(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، تتمة باب جامعُ الصَّلاة.
فجر الأحد 22 ربيع الأول 1442هـ.
تتمة باب جَامِعِ الصَّلاَةِ
482 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ الصَّلاَةُ، فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ، نُظِرَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، لَمْ يُنْظَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ.
483 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
484 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَجُلاَنِ أَخَوَانِ، فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَذُكِرَتْ فَضِيلَةُ الأَوَّلِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: "أَلَمْ يَكُنِ الآخَرُ مُسْلِماً؟". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَانَ لاَ بَأْسَ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُهُ، إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلاَةِ، كَمَثَلِ نَهْرٍ غَمْرٍ عَذْبٍ بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَقْتَحِمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُهُ".
485 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ كَانَ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ، دَعَاهُ فَسَأَلَهُ مَا مَعَكَ وَمَا تُرِيدُ؟ فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ، قَالَ: عَلَيْكَ بِسُوقِ الدُّنْيَا، فَإِنَّمَا هَذَا سُوقُ الآخِرَةِ.
486 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَنَى رَحْبَةً فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ تُسَمَّى الْبُطَيْحَاءَ وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَلْغَطَ، أَوْ يُنْشِدَ شِعْراً، أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ، فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ.
الحمد لله مُكرمنا بحبيبهِ المصطفى، وبيانه طريق الحق والهدى في الظاهر والخفاء، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على ذلك النبي الذي اجتباه، وعلى آله وصحبه ومن والاه واهتدى بهداه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
يواصل الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- ذكرَ الأحاديث المتعلقة بالصلاة والمسجد، ويروي لنا هذا الحديث: "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ" وفي مثل معناه ورد عن كثيرٍ أو عددٍ من الصحابة والتابعين، والحديث أن أول ما يحاسب عليه الإنسان الصلاة من الأشياء التي لا تُقال بالرأي ولا يُهتدى إليها بالاجتهاد، وقد جاء في بعض الروايات مرفوعًا إليه ﷺ: "أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة"، فيُحمل ما تناقلوه من أقوالهم على ما ورد عن خاتم النبيين رسولهم محمد ﷺ.
فذكرَ: "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي"؛ وصل إليّ وانتهى من العلم عمن قبلي، والمصدر عندنا في علم هذه الأشياء رسول الله ﷺ. "قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَا يُنْظَرُ فِيهِ" يعني: يوم القيامة "مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ الصَّلاَةُ" أي ما فرض الله عليه من الصلوات المفروضة، وقد تقدّم معنا في كتاب سيدنا عمر -رضي الله عنه- للأمراء يقول: إنَّ أَهَمَّ أمرِكم عندي الصَّلاةُ مَن حفظَها حافظَ على دينَه، ومن ضيَّعَها فَهوَ لما سِواها أضيَعُ. وكذلك جاء معنا الحديث: "العهد الذي بينَنا وبينَهم الصلاة، فمَن تركَها فقد كفرَ" فيما روى الترمذي وابن ماجه "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" والعياذ بالله. وجاء عن سيدنا جابر: "ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة".
فقد تعدّدت الروايات أن الصلاة أهم العبادات وأفضلها، قال: "فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ" الصلاة، بالفضل الرباني والإخلاص فيها وحضور قلبه وأدائها على وجهها، "نُظِرَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عَمَلِهِ"؛ أي: بالتيسير والتخفيف عليه. "وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ" الصلاة لتقصيره فيها وإهماله لها أو تركها أصلًا "لَمْ يُنْظَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ." أي: كفاه ذلك موجبًا لدخول النار من دون النظر لبقية الأعمال. وفي لفظٍ: "فإن قُبلت ووُجدت تامة قُبلت وسائر أعماله، وإن وُجدت ناقصة رُدّت وسائر عمله"؛ بقية أعماله ترد عليه فلا تُقبل منه إذا لم تصلح الصلاة. وهذا الوارد يؤكد على كل مؤمن أن يهتم بالصلاة في حق نفسه وحق أسرته وأولاده، ومن جعل الله له ولاية عليهم وفي حق عموم المؤمنين بنصحهم وتذكيرهم بفرضية الصلاة وعظمتها ومكانتها في الإسلام، حتى قيل: أن الصلاة في الإسلام بمنزلة الرأس من الجسد.
وهي من الإسلام كالرأس للأجسامِ *** وهل ترى في الناس حيًّا بغير رأسِ
ما يمكن أن يكون حيًّا من غير رأس؛ فلا يمكن أن يكون دين من غير صلاة! فمنزلتها من الإسلام بمنزلة الرأس من الجسد.
وكذلك يوجب هذا الوارد على كل مصلٍّ محافظ على الصلاة:
ويحتم ويؤكد هذا الحديث على الخاشعين الخاضعين الحاضرة قلوبهم في الصلاة أن يزدادوا خشوعًا، وأن يزدادوا أدبًا مع مولاهم -جلً جلاله-، فإن "أول ما يًنظر في عمل العبد الصلاة"، فوجب أن يهتم بها كل مؤمن، ومن كان مقصرًا فيها فلينتبه، ويؤدي واجبه وينقذ نفسه، فإنهُ إذا أخّر العبد الفريضة عن وقتها، فريضة واحدة، كُتِب اسمه على باب النار: فلان ابن فلان، لا بد له من دخول النار، فإما أن يتوب ويرجع إلى الله فيُمحى اسمه، وإلا فاسمه على باب النار، لا بدّ من دخول النار بإضاعة فريضة واحدة، فكيف بإضاعة عدد من الفرائض؟
وهكذا جاءتنا الأحاديث ومن ذلك ما جاء عن عبد الرحمن بن عمرو بن العاص: مَن حافَظَ عليها كانَتْ له نورًا وبُرْهانًا ومن لم يحافظ على الصلاة كان مع قارون وهامان. أي: يُحشر في زمرة أولئك الذين كذبوا ولم يؤمنوا ممّن شغله ماله ووزارته، فشغل قارون ماله، وشغل هارون وزارته، فلم يستجيبوا لدعوة الله المرسلة على لسان سيدنا موسى عليه السلام، وكذلك الذي يترك الصلاة من أمة محمد يُحشر مع هذا الصنف والنوع، من المكذبين المنكرين والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وجاء أيضًا في الحديث المرفوع في رواية الطبراني في الأوسط: "أولُ ما يحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصَّلاة، فإنْ صَلَحَتْ، صلح سائِر عَمَلِه، و إنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائِر عَمَلِه". وجاء في رواية أبي داود وابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: "إن أولَ ما يُحاسَبُ به العبدُ يومَ القيامةِ من عملِه صلاتُه، فإنْ صَلَحَت فقد أَفْلَحَ وأَنْجَحَ، وإن فَسَدَت فقد خابَ وخَسِرَ، فإن انتقصَ من فريضَتِه شيءٌ قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوعٍ؟ فيُكَمَّلُ بها ما انتقصَ من الفريضةِ، ثمَّ يكونُ سائرُ عَمَلِهِ على ذلك". فمن فضل الله أن يجبر الخلل الواقع بالفرائض بالنوافل، فيُجبر الخلل الواقع في فريضة الصوم بنفل الصوم، والواقع في فريضة الحج بنفل الحج، والخلل الواقع في الزكاة بنفل الصدقة، ويجبر الخلل الواقع في الصلاة بنفل الصلاة، فيكمل الناقص في الفريضة بما خشع وحضر في النافلة، فضلاً من الله تبارك وتعالى.
