شرح عقيدة أهل السنة والجماعة -3- معنى قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى)
شرح الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب عقيدة أهل السنة والجماعة للإمام شيخ الإسلام الحبيب عبد الله بن علوي الحداد، ضمن دروس الدورة التعليمية الحادية العشرين بدار المصطفى.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد، فإنا نعلم ونقر ونعتقد، ونؤمن ونوقن، ونشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله عظيم، ملك كبير، لا رب سواء، ولا معبود إلا إياه، قديم أزلي، دائم أبدي، لا ابتداء لأوليته، ولا انتهاء لآخرتيه، أحد صمد؛ لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، لا شبيه له ولا نظير، وليس كمثله شَيّء وهو السميع البصير.
وانه تعالى مقدس عن الزمان والمكان، وعن مشابهة الأكوان، ولا تحيط به الجهات، ولا تعتريه الحادثات، مستوٍ على عرشه على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواءٌ يليق بعزِّ جلاله، وعلو مجده وكبرياته.
وأنه تعالى قريب من كل موجود. وهو أقرب للإنسان من حبل الوريد. وعلى كل شيء رقيب وشهيد. حيٌ قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم. بديع السماوات والأرض؛ وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون. الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله مولانا الخالق الشهيد الرقيب الحاضر القريب الغافر، وصلى الله وسلم على عبده ومصطفاه دالنا عليه المُجتبى المصطفى الطاهر، نور الأنوار وسر الأسرار حبيب الرحمن، المخصوص بإنزال القرآن، أكبر آية تجلت فيها عظمة المنان، ومنته الكبرى والدلالة العظمى عليه، فصلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على صاحب الإذن الأعلى في الدعوة إليك والدلالة عليك، عبدك المجتبى الذي جمعت فيه الكمالات الإنسانية، وجعلته الفرد بين أهل الحضرة في المراتب العلية، فصلِّ اللهم وسلِّم وبارِك وكرِّم عليه صلاةً قدسية تليق منك بقدسك عليه، بقدسه بها نتقدس عن معايبنا ونتنقى عن مثالبنا، وندخل بها في دوائر الصدق معك في جميع شؤوننا في ظهورنا وبطوننا وصلِّ معه كذلك على آله الأطهار وأصحابه الأخيار معادن الأنوار والأسرار، وعلى من أحبهم واقتفاهم على الآثار، وآبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين معادن الخيرات الكبرى، وآلهم وصحبهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، وورود الدار الأخرى، وعلينا معهم وفيهم، يا من بيده الأمر كله سرًا وجهرًا.
وبعد،،
فإننا في تأمُّل أوصاف ربنا تبارك وتعالى؛ وبذلك تنتعش وتحيا منَّا القلوب والأرواح، وتزكو منَّا العقول، ونعيش على ظهر هذه الأرض في منازل كريمة شريفة تتردد إليها الملائكة، و يرمقها بعين الإكبار والإجلال وبالغبطة من الملأ الأعلى أصناف من ملائكة الرحمن في السماوات العُلى. العائشون على ظهر الأرض في نقاء البواطن، واستقامة الاعتقاد على صفات الحق تبارك وتعالى وأسمائه، والإيمان به كما يليق بجلاله وعظمته، والإيمان برسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر على ظهر الأرض، هم محل الإكرام والإجلال لدى الملأ الأعلى، وهم على ظهر الأرض بأجسادهم عائشين، وهم مع ذلك بعقولهم بل بأرواحهم وقلوبهم هائمين في محبة إلههم القوي المتين؛ فهم معه وهو معهم، وقال الله: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)[المائدة:12]؛ أي أقمتم المعاملة معي كما يليق بالعبد مع مولاه وسيده، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا. يقول الحق: (لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [المائدة:12]. اللهم كن لنا وكن معنا بما أنت أهله، بما كنت به مع المحبوبين والمقربين وأهل التمكين من عبادك الصالحين.
نطالع صفات مولانا -جل جلاله وتعالى في علاه-. ونعلم: أن ما نتحدث عنه من تَنْزِيه، يعود إلى تَنْزِيه مشهدنا، تَنْزِيه مدركنا، تَنْزِيه علمنا عنه، تَنْزِيه اعتقادنا. أما هو فجلَى عن أن يترتب قدسه وعلوه على تقديس هذا أو ذاك من المخلوقين والكائنات، كائنًة ما كانت. هو القدوس الأقدس المنزه قبل خلق السماوات والأرض، قبل أن يعرف تقديسه ملك و إنسي وجني وأي شيء. هو القدوس -جل جلاله وتعالى في علاه- فنحن عندما نُطلق مجازًا أننا ننزه الله؛ نقدس الله، نقدس ذواتنا وصفاتنا ومعتقداتنا ومعلوماتنا ومشهوداتنا وشهودنا وإدراكنا؛ نقدسه عن أن يتصور الباطل، فنقدسه بأن يعتقد الحق، وأن نعلم حقًا، وأن ندرك حقًا؛ فيكون لنا علم صحيح حق، وإدراك صحيح حق؛ فإنما نزَّهنا بذلك أنفسنا وذواتنا، أما هو؛ فهو الأكبر الأجل والمقدس الأوحد قبل أن يخلقنا، وقبل أن نعرف شيء، وقبل أن يكون منَّا شيء، لا إله إلا هو.
وحدثنا فيما تقدم معنا عن تقدُّسه عن الزمان والمكان، وأن الزمان والمكان مخلوقان يحتاجان إليه، وهو يُسيرهما، وعن مُشابهة الأكوان. وتحدثنا عن الجهات وحدوثها بحدوث هذه القوالب في الأشكال، وهذا التركيب الإنساني، وحدثت هذه الجهات فوق وتحت ما إلى ذلك. وعلمنا أنها بالمصطلح انطلقت إلى ذلك، وعلمنا قطعًا ونحن نعيش على ظهر الأرض أن من يكونُ على الكرة الأرضية من الجهة المقابلة يعدون التحت -عندهم جهتنا- ونحن نعدها جهة الفوق، ويعدون الفوق عندهم ما يلي رؤسهم وهو بالنسبة لنا ما يلي أرجلنا؛ فما كان لفظ التحت والفوق واليمين والشمال إلا حوادث حدثت بهذه التركيبة وهذا الشكل؛ فإياك أن تريد أن تقحمها في ذات الإله سبحانه الذي كان قبل كل شيء ((وليس كمثله شيء)) كذلك.
تنزّه في علمك، تنزه في عقلك، تنزه في معرفتك، تنزه في إدراكك، تنزه واعلم أنه سبحانه ((ليس كمثله شيء، ولا تعتريه الحادثات))، ولا تعتري الكائنات والمخلوقات؛ من تغير وتحويل وتبديل وما إلى ذلك.
قال: ((مستوٍ على عرشه على الوجه الذي قاله و المعنى الذي أراده))، وفي العرش معاني أظهرها وأعلمها أنه جسم كبير خلقه الله تبارك وتعالى في أعلى هذا الوجود، والكون فوق جميع السماوات العلى وفوق سدرة المنتهى، وفوق حجب كبيرة عظيمة، كما حدثنا عنها بلسان النبوة وهذا هو العرش الذي له معه أيضا كرسيٌ عظيمٌ يسع السماوات والأرض، (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) [البقرة:255].
وكذلك جاءتنا الأخبار: أن السَّماوات السَّبعُ والأرَضين السَّبعُ لو وضعت في الكرسي لكانت كسبعة دراهم مُلقاةٍ في فلاةٍ واسعة من الأرض، فتتضاءل السماوات مع الأرض. ومن باب أولى ما بين السماوات والأرض من ذي الكواكب التي أخذت عقول الناس في زمننا الموصوفين بالعلم والثقافة وما إلى ذلك، تتضاءل أمام الكرسي والعرش و السماوات السبع والأرض. والكرسي لو وضعت في العرش لكانت كسبع دراهم ملقاة في فلاة واسعة من الأرض، فالأمر أكبر وأعظم من هذه التصورات -سبحان الخالق- والله أكبر من كل ذلك، والله أجل، والله أرفع، والله أعظم؛ لا يحتاج إلى عرش، ولا إلى كرسي، ولا إلى السماء ولا الى الأرض، استغناؤه سبحانه عن ذرة التراب في الأرض كاستغنائه عن العرش سواءً بسواء، كاستغنائه عن الكرسي، كاستغنائه عن السماء، كاستغنائه عن الملائكة، كاستغنائه عن كل شيء سواءً بسواء، وحاجة كل شيء إليه سواءً، كذلك افتقار، ومفتقر إليه ما في الأرض، كما مفتقر إليه ما في الكواكب، كما مفتقر إليه ما في السماء والإنس والجن والملك والكائنات الأخرى كلها مفتقرة إليه، وَ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [غافر:15] جَلَّ جَلَالُهُ وَتَعَالَى فِي عُلَاه.
لما كان الأمر كذلك قال: إنه ((مستوٍ على عرشه))؛ لأنه لما ذكر لنا العرش في كتابه العزيز وقال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]؛ علمنا أن هذا الكلام حق متصل ببقية كلام الله تعالى، بمعنى أننا نؤمن بما قال لنا ربُنا وحدثنا نبينا من دون أن نُقحم محصور مفاهيمنا ولا ساقط تصوراتنا؛ فإننا قد علمنا يقينًا بالنصوص أن المشابهات مستحيلة، وأن حلوله في شيء وأن يحل في شيء مستحيل، وأن كل ذلك صفات الكائنات المخلوقة، والمكون الخالق جل جلاله، فإذا سمعنا قوله (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)؛ فهمنا من هذا أن فيه معنى لائق بقدسيته، بعظمته، بعلوه، بكبريائه، بغنائه عن كل شيء؛ معنى صحيح لائق كما أراده سبحانه وتعالى. وأنه لم يكلفنا تعيين ولا تحديد المعنى الذي أراده، واكتفى منَّا بالإيمان بما أراده، وأن نؤمن بقوله (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) على المعنى الذي قاله، على المعنى الذي أراده، على الوجه الذي قاله سبحانه وتعالى، وانتهينا.
ولم يكن هذه الأشياء مثارات بحث بين عموم الناس في عهد النبوة ولا بعد ذلك، وردتْ لِحكَمٍ كبيرة يعلمها الله تبارك وتعالى ومنها: علمٌ يعلِّمه من لدنه من يشاء في معاني، وقال سبحانه وتعالى في ذكر هذه الحقيقة في كتابه العزيز (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران:7]، ما معنى مُتَشَابِهَات؟ هو حَكَم عليها في آخر الآية، أنه لا يعلم تأويلها إلا الله، حكم أنه لا يعلم تأويلها إلا الله، قال: (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) -عامة الكتاب وأصل الكتاب- (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)؛ يكون معناها الذي يتبادر إلى الذهن غيرُ مرادٍ قطعًا، فما هو المعنى؟ متشابه، أي ما نهتدي إليه. يقول سبحانه وتعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)؛ هذه علامة أن ناسًا منَّا معشر الأمة يتولعون ويتعلقون بالمتشابهات ويجعلونها لهم ديدن ودين وكلام ويؤلفون فيها كتب ويقذفون العامة فيها، ويقذفونها للعامة، (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، يعني إدعى تأويله بالباطل أنهم أهل العلم بذلك، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ):
- فعلى معنى في الآية هنا وقف لازم -خلاص انتهى الكلام-؛ وهو على كل الأحوال صحيح، فإنا حتى المُحْكم الذي نعلمه ونعلم من تأويله ما نعلم، فيه دقائق وخفايا ما يعلمها إلا هو، من باب أولى المتشابه (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)،
- والقول الثاني و المعنى الثاني للآية (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، وخصوص الراسخون في العلم؛ أي يعلمه خصوص الراسخين في العلم، وقد كان ابن عباس يقول: أنا من الراسخين في العلم، وهو أهل لذلك، وحسبك ما دعا له صاحب الرسالة "اللهم فقًَّههُ في الدينِ، وعلِّمْهُ التأويلَ" -الكتاب-.
قال سبحانه وتعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، إذا كان مبتدأ جاء خبره: (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) [آل عمران:7]، ما نبتغي تأويله ولا نفتح به فتنه، أولئك (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران:7]، هؤلاء لا يريدون فتنة ولا يدعون تأويله، ماذا؟ يقول هذا المعنى الذي أراد الله، كما قال الإمام الحداد هنا؛ بهذا علمنا أدبهم مع الإله واتباعهم لمنهج المصطفى، وما عرفنا في هدي الخلفاء الراشدين من يفتحُ هذه التساؤلات ولا باب التصورات الفاسدات قط؛ بل رأينا أن منهم من إذا أحس بإنسان يفتح باب هذه الفتنة علاه بالدرُّة، وضربه سيدنا/ عمر بن الخطاب لما بدأ هذا -الأُصبيغ- يأتي بالطامات والبلايا وفتح باب الفتنة بين الناس، رمى راسه، وقام له و ضربه، حتى قال له : خرج ما في راسي خلاص يا أمير المؤمنين، ماعاد فيه شئ، الكلام هذا كله راح، الله، والشاهد "ما لَقِيَكَ االشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ". فلما انهالت سياطه على رأس هذا المبتدع خرجت البدعة منه وراحت وسكت ساكت، و بعدها ما فتح على الناس باب التأويلات، فتبناها من بعدهم من تبناها. وقد كان بعض الصحابة يقول : "إذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ"، كلٌ قد بين الله خبرهم في كتابه، احذر و أبعد منهم فإن الله قال في كتابه: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)، ماذا معهم؟ غرضين (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)؛ هم يحبون الفتنة، ويبتغون التأويل؛ يعني يدعون أنهم يصِلون إلى المعنى المراد وما إلى ذلك.
قال سبحانه وتعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]؛ وقد ألَّف في هذا ايضًا الإمام الغزالي كتاباً سماه "إلجام العوام عن علم الكلام"، وذكر أن هذه الآيات المتشابهة من كل آية يلتبس المعنى فيها المتبادر للذهن بأمر مستحيل، من كل ما يتعلق بتشبيه الحق بشيء من الكائنات، فمثل (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) يُستعْمل الاستواء في اللغة التي نزل بها القرآن على معاني، ما يتبادر إلى الأذهان من معاني الاستقرار والجلوس واستواء الذات وما إلى ذلك؛ هذا باطل يناقضه الآيات الأُخر والأحاديث، باطل معلوم بطلانه؛ إذًا فالمعنى هذا باطل، فما هو المعنى الصحيح؟ هو الذي أراده الله تبارك وتعالى، هو المعنى الصحيح، وإذا بالاستواء في اللغة يحمل عددا من المعاني، كما تحمل اليد، كما تحمل العين، فهي بمعنى يتبادر إلى الأذهان إذا ذُكرتْ لهم يد رأوا لحم وعظم ودم وأصابع، وكف، وقالوا هذا يد (بإشارته إلى يده)، ولكن يستعملون في اللغة التي نزل بها القرآن يقولون لفلان: عندنا يد! ولا يعنون بها قطعة ولا لحم ولا جسم ولا شيء من المعنى؛ هذا أمر معنوي خالص. فلان لهُ عندنا يد: إحسان نعمة ومعروف قدَّمه، ليست عندهم يد يعني كذا (بإشارته إلى يده)، هذا ليس له معنى، فإذا واحد لا يعرف إلا هذا المعنى، اين اليد حقه؟!! بغى يشوفها اصابع عظام، أين اليد؟!! خرجتوها منه ولا كيف؟!! وإلا كانت زائدة فيه!! وإلا خرَّجتوها ولا من أين جاءت اليد حق فلان؟!!! يقولون العرب: البلدة في يد الأمير، جاء واحد يرى البلاد، أين أصابعه؟ أين كفهِ؟ أين يده؟ البلاد تراب وهواء وشجر وبيوت، ولا في يد أمير ولا فيها شيء!! و المشكلة عقلك كبر زائد!! وإلا كيف؟! فهمك اتسع زائد!! يا أبله لا شي دخل في هذه اليد، لا بالأصبع ولا بالأظفر ولا بالشعر ولا باللحم!! البلدة في يد الأمير؛ منقادة لحكمه، أمر نافذ فيها؛ أمر معنوي ثاني ما في يد كذا (بإشارته ليديه).
فإذا كان هذا الاستعمال لليد يأتي على معنى معنوي آخر لا علاقة له بالجسمية، ولا بتوابع الجسمية فإذا سمعنا قول الله: ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) [الفتح:10]، وقال: (مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) [يس:73]، بيجيء يتصور يد!! ايه!! اعقل!! هذا ما تصورته في حق مخلوق مثلك!! نزهته عنها وقلت هذه البلدة في يد الامير وإلا فلان عندنا يد ما هو هذا، بتجيء إلى عند الإله الرب!! يا قليل الحياء؟؟ وبتشبهه بالجسم؟!! والجسمية وتوابعها منفية عن الحق!! لأن كل جسم مخلوق، وكل جسم صنم، كل جسم صنم، فمن يظن أنه يعبد جسمًا فإنما يعبد صنم، لا إله إلا الله. أن يكون صنم ولا شي فرق بين صنم يتصور كبير ولا صغير، فوق ولا تحت، كله جسم سواء، فما نعبد شيء من الأجسام، لا نعبد كعبة، ولا نعبد عرش، ولا نعبد كرسي، ولا نعبد سماء، ولا نعبد أرض، ولا إنسان ولا حيوان ولا نبات ولا أي جسم من الأجسام؛ نعبد الله الذي ((ليس كمثله شيء))، الفاطر المبدع الخالق الذي كان قبل كل شيء سبحانه، الأول الآخر الظاهر؛ هذا هو إله نعبده.
قال: ((مستوٍٍ على عرشه على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده))، بل رأى بعض علماء السلف حتى ابقاء اللفظ على ما وردًَ في القرآن من دون تصريف فيه، فاستوى بس قل: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]؛ وأن الرحمن على عرشه استوى، حتى لفظ الرحمن في هذا الموطن أنسب للمعنى المراد، فلا تستعمل شيء من الأسماء الأخرى؛ لأنه ورد هكذا. وهكذا ما تتصرف في لفظة، يستوي، أو إلى تصريفها الفعلي أو تصريفها اللفظي مستوٍ وما إلى ذلك، توقف فيه بعض السلف في جوازه ومع ذلك كله فإذا قُصِد المعنى الذي أراده الله فلا إشكال في هذا، ((مستوٍ على عرشه على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده)) استواءً لا جسمانيًا ولا مكانيًا ولا حسيًا، ((يليق بعزِّ جلاله، وعلو مجده وكبرياته)).
وهكذا عوام المؤمنين في الشرق والغرب يقرؤون (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]؛ لا يتبادر إلى أذهانهم تشبيه ولا تمثيل، ولا غير ذلك، يأتي بعض الناس يقولون: لابد تؤمن أنه استوى؛ لا استواء مستوٍ، استواء مستوى، اترك العامي بحاله!! لا تفتح له باب التصور، طول عمره ما قرع ذهنه وهو على إيمان كامل صافي، نقول له: (يد الله) فهي يد ويثبت لله اليد! ما عاد باقي إلا يثبت أن ربه جسم أمامه كذا!! أيدي وعيون وأرجل -ولا حول ولا قوة إلا بالله-؛ فيبعثون على الناس فتنة، والناس في سلامة منها (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، فتبقى على ما ذكر الله سبحانه وتعالى. والمستحيل مستحيل وهو مشابهة الكائنات وواجهة واحتياجه إلى مكان، العرش محمول به سبحانه وتعالى، و يمسك العرش ويمسك حتى السماء (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا) [فاطر:41]، والمَسك والاستواء كلها أمور بعيدة عن الحسيات، بعيدة عن الجسمانيات، بل معاني لائقة بربي سبحانه وتعالى، ولهذا الإله وأوصافه فهو يمسك السماوات، ويمسك الأرض أن تزولا (وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) [فاطر:41]، ما حد يقدر يمسكها.
يقول: ((وأنه تعالى قريب من كل موجود)) لمن؟ لأنه موجده والقائم عليه والمحيط به والمدبر لأمره والمتصرف فيه. كل ذرة من ذرات الموجود فوقها عين الله؛ بالقدرة، بالإيجاد، بالتدبير، بالإمداد، بالإبقاء إلى الوقت، بالأجل بالتوقيت فوقه، إذًا هذا القرب قرب عظيم معنوي لا قرب مسافة ولا قرب أجسام، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق:16]. وإذا كان هذا العرق الذي يحمل الدم يقف في وسط عنقك، حبل الوريد، يوزع الدم على جميع الجسد وسط عنقك داخل، كم قربه منك؟ هو لو كان خارج سترى المسافة بينك وبينه سنتيمتر، اثنين، ثلاثة ؟؟ لايوجد هذا الكلام، هو وسطنا ا(ويشير إلى عنقه)، فانتفت المسافة، ماشي مسافات، انتفت المسافة وانتفت الحسيات، أقرب، وما هو مثل هذا؛ لأنه لا يماثله شيء، هذا وسط رقبتك قريب منك ولا بعيد؟؟ وسط رقبتك، كيف بعيد؟!! مثلي!! حاشاه أن يكون مثلي، أقرب، فإيش من قرب هذا؟؟ ((أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))؛ أقرب إليك من كل شيء، أقرب إليك من نفسك، أقرب إليك من عينك، أقرب إليك من أذنك، أقرب إليك من لسانك، أقرب إليك من قلبك، أقرب إليك من يدك، أقرب إليك منك كلك، أقرب إليك من كل شيء.
الله ، قُرب أُلوهية ، قُرب ربوبية ، قرب قدره ، قرب إحاطة، قرب رقابة ، قرب إطلاع ، قرب تصرف قرب تدبير؛ قرب معنوي، أقرب من كل شيء، ((قريب من كل موجود)) إيش من قرب هذا؟؟ هذا القرب اللائق بجلال الله تبارك وتعالى، هذا هو المستعمل في لغة العرب يقولون: فلان أقرب إلى فلان من فلان، فيأتي فيجد الذي قالوا أقرب في بلاد ثانية وذاك الذي قالوا إنه أبعد جالس عنده في البيت!! ، المسألة ليست مسافة! المسأله ليست مسافة؛ هذا قُرب معنوي؛ أقرب إليه محبة، رحمة، توافقًا، إرادة إفضال إلى غير ذلك، فكذلك قرب الله من الكائنات كلها، قربه قُرب ألوهية، قرب ربوبية ، قرب إحاطة ، قرب إرادة ، قرب رؤية ، قرب سمع ، قرب إطلاع ، قرب إحاطة ، قرب عظيم ، ولا شيء يكون أقرب منه ، ولا يمكن اصلا؛ لأنه ما في غيره يحيط بك هذه الإحاطة، ولا يطَّلع عليك هذه الإطلاعة، ولا يتصرف فيك هذا التصرف ،
باقسم يمين قطاعة ** ما حد يحرك باعة
في معصية أو طاعة** إلا إن حركها الله
ما تطرف عين إلا بإذنه ، ما تبث شفاه إلا بإذنه ، ولا يلتفت رقبتك ، ولا ترفع إصبعك ولا يخرج ولا تقم رجلك ولا تقعد الا بإذنه، بأمره ، فمن أقرب إليك منه !! ولا شيء !! (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) لا إله إلا الله .
قال: ((وعلى كل شيءٍ رقيب))، رقيب يعني عليم حافظ، يرقب كل شيء سبحانه، فإذا علمتَ الحق ((قريب))، فعندك معنى من التقرب إليه فيما بينك وبينه، فاقرب إليه، فهو إليك أقرب. كل ما يوصف بالعبد والحجاب راجع الى العبد نفسه، العبد بعيد، العبد محجوب، أما الرب لا يحجبه شيء، ولا يبعد عن شيء، ولكن هم يبعدون عنه سبحانه وتعالى، أُقرب إليه فهو إليك أقرب، إذا كان الأمر كذلك، كن قريبًا من أوامره، قريبًا الى رضاه من الانتهاء والبعد عن زواجره ، فهذا وظيفة العبد في معنى القريب.
كذلك الرقيب: الذي يعلم الشيء ويراقبه، أي يكون حفيظ عليه، منتبه منه، رقيب. فما من ذرة في الكائنات إلا والله فوقها رقيب، لا ينسى شيء، ولا يغيب عنه شيء، ولا يفوته شيء سبحانه؛ هذه رقابة عظيمة لا أحد يصلها، لكن حظ العبد منها يكون رقيب، يعلم أن هذا الإله هو رقيب يحتاج منه مراقبة، يكون هو رقيب من أجل هذا الرقيب، على سمعه وبصره، يعرف أن عنده عدو، نفس وشيطان، مهمتهما أن يبعدونه عن الإله، يحولون بينه وبين إلهه، يحجبونه عن هذا الرقيب، فهو فتح عينه حتى يقع رقيب، كل ما يجيء منهم خبر (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف:201]، فيكون على علم بمكامنهما بأبواب النفس والشيطان وبالدسائس بالتلبيسات، كيفية الوساوس يكون عليم، محافظ على نفسه منها، ما يقبلها، فهذا حظ العبد من اسم ربه الرقيب، فيراقب أنفاسه وأحواله حتى لا يخرج منهما شيء عن طاعة الرقيب؛ لأن الرب رقيب عليه.
((وعلى كل شيءٍ رقيب))، لا يغفل عنه ولا ينساه، قال تعالى: ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ) [المجادلة:6]، هم نفسهم العاملين نسوه، لكن هذا رقيب فوقهم (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم:64]، (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَ * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى) [طه:51-52] جلّ جلاله، ( لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوۡمࣱ ) [البقرة:255]. وبعد ذلك الرقابة عند الخلائق تجد فيها أنواع من الخلل، في المستوى الذي هم فيه، في خلل موجود، وفي تقصير، ساعة ينام وألّا ما شي إلا يتناوبون، واحد يرقد وواحد يقوم؛ رقابات خلقية، لكن هذه رقابة رقابة ، يا الله ألطف بنا وارأف بنا واغفر لنا وسامحنا ولا تآخذنا ولا تفضحنا ، ياحي يا قيوم.
يقول: ((على كل شيء رقيب وشهيد)) حاضر، قال تعالى : (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) [الأعراف:7]، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) [الحديد:4]، ويقول (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) [يونس:61]، فهو عليم وهو حفيظ وهو رقيب وهو شهيد، على كل شيء، حاضر (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) [الأعراف:6-7]، فما أعظم شأن المراقبة لله؛ وهو مفتاح باب الإحسان؛ أن تستشعر اطلاعه على ضميرك، خاطرك، قصدك، نيتك، أن تستشعر أنه مطلع عليه، هذا مفتاح باب الإحسان، حتى تصير تعبد الله كأنك تراه. فيتم لك الحضور مع الله كما أنه حاضر معك محيط، أنت واجب بقدرك لا تغفل عن هذا الحاضر المحيط، فتستشعر اطلاعه عليك وهذا مفتاح الحضور مع الله ومفتاح الإحسان، أن تستشعر اطلاعه عليك، تقرر هذا في ذهنك وضميرك وتدوم عليه، حتى يشتمل على وقتك كله وحالك استشعار اطلاعه عليك ، إحاطته بك واطلاعه على ضميرك، وسريرتك، وخواطرك، مقاصدك، نياتك ووجهتك ، لا يوجد فرق عنده بين سر وعلانية، غيب وشهادة، ظاهر و باطن، الذي يهجس في خاطرك والذي تتكلم به بلسانك عنده سواء، يقول سبحانه وتعالى (سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ) [الرعد:10]، بل علمه بما سيخطر على بالك مما لم تعلمه أنت بعد، مثل علمه بالذي خطر وبالذي ظهر، فالظاهر منك والمستور وسط باطنك، محيط به علمًا، ومحيط علما بما سيطرأ عليك مما لا تعلمه أنت (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، لا إله إلا الله .
قال: ((وشهيد حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم))، مراتب في الحياة عندنا، عندنا حتى نسمي بعض الجمادات نقول هذا حي، ويقول جاؤوا واحيوا أجهزتنا هذا كلها، كيف هي حية؟؟ وهي جمادات، فالإذاعة الفلانية حية والقناة الفلانية حية، يعني حية أفعى!! وليس فيها حياة، بعض القنوات حيات، أفاعي، وبعضها حية يعني مزدهرة نشيطة لها متابعين مرابطين، وفيها تحديث وبرامج، حية حياة، تجيء إلى عند النبات نقول للشجرة حية والأخرى ماتت، يجيء معنى ثاني، فتجيء بعده عند الحيوانات نقول حي وميت، وبعد ذلك حياة بصحة بنشاط بقوة، و حياه، نقول: كيف فلان؟ يقول لا حي ولا ميت ؟ كيف لا حي ولا ميت؟! يعني حياة فوقها ضعف وعجز، الحياة درجات ليست هكذا، وهكذا إذا جئنا إلى أعلى معاني الحياة، أن لا يوجد شيء إلا بأمره، وأن يكون هو الموجود له، وأن لا يعزب عن علمه منه شيء، الله هذا حياة ذا، هذا الله الحي بهذه الحياة ، الحياة الكبرى هذه ، أنه ما يكون شي كائن إلا بأمره وبتكوينه؛ وهو رقيب عليه ومحيط به ومتصرف فيه وعالم بكل شيء منه؛ هذه حياة هذه، هذه حياة أعلى المعاني، وما توجد لغير الله؛ فهو الحي، لا إله إلا الله.
الحي القيوم، فمرتبة العبد أن يبحث عن حياة قلبه، ويحيى بالعلم ويدرك الحياة في درجاتها التي يتصل العبد إليها فيطلب درجاتها، كان سيدنا/ علي يقول -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-:
فَفُزْ بِعِلْمٍ تِعِش حَيًّا بِه أَبَدا ** النَّاسُ مَوتى وأَهلُ العِلمِ أَحْيَاءُ
لتفضيل حياة الروح والقلب على حياة الجسد، يقول قائلهم:
لَيسَ مَن ماتَ فَاِستَراحَ بِميت *** إِنَّما المَيت ميت الاِحياء
ويقول:
وَفي الجَهلِ قَبلَ المَوتِ مَوتٌ لِأَهلِهِ *** وَأَجسادُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ
هذا قبر يتحرك يمشي، فيه روح ميت، مات عقله، مات روحه، مات قلبه، والجسد هذا قبره يمشي فيه؛ قبر متحرك لا حول ولا قوة إلا بالله، فأجسادُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ؛ قبرت فيها الأرواح، قُبرتْ فيها القلوب، قُبِرتْ فيها حقائق المعاني ما تحس بشيء، والعياذ بالله. قال تعالى : (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام:122]، وفي الحديث: "سَتَكُونُ فِتَنٌ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ"، فنور من أنوار العلم يبقى به الإيمان واليقين فيحيى، ويبقى حي عند الفتن التي يكفرون الناس فيها ويحيدون عن سواء السبيل، يبقى بسبب العلم حي، اللهم احي قلوبنا.
((حيٌ قيوم))، يعني قائم على كل شيء، في تصرفه، في خلقه، في ايجاده، في لونه، في وزنه، في تصرفاته، في أجله وعمره. قائم يعني: خلق المملكة وما سلمها اأحد أغيره يرعى فيها ويتصرف فيها، (قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الرعد:33]، وقائم وعلى جميع الجبال والأشجار والأحجار والهواء والأسماك والبحار و البروج والكواكب والنجوم والشمس والقمر والسماوات والملائكة والانبياء والارواح والجنة والناروالعرش والكرسي، وكل ما سواه هو قيوم فوقه (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255]، ولهذا يقول لنا في الآية: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [الأحقاف:4]، ايش من قطعة من الأرض هم خلقوها اوهم قائمين عليها وليس ؟! فليعينوا لنا قطعة من الارض؟!! قرية أو مدينة هم خلقوها وليس الله خلقها!! ممكن؟!! إذ ما في قارة، مدينة، ما في قرية، نريد مكان بيت هم خلقوه؟! هم خلقوا المكان هذا؟! من هم هؤلاء !!! لا يوجد !! (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)؟ -لايوجد- (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) [الأحقاف:4]، في الأولى ولا الثانية ولا الثالثة هل لهم مشاركة في خلقها؟!! تابعة للدولة الفلانية أو للشركة الفلانية أو للمؤسسة الفلانية أو للصنم الفلاني؟!! هل لهم محل في السماء؟!! (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ)؛ ما خلقوا شيء في الارض، وليس لهم شِرك في السموات، فلماذا تعبدونهم؟؟
هو القيوم لا اله إلا هو، قال: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة:255]، السنه: غفوه من النوم، أول النوم هو السِنة ((بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) [البقرة:117]، أي الذي ابتدعها وانشاها من غير مثال سابق. (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [البقرة:117]، عبر عن الإرادة بقوله: (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن)، قول (كُن) هنا بمعنى الإرادة، أي يريده فيكون، بمجرد إرادته يكون ما أراد كان، وليس المراد لفظة (كُن) بل المراد أنه يريده يحصل، وكل ما أراده حصل، "مَا شَاءَ اللهُ كَانَ"، فهذا معنى (لَهُ كُن فَيَكُونُ)، ما شاء الله كان، أي الذي يشاء يَكُونُ، قال سيدنا/ الشافعي في أبياته يخاطب الرب :
مَا شِئْتَ كَانَ، وإنْ لم أشَأْ *** وَمَا شِئْتُ إن لَمْ تَشأْ لَمْ يكنْ
خَلقْتَ العِبَادَ لِمَا قَدْ عَلِمْـــــتَ *** فَفِي العِلْمِ يَجري الفَتَى وَالْمُسِنْ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ، وَمِنْهُمْ سَعِيد *** وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ، وَمِنْهُمْ حَسَــــنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ، وَهَذا خَذلْتَ *** وذاكَ أعنتَ، وذا لــــم تُعِــــنْ
سمعتم قصة العامي المؤمن الموحد، قصد بعض أرباب المسؤوليات، له حاجه، فرده فخرج من عنده وهو عند الباب يخاطب ربه، يقول له: يا ربي لما أنت ما أردت ..هذا عبدك ماعمل لي شيء؛ لأنك أنت ما أردت، وبينما هو يتكلم مع ربه، قلْب المسؤول تحرَّك، فقال : ردوا الرجل، فسأله : ماذا تقول ؟ قال : كذا وكذا فقال: تفضل ومشَّاه، فلما خرج وقال: "شفت لما أردتَ حرَّكتَ لي قلبه" إرادتك هي، وإلّا هو عبدٌ مملوك عنرما أردتَ تحرك قلبه، على رغمي ورغمه ولمّا ما أردت ولا أنا قدرت ولا هو قدر يصلح شيء، والآن عندما أردت .. والأمر هكذا "مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ"، (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:28-29]، هو الذي يسلِّضط الدواعي لأن يفعل هذا، و أن يترك على ذا وذا، يقول الله سبحانه وتعالى: (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) [الإسراء:54].
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الإسراء:55]، لا إله إلا هو، فعسى يعاملنا بفضله ويوفقنا لما يحبه منا فضلًا وجودًا، اللهم ارزقنا كمال الإيمان اللهم ارزقنا كمال الإيمان اللهم ارزقنا كمال اليقين اللهم ارزقنا حقائق التوحيد، اللهم ارفعنا أعلى مراتب القرب منك والدنو إليك مع خاصة عبادك وأنت راض عنا في خير ولطف وعافية برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله والأصحاب
الفاتحة
04 شوّال 1436