شرح الموطأ -70- كتاب صلاة الجماعة: باب صلاة الإمام وهو جالس، وباب فضل صلاة القائم على صلاة القاعد

شرح الموطأ -70- كتاب الصلاة، باب صلاة الإمام وهو جالس، من حديث: (إنما جُعل الإمام ليؤتمّ به..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صلاة الجماعة، باب صلاة الإمام وهو جالس، وباب فَضْلِ صَلاَةِ الْقَائِمِ عَلَى صَلاَةِ الْقَاعِدِ.

فجر الإثنين 18 صفر 1442هـ.

 باب صَلاَةِ الإِمَامِ وَهُوَ جَالِسٌ

360 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَكِبَ فَرَساً، فَصُرِعَ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُوداً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِماً، فَصَلُّوا قِيَاماً، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ".

361 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِساً، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَاماً، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً".

362 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ، فَأَتَى فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى جَنْبِ أبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ جَالِسٌ، وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أبِي بَكْرٍ.

باب فَضْلِ صَلاَةِ الْقَائِمِ عَلَى صَلاَةِ الْقَاعِدِ

363 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ، عَنْ مَوْلًى لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ,- أَوْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "صَلاَةُ أَحَدِكُمْ وَهُوَ قَاعِدٌ، مِثْلُ نِصْفِ صَلاَتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ".

364 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَالَنَا وَبَاءٌ مِنْ وَعْكِهَا شَدِيدٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ فِي سُبْحَتِهِمْ قُعُوداً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "صَلاَةُ الْقَاعِدِ مِثْلُ نِصْفِ صَلاَةِ الْقَائِمِ".

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بأنوار الهدى والدلالة، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على عبدهِ المصطفى خاتم الرسالة، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأهل محبّتهِ وقربه، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين سادات أهل القرب من الله وأهل حزبه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقرّبين، وعباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الاكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ،

 يذكُر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في الموطأ، أحاديث في صلاة الإمام إذا عجز عن القيام فصلى جالسًا، وقال: "باب صَلاَةِ الإِمَامِ وَهُوَ جَالِسٌ"، فاختلف الأئمة في جواز أن يكون الإمام جالسًا والمصلّون خلفه قيام:

  •  وجاء عن مالك: أنه لا يجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد، لا قاعدًا ولا قائمًا. 
  • وعند أبي حنيفة والشافعي وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام خلف القاعد إلا قائمًا، فالإمام إذا كان معذورًا فصلى قاعدًا فالمأمومون يصلون قيامًا خلفه، هكذا مذهب الإمام أبي حنيفة ومذهب الإمام الشافعي عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
  •  واستثنى الحنابلة إمام الحي الراتب، المرجو زوال علّته، بألّا يفضي ترك القيام على الدوام، قال: يصلّون وراءه إذا صلى جالسًا جلوسًا مذهب الإمام أحمد، وأما إن لم يكن إمامًا راتبًا فلا يصح أن يصلي بهم، فليصل بهم من يصلي وهو قائم من يقدر على القيام، فإن كان إمامًا راتبا فيجوز أن يصلي بهم وهو جالس، وهم يجلسون بجلوسهِ هذا عند الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
  •  وقالوا: أنه مستحب لإمام الحي الإمام الراتب أن يستخلف غيره إذا أصابه عجزٌ عن القيام في الصلاة.

 وأورد لنا حديث: "أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَكِبَ فَرَساً، فَصُرِعَ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ" وهو ساقه كما جاء في روايات، وكان جحشًا قويًا أشد من الخدش، "فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ" أي: من الصلوات الخمس، ويروى أنها يومئذٍ بمعنى أنها في النهار "فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُوداً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِماً، فَصَلُّوا قِيَاماً، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ".

  • وعلمت أن هذا ما أخذ به الإمام أحمد عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
  •  وأنه عند الشافعية والحنفية: منسوخ؛ نُسخ هذا فكان آخر الأمر أن الإمام إذا كان عاجزًا فليصلِّ قاعدًا ولكن كل قادرٍ على القيام من المأمومين فليصلِّ قائمًا وإن كان الإمام قاعدًا.

 وهكذا ذكرنا عن الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي، إلا أنه إذا عَجز عن القعود، 

  • فيصلّي مضطجعًا وتصح صلاة القائمين خلفه عند الشافعية.
  •  وقال الحنفية: لا، إنما الجلوس فقط، أما إذا كان مضطجع ويومئ فصلاة المأمومين أكمل من صلاته فلا يصح أن يكون هو مقتدى وهو إمام، إنما في حالة جلوس الإمام لعذرهِ يجوز أن يصلي المأمومون خلفه قيامًا، أما إن كان مضطجعا فلا.

 وأطلق الشافعية الجواز أن يصلّوا خلفه وهو قائم أو جالس إذا عجز عن القيام أو مضطجع إذا عجز عن الجلوس، فإذا أومأ بالركوع ركعوا، وإذا أومأ بالسجود سَجَدوا من ورائه وهم على حالتهم وهيئتهم.

 فهكذا، مهما كان المأموم صحيحًا يقدر على القيام فصلّى خلف إمام مريضٍ يصلي قاعدًا.

  • فيقول الإمام أحمد: أن المأموم يصلي خلفه إذا كان هذا الإمام إمام الحي أو إمام راتب، فيصلي المأموم خلفه قاعدًا، ويستحب أن يستخلف غيره واحد.
  •  والقول الثاني: أنهم يصلون خلفهُ قيامًا، وعليه الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي وفقهاء الأمصار أو جمهور السلف فيصلّون قيامًا وهو قاعد.
  •  ثم جاء عن ابن القاسم من المالكية: أنه لا تجوز إمامة القاعد فإن صلوا خلفه قيامًا أو قعودًا بطلت صلاتهم.

 ويقول: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَكِبَ فَرَسًا"، وكان ذلك سنة خمسٍ من الهجرة، وفي السنة الخامسة من الهجرة وقيل في ربيع الأول وقيل في ذي الحجة منها سقط ﷺ عن الفرس، "فَصُرِعَ" يعني: سقط عن فرسه "فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ" ساقه الأيمن الذي أشار إليه وكان جحشًا عجز ﷺ عن القيام في الصلاة، لم يقدر معه أن يقوم في أثناء الصلاة فصلى جالسًا ﷺ.

 وجاء في رواية عند أبي داود وابن خزيمة: "فصرعه على جذع نخلة"، "فَجُحِشَ": يعني: خُدِشَ ولكن الجحش فوق الخدش، حتى أن ذُكِرَ أنه لم يستطع القيام. وشِقَه الأيمن: والمراد به ساقه الكريم ﷺ.  "فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ" أي: من الصلوات الخمس، وفي رواية أنس: "فصلى بنا يومئذ" إشارة إلى أنها صلاة نهارية إمّا ظهرًا وإمّا عصرًا، "وَهُوَ قَاعِدٌ"، ﷺ فحصل انفكاك في قدمه عليه الصلاة و السلام، كما جاء في رواية. "وَصَلَّيْنَا" يعني مع المأمومين "وَرَاءَهُ" خلفه "قُعُوداً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ"؛ يعني: يُقتدى به ويُتابع، وهذا معلوم في أفعاله الظاهرة من قيام وركوع وسجود إلى غير ذلك.

ورأى الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل: أنه لا علاقة له بالنيّة، فإن المتابعة إنما تكون في الأعمال الظاهرة، بمعنى لو كان الإمام يصلي ظهر والمأموم يصلي عصر، أو الإمام يصلي فرض والمأموم نفل وعكس ذلك، فهو صحيح عند الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل.

وعمّم معنى الائتمام حتى في النية المالكية والحنفية، وقالوا: ما يصلي فرض إلا خلف فرض، ولا ظهر إلا خلف ظهر، ولا عصر إلا خلف العصر، ولا عشاء إلا خلف عشاء، وهكذا.. فلابد إلا أن يتفق في النية مع الإمام، ويكون مؤتمًّا به فقالوا: لايجوز اقتداء المفترض بالمتنفل.

 وهنا عن الإمام أحمد روايتان: رواية كالإمام الشافعي: أنهُ يجوز وأن الاقتداء إنما يكون في الأفعال الظاهرة، ويقول أنه فسّره  في الحديث بقوله: "وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا"، هذا الاقتداء بالإمام والائتمام به في الأفعال الظاهرة، ومن هنا اشترطوا أن لا يخالف نظم صلاته نظم صلاة الإمام، أن يتوافق نظم صلاتيهما، وما عدا ذلك فلا يضر أن يكون هذا في فرض وهذا في نفل عند الشافعية والرواية أيضًا عند الحنابلة.

فلا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفّل عند الإمام أبي حنيفة والإمام مالك، كما لا يجوز أن يصلي فرضًا خلف من يصلي فرضًا آخر بل نفس الفرض، فراعى الإمام الشافعي المخالفة الظاهرة فقط؛ في الأعمال الظاهرة، وقال: لا سبيل إلى الاطلاع على النيات والله أدرى بها. ويصحّ أن يصلّي خلف أي صلاة كان وإن كان غير الصلاة التي يصليها الإمام ما دام نظم الصلاة واحدًا؛ 

  • فإذا اقتدى بإمام يصلي خسوفًا أو كسوفًا بقيامين وركوعين، وهو يصلي غير الكسوف والخسوف لا يصح، لأنه لا  قيامين و ركوعين في شيء غير الصلوات الأخرى غير الخسوف والكسوف.
  • أو إذا أراد أن يصلي شيئًا من النوافل والفرائض خلف من يصلي جنازة.. فلا يصح؛ لأن هذا لا ركوع في صلاته ولا سجود، وهذا يحتاج إلى الركوع والسجود، فلا بد أن يتوافق نظم صلاتيهما؛ الإمام والمأموم.

 وهكذا جاء أن سيدنا معاذ -عليه رضوان الله- كان يصلي خلف النبي ﷺ ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم؛ فقال الشافعية والحنابلة ومن وافقهم: أن صلاته الثانية بالنسبة له نفل، وصلاته الأولى فرض، فكان يصلي متنفّلًا والقوم يصلون خلفه فرضًا، وكان ذلك كان معروفًا ومشهورًا عنه في حياته ﷺ فكان دليل القائلين بصحة صلاة الفرض خلف النفل أو النفل خلف الفرض.

وكذلك يقول المالكية: يجوز أن يكون المأموم قاعدًا والإمام قائمًا، إذا كان الإمام قائم والمأموم عجز عن القيام فليصلِّ خلف الإمام، لكن أن يكون الإمام قاعد والمأموم قائم.. لا، عندهم. وسمعت ما قال جمهور السلف وهو ما عليه مذهب الإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة: أنه يجوز أن يكون الإمام قاعدًا لعذرٍ والمأمومون خلفه قيام .

"وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ" يعني: سماع قبولٍ ورضى وإجابة "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" قَبِلَ منه الحمد ورضي به عنه  سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، وجاء في رواية: "لك الحمد"، وفي رواية: "اللهمّ ربنا لك الحمد"، وفي رواية: "اللهم ربنا ولك الحمد" 

  • وبه استدلّ من قال: إن الإمام يقتصر على قول: سمع الله لمن حمده، والمأموم يقتصر: ربنا لك الحمد.
  • وقال الإمام الشافعي وغيره: بل كلاهما يقول سمع الله لمن حمده، ويقول كلٌّ منهم أيضًا: ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه.

 كما أُثِرَ ذلك عن النبي ﷺ أنه قال بعد ارتفاعه من الركوع: ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. وجاء في البخاري أن بداية هذا الحمد كان من رجلٍ لما صلّى خلف النبي، فرفع النبي رأسه يقول سمع الله لمن حمده، فقال الأعرابي: ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انتهى من الصلاة قال ﷺ: من القائل في صلاته كذا؟ يعني عندما ارتفعت من الركوع، فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: لقد رأيت بضعة وثلاثين مَلَكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول! تسابقوا إلى هذه الكلمة الطيبة أيهم يكتبها. ثم أُثِرَت عنه بنفسه ﷺ أنه يجيء بها، وفيها زيادة: "ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيءٍ بعد".

وفي قوله: "وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ" هو منسوخٌ عند الشافعية وغيرهم من أن آخر حال النبي ﷺ أنه صلى جالسًا والناس خلفه قيام. وعلمنا مذهب الإمام أحمد في هذا أنه ما دام الإمام جالس فيصلون جلوسًا. "وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" وجعلوه في أن من جُملة ما يأتمّ به المأموم قول سمع الله لمن حمده، وخصّصه لهذه الرواية بعضهم كما سمعت بأن ذلك للإمام والمأموم، قول:  ربنا لك الحمد ربنا ولك الحمد.

 إذًا، علمنا اختلاف أئمة الفقه في اقتداء من يقدر على القيام والإمام لا يقدر عليه، وعلمنا استثناء الحنابلة لإمام الحي المرجو زوال علّته، ولكنهم قالوا يصلّي المأمومون خلفه قعودًا. وعلمنا قول الحنفية والشافعية بجواز اقتداء القائم خلف الجالس. وعلمنا الحكم في المضطجع، وأورد لنا الحديث: "عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ شَاكٍ" يعني: مريض، "وَهُوَ شَاكٍ" يشكو المرض يعني من الشكاية بمعنى المرض، "فَصَلَّى جَالِساً، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَاماً" قالوا: في هذه الواقعة وكذلك ورد في غزوة أحد، أنه صلى جالسًا من أثر الجروح التي كانت فيه، وفي مرض موته عليه الصلاة والسلام، هذه الثلاثة المواضع التي ورد أنه صلى جالسًا فيها.

  •  مرة كان مريضًا غير مرض الموت في بيته، ودخل عنده بعض الصحابة وصلى قاعدًا وصلّوا خلفه قيام. 
  • ومرة في غزوة أُحُد من الجروح التي به لم يستطع أن يقوم فصلى قاعدًا. 
  • ثم مرة في مرض موته عليه الصلاة والسلام.

 "وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَاماً، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا" بالإشارة "فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا" وفي رواية: "وإذا سجد فاسجدوا" "وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً".

وعلمت أن الجمهور على خلاف ذلك، وعلى هذا جاء مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وقال الآخرون:

  • أن هذا الحديث منسوخ؛ لأنه في مرض موته صلى قاعدًا وهم قيام، وهذا آخر الأمرين منه عليه الصلاة والسلام.
  •  وقيل أنّ هذا مخصوص بالنبي ﷺ في متابعته. 
  • والثالث إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا يعني: إذا جلس بين السجدتين وإذا جلس للتشهد فصلوا جلوس معه؛ أي: تابعوه في هذا الفعل.

 وذكر لنا حديث عروة: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ" أي: مرض موته الذي توفي فيه عليه الصلاة والسلام "فَأَتَى" المسجد، وخرج يُهادى بين سيدنا العباس وبين سيدنا علي بن أبي طالب من عدم قدرته على المشي وحده في أثناء مرضه عليه الصلاة والسلام، "فَأَتَى فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ"؛ لأنه استخلفه ﷺ وأمره أن يصلي بالناس، وقيل إن هذه الصلاة الظهر، وقيل أنها الصبح. وجاء أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ في وجعه إذا وجد خِفّةً خرج، وإذا ثَقُل قال مروا أبا بكر يصلي.

 وجاء في كلام الترمذي: أنه ثبت أنه ﷺ صلى خلف أبي بكر. وبهذا يُستدرك على عددٍ من الحفّاظ وغيرهم قالوا: أنه صلاته ﷺ خلف عبد الرحمن بن عوف كانت مما تميّز به عبد الرحمن بن عوف ولم يثبت أنه صلى خلف أحدٍ غير عبد الرحمن بن عوف، وذلك في غزوة تبوك، صلى ركعة مع عبد الرحمن بن عوف صلاة الصبح، بل قال من قال من أهل العلم: أنه أيضًا صلى خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه. "فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ" يعني: أراد أن يتأخر تأدبًا مع النبي ﷺ، "فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى جَنْبِ أبِي بَكْرٍ" في رواية جاء في الصحيح: "حِذاء أبي بكر". "فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي" قائمًا "بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" ويقتدي بالنبي ﷺ "وَهُوَ جَالِسٌ، وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أبِي بَكْرٍ" رضي الله تعالى عنه، قالوا في هذه الحالة كان أبو بكر مبلِّغًا، أي: تحوّلت الإمامة إلى رسول الله ﷺ فكان أبو بكر مبلِّغ. 

كما جاء في رواية عن عائشة: أنه رسول الله ﷺ  صلى خلف أبي بكر. وجاء في رواية أخرى عن عائشة: أن أبا بكر كان هو المأموم وأنه ﷺ  كان الإمام الذي تقدم، فكان ﷺ يصلي بالناس جالسًا وكان أبا بكر قائمًا يقتدي به. والرواية الثانية عن عائشة: أن رسول الله ﷺ صلى خلف أبي بكر في مرضه الذي توفي فيه. ويقول الإمام البيهقي: الصلاة التي كان فيها ﷺ إمامًا هي صلاة الظهر يوم السبت ويوم الأحد، والتي كان فيها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الاثنين. والمشهور أنه في صلاة الصبح بدا عليهم عليه الصلاة والسلام لما أحسّ بخفةٍ، فالتفت الناس في الصلاة من إشراق نور وجهه عليه الصلاة والسلام، لما رفع الستارة عند مدخل المسجد حتى التفت أبو بكر وأخذ يتأخر، فقال له: مكانك ودخل إلى مكانه. فجاء احتمال بعضهم أنه لما أحسّ بالخفة خرج في الركعة الثانية فأتمّ بأبي بكر، والذي يدلّ عليه ظاهر الرواية: أنه لم يصلي خلف أبي بكر وإنما أشار إليهم أن يتمّوا صلاتهم.

 

باب فَضْلِ صَلاَةِ الْقَائِمِ عَلَى صَلاَةِ الْقَاعِدِ

 

 ثم ذكر الإمام عليه رحمة الله تبارك وتعالى جواز صلاة المتنفل في النافلة وهو قاعد وإن كان قادر على القيام ولكن يكون له نصف أجر القائم وهذا بخلاف الفرض فإنه لابد أن يكون قائمًا إلا إن عجز عن القيام. يقول: "باب فَضْلِ صَلاَةِ الْقَائِمِ عَلَى صَلاَةِ الْقَاعِدِ" أي: في النوافل؛ لأنه مهما أطاق القيام في الفرائض فلا يجوز له أن يصلي قاعدًا أصلًا. وأورد لنا الحديث:  "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "صَلاَةُ أَحَدِكُمْ" يعني: في النفل "وَهُوَ قَاعِدٌ، مِثْلُ نِصْفِ صَلاَتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ" يعني: مثل نصف أجر صلاته وهو قائم؛ لما في القيام من التعظيم والمشقة والإكبار لمن يُقام بين يديه، أو لما رتّب الحق تعالى من ثواب القيام. "من صلى جالسًا فله نصف أجر القائم" يعني: إذا كان صحيحًا ليس له عذر. حمل العلماء هذا الحديث على صلاة النافلة. 

  • فإن القيام على القادر في الفرض مجمَعٌ على وجوبه وأنه لا يجوز له أن يصلي جالسًا، وهذا في الفرض لمن كان يستطيع القيام.
  • ومن شقّ عليه القيام مشقة شديدة وصلى قاعدًا فله مثل أجر القائم لأنه بعذرٍ.
  •  بخلاف إذا كان يطيق القيام أو يشقّ عليه مشقةً خفيفةً فصلى قاعدًا فله نصف أجر القائم،

 أما إن كان لا يستطيع أصلًا أو بمشقةٍ شديدة لا تحتمل فصلاته مثل صلاة القائم في الثواب، لا ينقص عنه في الثواب شيء لأنه معذور.

 وذكر أيضًا: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَالَنَا" يعني: أصابنا "وَبَاءٌ مِنْ وَعْكِهَا شَدِيدٌ" أي: شدة الحر من المرض والوعك يقال له: الحمى، يُقال لصاحب الحمى: يوعك؛ والوعك يريدون به الحمى "مِنْ وَعْكِهَا شَدِيدٌ" يعني: وباء شديد، هذا أول ما وصلوا للمدينة، ثم دعا ﷺ فنُقِلَ حمّاها إلى الجحفة فصارت طيبة طابت به عليه الصلاة والسلام، فكانت محل استشفاء بعد أن كانت محل وباء. وكان أول ما وصلوا من الهجرة، كانت المدينة وخمة فيها وباء، من جاءها يمرض، وكان أبو بكر في حُمّاه يقول: كل امرئٍ مُصبّحٌ في أهله والموت أدنى من شِراك نعله. وسيدنا بلال يتذكر مكة، يقول: 

ألا ليتَ شِعري هل أبيتنّ ليلةً *** بوادٍ وحولي إذخِر وجليلُ

 وهل أَرِدَنّ يومًا مياه مَجَنّةٍ ... وهل يَبْدُوَنّ لي شامةٌ وطَفِيلُ

وكان سيدنا النبي ﷺ يقول له: دع القلوب تَقِرّ. ثم قال: "اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد وانقل حمّاها إلى الجحفة"، فانتقل الوباء الذي كان في المدينة إلى الجحفة، فصارت المدينة محل طيّب ومحل استشفاء. حتى وَرَد: "غبار المدينة شفاء من الجذام" تحوّلت.. وأخذ تربة من بعض المواطن ﷺ يضعها على جرح المريض يقول: "تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفي سقيمنا، بإذن ربنا" ﷺ.

"فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ فِي سُبْحَتِهِمْ" أي: صلاتهم؛ لاشتمال الصلاة على التسبيح، "قُعُوداً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "صَلاَةُ الْقَاعِدِ مِثْلُ نِصْفِ صَلاَةِ الْقَائِمِ"." فالمعنى: من كان قادرًا على القيام أو بمشقةٍ خفيفة فصلّى قاعدًا في النافلة جاز ذلك ولو نصف أجر القائم، وأما من كان لا يستطيع القيام أصلًا أو يستطيع بمشقة شديدة فله أن يصلي جالسًا، وله مثل أجر القائم، والله أعلم. 

رزقنا الله الإيمان واليقين والإخلاص والصدق، وجعلنا في خيار الخلق أرباب السبق، ووقانا الأسواء وأصلح لنا السِرّ والنجوى، وحققنا بحقائق الصلاة قيامها وركوعها وسجودها وخشوعها وخضوعها، وجعلنا عنده من خواصّ أهلها في خير ولطفٍ وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

21 صفَر 1442

تاريخ النشر الميلادي

07 أكتوبر 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام