شرح الموطأ - 85 - كتاب قصر الصلاة في السفر: باب ما يَفعلُ مَن جاءَ والإمامُ راكع، باب ما جاء في الصلاة على النبي ﷺ

شرح الموطأ - 85 - كتاب الصلاة، باب ما يَفعلُ مَن جاءَ والإمامُ راكعٌ، من حديث أبي أمامةَ بن سهل بن حُنيف
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب ما يَفعلُ مَن جاءَ والإمامُ راكعٌ، وباب مَا جَاءَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ.

فجر الثلاثاء 10 ربيع الأول 1442هـ.

 باب مَا يَفْعَلُ مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ رَاكِعٌ

456 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ قَال:َ دَخَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ النَّاسَ رُكُوعاً فَرَكَعَ، ثُمَّ دَبَّ حَتَّى وَصَلَ الصَّفَّ.

457 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَدِبُّ رَاكِعاً.

باب مَا جَاءَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ

458 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".

459 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَاري، أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ، أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلاَمُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ".

460 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ ﷺ ، فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَى أبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بالصلاة والعبادة، وبيان شؤونها وأحكامها على لسان سيد أهل السعادة سيدنا محمد ﷺ  في كل حينٍ عليه في الغيب والشهادة، وعلى آله الطاهرين وأصحابه القادة، وعلى من تبعهم بإحسان على الصدق والإخلاص والإيقان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الهدى والعرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان، وعلى ملائكة الله المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويواصل سيدنا الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- في موطئه ذكر الأحاديث المتعلقة بالصلاة، وقال:  "باب مَا يَفْعَلُ مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ رَاكِعٌ"، وقد تقدم معنا:

  •  أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة.
  •  وأن الإمام مالك قال: من مكّن يديه من ركبتيه والإمام راكع فقد أدرك الركعة.
  • قال الشافعية: إذا اطمئن خلف الإمام طمأنينةً كاملةً قبل أن يرفع من الركوع فقد أدرك الركعة. 
  • والجمهور: على أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة كما جاء في الحديث. 

ولكن في هذا الباب يُشير إلى مسألة من جاء والإمام راكع وخاف إذا مضى إلى الصف، أن يرفع الإمام من الركوع فتفوته الركعة، هل يُحرم ويصلي من بعيد ثم يمشي من دون خطوات متوالية؟ أو ينتظر وإن فاتته الركعة؟ والذي عليه الجمهور أنه ينبغي أن لا يستعجل ولا يحرم بل ينتظر حتى يقوم في مكانه من الصف، ثم يُحرِم إن أدرك الإمام في الركوع أدرك الركعة وإلا فاتته الركعة ويأتي بركعة بعدها.

وفي ذلك جاء في الحديث عن أبي بكرة أنه جاء والنبي ﷺ راكع، فركع ثم دخل الصف، فقال: رسول الله ﷺ من الساعي؟ قال أبو بكرة: أنا، قال: "زادك الله حرصًا ولا تعد"؛ لا ترجع ثاني مرة تفعل هكذا.. كما يشهد له حديث: "إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة ولا تأتوها وأنتم تسعون فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" وفي رواية: "فاقضوا".

  •  وكَـرِهَ عامة العلماء أن يُحرِم منفردًا عن الصف، وقالوا: يُكره للرجل أن يُحرم خارجًا عن الصف.
  •  وقال الإمام أبو حنيفة: 
    • إن كانوا جماعة فلا بأس أن يُحرموا حيث هم، فهم يكونون صفًّا.
    •  وإن كان واحد فيُكره حتى يدخل في الصف فيحرم.
  •  ولم يفرّق غيره بين الفرد والجماعة؛ فالكل منهم ينبغي أن يصل إلى الصف ومكانه منه ثم يُحرم هناك.

 وأورد لنا حديث زيد بن ثابت وابن مسعود، وهما القائلان بركوع المأموم تداركًا للركعة، وهي الرواية التي تروى عن الإمام مالك أيضا -رضي الله عنه- أنه لا يكره له أن يركع ثم يمشي إلى مكانه من الصف، فأورد حديث زيد بن ثابت: "دَخَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ النَّاسَ رُكُوعاً" نقله عنه أبو أمامة ابن سهل ابن حنيف، أبو أمامة بن سهل ابن حنيف ولد في السنة الثامنة من الهجرة، أوائل التاسعة فأدرك سنتين من عمر النبي ﷺ سماه ﷺ: أسعد؛ باسم جده لأمه أسعد بن زرارة، وكنّاه أبو حنيف ومسح رأسه فهو صحابي برؤيته ﷺ. وهنا يُروى عنه، فهو في الرواية تابعي وهو في الرؤية صحابي؛ لكن في الرواية يروي عن الصحابة في منزلة التابعين لأنه لم يسمع من النبي ﷺ ما رواه عنه وما عقل لأنه توفي ﷺ وهو ابن سنتين، فيروي عن زيد بن ثابت: "فَوَجَدَ النَّاسَ رُكُوعاً فَرَكَعَ"، لما خاف أن يسبقه الإمام بالركعة "ثُمَّ دَبَّ" أي: مشى على هينته قليلًا قليلًا "حَتَّى وَصَلَ الصَّفَّ." وذكر أيضًا عن ابن مسعود أنه "كَانَ يَدِبُّ رَاكِعاً".

ثم مما ورد في ذلك أيضا خلافاً لهذا عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، لما سأله الأعرج قال: يركع الإمام ولم أصل إلى الصف أفأركع؟ فأخذ برجلي، وقال: لا يا أعرج حتى تأخذ مقامك من الصف. ويُروى هذا في بعض الأحاديث عنه ﷺ، "إذا جاء أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف".

  •  وعلى ذلك ما استحبّه الإمام الشافعي وكذلك الإمام أحمد.
  •  وفرّق الإمام أبي حنيفة بين الفرد والجماعة، وكرهه للفرد ولم يكرهه للجماعة؛ فأجازه لهم.
  •  واختلفت الروايات عن الإمام مالك ولكن يشير كلامه في الموطأ إلى ما يروى عنه أنه لا كراهة في أن يحرم لإدراك الركعة ثم يتدارك الالتصاق بالصف والاتصال بالصف.

وعلمنا حديث أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- وقول النبي ﷺ له: "زادك الله حرصًا ولا تعد"، وقال الإمام مالك في هذه الرواية عنه: أنه يركع لإدراك الركعة، بحيث يكون قريبًا من الصف، وقربه من الصف بحيث يدرك الإمام قبل أن يسجد؛ يدرك الدخول في الصف ويستقيم قبل أن يسجد الأمام، وأما إن كان مسافة بعيدة بحيث لن يصل إلى الصف إلا في الركعة الثانية فلا يحرم، على هذه الرواية عند الإمام مالك رضي الله تعالى عنه.

 وجاء أيضًا عن ابن عمر في المصنّف، يقول زيد بن وهب: خرجت مع عبد الله بن عمر من داره فلمّا توسطنا المسجد ركع الإمام، قال فكبّر عبد الله أي: بالركعة الأولى، ثم ركع وركعت معه، ثم مشينا إلى الصف حتى رَفَع القوم رؤوسهم فلما قضى الإمام الصلاة قمت لأصلي -يعني ليأتي بركعة بدل هذه الركعة وهو قد ركع مع الإمام- فأخذ بيدي عبدالله فأجلسني، وقال إنّك قد أدركت. إذًا، فيترجّح القول بالكراهة كما هو عند الجمهور للفرد وللجماعة. صلى الله على سيدنا محمّدٍ وآله، ورَزَقنا حسن المتابعة له في أقواله وأفعاله. هذا خلاصة ما قاله العلماء فيمن ركع دون الصف؛ الجمهور على كراهته، وقال أبو حنيفة: يُكره للواحد لا للجماعة.

 

باب مَا جَاءَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ

 

ثم انتقل إلى ذكر الصلاة على النبي ﷺ، إنما ذكرها هنا مشيرًا إلى قول الشافعية بوجوبها في الصلاة، فإن الله أنزل: (..يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] فاتفق العلماء أن الصلاة على النبي ﷺ واجبة، لكن متى تجب؟ فجاءت فيها أقوال:

  • فمنها ما جاء في مذهب الإمام الشافعي -عليه رحمة الله-: أن الآية أمرت بالصلاة والسلام عليه، وأن الصحابة سألوا رسول الله عرّفنا السلام عليك، فكيف الصلاة؟ فعلمهم الصلاة، وأنه ﷺ قد شرع وأوجب على الأمة السلام عليه في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فتجب الصلاة عليه أيضّا في التشهد كما وجب السلام عليه، كما علمنا السلام عليه فإن السلام مربوط بالصلاة (..صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا..)، فالوجوب إذًا في كل صلاةٍ عند الشافعية يجب على كل مسلم أن يصلي على النبي ﷺ في كل صلاة، كما يجب عليه أن يسلم كما أمرنا الله بالصلاة والسلام عليه معاً فوجبت في الصلاة. فهذا القول وهو الذي رجّحه ابن القيم من خلال النظر في الأدلة، وأنه أعدل الأقوال فيما يجب من الصلاة على النبي ﷺ. 
  • وقيل: لا تجب الصلاة على النبي ﷺ في الصلاة، كما عليه الإمام مالك والإمام أبي حنيفة. 
  • مع قول الإمام مالك باستحباب الصلاة على النبي ﷺ في التشهد الأول، لكن ما تلزم. 
  • وهي واجبةً عند الشافعية.
  • وكذلك في الرواية عند الحنابلة.

 والصحابة سألوا: علّمنا السلام عليك فكيف نصلي عليك؟ فعلّمهم هذه الصيغة الابراهيمية برواياتٍ جاءت متعدّدة، نحو سبعة عشر رواية أو تزيد بأي صيغة من هذه الصيغ فهي أفضل.

  • وإنما قال الشافعية أقل الواجب: اللهم صلِّ على محمد، في كل صلاة .
  • وقال آخرون: بل تجب الصلاة عليه في العمر مرة .
  • وقال آخرون: تجب الصلاة عليه في كل يوم وليلة.
  • وقال آخرون: بل تجب الصلاة عليه كلما ذُكر ﷺ؛ لأنه القائل: "من ذُكِرت عندَه فلم يُصلِّ عليَّ فقد خطِئَ طريقَ الجنَّةِ". قال: "إن البخيل كل البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ".

وهذا حكم الصلاة على النبي ﷺ.

  • وهي من أفضل الأعمال وأقرب القربات إلى الرحمن جلّ جلاله وتعالى في علاه. 
  • ويتأكد استحبابها والإكثار منها ليلة الجمعة ويوم الجمعة.
  • وقد شُرعت لنا عند دخول المسجد وعند الخروج من المسجد.
  • وشُرعت لنا بعد كل أذان أن نصلي ﷺ ثم نسأل الله له الوسيلة.
  • وشُرعت لنا في كل خطبة.

"باب مَا جَاءَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ" ذكر لنا حديث "أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ" علمنا السلام عليك فكيف نصلي عليك، كيف اللفظ الذي يليق بشأنك، فنؤدي فرض الله علينا في الصلاة عليك. "قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ" وهذه إحدى روايات الصلاة الإبراهيمية في رواية الإمام مالك، فقولهم عرفنا السلام عليك بما علمتنا في التشهد بقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، هذا السلام قد عرفناه فكيف الصلاة عليك، فعلّمهم ﷺ الصلاة الإبراهيمية وتسمى إبراهيمية لذكر سيدنا إبراهيم فيها.

"قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ.."  أي: يا الله؛ معنى اللهم: يا الله.. فصارت الميم عِوَض عن حرف النداء وهو الياء، كمن يقول يا الله.. اللهم صلِّ على محمد؛ ويأتي فيها أيضًا ما تقدّم من تأخر سيدنا أبو بكر الصديق بعد أمر النبي ﷺ له أن يثبت مكانه، لما علم أن ذلك من شأن الإكرام وليس التحتيم، وكذلك في الصلاة عليه ﷺ لم يلفظ فيها لفظ السيادة سيدنا محمد ولكن مقتضى الأدب معه أن لا يذكر اسمه الا بلفظ السيادة؛ اللهمّ صلِّ على سيدنا محمد، في الصلاة وخارجها ففي ذلك تعظيم لشعائر الله؛ ورسول الله أعظم شعائر الرحمن ﷺ. وفي ذلك إكبار ومودة وإجلال، وفي ذلك أدب، وفي ذلك استعطافٌ واسترحامٌ للحقّ ولرسوله ﷺ.

يقول: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ،" ما كان منه ﷺ من الذرية المراد بهم أولاد بناته ﷺ، وقد انقرضوا إلا أولاد فاطمة -رضي الله تعالى عنها وعنهن أجمعين- وأزواجه وذريته :"وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ" فيأتي قوله "كَمَا صَلَّيْتَ" هذه المراد عموم الصلاة وقد خُصّ إبراهيم -عليه السلام- بأعلى الصلوات من الله بعد النبي محمد عليه الصلاة والسلام. والمراد العطف على الآل في قوله: "كَمَا صَلَّيْتَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ" وأنه يتعلق الجار والمجرور في قوله: كما صليت بقوله وآل محمد وأزواجه وذريته كما صليت، أي: صلِّ على آله كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. أما الصلاة عليه ﷺ، فهي أعلى الصلوات وقد صلى عليه بما لم يصلِّ على أحدٍ من خلقه سبحانه و تعالى. ومن هنا جاء كلامهم عن التشبيه بالصلاة على سيدنا إبراهيم مع أن سيدنا محمد أفضل من سيدنا إبراهيم وآله، فكيف يقول كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؟

يذكر بعضهم أن التشبيه بغير لفظ المشبه به لا لعينه؛ وذلك أن المراد بقوله: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ"،واجعل من أتباعه من يبلغ النهاية في أمر الدين كالعلماء بشرعه بتقدير أمر الشريعة، "كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ " بأن جعلت في أتباعه أنبياء يقرّرون أمر الشريعة، "وَعَلَى آلِ مُحَمَّد" أي: اجعل من أتباعه ناساً محدَّثين يخبرون بالمغيبات،"كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ" أن جعلت فيهم أنبياء يخبرون بالمغيّبات، يعني: حصول صفات الأنبياء لآل محمد وهم أتباعه في الدين كما كانت حاصلة بسؤال إبراهيم. "كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ" وهم: أهله وأولاده؛ فإن أصل آل أهل؛ قُلبت الهاء همزة وسُهّلت قال: (..أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر:46] (..وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ..) [البقرة:248] والذي عليه الجمهور واختاره الإمام الشافعي: أن المراد بالآل من منعوا إعطاء الزكاة؛ وهم المؤمنون من بني هاشم وبني المطلب، فهم آله ﷺ.

وذكر أيضًا في هذه الرواية البركة "وَبَارِكْ" وأنواع البركة ممّا يتعلق بمضاعفة الثواب ورفعة الدرجات وترسيخ حميد الصفات، ووجود النفع والإرشاد والتعليم، إلى غير ذلك كل من البركة "وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد"، "وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ " واختصّ سيدنا إبراهيم في هذه الصيغ.

ويقول بعض أهل المعرفة اختصّ إبراهيم بتجلّي كان بالجمال لسيدنا الخليل إبراهيم، فالمحبة والخلة من آثاره. والتجلي لسيدنا موسى كان بالجلال (..فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) [الأعراف:143] ولأن أيضًا إبراهيم أرسل إلينا السلام معه ﷺ في ليلة الإسراء والمعراج، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ورحمة الله وبركاته. قال له: أبلغ أمتك مني السلام، عليه الصلاة والسلام، وكذلك نسب الحق الملة إليه وقال: (..مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ..) [الحج:78]. "إِنَّكَ حَمِيدٌ" يعني: محمود تستحق الحمد كله، والثناء بجميع معانيه، "مَجِيدٌ"؛ يعني: ماجد ذو شرفٍ وكرامةٍ وسمو وعلو ورفعة "إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".

وأورد لنا الحديث "عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَاري، أَنَّهُ قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ،"-رضي الله عنه- وهو سيد الخزرج في وقته سيدنا سعد بن عبادة، يقال: أن الجن قتلته فوُجد مقتولًا وسمعوا صوتًا من دون أن يروا أحدًا، يقول الصوت نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده. يقول: "أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ، أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ"، فتمنى أنه لم يسأله لأن سكوته  كان إما حياءً وتواضعًا، وإما كان منتظرًا فيه تعليمًا من الله يعلمهم به صيغة الصلاة عليه ﷺ، ولما رأوه الصحابة سكت طويلاً ظنّوا أنه لم يرضَ السؤال فتمنّوا أنه لم يسأله،  "ثُمَّ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَالسَّلاَمُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ" هذا رواية أخرى في الصلاة الإبراهيمية، ومن أجمعها ما جاء في الصحيح عنه ﷺ: "اللهم صلِّ على مُحمَّد عبدك ورسولك النبي الأمّي وعلى آل مُحمَّد وأزواجه وذريّته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على مُحمَّد عبدك ورسولك النبي الأمّي وعلى آل مُحمَّد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد"، هذه من أجمع الصيغ الواردة عنه ﷺ، ومن هنا قال أهل العلم: إن أفضل الصلاة عليه في الصيغ الصلاة الإبراهيمية التي علمنا إياها ﷺ، فلو حلف حالف أن يصلي على النبي بأفضل صلاة وَجَبَ عليه أن يصلي الصلاة الإبراهيمية؛ لأنها من تعليمه عليه الصلاة والسلام.

وأورد لنا حديث: "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ ﷺ ، فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَى أبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ." بعده، يصلي على النبي وعلى سيدنا أبي بكر وعلى سيدنا عمر. وجاء في رواية: يصلي على النبي  ثم يدعو لأبي بكر وعمر، وأهل السُّنة يستعملون الصلاة والسلام في حقّ الأنبياء وفي حق غيرهم بالتبعيّة لهم، ولا يبتدؤون بالصلاة والسلام على أحد دون الأنبياء والأمر واسع، ويجعلون الابتداء بالسلام للملائكة، ويجعلون الدعاء بالرحمة وبالرضا لخواص الأولياء وعموم المؤمنين.

إذًا، علمنا إجماع العلماء على أن الصلاة على النبي ﷺ واجبة، فرض عين على كل مؤمن لقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

  • فقال الإمام أبو حنيفة والإمام مالك: أنها فرض في الجملة بعقد الإيمان، ولا تتعيّن في وقت مخصوص من الأوقات فمن صلّى على النبي ولو مرة واحدة في عمره، سقط عنه هذا الفرض، وبقي مندوبًا إليه في سائر عمره وفي أحواله وأطواره، بل قال ﷺ: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة"، فيأتي القول أنها تجب على الجملة ومن غير حصر، فأقل ما يحصل به الإجزاء مرة واحدة.
  • والقول الثاني: تجب في العمر مرة في الصلاة أو خارج الصلاة مثل كلمة التوحيد. 
  • وقول: أنها تجب في القعود آخر الصلاة بين قوله التشهد والسلام، وهذا هو مذهب الإمام الشافعي.
  •  وقيل تجب في التشهد على العموم .
  • وقيل:  تجب في الصلاة من غير تعيين محل، لابد في كل صلاة تصلي على النبي لما يروى: أنه لا صلاة لمن لم يصل على نبيه ﷺ.
  • وقيل يجب الإكثار منها من غير تقييدٍ بعدد، يجب الصلاة على النبي ﷺ لأنه ورد النص الصريح: (..يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). لهذا كان يقول أبو بكر بن بكير من المالكية: أن الواجب كثرة الصلاة على النبي من دون تقييد بعدد.
  • وأشرنا إلى قول: أنه يجب الصلاة عليه كلما ذُكر، وهكذا يقول أبو بكر بن العربي من المالكية: أنه الأحوط لما جاء في الحديث: "البخيل من ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليّ" ﷺ.
  • وفي قول أنه تجب الصلاة عليه ﷺ في كل مجلس أي مجلس، ولو مرة.
  • وجاء في قولٍ أنها تجب الصلاة عليه في كل دعاء.
  •  والجمهور على استحبابها في هذه المواطن خاصة وفي سائر الأوقات والأماكن عامة.

صلى الله على سيدنا مُحمَّد وآله أفضل الصلوات وأزكاها وأطيبها وأعلاها، وأعاد علينا عوائدها وجمع لنا فوائدها، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، ورَزَقنا حسن المتابعة له، وحسن الاستقامة على منهاجه ظاهرًا وباطنًا، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

13 ربيع الأول 1442

تاريخ النشر الميلادي

28 أكتوبر 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام