، كذلك بدأ الحمل مع هاجر فولدت باسماعيل، وكان مُقتضى الطبع أن يفرح بالولد الذي جاءه في الكِبَر، كما قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) [إبراهيم:39]، فأُمِر أن يأخذه هو وأمه ويَتركهم في مَحلِّ البيت الحرام حيثُ لا ناس ولا مآكل ولا مَشارب، فتركهم هناك حتى يَبقى قلبه خالص لربه -جل جلاله-، فلما كَبُر، وربما من أَجل الطبع إلتفت إليه وفرح به قال الله: اذبحهُ، فجاء و(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [ابراهيم:102]، كُلُّهم مُحبين وكلُّهم ولهانين بِمحبة الرب -جل جلاله- قال(افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ*فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [ابراهيم:102-105]، أنت الخليل الذي لا يبقى في قلبك ميلٌ إلى غيرنا أصلاً ولاالتفاتٌ إلى سوانا -صلى الله على نبينا محمد وعلى الخليل إبراهيم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين-.
قال فحال المحب الصادق الذي خَرج كل شيء من قلبه سوى محبوبهِ، وأما من يدعي المحبة ولم يظهر عليه شيء منها فهو كذاب في دعواه، والدعاوي إن لم يُقيموا عليها بَيِّنات، أبناؤها أدعياءُ.
أوحى الله إلى النبي داود: يا داود أني حَرَّمتُ على القُلوب أن يَدخُلها حُبي وحُب غَيري فيها، -الله أكبر- (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54] نعم،
يقول : فمن سبقت له المحبة بالعناية الأزلية والمواهب السرمدية، فحصلت منه المحبة حينئذٍ ضرورةً من غير تكلف ولا تصنع، فيبادر في مرضاة محبوبه لا محالة، و تظهر عليه أحوال المحبين من اللهج بذكر المحبوب و الهيام والشوق فيحمله على ما ذُكِر، هذا هو نور الهدى.
(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُۚ) [النور:35]، فهي غاية المَطالب وبُغية الأمل والمآرب المحبة :المَحبة من الله، والمَحبة لله -سبحانه وتعالى-.
وقيل أن سيدنا موسى -عليه السلام- مَرَّ عليه بعض عُبّاد بني إسرائيل فقال: يا موسى اسأل ربك أن يَهبني ذرة من مَحبته، وسأل ربه، فقال في اليوم الفلاني أُجيب دُعاءه وأُعطيه الذرة من المحبة، فأَعلمه النبي موسى، فبعد وصول ذلك اليوم ومروره جاء سيدنا موسى ليتفقد حال الرجل، فوجده يَشكو إليه شدة الولع والهيام، حتى لا يَقرّ له قَرار، وسأله الرجل أن يسأل الله تعالى أن يُخفف عنه من هذه الذرة، فلما كلَّم ربه قال: يا موسى، إن عشرة آلاف من بني إسرائيل كانوا يطلبوني ذرة من محبته فلما كان اليوم الذي عيَّنته لك أي :الوقت الذي حددته، أَخرجتُ ذرةً من محبتي فَوزعتها على العشرة الآلاف، وهذا نَصيبه من الذرة، هذا نَصيبه من عَشرة آلاف جزء من الذَرة، ما معه ذَرة كاملة من المَحبة، معه جزء من عشرة آلاف جُزء من ذرة من المحبة، أخذتْه وهام فلهذا قال سيدنا الحداد:
يا الله بذرة من محبة الله***أفنى بها عن كل ما سوى الله
ولا أرى من بعدها سوى الله***الواحد المعبود رب الأرباب.
قال سيدنا الإمام الغزالي: وهذه المَحبة وحَقيقتها، جميع مقامات اليقين والمعرفة والقرب من الله تعالى، ما قَبلها وسيلة إليها، وما بعدها ثمرة ونتيجة لها، ما بعدها من مقام الرضا ومقام الفناء والبقاء ومقام الشوق، كله نتيجة للمحبة، ما قبلها وسيلة إليها وما بعدها نتيجة عنها، وهي المقصود أن تُحبه مَحبة الصدق -لا إله إلا الله- "اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك و نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك".
