(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب العمل في جامعِ الصلاة.
فجر السبت 14 ربيع الأول 1442هـ.
باب الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلاَةِ
462- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَتَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَىَّ خُشُوعُكُمْ وَلاَ رُكُوعُكُمْ، إنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي".
463- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَأْتِي قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا.
464- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا تَرَوْنَ فِي الشَّارِبِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِى؟" وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ فِيهِمْ، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "هُنَّ فَوَاحِشُ، وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ، وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ صَلاَتَهُ". قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلاَتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا".
الحمد لله مُكْرِمنا بشريعته النويرة، ومُبيّنها على لسان عبده المُصطفى مُحمَّد أنور الخلائق بصيرة، اللَّهم صلِّ وسلّم وبارك وكرِّم على مَن خصصته بهباتك الكبيرة ومِننك الوفيرة، سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه ومَن والاهم واتبعهم بإحسان فانقطر في تلك القطيرة، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمُرسلين سادات أهل الحظيرة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين وجميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
وبعدُ،
فيواصل الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- في المُوطأ الأحاديث عن الصَّلاة، ويقول في هذا الحديث: مُبيّنًا واجب الخُشوع في الصَّلاة. فأورد عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَتَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا"، "أَتَرَوْنَ قِبْلَتِي"؛ ما يُستقبل إليه بالوجه، "أَتَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا"؛ أيّ: مُقابلتي ومُواجهتي هاهُنا إلى جهة الجنوب في المدينة المُنوّرة، إلى جهة الكعبة المُشرفة؛ أيّ: فمهما بدا لكم أنّ قبلتي إلى هذه الجهة، فلا ينحصر رؤيتي وإدراكي للجهات الأُخرى، وكان ذلك مِنْ خصائصه، وحلف فقال ﷺ: "فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَىَّ خُشُوعُكُمْ وَلاَ رُكُوعُكُمْ، إنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي". فكان مِنْ خصائص نبيِّنا ﷺ أنّه يرى مِن ورائه، كما يرى مِن أمامه. فيُجلي الله -تبارك وتعالى- له ما وراءه مِنَ الأجسام والكائنات، كما ينظر الإنسان أيضًا إلى أمامه بعينيه. فكانت هذه خصوصية المُصطفى مُحمَّد ﷺ. لا حاجة لتكلُف المُتكلفين بإرادة التأويل، وهل له عينٌ كشكل هذه الأعيُن العادية مِنْ وراء؟ وهل معنى هذه الرؤية رؤية علم؟ وإلى غير ذلك مِن الأبحاث التي لا يُحتاج إليها، والنُص واضحٌ وصريحٌ يُمكن حمله على دلالته الواضحة مِنْ دون مانعٍ عقلًا ولا شرعًا مِن ذلك. فكان في خصوصيته ﷺ، رؤيته مِن ورائه كما يرى مِن أمامه.
"مَا يَخْفَى عَلَىَّ خُشُوعُكُمْ"؛ وهو حضور القلب، وسكون الأعضاء، وتدبُر القُراءة وتفهُمها. وقُلنا أنَّه يجمع ستُ معانٍ مَنْ اجتمعت فيه فهو الخاشع:
ستُ معانٍ، مَنْ جمعها فقد خشع. وقُلنا أنّ هذه الستُ المعاني تُلازم أرباب الصِّدق مع الله والإقبال عليه، حتى خارج الصَّلاة وحيث ما كان. فتراهم حاضِروا القلوب مع الرّحمن، يتدبَرون معاني كُلّ ما يبدو لهم، وكُلّ ما يسمعون وكُلّ ما يُبصرون، ودلالته عليه -جلّ جلاله-، وفي قلوبهم تعظيم، وعندهم هيبة ويخافون سطوته -جلّ جلاله- وحجابه وإبعاده، وتراهم مع ذلك يرجون قُربه وعجائب مِننه، ومع ذلك فهم يستشعرون التقصير، فهم في حياء. فيكون هذا الحال؛ الخُشوع مُلازمًا لهم في مُختلف أوقاتِهم.
قال سيِّدنا عبد الله بن مسعود: أوّل عِلم يُنزع مِن الأُمة، الخُشوع. حتى لا تكاد تجد خاشعًا. وكان الخشوع يغلب عليهم، حتى قال سيِّدنا الحسن البصري: لو رأيتموهم، لقلتم مجانين. ولو رأوا خياركم، لقالوا: ما لهؤلاء في الآخرة مِن خلاق. ولو رأوا شِراركم، لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب. وقال: جالسنا أقوامًا كُنا نُعَد في جنبهم لصوصًا. كانت الدُّنيا عند أحدهم، أهون عليه مِنَ التُّراب تحت رِجل أحدكم. رضي الله تعالى عنهم، فكانوا الرَّعيل الذين تربّوا على يد حبيب الله الجليل مُباشرة.
"مَا يَخْفَى عَلَىَّ خُشُوعُكُمْ". وجاء في رواية عند مُسلم: "سجودكُم" "وَلاَ رُكُوعُكُمْ" واهتم بذكر الرُّكوع لأنّه:
○ مِنْ أعظم الأركان.
○ ويُدرك الإنسان المسبوق الرَّكعة بإدراكه مع الإمام.
○ ولأنُ بعض النّاس يُقصِّر فيه، فلا يهتم به وبالطَمأنينة فيه؛ فخصّه بالذِكر.
وقد يُستعمل لفظ الركوع ويُراد به عموم الصَّلاة أو يُراد به السُّجود. كذلك كما قال: (... وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة:43]؛ يعني: صلوا مع المُصلين. وقال لسيِّدتنا مريم: (... وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران:43] تقول لها الملائكة كما ذكر الله في القُرآن.
قال ﷺ: "إنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي". فهذه مِنْ خصائص المُصطفى مُحمَّد -عليه الصَّلاة والسَّلام-. فأما الذين لمّا شاهدوا في عالم الحسِّ أنّ الانسان إنّما يُبصر بالعينين، بإجراء الله الإبصار فيهما، وأنّه لا بُدّ مِن مُقابلة العينين، تكلفوا تكلفًا في تأويل الأحاديث وكان ما كان عندهم. ولو اتسعت عقولهم، أنّ الإبصار لكُل بصيرٍ إمداد مِن الله لكل بصير له أنْ يُبصر، فيمكن أنْ يُبصر، فيُبصر بعينه أو بأصبع أو برجله أو بيده أو برأسه أو بأي شيء أراده أنْ يُبصر، سيُبصر به. كما جعل سبحانه وتعالى أبصارًا للكائنات التي ليست بحيوانات، مِن الجمادات حتى الأرض، ولذلك تشهد يوم القيامة ولذلك تحدّث أخبارها كما أخبر، فإذا ما كانت تُبصر، كيف تشهد؟ إذا لم تكن تُبصر، وإذا لم تكن ترى، وإذا لم تكن تسمع، كيف تشهد في القيامة؟ فإنّما تشهد بما أبصرت. ولكنَّ الإبصار له مدارك وله مراتب، ولم يُعطي السَّميع البصير شيئًا مِن الكائنات سمعًا وبصرًا، كما آتى عبده مُحمَّدًا. فلذا قالوا عنه في مراتب تجلّيه له:
فسَمِعت ما لا يُستطاع سماعه *** وعقلت ما عنه الورى قد ناموا
فصار ﷺ يرى ما لا يرى النَّاس، ومِن ذلك هذه الخصوصية في الرؤية، يقول ﷺ: "إنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي".
إذًا، فيجب على المؤمن أنْ يعتني بالخُشوع. ومهما تحدّث العُلماء هل الخشوع واجبٌ؟ أم سُنَّة مؤكدة؟ أو رُكنٌ مِن أركان الصَّلاة؟ واختلفوا في ذلك. فمهما كان، فإنّ الأحاديث الصحيحة تدلّ على أنّه لا يُكتب للعبد مِن صلاته، إلا بقدر ما حضر مِنها. فبهذا ينبغي على كُل مؤمن، ويتأكد عليه أنْ يحرص على الخُشوع في الصَّلاة خاصة، ثُمَّ في بقية العبادات، ثُمَّ في عموم الأوقات عامة، ليكون حاضرًا مع الله، ذاكرًا لله؛ فإنّه يكون مذكورًا مِن قِبل الله -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. وقال مَن قال بوجوبه.
○ وجاء أنّه قال ﷺ: لا يُكتب للعَبد مِنْ صلاته إلا بقَدر ما حَضَرَ فيها.
○ كما يروي عمّار بن ياسر: إنّ الرَّجُل ليُصلي الصَّلاة، لا يُكتب له ثُلثها ولا رُبعها ولا خُمسها ولا سُدسها، إنّما يُكتب له مِن الصَّلاة إلا بقَدر ما حَضَرَ فيها.
○ وهكذا تحدّثوا عن مظاهر الخُشوع فقال ﷺ: "الخُشوع في القلب، وأنْ تلين كتفك للمرء المسلم وأن لا تلتفت في صلاتك"
○ يقول عامر بن سنان: ليس الخُشوع، الرُّكوع والسُجود؛ لكنّه السُّكون وحُسن الهيئة في الصَّلاة.
○ يقول ابن سيرين: أنْ لا ترفع بصرك عن موضع سُجودك، فتكون في طول الصَّلاة نظرك إلى محل السُجود، فقط لا تلتفت إلى سواه.
○ يقول أبو بكر الواسطي: الصَّلاة لله تعالى، وللخلوص مِن غير عِوض.
○ ويقول ابن أبي الوردي: يحتاج المُصلي أربع: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التام، وجمع الهم.
وهكذا الخُلاصة كما ذكرنا عن الإمام الغزالي: إنّ الستّ المعاني إذا اجتمعت؛ صار صاحبها خاشعًا.
وعَلِمْنا قول الجُمهور: أنَّ الخشوع سُنَّة مؤكدة. وقيل بوجوبه أو شرطيته أو رُكنيته في الصَّلاة. ويكون كما يقول ابن عابدين: حضور القلب فراغه عن غير ما هو مُلابس له، وهو أنْ يعلم ما يقول ويفعل. قال ربُّنا: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2]. يقول ﷺ: "ما مِنْ مُسلم يتوضأ فيُحسن وُضُوءه، ثُمَّ يقوم فيُصلي ركعتين، يُقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجَبَتْ له الجنة". ولما رأى رجُلًا يعبث بلحيته في الصَّلاة، قال له: "لو خشَع القلبُ هذا، لخشَعتْ جوارِحُه". ويقول ﷺ: "إذا قام أَحَدُكُمْ إلى الصَّلاة؛ فإنَّ الرَّحمة تُوَاجِهُهُ، فلا يَمْسَح الحَصَى".
○ الخشوع لازم مِن لوازم الصَّلاة.
○ فقال بعضهم: فرض؛ ولكن لا تَبطُل الصَّلاة بتركه للعفو.
○ وقال بعضهم: هو فرضٌ، بتركه تبطُل الصَّلاة.
ومِن عظيم فضُل الجماعة أنّه لو تفرّق الحُضور والخُشوع عليهم في الصَّلاة، فيحضر هذا في قيام، وهذا في ركوع، وهذا في سجود، وهذا في جلوس، فيجتمع مِن المجموع صلاة كاملة؛ فيكتب الله لكُلّ واحد صلاة كاملة؛ يُعطيكم صلاة كاملة بفضل بركة الاجتماع، وهذا فضّل صلاة الجماعة. وأمّا مُجرد التظاهر به بشيءٍ مِن مُطأطأة الرأس، أو إظهار الخُشوع فليس هو المقصود، ولكن المقصود: حضور القلب مع التدبُر للمَعاني، والهيبة، والتّعظيم، والرُجاء، والحياء. رزقنا الله ذلك.
ثُمَّ ذكر لنا حديث قُباء، وقصد الحبيب ﷺ له، بعد ذكر حديث الخشوع. يذكُر لنا في حديث قُباء: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَأْتِي قُبَاءً"؛ يعني: يتردد خُروجه مِنَ المدينة إلى قُباء، فيُصلي ﷺ في ذلك المسجد. وجاء في سيرته ﷺ أنّه غالبًا في كل سبت، في كل يوم سبت، -مثل هذا اليوم- يذهب إلى مسجد قُباء. "رَاكِباً وَمَاشِياً"؛ يمشي أحيانًا هذه المسافة، وأحيانًا يشد رحله ويركب الدّابة، ويذهب إلى قُباء، فيُصلي فيه.
"كَانَ يَأْتِي قُبَاءً رَاكِباً وَمَاشِياً"؛ أيّ يركب أحيانًا، ويمشي على رجليه أحيانًا أُخرى. ففيه نشاطه ﷺ ومشيه المسافة الطويلة، مِنْ دون أنْ يلوي على دابةٍ أو ركوبها -صلوات الله وسلامه عليه- وهو نحو ستين مِنْ عُمره الشَّريف. ففيه فضّل مسجد قُباء والصَّلاة فيه. وكذلك جاءت فيه عدد مِن الأحاديث في فضّل مسجد قُباء: وأنّ "مَنْ توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ أتى مسجد قُباء، فصلّى ركعتين؛ كان له كأجر عُمرة".
وهكذا خصّص الله مسجد قُباء بخصائص، فقيل أنّه المُراد بقوله: (... لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ..) [التوبة:108]. واشتهر عند الجُمهور، ولكن صحّ في الحديث أنُ المُراد بمَسجده الذي بناه في المدينة المُنورة (..لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ..). فلما اختلف بعض الصَّحابة، وقال بعضهم: هو المُراد به مسجد قُباء، وقال بعضهم: هو مسجد المدينة. فسألوه ﷺ قال: هو مسجدكم هذا، وفي ذاك خير كثير؛ يعني في مسجد قُباء خير كثير، لكن المُراد الأول بالمسجد؛ مسجده -عليه الصَّلاة والسَّلام- الذي تأسّس على يد أتقى الخلق صلوات ربي وسلامه عليه. ولا شكّ أنّ مسجد قُباء وغير المساجد التي بُنيت بنظره وتحت إشرافه ﷺ، أُسّست على التقوى كُلها، لكن المُراد الأول بالآية الكريمة؛ هذا المسجد الذي بناه وعاش فيه، وصلّى فيه عامة صلواته الأتقى. (... لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ یَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِیهِۚ فِیهِ رِجَالࣱ یُحِبُّونَ أَن یَتَطَهَّرُوا۟ۚ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِینَ). فالمَساجد بنيّات أهلها وبِأحوال سُكانها (...فِیهِ رِجَالࣱ یُحِبُّونَ أَن یَتَطَهَّرُوا۟ۚ …).
إذًا، فهو مُبيّن لمعنى حديث: "لا تُعْمَلُ المَطِيُّ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ". قالوا: معناه مَن نذر أنْ يُصلي في أحد المساجد الثلاثة؛ فيجب عليه أنْ يذهب. أما غيرها فيجوز أنْ يعتكف ويُصلي في أي مسجد آخر. فتَمتاز المساجد الثلاثة، بأنُه إذا نذرت أنْ تُصلي في واحد منها أو تعتكف؛ وجب عليك أنْ تُوفي. أمّا غيرها مِنْ مساجد الأرض، -نذرت في المسجد الفلاني- أنْ تعتكف أوتُصلي في أي مسجد مِنَ المساجد، كفاك ذلك ولا يُلزمك شدّ المطيّ إليه، إلا هذه المساجد الثلاثة، فإنّها لفضلها على غيرها من مساجد العالم؛ يجب أنْ يُشد الرّحل إليها لمَنْ نذر. وهكذا كان مجيئه ﷺ إلى مسجد قُباء، وقُلنا جاء زيارة مسجد قُباء يوم السبت على وجه الخصوص في أيّ يوم كان، ولكن هذا فعله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، حتى استحبه كثير مِنْ أهل العِلم أنْ يخص يوم السبت بالخروج إلى قُباء اتباعًا له ﷺ. يقول سعد بن أبي وقاص فيما صح عنه: "لأنْ أُصلي في مسجد قُباء ركعتين، أحبّ إليّ مِنْ أنْ آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قُباء؛ لضربوا إليه أكباد الإبل". يقول سيِّدنا سعد بن أبي وقاص -أحد العشرة المُبشرين بالجنّة، رضي الله عنهم-. فالصَّلاة في مسجد قُباء تعدل عُمرة، في رواية قال ﷺ: "مَنْ توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ أتى مسجد قُباء، فصلّى ركعتين؛ كان له كأجر عُمرة"؛ "من توضأ فأحسن وضوءه ثم دخل مسجد قباء فركع أربع ركعات كان ذلك عدل عمرة". وذكر الحديث عن الإمام مُسلم، لمّا سُئِل ﷺ عن المسجد: "لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ، قال: هو مسجدكم هذا. وروى الإمام أحمد، والإمام الترمذي، عن ابن سعيد قال: اختلف رجلان في (... لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ…)، فقال أحدهما: هو مسجد النَّبي ﷺ، وقال الآخر: هو مسجد قُباء، فأتيا النَّبي ﷺ فسألاه عن ذلك، قال: هو هذا، وفي ذاك -يعني في قُباء- خير كثير.
قال عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ- رضي الله عنه-، قَالَ: "مَا تَرَوْنَ فِي الشَّارِبِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِى؟" قبل أنْ تنزل الحدود المُتعلقة بهم، "قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"، قَالَ ﷺ لهم: "هُنَّ"؛ هذه المعاصي: السّرقة، والزِّنا، وشرب الخمر "فَوَاحِشُ"؛ ما فَحُشَ وعظم مِنَ الذُّنوب، "وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ" عذابٌ شديد، "وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ"؛ أخسّ السَّرقة، وأعظم السَّرقة، وأشدُّ السَّرقة "الذي يسْرِقُ صَلاَتَهُ، ققَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلاَتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟"، علمتُم السَّرقة وخبثها، قال: أسوأ السَّرقة الذي يسرق صلاته "قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلاَتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا". كما قال عن الالتفات في الصَّلاة؛ أنّه اختلاس يختلسه الشَّيطان مِنْ صلاة ابن آدم، فينبغي إتمام الرُّكوع والسُّجود وحُضور القلب، وألا يلتفت في صلاته، وسَمى هذا أسوأ السَّرقة؛ لأنَّه المِسكين سرق على نفسه أفضل ما يجد مِنَ الخير؛ وهو الصَّلاة.
وبذلك نظر العُلماء إلى هيئة الرُّكوع وهيئة السُّجود وأقلُّ ما يُجزئ فيها.
فإذًا التّشبيه بالسَّرقة صار للتحريم عند الشَّافعية، وهو في مذهب الحنيفة للكراهية.
يقول: "يَأْتِي قُبَاءً رَاكِباً وَمَاشِياً"؛ أيّ: أحيانًا ماشيًا وأحيانًا ماشيًا. وفي رواية: "كُلَّ سبتٍ". وخصوصية المساجد الثَّلاثة معلومة، أدام الله لنا حِفظ المساجد الثَّلاثة ورِفعة راياتها، وحمايتها مِنْ جميع الأسواء، ورفع سُلطة المُغتصبين والظّالمين مِنَ اليهود عن بيت المقدس، وأصلح الله شؤون المُسلمين ظاهرًا وباطنًا، يا ربَّ العالمين.
فقُباء تبعد عن المدينة تقريبًا ثلاثة أميال - قُرابة خمسة كيلو متر-. وكان سيِّدنا عُمر بن الخطاب يأتي قُباء يوم الاثنين ويوم الخميس، كُل اثنين وخميس، يخرج مِنَ المدينة يروح يُصلي في مسجد قُباء، ويقول: والذي نفسه بيده لقد رأيت النبي ﷺ وأبو بكر في أصحابه ينقلون حجارته على بطونهم، ويؤسّسه رسول الله؛ يعني مسجد قُباء. وجِوار مسجد قُباء بئر أريس؛ التي تفَل فيها ﷺ، فكانوا يقصدونها يتوضؤون ويشربون منها، طُمّت الآن جنب المسجد. ويُقال فيها سقط الخاتم على سيِّدنا عُثمان بن عفان كان على رأس البئر والخاتم بيده؛ -الخاتم الذي يختم به الكُتب ﷺ-، فسقط عليه الخاتم، أمرهم أنْ ينزلوا البئر وينزحوا الماء، نزحوا الماء وحفروا وما وجدوه. وقد كان يلبسه سيِّدنا أبو بكر، ثُمَّ لبسه سيِّدنا عُمر، ثُمَّ كان مع سيِّدنا عُثمان بن عفان، -أحد الخواتم التي يستعملها ﷺ، الخاتم الذي يختم ﷺ به الكُتب-.
فشدّد في شأن التقصير في الرُّكوع والسُّجود، وعدّه مِنَ السَّرقة، بل عدّه مِنْ أسوء السَّرقة، وذكره مع ذِكر الكبائر. أسوء السَّرقة، الذي يسرق صلاته؛ يعني يخون فيها، ويُقصِّر. عَلِمنا الجُمهور على وجوب الطّمأنينة في الرُّكوع والسُّجود والاعتدال والجلوس بين السَّجدتين، "..ثُمَّ اركع حتى تطمئن راكعًا، ثُمَّ ارفع حتى تستوي قائمًا، ثُمَّ اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثُمَّ اجلس حتى تطمئن جالسًا..". يقول ﷺ للذي أساء صلاته وعلَّمه الصَّلاة عليه الصَّلاة والسَّلام. "لا تُجزئ صلاة الرجل حتى يُقيم ظهره في الركوع والسجود "؛ "لا تُجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود". ورأى أبو حُذيفة -رضي الله عنه- رجُلًا لا يُتمّ الرُّكوع والسُّجود، قال: ما صليّت، ولو مُتَ مِت على غير الفِطرة التي فطر الله عليها مُحمَّدًا ﷺ.
وقالوا الحنفية: أنَّ الطّمأنينة في الرُّكوع والسُّجود واجب، وليست بفرض. وهي في الاعتدال والجُلوس بين السَّجدتين، مُستحبة، سُنَّة. هكذا لكنها واجبة في الرُّكوع والسُّجود. أما ما اشتهر عنه أنُه فرض. هم فرّقوا بين الفرض والواجب، فجعلوا الطُمأنينة واجبة، وليست مِنَ الفروض، لأنُها لم تثبت إلا بأحاديث الآحاد. وعندهم الفرض، إنّما ما ثبت مِنَ المُتواتر. ووجب على المؤمن أنْ ينتبه مِن صلاته. ثُمَّ ينقلُنا إلى أحاديث أنْ لا ننسى بيوتنا مِنَ الصَّلوات النَّوافل، فيكون لنا نصيب في بيوتنا مِنْ صلاة النَّافلة. يأتينا إنْ شاء الله تبارك وتعالى.
جعلنا الله مِنَ الحاضرين الخاشعين المُنيبين الذاكرين له في كُلِّ نَفَس وحين، وجعلنا في الذُاكرين الله كثيرًا والذاكرات، ويُقبل بوجهه الكريم علينا، ويُعاملنا بألطافه الجميلة ويصلح شؤوننا والمسلمين بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
16 ربيع الأول 1442