(228)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، باب النهي عن الصلاةِ بالهاجرة، وباب النَّهْي عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِرِيحِ الثُّومِ وَتَغْطِيَةِ الْفَمِ.
فجر الأحد 7 ذي القعدة 1441هـ.
باب النَّهْي عَنِ الصَّلاَةِ بِالْهَاجِرَةِ
29 - حَدَّثَنِي يَحْيَى: عَنْ مَالِكٍ: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: " إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ ".
وَقَالَ: " اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ".
30 - وَحَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ".
وَذَكَرَ: " أَنَّ النَّارَ اشْتَكَتْ إِلَى رَبِّهَا، فَأَذِنَ لَهَا فِي كُلِّ عَامٍ بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ".
31 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ".
باب النَّهْي عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِرِيحِ الثُّومِ وَتَغْطِيَةِ الْفَمِ
32 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: " مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلاَ يَقْرُبْ مَسَاجِدَنَا يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّومِ ".
33 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُجَبَّرِ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِذَا رَأَى الإِنْسَانَ يُغَطِّي فَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي جَبَذَ الثَّوْبَ عَنْ فِيهِ جَبْذاً شَدِيداً، حَتَّى يَنْزِعَهُ عَنْ فِيهِ.
الحمدُ لله مُكْرمِنا بالشَّريعة وأحكامِها الشَّريفةُ الرفيعة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده المُصطفى مُحمَّدٍ ذي القدرِ الأعلى والوجاهاتِ الوسيعة، اللَّهم أدِمْ صلواتك عليه وعلى آله وصحبهِ المُشرّفين بالدخول في حُصونه المنيعة، وعلى أتباعهم بإحسان مِنْ كُلِّ مَنْ والاهم فيك فنجى مِنْ شُؤم القطيعة، وعلى آبائه وإخوانهِ مِنَ الأنبياءِ والمُرسلين أهل الأنوار السَّاطعة اللميعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقربين، وعبادك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكُر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- ما يتعلّق بصَّلاة الظُهر خصوصًا في أيَّامِ الصَّيفِ والحرِ، يقول: "بابُ النهي عن الصَّلاة في الهاجرة"، والهاجرةُ: نصفَ النَّهار عند زوال الشَّمس؛ يُقال لَهُ الهاجرة. ومِنْ حين الزوال وبعدها بقليل يُقالُ لها الهويجرة.
يقولُ: أنَّ رسول الله ﷺ قالَ: "إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ". فما الفَيْحُ؟
الفَيْحُ سُطوعُ الحرِّ مِنْ شدة القيظ، شدة السُطوع حرِّ النَّار، سُطوع حرِّ النَّار في القيظ، يُقال لها: فَيْح. عندنا يستعمل العوام عندنا لغليان الماء ونحوه يُقال: فَوح. ويُقال: فَاحت إذا اشتد غليانها وخرجت، "..مِنْ فَيْح جهنَّم" سطوع حرِّ النَّار مِنَ القيظ "إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ". ويأتي بيان ذلك في الحديث الآتي: "فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ" في أيام الصَّيف "فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ"، أي: اجعلوها في وقت البُرود، أي: انتظروا بها قليلًا حتى يَبرُد الوقت "فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ".
وقال: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا"، وهذا تفسير كونه مِنْ فَيْح جهنَّم. "فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ"، وفيه إدراكُ الكائنات وخِطابُها لرَّبها -جلَّ جلالهُ وتعالى في عُلاه- القائل: ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) [الإسراء:44]، والقائل: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت:11]. فالكائناتُ كُلُها مُسبّحة بحمد ربَّها تعرف عظمته وتُناجيه وتسألُه في حوائجها.