جَعل الله دَوافع المَحبة عِند الإنسان إما لأجل:
إحسان: أحد يُحسن إليك ويتفّضل عليك ويواسيك تحبهُ
وإما من أجل كمالٍ في هذا المخلوق نفسه في هذا الإنسان، فتعرف فيه صفات كمال فَتُحبهُ
وإما لأجل جمال فتحب شيء جميل؛ من شجرة، من طائر، من لباس أي شيء جميل تحبهُ لأجل الجمال
فإن كنت تُحبه من أجل الإحسان والنوال فما من إحسان إلا وهو من ربك، وما يُحسن عليك مُحسن صَغير أو كَبير إلا بتسليط دواعي ودوافع الإحسان عليهم من قبل الله -تبارك وتعالى- وهو وإحسانه مخلوقون لله (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل:53]، -اللهم ما أصبح بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر على ذلك-، فهو أولى من تُحبه إذاً لأن كل الإحسان الذي يأتيك بواسطة هذا وبواسطة هذا فمنه وبسببه، والثاني والثالث و كلُّهُ.
وهناك إنعام وإحسان ما يقدر أحد أن يُحسن إليك بها؛ لا يعطيك السمع ولا يعطيك البصر ولا يعطيك الروح غيره -سبحانه وتعالى- ولا يعطيك هذا الهواء الذي سخَّره لك وتتنفس به، ،ما أحد غيره يَقدر يعطيك إياه -جل جلاله-، وأحسنَ إليك وأنعمَ عليك بنِعم لا تحصى ولا تُعد (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل:18].
وإن كنت مِمَّن يُحبُ من أجل الجمال فلا أجمل من الله والجمال كله له، وما من جميل في مخلوقاته إلا وهو صَنعَته وهو فعله فالجمال كلَّه له، وإن كنت تُحب من أجل الكمال فأي كمال لأي مَخلوق وأصلُ ذلك المخلوق عدم فهم وكمالاتهم خَلقٌ له و الكمال المطلق له وحده، إذاً فهو أحق بمحبتك -جل جلاله - من أي شيء ولا يَجوز أن تُقدِّم عليه شيئاً في المحبة، فإذا علمْت ذلك فإن محبتك لما يحب ولمن يحب من جملة محبته، فلا يكون في الكائنات والموجودات أحب إليك من نبيهِ محمد لأنه هو الأحب إلى الله ولا يُحَب من أجل الله شيءٌ ولا أحد كمثله صلى الله عليه وعلى ٱله وصحبه وسلم .
و قول الناظم رضي الله عنه:
لما رفع قلعه فكان حسبه إلٰه يعلم بأغمض السرائر
وهذه الكلمة مطلوبة في كل أحد خصوصاً مسافري البحر حِساً و معنى، لأن من كان بين تلاطم الأمواج و اختلاف الرياح فلا له حيلة في التخلص من ذلك إلا بالله -سبحانه و تعالى-.
أما ترى إلى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما طُِرح في المنجنيق و رُمي به إلى النار فقال :حسبي الله، فتلقاه جبريل عليه السلام، ابتلاءً من الله ليظهر صدق قوله. فقال له: ألك حاجة ؟. فقال عليه السلام: أما إليك فلا. و في قولٍ حسبي من سؤالي علمه بحالي. و لقد صدق عليه السلام في قول: حسبي الله سراً و علانية.
و هذا هو حقيقة قول الناظم: فكان حسبه إلٰه يعلم بأغمض السرائر.
