(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب انتظار الصلاة والمشي إليها.
فجر الأربعاء 4 ربيع الأول 1442هـ.
باب انْتِظَارِ الصَّلاَةِ وَالْمَشْي إِلَيْهَا
443- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ".
قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى قَوْلَهُ: "مَا لَمْ يُحْدِثْ". إِلاَّ الإِحْدَاثَ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
444- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ، مَا كَانَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ".
445- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ يَقُولُ: مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، لاَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا، أَوْ لِيُعَلِّمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، رَجَعَ غَانِمًا.
446- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مُصَلاَّهُ، لَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، فَإِنْ قَامَ مِنْ مُصَلاَّهُ فَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ، لَمْ يَزَلْ فِي صَلاَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ.
447- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ".
448- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: يُقَالُ لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ، إِلاَّ أَحَدٌ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، إِلاَّ مُنَافِقٌ.
الحمدُ لله مُكرِمنا بالعبادة، وجعل عليها ترتيب الفوز والسَّعادة، ونيل الاعتلاء والسّيادة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على أكرم عابدٍ للرحمن، وأفضل مُبين لشؤون عبادته في السّر والإعلان، مَن أنزل الله عليه القُرآن، سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله المُطهرين مِن الأدران، وأصحابه الغُرّ الأعيان، وعلى مَن تبعهم بالمحبة والصِّدق والإحسان، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمُرسلين مَن رفع الله لهم الشَّأن، وجعلهم سادة أهل الهُدى والعِلم والعرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين وجميع عِباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويواصل الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- في كتابه المُوطأ ذكر الأحاديث المُتعلقة بالصَّلاة. وفي هذا الباب يذكر أحاديث انْتِظَارِ الصَّلاَةِ وَالْمَشْي إِلَيْهَا وفضّل ذلك. يقول: "باب انْتِظَارِ الصَّلاَةِ وَالْمَشْي إِلَيْهَا" فإنَّ تعلُّق القلب بالصَّلاة مِن أقوى علامات الإيمان والصّدق فيه، وتولُّع القلب بالرحمن -جلَّ جلاله- والتقرب إليه، و"أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ". فإذا استجمع معنى السّجود بهيئة الجسد وبحقيقة القلب، فهو في حالة قُربٍ عظيمٍ معنوي مِن الرّحمن لا يساويه غيره مِن شؤون ومواطن ومعاني القُرب. "أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ". وإذا أحسّ بمعاني هذا القُرب، عشِق المكان الذي يسجُد فيه، والمحل الذي يُصلي فيه، وأخذ واقتطع مِن وقته وعُمره جُزءًا صالحًا، يكون في ذلك المكان مُتعلقًا به لِما في باطنه مِنَ الوجدان.
يقول عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله تعالى عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ". وفي رواية: "يُصلي فيه". ومِن هُنا جاء للحديث معنيان، قال: "مَا لَمْ يُحْدِثْ". فسرّ صلاة الملائكة، بِقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ"؛ أيّ: تقول له الملائكة كذلك. والحديث جاء أيضًا في الصحيحين وغيرهما. يقول: "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ" وفي رواية، "الذي يُصلي فيه" والمَعنيان أنّه:
○ بعثة الحبيب ﷺ، واستغفاره ودُعاؤه.
○ ثُمَّ استغفار الملائكة ودُعاؤهم لأهل عمل الصَّالحات مِن أُمة مُحمَّد ﷺ.
هذا المعنى الأول، وقُعوده بعد الفريضة؛ بعد الصَّلاة لأجل الذِّكر. فما دام في نفس المكان جالسًا؛ فالملائكة تُصلي عليه.
فوجب على المؤمن أنْ يحيا حياة المؤمن بالغيب، المُتعلّق بعالم الرُّوح والملأ الأعلى، ولا يبقى مُنحصرًا في الصّور والأجسام والماديّات كما يعيش الكُفَّار، وكما يعيش مَنْ لم يؤمن بالإله الغفّار -جلَّ جلاله-؛ فيتصل بالملائكة، ويتصل بعالم الغيب، ويستشعر معاني هذه الإفاضات والتَّجليات والرّحمات. ويُدرك الحظّ الوفير مِن هذا الفضل من يجلس بين المَغْرب والعِشَاء في مكان الصّلاة، لا يخرج عن المُصلى الذي يُصلي فيه إلى أنْ يأتي وقت العِشَاء. ومَن يأتون آخر اللَّيل ينتظرون صلاة الصُّبح، وكان هذا مِن دأب خيار الأُمة؛ ينتظرون صلاة المَغْرب قبل المَغْرب، ثُمَّ ينتظرون صلاة العِشَاء مِن المَغْرب إلى العِشَاء، فطول هذا الوقت الملائكة تدعو لهم وتُصلي عليهم، وبذلك زَكّت أرواحهم وتهذبت نفوسهم، وحازوا مِن خير الله ما لا يُحدّ ولا يُكيّف. (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ..) [الجمعة:4]. والرَّحمن سُبحانه بفضله، بسط لنا بساط هذه المُعاملة الحسنة مِنه، قال: أقبل عليّ،؛ أُقبل عليك، أُسخر لك ملائكتي المَعصومين يُصلون عليك، إذا أنت مُعلق القلب بي وجالس في هذا المكان، فما هو عُذر مَن يُعرض عن هذه الأماكن للصّلاة ويُحب أنْ يخرج؟ يقول العوام عندنا: يدُقّ لحي هو وجماعته؛ يتكلم مع هذا ومع ذاك، يُزجي وقته، يُمضيه في غير طائل. ما عُذره هذا ميت القلب؟ ما أحسّ بسرِّ الصّلة بالله، ولا أحسّ بمعنى إقباله على الله، ولا أحسّ بعبوديته لله -تبارك وتعالى-، وإلا ما كان يفوّت هذه الخيور العظيمة والمِنح الكريمة.
فانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة كما سيأتي معنا، رِباط؛ أيّ جهادٌ في سبيل الله. وهكذا فإذا توالى استغفار الملائكة، فاستوعب ما عند الإنسان مِن الذُّنوب، فإذا انقضت صغائره، نال الاستغفار كبائره. فإذا لم يبق في صحيفته صغيرة ولا كبيرة، كان رِفعة لدرجاته، وسببًا لمغفرة ذُنوب مَن اتصل به، كما دلّت على ذلك الرِوايات وأشارت إليه. قالوا: وهذا أيضًا يُحصّله ولو المرأة في بيتها إذا حبست نفسها في غرفة أو مكان مُعدّ للصلاة أو غُرفة ما تخرج مِنها ولا تشتغل بشيء مِن أعمال بيتها حتى تُصلي؛ فإنها تُصلي علَيها الملائكة حتى تُصلي. أو بَعد الصَّلاة جلست للذِكر، كذلك فما دامت في مُصلاها؛ فالملائِكة تُصلي علَيها.
"مَا لَمْ يُحْدِثْ" يقول ﷺ.
○ وفسّر الإمام مالك الحدث؛ بنقض الوضوء. ما لم ينتقض وضوءه. فإنّه ينقطع عنه استغفار الملائكة؛ لإساءته الأدب في المسجد بانتقاض وضوئه؛ ولأنّه يؤذي الملائكة والمُصلين بالرائحة الكريهة، فينقطع عنه استغفار الملائكة له بذلك.
○ وإنَّما أشار الإمام مالك إلى ذلك للإشارة إلى القول الآخر، أن معنى "مَا لَمْ يُحْدِثْ"؛ أيّ ما لم يتكلم بكلام سيء أو يتصرّف تصرّف غير لائق. هذا أحدث على حد قوله في المدينة: "مَن أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين".
وهذا قال به بعض أهل العلم، وأشار الإمام مالك إلى اختياره أنّ معنى "مَا لَمْ يُحْدِثْ"؛ الحدث الذي ينقُض الوضوء. فما دام مُتوضًأ؛ والملائكة تُصلي عليه. مِن باب أولى إذا اشتغل بالذِكر بعد الصّلاة. وفيه إشارة أيضًا إلى جواز أنْ يكون المُحدِث في المسجد. وهو كذلك كما عليه عامة أهل العلم.
ولا يُمكن ذلك للمُحدث، ولكن ينتقل إلى التَّسبيح إذا عجز عن الصّلاة عند دخول المسجد.
وفي هذا الحديث، الحثّ لنا على انتظار الصَّلاة، وعلى الانتظار بعد الصَّلاة في المكان الذي نُصلي فيه. ووسّع عامة أهل العلم المُصلى: إلى البُقعة والمكان كُلّه، لا مُجرد البُقعة التي صلّى فيها. فكُلّ الغُرفة التي يُصلى فيها والمسجد الذي يُصلي فيه، هو المُصلى. ويبقى في مُصلاه. فإذا بقي في مُصلاه يذكر الله تعالى؛ فالملائكة تستغفر له. الحمد لله على هذه النِّعمة مِن ربّنا. رَزقنا الله اغتنامها وشُكرها.
ذكر لنا عن أبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ، مَا كَانَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ". والحديث كذلك جاء في الصحيحين وغيرهما. قال: "لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ"؛ أي: معدودًا عند الله مُصليًّا؛ في حُكم الصّلاة مِن كثرة الأجر، والحراسة مِن أنواع الذُّنوب والسّيئات، وعناية الحقّ به كأنَّه في صلاة. "مَا كَانَتِ"؛ أيّ: ما دامت "الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ"؛ جالس في هذه البُقعة -مسجد أو غيره- لا يريد أن ينصرف مِنه لأجل أنْ يُصلي أولًا. فلمّا كان كذلك -كما سيأتي معنا- أنَّ ذلك رِباط، لأنّ المُرابط في سبيل الله هو الذي يُقيم عند ثغر مِن الثُّغور، الذي يدخل مِنه الكُفار على المؤمنين فيؤذونهم؛ فيحبس نفسه في ذلك الثَّغر عن التّصرّف في شؤون حياته الدُّنيا ومقاصدها، فيبقى ثابتًا في المكان. فكذلك هذا الذي يثبت في محل الصَّلاة، كالمُرابط في سبيل الله.
"لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ"؛ أيّ يرجِع إلى أهله "إِلاَّ الصَّلاَةُ"؛ لا غيرها مُخلصًا لوجه ربه -جلَّ جلاله وتعالى في عٌلاه-.
لأنّه قيده، أنه لا يحبسه "إِلاَّ الصَّلاَةُ"، ما يتأخر إلا مِن أجل ذلك. ما دفعه لهذا الجلوس والانتظار إلا الذِكر، و"إِلاَّ الصَّلاَةُ". "إِلاَّ الصَّلاَةُ". فإذا صَرَف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه هذا الثّواب، مما يتعارض مع قصد وجه الله تعالى مِن مُختلف الأغراض التي تتعلق بها النُّفوس. وأمّا اقترن بأنّه يُريد يختم القُرآن، أو يُريد يُكثر ذِكر، أو يُريد يستمع علم.. هذا ما يتناقض مع إرادة الانتظار لأجل الصَّلاة؛ فكُلُه خير في خير في خير.
وذكر القاري أنّ عبدًا استأذن سيِّده أنْ يدخل المسجد يُصلي فيه، أذِن له. وقف خارج المسجد ينتظر المملوك يخرج مِن المسجد، فأبطأ عليه، قال له: اخرج. قال: ما يدعُني أخرج. قال: مَن هو؟ قال: الذي لم يجعلك تدخل! هذا الذي لم يجعلك تدخل، وما وفقك، وما خذلني، ما رغّبني في الخروج مِن المسجد؛ مِن أجل أنْ يُذكِّر سيِّده هذا في الرَّغبة في المسجد وأنْ يدخُل المسجد. "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ"، "مَا لَمْ يُحْدِثْ"، "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ". جاء في رواية "اللَّهم تُبْ عليه" زيادة. "لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ، مَا كَانَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ". هذا مِن فضل الله علينا وعلى النَّاس ولكنَّ أكثر النَّاس لا يشكرون. يجلسون أمام التلفزيون والجوال ساعات طويلة، ويثقُل عليهم ساعات يسيرة في بيت ربِّهم، فبئس ما صرفوا فيه أعمارهم الغالية! صرفوها في أمور تافهة ساقطة، وكانوا يقدرون أنْ يكسبوا بها الدَّرجات العالية. فيا مَن وفّق أهل الخير للخير وأعانهم عليه، وفِّقنا للخير وأعِنا عليه.
وعن "أَبَي بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ يَقُولُ: مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، لاَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، لِيَتَعَلَّمَ خَيْراً، أَوْ لِيُعَلِّمَهُ"؛ أيّ: هذا مقصوده مِن المجيء للمسجد. فالمساجد تُقصد للتّعلُم والتَّعليم. "ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، رَجَعَ غَانِمًا"؛ يعني: أنّه بذلك يُعلي كلمة الله. "كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، وينفع عباد الله -تبارك وتعالى- بالذّبّ عن الإسلام كالمجاهد، وبذّبّ الجهل عن المُسلمين بالتَّعليم فهو ينفع المؤمنين فـ"كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". وهذا القول يكون له حُكم المرفوع لأنَّ هذا لا يُقال بالرأي. وقد جاء في الحديث المرفوع أنَّه: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلّم خيرًا أو يُعلّمه كان له كأجر حاجٍّ تامٍّ حجّته. إذا خرج إلى المسجد، وقصده أنْ يتعلم العِلم أو يُعلمه؛ يحصل له أجر حَجة. فإذا وصل إلى المسجد، وأراد أنْ يتعلم ويُعلّم، ويذكُر الله تعالى، وصلّى الفَجْر، وقعد في المُصلّى يذكر الله، ويتعلم إلى أنْ تطلُع الشَّمس:
○ حجّة بقصد المسجد للعلم.
○ وحَجة لعمارة وقت ما بين الصُّبح وبعد صلاته الجماعة إلى طُلوع الشَّمس حَجة ثانية وعُمرة فوقها تامة تامة تامة. فضلًا مِن الله على المؤمنين ولكنّ أكثر النَّاس لا يشكرون.
ولو علموا قدر ما آتاهم لتولعت قلوبهم بإحسانه، ولامتلأت نشوة وطربًا بواسع امتنانه -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. الله يرزقنا حُسن المُعاملة معه لنربح مع الرَّابحين.
وهكذا جاء أيضًا في الحديث عنه ﷺ أنَّه: "مَن دخَلَ مَسجِدَي هذا لِيتعَلَّمَ خيرًا، أو لِيُعَلِّمَه؛ كان كالمجاهِدِ في سبيلِ اللهِ". "مَن غدا إلى المسجدِ لا يريد إلاّ أنْ يتعلم خيرًا أو يُعلِّمه، كان له كأجرِ حاجٍّ تامًّا حجَّتُهُ". هل سمعت؟ قال وإسناده حسن، كما قال السُّيوطي وغيره، هذان الحديثان في رواية الطبراني بسند حسن.
رواه الطبراني بإسناد حسن، عن جدّ الحسن، صاحب المسلك الحسن، والوجه الحسن -صلوات ربّي وسلامه عليه-. فهل لك أنْ تتبعه؛ فتفيض عليك المِنن؟
وذكر أيضًا حديث أَبَي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مُصَلاَّهُ، لَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، فَإِنْ قَامَ مِنْ مُصَلاَّهُ فَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ، لَمْ يَزَلْ فِي صَلاَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ"؛ مادام في المُصلى ولو انتقل مِن محل صلاته لمحل آخر؛ لم يخرج عن حدود المُصلى الذي يُصلي فيه، وتستمر الملائكة بالاستغفار له، ويُعد في صلاة ما انتظر الصَّلاة.
وروى لنا حديث أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لنا: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ". وهو أصدق مُخبر مِن جميع الخلائق. "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟". "يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا"؛ يعني: يغفرها ويتجاوز عنها، ويمحوها مِن كُتُب الحَفظة، ومِن أذهان الحَفظة، ومِن أذهان الأرض، ومِن أذهان الأعضاء، ومِن أذهان الملائكة الذين كتبوا يمحوها، ومِن أذهان الأرض التي عَمِل عليها الخطيئة لأنّها كُلّها شهود يوم القيامة -أعضاءك تشهد، والأرض تشهد، والزّمن يشهد، والملائكة يشهدون ما عَملت-. فإذا لطف بك وأحسن لك المغفرة، فمحى مِن الأذهان -مِن ذهن الأرض والزمان والملائكة والأعضاء- هذه المَعصية. محاها؛ فينسونها لكنَّ ربَّك ما ينسى، ولكنْ له إفضال عظيم على الذي يُقبل عليه -جلَّ جلاله- ويُنسي الملائكة، ويُنسي الأرض ما عمل لئلا يُفضح يوم القيامة، وهو يُقرّره بعمله ( .. فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى) [طه:52]. (... أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ…) [المجادلة:6]. -جلّ جلاله- يمحو الله به الخطايا. "وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ"؛ المراتب والمنازل في الجنَّة، ومراتب القُرب مِنه، مراتب المعرفة به، مراتب الرِّضى مِنه عنه، مراتب المحبة مِنه وله تُرفع الدَّرجات. بـ "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ"؛ إحسانه وإتقانه. "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ"؛ تمامه وإحسانه. "عِنْدَ الْمَكَارِهِ"، ما تكرهه النَّفس ويشُقّ عليها مِن شِدّة برد أو وجود ألم أو وجود مرض أو صعوبة حركةٍ عليه أو صعوبة انتقال إلى محلّ الوضوء، هذا "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ" على "الْمَكَارِهِ"؛ شي تكرهه النَّفس ويشُقّ عليها. فهذا الذي يُسمّونه صابون الذّنوب. "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ" على "الْمَكَارِهِ"؛ إتقَانه وإحسانه.
و"كَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ"، الذي يتردد على بيوت الله -تبارك وتعالى- أو يأتي إليها مِن بعد، ويتوالى الحُضور إليها. "كَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ"، ويُشارك الكثير التّردد إلى المسجد في كثرة الخُطا، مَنْ يأتي مِن المسجد مِن بعيد. إذًا كثر تردُّده على المسجد، وكثر إتيانه إلى المسجد "وكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ".
وهذا عند أصحاب الهِمم والدّواعي القوية، والذين مع بُعد الدَّار ما يفوتهم تكبيرة الإحرام، ولا كثرة الجلوس في المسجد، ولا حضور مجالس الخير فيه. وما عدا ذلك فعامة النَّاس، يكون قُرب المسجد أفضل لهم، قُربهم مِن المسجد أفضل؛ ليحوزوا كثرة الحضور فيه، وكثرة التَّردد عليه. وجاء تفسير بعضهم لحديث بني سلمة أنَّه أراد أو كَره أن تعرو المدينة عن الديار، يخرجوا كُلّهم إلى حوالي المسجد، ويتركون بقية الأماكن المأهولة. فقال: "دِيَارَكُم تُكْتَب آثَارُكُم". وجاء في الحديث عنه ﷺ: "فضل الدَّار القريبة مِن المسجد على الدَّار البعيدة، كفضل الغازي على القاعد". في رواية أحمد بن حنبل في مُسنده عن حُذيفة عن النبي ﷺ قال: فضل الدَّار القريبة مِن المسجد على الدار الشَّاسعة، كفضل الغازي على القاعد".
وفعله ﷺ؛ فإن بيوته الكريمة كانت بجوار المسجد، ومِن حُجراته حجرة سيِّدتنا عائشة وما حواليها كان يخرج منها إلى المسجد ﷺ. وجاء في حديث أُبيّ بن كعب، في رواية الإمام مسلم، وأبي داود: أن رجلا من الأنصار كان بعيد الدَّار مِن المسجد، ولكن كان ما تُخطئه صلاة في المسجد. قيل له: إنْ قرّبت مِن المسجد. قال: ما يسرُني أنَّ منزلي بجانب المسجد. قال أُبي: فحملت به حملًا، وبعد ذلك قرّره ﷺ على ذلك. وهذا يدُل على أنَّهم كانوا يرون فضّل القُرب مِن المسجد؛ ولكن الرَّجُل بصدق جِده واجتهاده، لم يفُته شيء مِن المسجد، فهو خيرٌ مِن كثير مِمَن الذين حلّوا بقُرب المسجد، ولايشهدون فيه الصَّلوات كما يشهدها؛ فكان أجره مِن هذه المكانة أفضل.
"وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ"، هذا الذي كان عليه خِيار الأُمة في ما بين المَغرب والعِشاء، وكانوا كُلّهم يُصلون المَغرب وينتظرون العِشاء. وكانوا يأتون مِن آخر اللَّيل وينتظرون الفَجّر وهذا أقلُّه. وفيهم مَن ينتظر الظُّهر. وفيهم مَن ينتظر مِن الظُّهر إلى العَصر. وفيهم مَن يُصلي العَصر وينتظر إلى المَغرب. "انْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ"، يُصلي في جماعة بالمسجد ينتظر الصَّلاة الأُخرى، فهذا مِن الجهاد في سبيل الله 'تبارك وتعالى. "انْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ". جاء عنه ﷺ: "لأنْ أجلس مع قوم انتظر مِن صلاة العَصر إلى أنْ تغرب الشَّمس، أحبّ إليّ مِن أنْ أعتق ثمانٍ مِن ولد اسماعيل". وعن أبي أُمامة أنَّ ﷺ قال: "لأنْ اقعُد اذكر الله وأُكّبره وأحمده وأُسبحه حتّى تطلُع الشَّمس، أحبّ إليّ مِن أنْ أعتق رقبتين أو أكثر مِن ولد اسماعيل". وكذلك مِن بعد العَصر حتى تغرُب الشَّمس، قال:
○ (... وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ..) [آل عمران:41].
○ (... فَأَوْحَىٰٓ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم:11].
○ (... وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ) [طه:130].
○ (... يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [النور:36].
○ (فَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ …) [الروم:17].
○ ﴿…وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا..) [الأحزاب:42].
○ ( … وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلْإِبْكَٰرِ) [غافر:55].
○ (... يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ) [ص:18].
○ (...وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ) [ق:39].
ففي هذه الآيات، الإشارة إلى فضل الذِّكر قبل الغُروب، وقبْل طُلوع الشَّمس. والتَّسبيح في اللَّيل كُلّه.
○ (وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِۦ نَافِلَةً لَّكَ …) [الإسراء:79].
○ وقال: (... وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) [الإنسان:26].
"فذالكم"، هذه الأعمال:
○ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ.
○ وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ.
○ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ.
"فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ". الرباط المُرّغب فيه الجهاد في سبيل الله. "فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ"، ربط نفسه على هذا العمل، وحبس عليه فهو كالمُرابط في سبيل الله؛ الجالس على ثَغْر مِن الثُّغور يصُدّ الكُفار عن أنْ يغزو المُسلمين. "فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ"، كرّرها ثلاثًا تأكيدًا. فهذا شأن المُرابطين في سبيل الله.
وأورد لنا حديث "أن سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: يُقَالُ لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ، إِلاَّ أَحَدٌ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، إِلاَّ مُنَافِقٌ". بعد الأذان، يُؤذّن ويخرج مِن المسجد وهو لا يُريد العودة، إلا أنْ يخرج للضرورة كالرُعاف أو تجديد وضوء ونحوه. قال: هذا مُنَافِقٌ. هذا يسمع الله أكبر، ويخرج مِن المسجد! قال: "لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ، إِلاَّ أَحَدٌ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، إِلاَّ مُنَافِقٌ" يخرُج وما يُريد الرُجوع إلى المسجد. مِن هُنا كَرِه أنْ يخرج الإنسان مِن مكان الجماعة، إذا قد نودي للصلاة. فإذا أراد أنْ يخرج، فليخرج قبل النِّداء، فلا ينتظر حتى يُأذِّن، ثُمَّ يخرج. فإذا أذَّن المؤذن، فلا يخرج مِن المسجد حتى يُصلي معهم أولًا، والله أعلم.
يُكرمنا الله بصدق الإقبال، مع كمال القبول والتَّوفيق التَّام، ويُبلغنا المرام في عافية، ويدفع الشُّرور الظاهرة والخافية. بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
10 ربيع الأول 1442