وقدْ خرجَ نبيُ الله سُليمان مرةً يُريد أنْ يستسقي بأُمّتهِ في وقت القحطِ، فبينما هو في الطريقِ إذا بنملةٍ استلقت على ظهرها ورفعت قائمها نحو السَّماء، وسَمِعَها تقول: ياربِّ إنّا خلقٌ مِنْ خلقك فلا تُعذبنا بذنوب بني أدم، وتُهلكنا بهم، يَعصونك، وتمنع القطر، ونحن نتضرر.. وسَمع دُعائها ورأى استجابة الحق لها، فرجع بقومه، وقال: "قدْ كُفيتُم بغيركُم.. استسقتْ لكم نملة"؛ وأُمطروا. فهكذا قال سيِّدنا سُليمان: (يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ) [النمل:19]، وقال تعالى: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) [النمل:18]، وقال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) [النمل:20]، ( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل:22]؛ ففيه إثباتُ حديث الكائناتِ بأصنافها. وإنَّما يعقِلُ مِنَ النَّاس ما يعقِلُ مِنْها بحسب ما علَّمَهم الله تعالى، ولا يُحيط بالكُل إلا ربُّ الكُل جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.
فهناك علاقة بين ما يجري في الأرض، وبين شؤون مِنْ عوالم الغيب. ومِنْهُ ما رتبَ اللهُ -تعالى- مِنْ صيفٍ وشتاء على ظَهر الأرض. وما أذِنَ لجهنَّم؛ والمُراد بها النَّار كُلُها، وإنْ كان تُسمى أول طبقة مِنْ طبقات النار؛ أول دركة بجهنَّم، يسكُنُها عُصاة المؤمنين -الَّذين لم يَعفُ الله تعالى عن ذُنُوبهم، فيُعذبون بقدرِ ما لم يعفُ الله عن ذُنُوبهم مِنْ ذُنُوبهم، ثُمَّ يُخرجون مِنْها حتَّى يكون آخرهم خروجًا بعد سبعةِ آلاف سنة، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. وهو جُهينة؛ ويكونُ آخرُ مَنْ يدخل الجنَّة. ولكنْ إذا ذُكر واحدة مِنْ طبقات النَّار أُريد بها كُلُها.
إنَّ جهنَّم "اشْتَكَتِ إِلَى رَبِّهَا"، "فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ" فتَتَنَفس، فأشد ما يجدُ النَّاسُ في أيام الصَّيف مِنْ الحرِّ مِنْ أثر هذا النَفَس. وأشد ما يجدون مِنَ البرد في أيام الشِّتاء، فمِنْ أثر هذا النَفَس لأنَّ في النَّار حرارةً وزمهريرًا. ومِنْهم مَنْ يُعذَّبُ بحرارة النَّار، ومِنْهم مَنْ يُعذب بالزمهرير -شدة البرد-، والعذاب بشدة البرد أشد على الأجسام، وآلم لها، وأشد وجعًا مِنَ الحريق بالنَّار؛ الحريقُ بشدة البرد، أعاذنا الله مِنَ النَّار مِنْ حرِّها وزمهريرها. فهُناك زوايا في النَّار وأماكن في أسفل النَّار مخصوصة بشدة البُرودة، فيُعذب أصحابها بشدة البرد، كما يُعذب أصحاب الطبقات الأُخرى والزوايا الأُخرى بشدة الحر.
هكذا يأتي استحباب الإبراد بالظُهر في الصَّيف.
فهكذا جاء عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- في تحديد وقت صلاته -عليه الصَّلاة والسَّلام- والغالب في الشِّتاء والصَّيف في مسجده الكريم. والإبراد إنَّما جاء في المدينة المُنورة.
ثُمَّ أنَّه رأى بعض أهل العلم أنَّ لصَّلاة الظُهر تأخيران:
وهكذا المحمول في الأمر عند جماهير أهل العلم، بل عند عامتهم، أنَّهُ للاستحباب. فيُسنّ الاستحباب والإبراد بوقت الظُهر خصوصًا أيام الصَّيف. واشترط الشَّافعية ما سمعتْ أنْ يكون ذلك لمن يُصلي جماعة بمسجد أو مكان بعيد، يَجتمعون فيه لا يجدون ظِلًا ولا كِنًا يمشون فيه إلى المسجد، فحينئذٍ يُؤخرون ويُبردون بصَّلاة الظُهر.
فإلى متى يكون التأخير في صلاة الظُهر بالهاجرة؟
إذًا، الجمهور مِنَ الصحابة والعلماء على القول بسُنية الإبراد في وقت صلاة الظُهر. فذلك هو السُنّة ليس بواجب ولا يصلُ إلى حد المُباح؛ ولكنَّهُ يفوقه بكونه سُنّة. وقد علمنا فيما مضى اتفاقهم على أنَّ وقت صلاة الظُهر يدخُل بزوال الشمس؛ ميلها عن كبد السَّماء بالاتفاق بالإجماع. وذكرنا الاختلاف في خروجه:
فعرفنا معنى الإبراد؛ الدخول في البرد. فهو عند الفقهاء بمعنى: تأخير صلاة الظُهر إلى وقت البرد، أي: يخفُ فيه وَهَج حرارة الشّّمس. وهو محمولٌ على الرُخصة أو على الاستحباب كما سمعت مِنْ قول الجمهور، فيقول: "وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ.." "، وفي هذا بيان شرطية اشتداد الحر "..فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ" * والحديث أيضًا رواه بعد الإمام مالك البخاري ومسلم موجود في الصحيحين: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ".
ثُمَّ ذكر لنا النَهي عن دخول المسجد بريح الثُّوم وعن تغطية الفم في الصَّلاة. قال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرُبْ مَسَاجِدَنَا" في الرواية بالجمع، ورواية: "مَسَجِدَنَا" تُفسّر هذه الرواية أنه لا يختص ذلك بمسجده ﷺ. "يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّومِ"، هذا هو العِلة في ذلك، ومعناه كُلُّ ما يُؤذي المُصلين يجب اجتنابه عند الذهاب إلى المسجد.
مَنْ يمتلئ كذلك بريح التنباك أو غيره ويأتي يؤذي المُصلين حوله، ويؤذي الملائكة، مكروه دخوله المسجد. اخرج مِنَ المسجد، طهر فمك، وطهر رائحتك، ولا تدخل إلَّا بريح طيب! وهذا أشد مِمَنْ يأكل الثُّوم؛ فإنَّ أكل الثُّوم حلال بالاتفاق. أما تناول التنباك فيُترجّح تحريمه عند المُحققين. وأما الثوم مُباح بالاتفاق.
فهكذا جاء في النَّهي عن قُرب المساجد بالثُّوم وكُلُ ما يؤذي المُصلين. وكذلك تغطية الفم في الصَّلاة شأن المُتكبرين، والصَّلاة شأن خضوع وخشوع وأدب واحترام، وهذا يريد يتلثم في الصَّلاة!.. ولهذا كان سيِّدنا سالم بن عبد الله بن عُمر إذا رأى واحد ملثّم ينزع حقه منه، أتصلي بهذه الصورة؟! صلِّ سواء -صلاة سويّة-! خاضع خاشع، وفمك ظاهر، وأنفك ظاهر، ومِنه ما يضعونه من اللثام في وقت الصَّلاة. أبعِدها.. صلِّ بخضوع وخشوع، ودعك من الوسوسة وشيء مِنَ هذا الكلام الفارغ وقت الصَّلاة، ادخل إلى حضرة الله سبحانه وتعالى..، فيكون مَكشوف الوجه، كُلُه مُتأدب، خاضع للرَّب -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- والله أعلم.
نظر الله إلينا، وقرّبنا إليه زُلفى، وأصلح شأننا في الظاهر والخافي، وفرَّج كُروبنا، والأُمة أجمعين، بِسرٍّ الفاتحة إِلى حَضرة اَلنبِي ﷺ.
08 ذو القِعدة 1441