قال الناظم رضي الله عنه:
و طلع الجهد القوي رُبّان على بساط الصدق و التمكان
يقول بألحان و أي ألحـان إنّـا إلى مقصودنـا نسافـر
و قد ذكرنا المجاهدة فيما تقدم. و قول الشيخ: وطلع الجهد القوي ربان، و هو بذل المجهود للحصول على المقصود، كما قيل شعراً:
فلا يشاهـد غير من يجاهد
قال شيخنا و مولانا قطب الأقطاب وغوث الأنام الشيخ عبدالله بن أبي بكر العيدروس – نفعنا الله به- في بعض وصاياه: لا تحسب أن هذا السر محصول عليه بل هو مبذول لكل من أراد، لكن من حام حول الحِمي ـ المزابل ـ لم يعثر على شيء من هذا السر، ومن شمّر عن ساق الجد واجتهد فلا بد أن يعثر على شيء من هذا السر، و الكنوز كل الكنوز في دعائم الاجتهاد. انتهى.
قلت: والاجتهاد بالعلم والعمل على الكتاب والسنة هو المطلوب منك أيها العبد، كما قال الله سبحانه و تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ) [الحج:78].
و ذلك على بساط الصدق والتمكّان، وهو إخلاص العمل لله تعالى وإفرادهِ بذلك، عارياً عن الحظوظ الدنيوية و الأخروية، وأن تشهد قيامك بالله ولله.وهذا هو التمكان المذكور، (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا) [الإسراء: 80].
و قال الشيخ ابن عطاء رضي الله عنه: مطلب العارفين من الله الصدق في العبودية والقيام بحق الربوبية. و قال أيضاً رضي الله عنه: خير ما تطلبه منه ما هو طالبه منك، وهي الجهد والانقياد العاريان من الحظوظ و طلب الأعواض والأغراض.
و قوله –أي الناظم- : (بألحان وأي ألحان) و هي النغمات.. كما قال: (إنَّا إلى مقصودنا نسافر)، و هو وصل الحبيب والأُنس والتقريب، وهو السفر من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح، لأن الإنسان غريب بروحه في هذا الجسم الكثيف والعالم الكثيف، فوجب عليه حينئذٍ السفر إلى موطنه الأول.
الله أكبر، كانت مواطن أرواحنا هذه قد خلقها الله قَبل الأجساد وسَبق الخلق له، بل وسَبق التجلّي عليها، المخصوص بالخطاب في حين أخذ علينا العهود والمواثيق -سبحانه وتعالى- (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ) [الأعراف:172]، ولما خلق الله الأرواح أسكنها في السموات وجَعل لها إيواء مع الملائكة و مُشاركة لها في التسبيح والتقديس للملك القدوس -سبحانه وتعالى-، وجعل لتلك الأرواح أُنسًا بربها -سبحانه وتعالى- وقربه، ثم لاختباره لنا كَوَّن لنا الأجساد، فأول ما كَوَّن من الأجساد: جَسد أبينا آدم -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- و حَبَس روحه وَسط هذا القفص الجَسداني، ثم خَلق منه حَواء أيضاً، وجَعل روحها في ما كَوَّنه -سبحانه وتعالى- من جسدٍ ممتدٍ من جسد آدم ثم جعل أجساد أولادهم من بعد بواسطة النُطفة والعَلقة والمُضغة، عظاماً ثم تُكسى العِظام لحماً ويُنفخ فيها الروح، هذه الأرواح كلها وُجدت قبل وجود هذه الأجساد، فهي في الملأ الأعلى مع الملائكة تُسَبِّح بحمد ربها في السماوات.
وفي حديث الإسراء والمعراج ﷺ، عندما سَلّم على أبينا آدم في السماء الأولى وجَدهُ إذا إلتَفت عن يمينه ضحك تبسم وفرح، وإذا التفت عن يساره يبكي، ورأى أَسوده كثير عن اليمين وأَسوده كثير عن الشمال، فسأل جبريل ما هذا؟ قال: هذه نِسم بَنيه، يعني: أرواحهم التي لم يُخلقوا بعد من بني آدم، أصحابُ الجنة منهم عن يمينه، فإذا نَظر إلى من يَدخل الجنة من ذُريته فَرِح وضحك، وأصحاب النار عن يساره، فإذا نَظر إلى أولاده الذين يدخلون النار حَزِن وبكى، فكانت الأرواح هناك.
ثم عند تَكوين جَسد كل واحد منا في بطن أُمه تخرج الروح من السماء، ويأمر الله المَلَك أن يَنفخها، ويَحبِسها في هذا القفص، فيبدأ الإختبار لنا والامتحان، ولكن الروح بحد ذاتها وطبيعتها تَحنُّ إلى العالم الأعلى، وتُحبُّ مُرافقة النبيين والملائكة المقربين،و في هذا المعنى قال سيدنا الإمام الحداد:
يا أَيُّها الروحُ هَل تَرضى مُجاوَرَةً***عَلى الدَوامِ لِهَذا المَظلِمِ الكَدَرِ
وَأَينَ كُنتَ وَلا جِسمٍ تُساكِنُهُ
(قبل تكوين جسمك أين كنتِ أيها الروح؟؟؟)
أَلَستَ في حَضراتِ القُدسِ فَاِدَّكِرِ
تَأوي مَعَ المَلَأِ الأَعلى وَتَكرَعُ مِن***حِياضِ أَنسٍ كَما تَجني مِنَ الثَمَرِ
تَأتي عَلَيكَ نَسيمُ القُربِ مَهدِيَّةً***عَرَفَ الجَمالُ كَعُرفُ المَندَلِ العَطِرِ
حَتّى جُعَلْت بِأَمرِ اللَهِ في قَفَصِ***لَيَبتَليكَ فَكُن مِن مِن خَيرِ مُختَبَرِ
فكن مِمّن أحسنوا النجاح في الإختبار، ونجحوا في الإختبار، ولم تَغُرهم زهرة الحياة الدنيا، بِصَرف محبتهم إلى سوى الله -تبارك وتعالى- ونَمَّوا تَعشُّقهم لله وتَصفية الأرواح عمّا يَعْلق بها من الكَدورات في هذا العالم -الله لا إلٰه إلا الله-.
من كان بين تلاطم الأمواج في البحر واختلاف الرياح فلا له حيلة في التخلص من ذلك إلا بالله -سبحانه وتعالى- فيتوجه إليه بكُلِّيته؛ سيدنا الخليل إبراهيم لما طُرح في المنجنيق ورُمي به إلى النار، فلما قذفوا به قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فاعترضه سيدنا جبريل يقول:ألك حاجة؟ قال: أنا قلت: هو حسبي ما عاد لي حاجة إلى غيره، قال: فسلُه، قال: وعلْمه بحالي يُغني عن سؤالي، فقال الله (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69]، فَشعُر كأنه رُمي في ماء عذب بارد، ودخل وجلس في النار، وأخذ يمشي فيها وهو مُطمئن ولا يجد لها أثر، وأخذ يركع ويسجد، ويجي له جبريل الى عنده ويأتي له بالأكل، ما بين أسبوع إلى أربعين يوم والنار مُلتهبة حواليه ثم خَرج، وعندما سؤل آخر عمره عن أحسن أيام مرت فيه في الدنيا؟ قال أيام كنت في نار النمرود، هذه أحسن أيام كانت؛ مُنقَطع عن الخَلائق كُلهم وهو وَسط النار داخل ولا عليه أي مَسئوولية تتعلق بالعالم ولا بلاغ غيره، ويأتيه جبريل بالأكل من الجَنة وهو في صَلاته، وكانوا أحياناً من خلال النار وشدتها يحسُّون أنه يتحرَّك فيقولون إبراهيم هذا يتحرك في النار، فخرج، وحتى القميص الذي عليه أبيض مااحترق ولا فيه أثر، فكانت آية من الآيات(فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [الصافات:98] أي: وجعلناهم الأخسرين -الله لا إلٰه إلا الله -.
قال صَدق في قوله -حسبي الله- وفي هذا أشار القرآن قَول (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ) [النجم:37]، قال: -حسبي الله-، صِدق ماعاد الْتفتَ إلى ما سِواه.
وسِّيد الوجود قال حسبي الله وقد صدق ﷺ وهو أصْدق الخلق في التوكل على الله، فكان حسْبهُ إلٰهي أعلم بأغمض السرائر أو بأغماض السرائر -الله أكبر- يقول في قوله
طلِّعوا الجهد القوي رُبّان
بذل المجهود لحصول المقصود، فلا يُشاهد غير من يُجاهد، وجاهد تشاهد
واغنم الوعد بالهدى هدى*** نصّهُ في العنكبوت بآيتِ
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] .
يقول سيدنا العيدروس: لا تحسب أن هذا السرّ محصول عليه، بل هو مبذول لكلِّ من أراد، لكن من حام حول المزابل لم يعثرْ على شيء من هذا السرّ، ومن شمّر عن ساق الجد واجتهد فلابدّ أن يعثر على شيء من هذا السرّ، و الكنوز كل الكنوز في دعائم الاجتهاد.
فلابد أن يَعثُر على شَيء من هذا السر بالفضل الرباني، لأن الله يقول "من تَقرَّب إليَّ شبراً تَقرَّبت إليه ذراعاً " والكُنوز كل الكنوز في دعائم الاجتهاد أي: في المُجاهدة في سبيل الله -تبارك وتعالى-، تَترك من أجله محبوباتك ومرغوباتك، وتَصدُق في طلبه -جل جلاله وتعالى في علاه-، وتجتهد بالعلم والعمل على الكتاب والسنة، هذا مطلوب الحَق منك أيها العبد (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) [الحج:78]، وفي هذا مَطلب العارفين من الله، الصِدق في العُبودية والقِيام بحق الربوبية؛ خير ما تطلبه منه ما هو طالبهُ منك. يعني: تدعو الله أن يُعطيك الإخلاص، أن يعطيك التواضع، أن يعطيك الحضور معه، هذا الذي طلبه منك أنت تَطلبه منه، تقول أعطني إياه يا رب، فخير ما تَطلبه منه ما طَلبه منك هو، وهذا دليل على أنك عبدٌ صادق تهتم بما طَلب منك، فترجع إليه في أن يُعينك ويُمَكِّنك من القِيام به من الصفات المَحبوبة له -سبحانه وتعالى- والأعمال المَرضِيَّة لديه.
قال الناظم-: (بألحان و أي ألحان) النغمات المنشدة المهيئة للمقصود، كما قال:
(إنّا إلى مقصودنا نسافر) المقصود لهم هنا قال:
وصْلُ الحبيب والأنس والتقريب.
والسفر من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح، ومن عالم الأرواح إلى مكوِّنها وخالقها.
والإنسان غريب بروحه في الجسم الكثيف، والعالَم الكثيف أوْجب عليه أن يسافر إلى موطنه الأول، وموطن القُرب من الله تعالى ومشاركة الملائكة في تسبيحهم بحمد ربهم .
قال الناظم رضي الله عنه:
و سـافر في لجِّ بحـر الأذواق *** يجرُّها نود الهوى والأشواق
أمستْ إلى وصل الحبيب تشتاق *** تـرومُ بندر فائق البنــادر
لما كان الإنسان غريباً في هذا العالم كما ذكرنا، بروحه حنّ حينئذٍ إلى وطنه و حُقّ له ذلك، ودخل في لُجج بحر الأذواق، يجرُّ نود الهوى والأشواق، أمسى وأصبح يقظةً ومناماً وهمةً واهتماماً إلى وصْل الحبيب المذكور، يشتاق -بالشين المعجمة- و تستاق -بالسين المهملة- أي أن السفينة تنْجرّ و تسير إلى مرامها و مقصودها كما قال: تروم بندر فايق البنادر"ياله من بندر لا ينبغي السفر إلا إليه ولا التعرُّج إلا عليه كما ذكرنا في أول الكتاب، و كيف لا يكون ذلك وهو فايق البنادر، كما قال الشيخ الناظم وفيه مجْمع السرور ووافر الجَذَل والحبور، قال الشيخ السودي نفع الله به، آمين:
سافـر عن الأكوان يا موفَّـق *** إن شئت تشرب خندريس مروّق
وارحل إلى اسم الله لا تعوق*** فيه لأرباب السقام مرْهـم
و قال أيضاً في غيرها:
سافرْ إلى حضرةٍ عليا مقدسة *** تصحّ من ألم الأغيار و النصبِ
الله يكرمنا؛ يقول وبعد ذلك السفر إلى الله -تبارك وتعالى- فإذا صحّ وتمّ لك الوصول فيستمر السفر إلى الله، السفر بالله، وإذا صحّ لك ذلك، صِرْت مسافراً في الله -جلّ جلاله- سفرك في الله -تبارك وتعالى- ترقِّيك في مطالعة جلال وجمال وكمال صفاته وأسمائه وذاته العليّة، فتسيرُ بعد سفرك إلى الله مسافراً بالله، وإذا صحّ لك ذلك وتمّ، صِرْتَ مسافراً في الله -تبارك وتعالى- تَرقَّى في مطالعة جلاله وجماله وكماله في أوصافه وأسمائه بعد شهودك لعظمة أفعاله وجمال وكمال وجلال أفعاله، تطالع جمال وجلال الأسماء والصفات وعظمة وجلال الذات العليّة فأنت تسافر في الله -سبحانه وتعالى- .
يقول: الإنسان غريب في هذا العالم يحنّ إلى الوطن الأصلي، يدخل لُجج بحر الأذواق يجرّه فيها نود الهوى والأشواق -الله أكبر-، فيمسي ويُصبح ويَستيقظ وينام وهمّته واهتمامه إلى قرب الرب، وصْلهِ، معرفتهِ، زيادة معرفته، زيادة محبته، زيادة القرب منه، نيل الرضوان منه، وزيادة الرضوان منه -سبحانه وتعالى-.
يقول:
وسافَر في لُجِّ بحر الأذواق*** يجرُّها نود الهوى والأشواق
أي السفينة تَنْجرّ وتَسير إلى مرامِها ومقصدها بواسطة دَواعي الشوق والمَحبة، أمستْ إلى وصْل الحبيب تَشتاق أو تسْتاق من السَوق: المشي في السفينة، أوالشوق: وهو طرَبُ القلب وولعهِ.
يقول:
ترَوم بندر فائق البنادر- فوق كل البنادر- وهناك تحل
وكوشفت أسراره وحلّ في برج الوصول:
هبت نسيمات الوصال*** من جانب القدس العلي
واستغرقت أنوارها *** عوالم القلب الخلي
عما سوى معبوده *** الواحد الحق الولي
وكوشفت أسراره *** وحلَّ في برج الوصول
الله حسبي وكفى ***قل ماتشاء يا ذا الفضول
قال يا لهُ من بندر لا ينبغي السفر إلا إليه ولا التعريج إلا عليه كما ذكرنا في أول كتاب، هوفائق البنادر كُلها
وسافِرْ عن الأكوان ياموفَّق *** إن شئت تشرب خندريس مروَّق
وارحل إلى اسم الله لا تُعوَّق *** فيه لأرباب السِقام مرهم
في هذا التوجُّه يُبلِغ إليه الشوق فيه، الوصول إلى الرحمن ومشاهدة جماله .
سافر إلى حضرةٍ عليا مقدسةٍ *** تصحَّ من ألم الأغيار والنَصبِ
والنصبِ: أنواع التَعب والقَواطع والظُلمات تخرج منها ويطيب ويصفو لك العيش والحال في محراب الشكر للكبير المتعال، مطالعاً للإفضال، والنوال والجلال والجمال والكمال، فلا تزال على هذا الحال، تمر بك الأيام والليال، وأنت تزداد شوقاً، وتزدادُ ذوقا، حتى تُواصلَ من حضرة الرحمٰن بتقريب، وحظ وافر ونصيب، من المحبة منه والمحبة له ومن شُهودهِ -سُبحانه وتعالى-، حتى لا يكون في الكائنات شيء إلا وهو مرآةٌ لك تنظرُ فيها من جلاله ومن قدسهِ ومن قدرتهِ ومن تقديره ومن تصويره ما تنظر، فتعيش معه -سبحانه وتعالى- وله ومن أجلهِ ويصحُّ قولك بسم الله و بالله و من الله و إلى الله وعلى الله و في الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم -جل جلاله-.
اللهم لا تجعل حظنا الهذيان ولا لقلقة اللسان واقسم لنا بنصيب وافر من هذه الحقائق في محبتك وقربك يا ولي الإحسان يا واسع الإمتنان يا حي يا قيوم يا رحمٰن يا أرحم الراحمين يا الله.
جمعْتنا والأحباب في هذه الأيام على هذه المجالس، وذكْر هذه النفائس، نطلب منك محبتك ونسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك، فنسألك ذرة من محبتك تعمر بها قلوبنا حتى لا تلتفت إلى سواك، ونَفي بالعهد ونرْقى في مراقي المحبة مع الأحبة، بجاه سيدهم وأكرم محبوب وحبيبٍ لك، ومحبٍ لك على الإطلاق، سيدنا محمد عظيم الأخلاق، اللهم اسقنا من كأس محبته، أحضرنا في حضرته وارزقنا حسن الاستقامة على منهاجه وملِّته، نسألك بما بينك وبينه أن لا تحرمنا حقيقة محبتك، والدخول في أحبتك، وصدق الوجهة إليك والتذلل بين يديك.
يا ربنا، خذ بأيدينا ونواصينا وقلوبنا إليك، أخذ أهل الفضل والكرم عليك، واجعلنا ممن ترعاهم عين عنايتك في جميع الأطوار، ولا يمنعنا من دخول حضرتك قبيح الأوزار، ولا يحجبنا عن وهْب الله سيء الإصرار.
بسرِّ الفاتحة إلى مؤلف الكتاب عقيل بن عمر بن عبد الله باعمر وأصوله وفروعهم ومشائخهم وأساتذتهم والمنتسبين إليهم وبسلسلة سندهم ونسبتهم عن الحبيب الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومؤسس هذا المسجد ووالدينا ووالديكم و ساداتنا آل باعلوي وساداتنا آل بيت النبوة وذرية صاحب مرباط سيدنا علي وحبيبنا علي باعمر وحبيبنا عمر وعلوي بن أحمد وحبيبنا الشيخ أبي بكر بن سالم وجميع من حوتهم ظفار من المقربين والعباد الصالحين وأهل لا إلٰه إلا الله أجمعين، وإلى روح والدينا خاصة، والمسلمين الأحياء والأموات عامة، أن يقبلنا على مافينا ويقبل بوجهه الكريم علينا ويصلح شؤوننا كلنا ويحفظنا بما حفظ به عباده الصالحين ويرزقنا ويرفعنا في رتب المحبة ويجعلنا من خواص أهل المحبة ويحققنا بحقائق المحبة ويجعلنا من خواص من يحب لقاءه ويحب لقائهم سبحانه وتعالى بألطاف وعوافي ظاهرة وخوافي وأصلح احوالنا والمسلمين أجمعين وإلى حضرة النبي وآله وأصحابه الفاتحه
اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ وزدنا محبة في كل لمحة ونفس أبدا سرمدا وحققنا بحقائقها واجعلنا من خواص أهل السالكين أقوم طرائقها في لطف وعافية ويقين وتمكين مكين برحمتك يا أرحم الرحمين.
يا أرحم الرحمين
يا أرحم الرحمين
10 جمادى الأول 1445