شرح موطأ الإمام مالك - 342 - كتاب البيوع: باب بَيْع الطّعام بالطّعام لا فَضْلَ بينهما

شرح موطأ الإمام مالك - 342 - كتاب البيوع: باب بيع الطعام بالطعام لا فضل بينهما
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب بَيْع الطّعام بالطّعام لا فَضْل بينهما.

فجر الثلاثاء 12 شعبان 1443هـ.

باب بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا

1884 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ قَالَ: فَنِيَ عَلَفُ حِمَارِ سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ لِغُلاَمِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ، فَابْتَعْ بِهَا شَعِيراً، وَلاَ تَأْخُذْ إِلاَّ مِثْلَهُ.

1885 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَنِيَ عَلَفُ دَابَّتِهِ، فَقَالَ لِغُلاَمِهِ : خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ طَعَاماً، فَابْتَعْ بِهَا شَعِيراً، وَلاَ تَأْخُذْ إِلاَّ مِثْلَهُ.

1886 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مُعَيْقِيبٍ الدَّوْسِىِّ مِثْلُ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.

1887 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنْ لاَ تُبَاعَ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَلاَ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَلاَ الْحِنْطَةُ بِالتَّمْرِ، وَلاَ التَّمْرُ بِالزَّبِيبِ، وَلاَ الْحِنْطَةُ بِالزَّبِيبِ، وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ كُلِّهِ إِلاَّ يَداً بِيَدٍ، فَإِنْ دَخَلَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ الأَجَلُ لَمْ يَصْلُحْ، وَكَانَ حَرَاماً، وَلاَ شَيْءَ مِنَ الأُدْمِ كُلِّهَا إِلاَّ يَداً بِيَدٍ.

1888 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ وَالأُدْمِ، إِذَا كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، فَلاَ يُبَاعُ مُدُّ حِنْطَةٍ بِمُدَّيْ حِنْطَةٍ، وَلاَ مُدُّ تَمْرٍ بِمُدَّيْ تَمْرٍ، وَلاَ مُدُّ زَبِيبٍ بِمُدَّيْ زَبِيبٍ، وَلاَ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْحُبُوبِ وَالأُدْمِ كُلِّهَا، إِذَا كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ يَداً بِيَدٍ، إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ, لاَ يَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلُ، وَلاَ يَحِلُّ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَداً بِيَدٍ.

1889 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ، فَبَانَ اخْتِلاَفُهُ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَداً بِيَدٍ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُؤْخَذَ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ، وَصَاعٌ مِنْ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ زَبِيبٍ، وَصَاعٌ مِنْ حِنْطَةٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ سَمْنٍ، فَإِذَا كَانَ الصِّنْفَانِ مِنْ هَذَا مُخْتَلِفَيْنِ، فَلاَ بَأْسَ بِاثْنَيْنِ مِنْهُ بِوَاحِدٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَداً بِيَدٍ، فَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ الأَجَلُ فَلاَ يَحِلُّ.

1890 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ تَحِلُّ صُبْرَةُ الْحِنْطَةِ بِصُبْرَةِ الْحِنْطَةِ، وَلاَ بَأْسَ بِصُبْرَةِ الْحِنْطَةِ بِصُبْرَةِ التَّمْرِ يَداً بِيَدٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُشْتَرَي الْحِنْطَةُ بِالتَّمْرِ جِزَافاً.

1891 - قَالَ مَالِكٌ: وَكُلُّ مَا اخْتَلَفَ مِنَ الطَّعَامِ وَالأُدْمِ، فَبَانَ اخْتِلاَفُهُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُشْتَرَي بَعْضُهُ بِبَعْضٍ جِزَافاً، يَداً بِيَدٍ، فَإِنْ دَخَلَهُ الأَجَلُ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا اشْتِرَاءُ ذَلِكَ جِزَافاً, كَاشْتِرَاءِ بَعْضِ ذَلِكَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ جِزَافاً. وَذَلِكَ أَنَّكَ تَشْتَرِي الْحِنْطَةَ بِالْوَرِقِ جِزَافاً، وَالتَّمْرَ بِالذَّهَبِ جِزَافاً، فَهَذَا حَلاَلٌ لاَ بَأْسَ بِهِ.

1892 - قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ صَبَّرَ صُبْرَةَ طَعَامٍ، وَقَدْ عَلِمَ كَيْلَهَا، ثُمَّ بَاعَهَا جِزَافاً، وَكَتَمَ الْمُشْتَرِي كَيْلَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، فَإِنْ أَحَبَّ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ عَلَى الْبَائِعِ، رَدَّهُ بِمَا كَتَمَهُ كَيْلَهُ وَغَرَّهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عَلِمَ الْبَائِعُ كَيْلَهُ وَعَدَدَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ جِزَافاً، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ رَدَّهُ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ.

1893 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ خَيْرَ فِي الْخُبْزِ قُرْصٍ بِقُرْصَيْنِ، وَلاَ عَظِيمٍ بِصَغِيرٍ، إِذَا كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ يَتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُوزَنْ.

1894 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَصْلُحُ مُدُّ زُبْدٍ وَمُدُّ لَبَنٍ بِمُدَّيْ زُبْدٍ، وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي وَصَفْنَا مِنَ التَّمْرِ، الَّذِي يُبَاعُ صَاعَيْنِ مِنْ كَبِيسٍ، وَصَاعاً مِنْ حَشَفٍ بِثَلاَثَةِ أَصْوُعٍ مِنْ عَجْوَةٍ، حِينَ قَالَ لِصَاحِبِهِ: إِنَّ صَاعَيْنِ مِنْ كَبِيسٍ بِثَلاَثَةِ أَصْوُعٍ مِنَ الْعَجْوَةِ لاَ يَصْلُحُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ لِيُجِيزَ بَيْعَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ صَاحِبُ اللَّبَنِ اللَّبَنَ مَعَ زُبْدِهِ، لِيَأْخُذَ فَضْلَ زُبْدِهِ عَلَى زُبْدِ صَاحِبِهِ، حِينَ أَدْخَلَ مَعَهُ اللَّبَنَ.

1895 - قَالَ مَالِكٌ: وَالدَّقِيقُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، لاَ بَأْسَ بِهِ، وَذَلِكَ لأَنَّهُ أَخْلَصَ الدَّقِيقَ، فَبَاعَهُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلَوْ جَعَلَ نِصْفَ الْمُدِّ مِنْ دَقِيقٍ، وَنِصْفَهُ مِنْ حِنْطَةٍ، فَبَاعَ ذَلِكَ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ، كَانَ ذَلِكَ مِثْلَ الَّذِي وَصَفْنَا لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ فَضْلَ حِنْطَتِهِ الْجَيِّدَةِ، حِينَ جَعَلَ مَعَهَا الدَّقِيقَ، فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرمِنا بشريعتِه الغرّاء، وبيانِها على لسانِ خيرِ الورى، سيدِنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه في كل لمحةٍ ونفَسٍ وعلى آله مَن خُصُّوا به وحُظوا به طُهرا، وعلى أصحابِه مَن أُكرموا به وأُعلوا قدرا، وعلى مَن تبعَهم بإحسانٍ وجرى بمَجراهم خيرِ مجرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكةِ الله المقربين وجميعِ عبادِ الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

يقول الإمام مالك: "باب بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا"؛ أي: إذا كانا من جنسٍ واحد، وهذا يتعلق بما تقدم الكلام فيه في بعض الأبواب؛ أنَّ بيعَ المطعوم بالمطعوم والنقدِ بالنقدِ تلزَمُ فيه شروطٌ وكيفيةٌ لا تتصلُ ببقية العقود في البيوع والشراء، ولكنْ بيعُ النقد بالنقد والطعامِ بالطعام.

  • وكانت العلّةُ الطَّعميةَ والنقديةَ عند الشّافعية.

  • كما كانت العدَّ والكيلَ والوزنَ عند الحنفية.

 إلى غير ذلك مما قد تقدم معنا بعضُ الكلام فيه.

 والخلاصةُ:

أنّ أصنافَ الرِّبا الثلاثةَ في البيع والشراء مخصوصةٌ بالمطعومات والنقود، أي في بيع الطعامِ بالطعام والنقدِ بالنقد، فهذه إن كانت من جنسٍ واحد كدرهم بدرهم أو دينارٍ بدينار؛ يعني: ذهبٍ بذهب أو فضةٍ بفضة، أو بُرٍّ ببر أو ذرةٍ بذرة أو شعير بشعير إلى غير ذلك من أصناف الطعام، فإن كان من جنسٍ واحد فلا بد من ثلاثة شروط عند البيع: الحلول، والتقابض، والمماثلة. 