كذلك جاء عند الحاكم عن ابن عمر مرفوعًا: "أول ما افترض الله على الأمة الصلوات الخمس، وأول ما يرفع من أعمالهِم الصلوات الخمس، وأول ما يُسألون عن الصلوات الخمس، فمن كان ضيّع شيئًا يقول الله انظروا هل تجدون لعبدي نافلة"، وهكذا جاءنا البيان عن سيد الأكوان ﷺ. ورأى بعضهم أن هذا المعنى فيمن سها عن فريضة أو نسيها، أمّا من تركها عمدًا فلا يكمل له شيء من التطوّع، كيف يكمل شيء غير موجود؟ الشيء الموجود ناقص يكمل، لو كان غير موجود فكيف يكمل؟ ما كان موجود من الفرائض فيه خلل يُكمل بسبب النوافل، ويكمّل فرض الشيء بنوافله فضلاً من الحق -جلّ جلاله وتعالى في علاه- فتجبر السنن الصلوات. والفريضة يعظُم ثوابها على النافلة بسبعين ضعفًا، فإذا كثرت النوافل جُبر بها بما نقص من الفرائض، وهكذا المعاملة بالرفق من حضرة الخالق للخلق.
وفي أن تعمّد ترك الفريضة لا يجبره شيء، جاء في الحديث: "من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصة ولا مرض، لم يقض عنه صوم الدهر كله وإن صامه"، إذا تعمّد ترك يومٍ واحدٍ من صيام أيام رمضان، "من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصةٍ ولا مرض لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه". و"أوَّلُ ما يُقْضَى بيْنَ النَّاسِ يَومَ القِيامَةِ في الدِّماءِ" الحديث في الصحيح، فحملوا ذلك الحديث على ما يتعلّق بحقوق الخلق بينهم البين أول شيء يُقضى في الدماء، ثم في الأعراض والأموال، فأما في حقّ الله تعالى أول ما يحاسب ويُقضى فيه الصلاة، وحسُبنا أن نبيّنا ﷺ ذكّرنا بها عند وفاته، وهو في سكرات الموت يقول: يا عباد الله الصلاة! يا عباد الله الصلاة! وما ملكت أيمانكم ﷺ.
قال: "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ." فالقليل من العمل الذي يستمر ويدوم صاحبه عليه خير من أعمال كثيرة ينقطع عنها فيعمل أحيانًا ويترك أحيانا، والسالك الى الله يحتاج أن يرتب على نفسه من النوافل ومن السنن ومن الأذكار والأوراد شيئًا معين، يواظب عليه ولا يتركه، يزيد منه عند النشاط، ولا ينقص منه عند الكسل. قال الإمام النووي: بدوام العمل القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص، بخلاف الكثير الشاق، حتى ينمو القليل الدائم على الكثير الشاق أضعافًا مضاعفة. ويقول ابن الجوزي إن كانت محبة الدائم لمعنيين:
قال: لئلا يُعرّض الإنسان نفسه إلى الالتزام بشيءٍ من الأعمال الصالحة الشاقة والثقيلة عليه التي يتعرض لتركها، لأن الله تعالى عابَ في القرآن على قومٍ قبلنا من بني إسرائيل ابتدعوا رهبانيةً ثم تركوها، فعابَ عليهم فقال: (..وَرَهۡبَانِیَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَـٰهَا عَلَیۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ رِضۡوَ ٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَایَتِهَا..) [الحديد:27]، قصروا فيها وأهملوها وتركوها فعاب عليهم ذلك. فكان من واجب المؤمن أن يجعل له عمل ديمه تشبّهًا برسول الله ﷺ "كان عمله ديمة".
كما ذكر لنا قصة رجلين أخوين مات أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة، ثم لحقه أخوه بعد أربعين ليلة، "فَذُكِرَتْ فَضِيلَةُ الأَوَّلِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" فأثنوا عليه أمام رسول الله ﷺ وذكروا له فضائل، "فَقَالَ ﷺ: أَلَمْ يَكُنِ الآخَرُ مُسْلِماً؟" الذي مات متأخرُا ألم يكن مسلما؟، "قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ"، كان مسلم "وَكَانَ لاَ بَأْسَ بِهِ"، يعني: مع إسلامه كان لا بأس به؛ معه نصيبه من الخير والحرص عليه والوجهة "فقال ﷺ: وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُهُ" يعني: في الأربعين ليلة التي عاشها بعد أخيه، في كل يوم خمس صلوات، فهذه أربعين ليلة يعني مئتين صلاة معه زائدة على أخيه، فبها ترتفع درجاته، وما عمله من أعمال البر في خلال الأربعين اليوم. وقال: "إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلاَةِ، كَمَثَلِ نَهْرٍ غَمْرٍ عَذْبٍ" أي: كثير الماء، وأصل الغمر: إزالة أثر الشيء، لكن قيل: الماء الكثير الذي يُزيل الأثر: غمر وغامر، والغمرة: الماء الساتر لمقرّها. "نَهْرٍ غَمْرٍ عَذْبٍ بِبَابِ أَحَدِكُمْ"، يعني: قريب من موضعه "يَقْتَحِمُ فِيهِ" يقع ويغتسل فيه "كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ" من أوساخه؟ خمس مرات يغتسل في اليوم والليلة، في هذا النهر العذب "فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُهُ".
وجاء في معنى هذه القصة أن رسول الله ﷺ آخى بين رجلين، فُقتل أحدهما شهيدًا، ومات الآخر بعده بجمعة أو نحوها، فصلّينا عليه قال ﷺ: ما قلتم؟ قالوا: دعونا له اللهم اغفر له وألحقه بصاحبه، الذي مات ذاك شهيد، وهذا مسكين ما مات شهيد، فقال ﷺ: "فأين صلاته بعد صلاته؟ وصومه بعد صومه؟ وعمله بعد عمله؟ إن بينهما كما بين السماء والأرض". أي: هذا ارتقى على مرتبه أخيه السابق الذي قُتل شهيدًا بما عَمِل من الصلوات والصوم بعد وفاة أخيه.
وجاء عند الإمام أحمد في المسند يقول: نزل رجلان من أهل اليمن على طلحة بن عبيد الله، فقُتل أحدهما مع رسول الله ﷺ ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم مات على فراشه، وذاك قتل شهيد، فرأى طلحة بن عبيدالله في المنام أن الذي مات على فراشه دخل الجنة قبل الآخر بحين، فتعجّب وتعجّب من سمع منه الرؤيا، فذكر ذلك طلحة للنبي ﷺ، فقال ﷺ: كم مكث في الأرض من بعده؟ قالوا: حولًا؛ سنة، قال: صلّى ألفًا وثمانمائة صلاة، وصام رمضان، ضرب عدد الصلوات التي صلاها من بعده وذكر حسابها وفي بعض الروايات قال: ألم يصلي معي ألف وثمانمائة صلاة بعد أخيه؟ وألَم يَصُم معي رمضان؟ هذا صام معي رمضان وهذا ما بلغه وزاده على أخيه الذي مات قبل سنة شهيدًا، وهذا لم يمت إلا على فراشه، ولكنه باذل روحه ونفسه لله وعمل هذه الأعمال خلال السنة وصلوات خلف رسول الله ﷺ مع أنه أسلم هو وأخوه في وقت واحد، فهذا عمل زائد على عمل أخيه، فارتقى به على درجة الشهادة التي حصّلها أخوه، ممّا كسب من هذه الأعمال، كيف وهي مع خاتم الإرسال ﷺ! فضاعف الله أجره حتى فاز على الشهيد. قال: صلى ألفًا وثمانمائة صلاة وصامَ رمضان.
وجاء في رواية عن عبد الله بن شدّاد: أن نفرًا من بني عذرة ثلاثة، أتوا رسول الله ﷺ فأسلموا، فقال النبي ﷺ: من يكفيهم؟ فقال سيدنا طلحة: أنا يا رسول الله، فأخذهم سيدنا طلحة من أجل نفقتهم وتقديم ما يحتاجونه من التغذية والمسكن وما إلى غير ذلك، قال سيدنا طلحة: أنا، فكانوا عند طلحة، فبعث رسول الله ﷺ بعثًا فخرج فيه أحدهم فاستشهد، قال: ثم بعث بعثًا فخرج فيهم آخر فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه، فقال طلحة لرسول الله ﷺ: رأيت هؤلاء الثلاثة في الجنة، ورأيت الذي مات على فراشه أمامهم تقدّم قبلهم، ورأيت الذي استشهد قبله يليه ورأيت الذي استشهد بالأول آخرهم، بالترتيب، ولمّا قصّها على النبيّ ﷺ أجابه بمثل هذا الجواب فيما صلوا بعده؛ بما صلى كل واحد بعد ما مات الذي قبله، وبما أدرك رمضان. كما تقدم في الحديث الذي قبله، سأله: كم مكث؟ قال: حولًا؛ أي: سنة، قال: صلى ألفًا وثمانمائة صلاة.
وهكذا جاء النهي عن البيع والشراء في المسجد بأيّ وسيلة كان ولو كان أحدهم خارج المسجد والآخر بداخله، ولو كان عبر الجوال أو غيره؛ ما يبيع ولا يشتري في المسجد. و"عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ كَانَ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ، دَعَاهُ فَسَأَلَهُ مَا مَعَكَ؟" من المتاع يقول: كذا، يقول: "وَمَا تُرِيدُ؟ فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ" أنكر عليه "قَالَ: عَلَيْكَ بِسُوقِ الدُّنْيَا" اخرج من المسجد وروح إلى سوق الدنيا، وبع بضاعتك، "فَإِنَّمَا هَذَا" المسجد "سُوقُ الآخِرَةِ"؛ لا بيع فيه ولا شراء، "إذا رأيتم الرجل يبيع ويشتري في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك".
فاتفقوا على صحة العقد لو وقع بيعٌ وشراء في المسجد ولكن اختلفوا أهو مكروه أم حرام. يقول ﷺ: إنما بنيت المساجد لذكر الله وما يتعلق به.
ثم ذكر: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ" لما رأى الناس يحصل بينهم كلام واسترسال في الكلام في المسجد، ورأى أنه يُمكن أن يحصل بيع وشراء في المسجد "بَنَى رَحْبَةً فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ" وقال: من أراد أن يتكلم فليخرج إلى هنا، واحفظوا حرمة المسجد في الداخل. وقد سمع يومًا رجلين يرفعان صوتهما في المسجد فجاء، فقال: "من أين أنتما؟! قالا: من الطائف قال: أما لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما بالدرة!" سأضربكم "ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله!! أما سمعتما ما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ..)[الحجرات:2]، لو كنتما من أهل هذا البلد لأوجعتكما، اسكتوا ولا ترفعوا أصواتكم في المسجد مرة أخرى، فهكذا تعظيم حرمات الله وتعظيم شعائر الله، (..وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32] فينزّه المسجد من اللغط وإنشاد الشعر وما إلى ذلك، وجعل بجانبه هذه البطيحاء إلى جانب المسجد، وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَلْغَطَ، أَوْ يُنْشِدَ شِعْراً، أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ، فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ." وأول ما أدخلوا مكبر الصوت هذا الميكروفون إلى المسجد النبوي، كان الإمام له صلاحٌ وتعظيمٌ للشعائر، فما رضي أن يستعمل الميكروفون، قال: في مسجده وأرفع صوتي فوقه! دعوني هكذا.. فلما ألزموه وألحّوا عليه، صلّى صلاةً واحدةً وهو يبكي ثم مات بعدها. (..وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ). وكان لا يكاد يسمع صوت أبي بكر وعمر في حضرته ﷺ بعد نزول الآية، فنزل فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ..) [الحجرات:3]. ويمتدّ سر هذا الأدب لمن كان يرفض كل رأيٍ له ولغيره أمام سنّةٍ جاءت عنه ﷺ، وأمام أمرٍ من أوامره جاء، ولا يرفع صوت فوق صوت النبيّ، وصوت النبي عنده فوق كل صوت، فما أمامه إلا غض الصوت وكذلك الإغضاضُ من الرأي والعقل أمام ما جاء وثَبَت عن زين الوجود ﷺ. فحقّه كذلك ألا يُرفع صوتٌ فوق صوته، ولا رأيٌ فوق رأيّه، ولا استحسانٌ فوق استحسانه، ولا استقباحٌ فوق استقباحه؛ فهو الأعلم والأقْوم والأعظم والأحبّ إلى الحق.
رزقنا الله حسن متابعته، وحشرنا في زمرته في عافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
29 ربيع الأول 1442