  • الحلول: أن يكون حالّاً لا مُؤجلاً، لا من قِبَلِ هذا ولا من قِبل هذا، بل حاضر 

  • ومع كونه حالّاً؛ المماثلة: بأن يكون هذا مثل هذا سواءً كان كيلًا أو وزنًا، لا يزيد هذا على هذا ولا هذا على هذا، فإن كان في زيادةٌ من أحد الطرفين فهو الربا.

  • والثالث: التقابضُ في المجلس: أن لا يتفرّقَا حتى يقبضَ هذا ما باعه وهذا ما اشتراه، ويذهبان.

 فصارت ثلاثة شروط.

  • فبِنقصِ الشرطِ الأول وهو عدمُ المماثلة يسمى ربا الفضل، يعني ربا الزيادة.

  •  وبالبيع مؤجلاً يسمى ربا النَّسيئة.

  • وإذا باع من دون زيادة ولا نسيئة ولكن تفرقا قبل أن يتقابضا في المجلس سُمّيَ ربا اليد.

 فصار عندنا ربا الفضل وربا النسيئة وربا اليد؛ فهذه ثلاثة أنواع، تأتي في بيع المطعوم بالمطعوم والنقدِ بالنقد.

بقي بعد ذلك نوعٌ رابع من الربا لا يتعلق بالبيع ولا بالشراء، ولكن بالدَّيْن؛ بالقرض؛ وهو أن يُقرض الآخر شيئًا من المال ثمّ يشترط عليه منفعة، إمّا أن يرد إليه زيادة، أو أن يخدمه خدمةً، أو أن يعمل له عملاً، إلى غير ذلك من المنافع، فـ "كلُّ قرضٍ جرّ منفعةً فهو ربا"، فلا يجوز ذلك. 

إذًا؛ فهذه أنواع الربا الأربعة:

  1.  ربا الفضل 

  2. وربا النسيئة 

  3. وربا اليد 

  4. وربا القرض

 لها شُعَب، بضعٌ وستون شعبة، أدناها في الإثم مثل أن ينكحَ الرجل أمه -والعياذ بالله تعالى-. و "أربى الربا استطالةُ الرجلِ في عرض أخيه" المسلم، مِن أربى الربا، فإطلاق اللّسان بالسبّ والشتم على المسلمين من أخطر الذنوب، وأكبرِ المعاصي، التي يُخشى على صاحبها غضبُ الجبار وشدةُ العذاب.

 يقول -عليه الرضوان- عن سيدنا سعد بن أبي وقاص: "فَقَالَ لِغُلاَمِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ،"؛ أي: بُرِّهم  "خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ، فَابْتَعْ بِهَا شَعِيراً، وَلاَ تَأْخُذْ إِلاَّ مِثْلَهُ". 

وفي هذا مسألة، أنّ البُرّ والشعيرَ هل هما جنسٌ واحد أو جنسان؟

  •  الجمهور قالوا: هما جنسان، هذا جنس وهذا جنس، فإذا باع بُرّاً بشعير أو شعيراً ببر يجوز أن يتفاضل.

  •  وقال الإمام مالك: بل الشعير من جنس البر. بل وفي قول عنده السُّلت، فالشعير والسُّلت عنده ضمَّها إلى جنس البر فجعلها جنسًا واحداً، لا يجوز البيع فيها إلا بالتماثل.

 وقال الجمهور: بل هما صنفان، البرُّ صنف والشّعير صنف آخر، والسُّلتُ صنف ثالث كذلك مستقل، كذلك الذرة والدُّخْن والأرز كلُّ واحدٍ منها صنفٌ.

 إذًا؛ 

  • فإذا كانت جنسًا واحدًا حرم التفاضل ووجبت المماثلة،

  • وإن كان من أجناس مختلفة يجوز التفاضل، ولكن ما دام مطعوم بمطعوم أو نقد بنقد لا بد من الحلول والتقابض في المجلس.

 يقول: "فَابْتَعْ بِهَا شَعِيراً، وَلاَ تَأْخُذْ إِلاَّ مِثْلَهُ"، وهذا مذهب سيدنا سعد بن أبي وقاص كمذهب مالك أنّ الشعير والحِنطة جنسٌ واحد لا بد فيه من المماثلة. 

وذكر أيضًا عن "عَبْد الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ"، هذا اختُلف في صُحبته، هو وُلد في زمن النبي ﷺ، ووالده هذا الأسود بن عبد يغوث كان من المستهزئين برسول الله ﷺ، ومات قبل الهجرة، وفيه نزل قوله: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر:95]. يقول: "فَنِيَ عَلَفُ دَابَّتِهِ"، فلما كمُل علف دابته أراد أن يشتري علفًا للدابة "فَقَالَ لِغُلاَمِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ طَعَاماً،" وكثيرًا ما يُطلق الطعام على هذا البُر "فَابْتَعْ بِهَا شَعِيراً، وَلاَ تَأْخُذْ إِلاَّ مِثْلَهُ" وهذا أيضًا يوافق مذهب الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى-.

 وذكر لنا أيضًا: "عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مُعَيْقِيبٍ الدَّوْسِىِّ مِثْلُ ذَلِكَ"؛ أي: مثل الذي رُوي عن سعد وعبد الرحمن من شراء الشعير بالحنطة سواءً مِثلاً بمثل. "قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ" المُرجَّحُ "عِنْدَنَا" فإنّه المشهور في مذهبه، وهو قوله أيضًا في الموطأ، وقيل إنّهما جنسان أيضًا عند مالك.

 وكما علمت أنّ الجمهور يقولون: إنّهما جنسان، وليس البُر كالشعير ولا الشعير كالبر.

 ثم "قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا"؛ أي: في المدينة "أَنْ لاَ تُبَاعَ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَلاَ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَلاَ الْحِنْطَةُ بِالتَّمْرِ، وَلاَ التَّمْرُ بِالزَّبِيبِ، وَلاَ الْحِنْطَةُ بِالزَّبِيبِ، وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ كُلِّهِ إِلاَّ يَداً بِيَدٍ"؛ أي: وإن اختلف الجنس فلا بد أن يكون حالّاً ويتقابضا في المجلس، "إِلاَّ يَداً بِيَدٍ" كما جاءنا في الحديث؛ لا تبع البر بالبر، والشعير بالشعير  إلا يداً بيد، هاءً بهاء. قال: "وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ كُلِّهِ إِلاَّ يَداً بِيَدٍ، فَإِنْ دَخَلَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ الأَجَلُ لَمْ يَصْلُحْ"؛ أي: لا يجوز، لما نهى عنه ﷺ، فيصير "وَكَانَ حَرَاماً" لأنّ النَّسأ والأجلَ في بيع المطعوم بالمطعوم والنقد بالنقد حرامٌ. "وَلاَ شَيْءَ مِنَ الأُدْمِ" الأُدم؛ يعني: أنواع ما يُعدُّ إِدامًا للطعام "إِلاَّ يَداً بِيَدٍ"؛ يعني: الإِدام مثل الطعام ما يُؤتدم به، فهو من جنس الطعام الذي يشمل كلَّ مطعومٍ ومأكولٍ للبشر.

"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ" بجميع أنواعه "وَالأُدْمِ" -لأنّه من الطعام، الإِدام من الطعام- "إِذَا كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، اثْنَانِ بِوَاحِدٍ" لا يجوز، أي: بتفاضل "فَلاَ يُبَاعُ مُدُّ حِنْطَةٍ بِمُدَّيْ حِنْطَةٍ" عنده باثنين لا يمكن ولا مُدّيّ تمر بمد تمر، ولا مُدّيّ زبيب بمدّ زبيب وما أشبه ذلك من جميع الحبوب الأُخَر وأنواع الإِدام  "إِذَا كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ يَداً بِيَدٍ، إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ" بيع "الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، لاَ يَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلُ"؛ أي: الزيادةُ في أحد الطرفين أبدًا. "وَلاَ يَحِلُّ" يعني البيع فيهما "إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ" متساويًا "يَداً بِيَدٍ"؛ يعني: المناجزة، فهذه الأشياء المذكورة، قال سيدنا عمر: من لم يتفقّهْ في ديننا فلا يبِعْ في سوقنا.

 "قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا اخْتَلَفَ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ، مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ، فَبَانَ اخْتِلاَفُهُ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ" لِمَاذا؟ ما دام مختلف ليس من نفس الجنس، إذا اختلف جنسُ ما يُكال؛ إذا اختلف؛ يعني: بُرٌّ بذرة أو ذرةٌ بشعير، اختلف ما يكال أو يوزن مما يؤكل، يعني: اختلف الجنس "فَبَانَ" ظهر "اخْتِلاَفُهُ"، يكون اختلافُ الجنسيةِ فيه بيّن واضحً "فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ"؛ يعني: مُدَّين بمدّ، ومدٌّ أو مُدّين بثلاثة أمداد، ومدّ بمدّين وهكذا، يجوز التفاضل "فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَداً بِيَدٍ"؛ بشرط أن يكون يداً بيداً، ما دام مطعومات أو نقد لا بُدّ من الحلول والتقابض "وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُؤْخَذَ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ، وَصَاعٌ مِنْ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ زَبِيبٍ، وَصَاعٌ مِنْ حِنْطَةٍ"؛ أي: من بُرّ "بِصَاعَيْنِ مِنْ سَمْنٍ"؛ لأن الجنس اختلف. "فَإِذَا كَانَ الصِّنْفَانِ مِنْ هَذَا مُخْتَلِفَيْنِ، فَلاَ بَأْسَ بِاثْنَيْنِ مِنْهُ بِوَاحِدٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ" أو أقل، لكنْ بشرط أن يكون "يَداً بِيَدٍ" يعني حالّاً غيرَ مؤجل، "فَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ الأَجَلُ" أجّلَّ تسليمَ أحدِ العِوَضَين "فَلاَ يَحِلُّ"

إذًا؛ بيع طعام أو غيره بالدراهم هذا يجوز فيه الأجل، ولكنْ بيعُ طعام بطعام أو نقدٍ بنقد فاشترط الشارع فيه أن يكون حالّاً، وأن يتقابضا في المجلس وإلاّ صار ربا.

 "قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ تَحِلُّ صُبْرَةُ"؛ يعني: رُكمة من الطعام، كومة حنطة "بِصُبْرَةِ الْحِنْطَةِ" هذا ما يصح؛ لأنه ما يُعرف فيه التماثل يقول بالتقريب هذه كهذه! ما يتأتى هذه كهذه لا بدَّ من كيل فيها حتى يستويَ كيلُ هذا بكيل هذا. "وَلاَ تَحِلُّ صُبْرَةُ الْحِنْطَةِ بِصُبْرَةِ الْحِنْطَةِ"؛ لأنً احتمالَ عدمِ المماثلة قويٌّ، والجنسُ واحد، وهكذا. 

وإذا باع بعضًا ببعض جِزافًا أو من أحد الطرفين كان جزافًا لم يجزْ، وهذا مجمعٌ عليه بين أهل العلم لا بدّ من التماثل. وفي صحيح مسلم: "نهى رسول الله ﷺ عن بيع الصُبرة من التمر لا يُعلم مَكيلها بالكيل". كذلك إذا كان عنده رُكمةٌ من دراهمَ بركمةٍ من دراهمَ، أو ركمةٌ من دنانيرَ بركمةِ دنانيرَ لا يصح، لا بد أن يكون الوزنُ واحد، كما يجب أن يكون الكيلُ واحد في الطعام، وكذلك في النقد يجب أن يكون الوزن واحد.

 قال: "وَلاَ بَأْسَ بِصُبْرَةِ الْحِنْطَةِ بِصُبْرَةِ التَّمْرِ" لأنّ هذا يجوز التفاضلُ فيه؛ لأنه جنسٌ آخرُ، فيجوز التفاضل فيه، هذا عنده رُكمةٌ من تمرٍ وهذا عنده رُكمةٌ من الحنطة، وقال: أبيعك هذه الحنطة حقي  بالتمر الذي لك، قال: رضيت بعتُك، واشتريت، فكل واحد يأخذ حقه، لأنه مُشاهَد لهم، وإنْ تفاضلَ فلا يضرُّ التفاضل، لأن هذا جنسٌ وهذا جنسٌ آخر، بشرط أن تكون "يَداً بِيَدٍ"، "وَذَلِكَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ" يعني يجوز "أَنْ يُشْتَرَي الْحِنْطَةُ بِالتَّمْرِ جِزَافاً" لأنّه لا يُشترط التماثل.

"قَالَ مَالِكٌ: وَكُلُّ مَا اخْتَلَفَ مِنَ الطَّعَامِ وَالأُدْمِ، فَبَانَ"؛ أي: ظهر "اخْتِلاَفُهُ"، مثل: التمر والبرّ كذلك، "فَبَانَ اخْتِلاَفُهُ" بخلاف مثل السُّلتِ والذرة لا يبين اختلاف بينهم، "فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُشْتَرَي بَعْضُهُ بِبَعْضٍ جِزَافاً، يَداً بِيَدٍ"، اختلف جنسه فبان اختلافُه، "فَإِنْ دَخَلَهُ الأَجَلُ"، صار البيعُ نسيئةً "فَلاَ خَيْرَ فِيهِ"؛ أي: حرام، "وَإِنَّمَا اشْتِرَاءُ ذَلِكَ جِزَافاً، كَاشْتِرَاءِ بَعْضِ ذَلِكَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ جِزَافاً" لأنه جائز، إذا عنده صُبرةٌ من طعامٍ قال له: أبيعك إياه بكذا من الدراهم أو الدنانير يجوز، فكذلك إذا كان يبيعه بمطعوم آخر.

 قال مالك: "وَذَلِكَ أَنَّكَ تَشْتَرِي الْحِنْطَةَ بِالْوَرِقِ جِزَافاً، وَالتَّمْرَ بِالذَّهَبِ جِزَافاً" هذا جائز "فَهَذَا حَلاَلٌ لاَ بَأْسَ بِهِ". إذًا؛ يجوز بيعُ الصُّبرةِ جِزافاً مع جهل البائعِ والمشتري بقدرها، وهذا هو عند الأئمة كلهم.

 وجاء عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "كنّا نشتري الطعامَ من الرُّكبان جِزافًا، فنهانا رسولُ الله ﷺ أن نبيعَه حتى ننقلَه من مكانه". إذا اشترينا صحَّ البيعُ، لكن ما نبيعُه على أحدٍ ثانٍ حتى نقبضَه، ننقلَه من مكانه. "كنّا نشتري الطعامَ من الرُّكبان"؛ يعني: الوافدين الذين يأتون من محلِّ المَزارع من البادية معهم الطعامُ، نشتري منهم جزافاً، نشوف الطعام بثمن كذا، ما ندري كم كيله لكننا رأيناه، "كنا نشتري الطعامَ من الرُّكبان جزافاً، فنهانا رسولُ الله ﷺ، أن نبيعَه" على أحدٍ ثانٍ "حتى ننقلَه من مكانِه"، الحديث في الصحيحين. فدل على صحة البيع جزافًا إذا كان طعام بنقد، أو طعام بطعام من جنسٍ آخَر، أما إن كان من نفس الجنس فلا، لأنه لا بدّ لنا من المماثلة، ولا نتحقَّقُها إلا بالكيل أو الوزن أو الذَّرع، وما إلى ذلك. 

فإذًا؛ بيع الصبرة من الحنطة والتمر وغيرهما جزافًا صحيح، هل هو مكروه؟

  •  الأصحُّ عند الشافعية: أنه مكروهٌ كراهةَ تنزيه، بيعُ الصبرة جزافًا. ذكر الإمامُ النوويُّ أنّه جائزٌ عند الشافعي وأصحابه، وهل هو مكروه؟ قال: الأصحُّ أنه مكروه كراهةَ تنزيه، والقول الثاني: أنه لا كراهةَ فيه.

  •  وهكذا عند الأئمة الآخرين: يجوز الجزاف في كل مَكيلٍ أو موزونٍ أو معدودٍ مما الغرضُ في مَبلغِه دون أعيانِه ولا آحادِه، لكن ما ليس بمَكيلٍ ولا موزونٍ ولا معدودٍ مما الغرضُ فيه أعيانه مثل الخيلِ والثيابِ لا يجوز فيه الجِزاف، لأن آحادَه  تحتاج إلى أن تُفردَ بالنظر.

  •  كذلك يقول الحنفية: لا فرقَ بين الأثمان والمُثمَّنات في صحةِ بيعِها جزافًا.

  •  وعند الإمام مالك: في الأثمان لا يجوز، لأن لها خطر ولا يشق وزنها وعددها، فأشبَهَ الثيابَ والرقيق.

  •  وقال الحنابلة: إنّه معلوم بالمشاهدة فأشبَهَ المُثْمنات.

 "قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ صَبَّرَ صُبْرَةَ طَعَامٍ" رَكَم رُكمةَ طعامٍ، كوَّمَها، "وَقَدْ عَلِمَ كَيْلَهَا، ثُمَّ بَاعَهَا جِزَافاً، وَكَتَمَ الْمُشْتَرِي كَيْلَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ" أخفى عن المشتري مقدارَ الصُبرة، أخفاه عن البائع. "وَمَنْ صَبَّرَ صُبْرَةَ طَعَامٍ، وَقَدْ عَلِمَ كَيْلَهَا ثُمَّ بَاعَهَا جِزَافاً" مع العلم بالكيل "وَكَتَمَ الْمُشْتَرِي كَيْلَهَا" يعني أخفى مقدارَ الصُبرة عن البائع "فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ"؛ لأن مِن شرطِ جوازِ بيعِ الجِزاف عند الإمام مالك أن لا يعرفَ مقدارَه أحدُ المتبايعَين، فهذا شرطٌ عند مالك، إذا كان عند واحدٍ معلوم وعند الثاني غيرَ معلوم فلا، لا بدّ من عِلمِهم كلِّهم أو يكون جِزافاً منهم كلِّهم. هذا مذهبُ الإمام مالك.

  •  وهكذا عند الإمام أحمد يقول: من عرفَ مبلغَ شيءٍ لم يَبِعْهُ صُبرةً. فهو عند الإمامِ مالكٍ وعند الإمامِ أحمد. 

  • وفي روايةٍ عند الإمامِ أحمدَ: أن هذا مكروهٌ غيرُ محرّم، إذا كان واحدٌ يعلمُ والثاني لا يعلم.

 جاء في رواية الأوزاعي: أن النبي ﷺ قال: "مَن عرفَ مبلغَ شيءٍ فلا يبعْه جزافاً حتى يُبيّنَه"، أخرجه عبد الرزاق.

"فَإِنْ أَحَبَّ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ عَلَى الْبَائِعِ، رَدَّهُ بِمَا كَتَمَهُ"، لأنه داري بالكيل وأخفاه "كَيْلَهُ وَغَرَّهُ". وكذلك كلُّ ما علمَ البائعُ كيلَه وعددَه من الطعام وغيرِه ثم باعَه جزافاً ولم يُعلم المشتري، فإنّه في هذه الحالات يقوم الاحتمالُ:

  • إن كان البائعُ يعرفُ والمشتري لا يعرفُ أنَّ البائعَ يريد تغريرَ المشتري ولو فيه فائدة.

  •  وإن كان المشتري يعرفُ والبائعُ لا يعرفُ؛ فإن المشتري يريد تغريرَ البائعِ وتوقُّعَه أنه ليس بالقدر الذي عرفَه هو.

 فلهذا الاحتمالِ جاء مذهبُ الإمامِ مالكٍ ومذهبُ الإمامِ أحمدَ: أنّه إذا علم الواحدُ لا بدّ  أن يعلمَ الثاني بمقدار الكيل. "وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عَلِمَ الْبَائِعُ كَيْلَهُ وَعَدَدَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ جِزَافاً، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ رَدَّهُ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ."؛عن بيع الجِزاف مع العلم بالمقدار. 

إذًا؛ فعندهم لا بدَّ أن يكون البيعُ يتمُّ به الحرزُ المَبيع ولا يعلم المتبايعان أن أحدَهما ينفردُ بمعرفة مقدارِه، وأن يكون مِن الكَثرة بحيث يخفى أمرُه ومبلغُه على التحقيق. 

"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ خَيْرَ فِي الْخُبْزِ قُرْصٍ بِقُرْصَيْنِ"؛ لأن هذا أيضًا مطعوم ولا عاد يتأتى فيه المماثلة، "وَلاَ عَظِيمٍ بِصَغِيرٍ، إِذَا كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ يَتَحَرَّى" يغلب على الظن في ذلك "أَنْ يَكُونَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ"؛ أي: يجوز "وَإِنْ لَمْ يُوزَنْ."، هذا مذهبُ الإمام مالك، فإن ما تحوّلَ دقيقًا أو خبزًا ما تتأتى فيه المماثلة، فلا يجوز بيعُ بعضِه ببعض إذا كان من جنسٍ واحد.

"قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَصْلُحُ مُدُّ زُبْدٍ وَمُدُّ لَبَنٍ بِمُدَّيْ زُبْدٍ"، هذا بعضُهم حمله على أنّه أسماءٌ لأنواعِ التمر، "مُدُّ لَبَنٍ بِمُدَّيْ زُبْدٍ" لماذا؟ لأنه فيه جنسٌ في الطرفين مع جنسٍ آخرَ في أحدِهما، فلم تتأتى المماثلة. قال: "وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي وَصَفْنَا مِنَ التَّمْرِ، الَّذِي يُبَاعُ صَاعَيْنِ مِنْ كَبِيسٍ، وَصَاعاً مِنْ حَشَفٍ" ما دام كلُّه تمر ما يصح "بِثَلاَثَةِ أَصْوُعٍ مِنْ عَجْوَةٍ، حِينَ قَالَ لِصَاحِبِهِ: إِنَّ صَاعَيْنِ مِنْ كَبِيسٍ بِثَلاَثَةِ أَصْوُعٍ مِنَ الْعَجْوَةِ لاَ يَصْلُحُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ لِيُجِيزَ بَيْعَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ صَاحِبُ اللَّبَنِ اللَّبَنَ مَعَ زُبْدِهِ، لِيَأْخُذَ فَضْلَ زُبْدِهِ عَلَى زُبْدِ صَاحِبِهِ، حِينَ أَدْخَلَ مَعَهُ اللَّبَنَ" كأنه يتحيّلُ بذلك.

 "قَالَ مَالِكٌ: وَالدَّقِيقُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، لاَ بَأْسَ بِهِ، وَذَلِكَ لأَنَّهُ أَخْلَصَ الدَّقِيقَ"؛ يعني: في الوزن، أما في الكيل يختلف. 

  • وهذا عند الإمام مالك: أنه يجوز بيعُ الحَبّ بالدقيق. 

  • وقال غيره من الأئمة: لا.

فبيعُ الدقيق بالحنطة وإن كان مثل بمثلٍ المشهور عند مالك جوازه، هو الذي قاله في الموطأ. ولكن هو عند الحنفية والشافعية: ممنوعٌ، لأنّه ما يتأتى فيه المماثلةُ، لأنه بعد ما طحنَّا هذا وهذا لا يزال حَبّاً ما نعرف نماثل بينه. وعند مالك تكون المماثلةُ بالوزن، أما بالكيل ما يتأتى المماثلةُ، لأن الحبوبَ تبقى فراغات بينها البين، ليست مثلَ الدقيق ينكبس تمامًا فيصيرُ المقدارُ أكبرَ، وإن كان مُدّاً بمدٍّ، لكنّ مدَّ هذا يكون أكثرَ، لكن بالوزن، فهكذا عند الأئمة الثلاثة؛ لا يجوز بيع حب بدقيق.

 قال "وَلَوْ جَعَلَ نِصْفَ الْمُدِّ مِنْ دَقِيقٍ، وَنِصْفَهُ مِنْ حِنْطَةٍ، فَبَاعَ ذَلِكَ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ، كَانَ ذَلِكَ مِثْلَ الَّذِي وَصَفْنَا لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ فَضْلَ حِنْطَتِهِ الْجَيِّدَةِ، حِينَ جَعَلَ مَعَهَا الدَّقِيقَ، فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ"؛ أي: لا يجوز، والله أعلم. 

رزقَنا اللهُ الاتباعَ والانقياد للشرعِ المَصون، وأغنانا بحلاله عن حرامِه، وبطاعتِه عن معصيته، وبفضلِه عمّن سواه، ويسلك بنا مسالك من ارتضاهم واصطفاهم وقرَّبَهم وأدناهم، بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

20 شَعبان 1443

تاريخ النشر الميلادي

23 مارس 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام