(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صلاة الجماعة، باب إعادة الصلاة مع الإمام، وباب العمل في صلاة الجماعة.
فجر الأحد 17 صفر 1442هـ.
باب إِعَادَةِ الصَّلاَةِ مَعَ الإِمَامِ
351 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الدِّيلِ يُقَالُ لَهُ بُسْرُ بْنُ مِحْجَنٍ، عَنْ أَبِيهِ مِحْجَنٍ : أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأُذِّنَ بِالصَّلاَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ لَمْ يُصَلِّ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّىَ مَعَ النَّاسِ ؟ أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟"، فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ".
352 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ : أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِى، ثُمَّ أُدْرِكُ الصَّلاَةَ مَعَ الإِمَامِ، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: نَعَمْ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَيَّتَهُمَا أَجْعَلُ صَلاَتِي؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَوَذَلِكَ إِلَيْكَ، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، يَجْعَلُ أَيَّتَهُمَا شَاءَ.
353 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: إنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِي، ثُمَّ آتِي الْمَسْجِدَ، فَأَجِدُ الإِمَامَ يُصَلِّي، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: نَعَمْ. فَقَالَ الرَّجُلُ : فَأَيُّهُمَا صَلاَتِي، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَوَأَنْتَ تَجْعَلُهُمَا، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ.
354 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَفِيفٍ السَّهْمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِى أَسَدٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ: إنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِي، ثُمَّ آتِي الْمَسْجِدَ، فَأَجِدُ الإِمَامَ يُصَلِّي، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ ؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: نَعَمْ فَصَلِّ مَعَهُ، فَإِنَّ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ سَهْمَ جَمْعٍ، أَوْ مِثْلَ سَهْمِ جَمْعٍ.
355 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ : مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَوِ الصُّبْحَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُمَا مَعَ الإِمَامِ فَلاَ يَعُدْ لَهُمَا.
356 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ أَرَى بَأْساً أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الإِمَامِ، مَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي بَيْتِه، إِلاَّ صَلاَةَ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعَادَهَا كَانَتْ شَفْعاً.
باب الْعَمَلِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ
357 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ، فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ".
358 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي صَلاَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي، فَخَالَفَ عَبْدُ اللَّهِ بِيَدِهِ فَجَعَلَنِي حِذَاءَهُ.
359 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ بِالْعَقِيقِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَنَهَاهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا نَهَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ لاَ يُعْرَفُ أَبُوهُ.
الحمد لله مُكرمنا بدينه القويم، وبيان صراطه المستقيم، على لسان حبيبه الكريم ذو الخلق العظيم سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه أفضل الصلاة والبركة والتسليم، وعلى آله وصحبه وأهل ولائه ومتابعته من كل مُقبلٍ على الحق بقلبٍ سليم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل القدر الجليّ العظيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ..
يذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- إعادة الصلاة مع الإمام وأنّ الفريضة أتُعاد وإن صلاها جماعة أولاً فثانياً؟ أو لا تُعاد إلّا إن صلاها فرادى؟
قال: "باب إِعَادَةِ الصَّلاَةِ مَعَ الإِمَامِ"، إعادة الصلاة مع الإمام خصّصه المالكية بمن كان صلى منفرداً، ومن صلى جماعةً ثمّ وجد جماعةً أخرى.
وكذلك يتصل بالمسألة كراهةُ الخروج من المسجد إذا أقيمت فيه الصلاة، فإذا أُقِيمت فلا يخرج بعد إقامة الصلاة،
وهكذا عرفنا قول الشافعية، ذلك كل صلاةٍ تُسنّ فيها الجماعة تُسنُّ فيها الإعادة. والإعادة عند الإمام أبي حنيفة للظهر والعشاء، ولا يُعيد المغرب لأنّه تصير شفعًا؛ أي: ستًّا بدل وتر، ولا يُعيد عصرًا ولا فجرًا لأنّها في أوقات الكراهة، عندهم ممنوع أن يُعيد في هذا الوقت. إذًا، الإعادة مرةً هي الّتي قال بها الإمام الشّافعي والإمام أحمد بن حنبل. وما زاد على ذلك من إعادة ثانية وثالثة ففيه أيضًا اختلافٌ بين أهل العلم.
أورد لنا حديث: "عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الدِّيلِ يُقَالُ لَهُ بُسْرُ بْنُ مِحْجَنٍ"، وجاء في رواية عن سفيان أنّه: "بِشر"، والرواية في الموطأ أنّه: "بُسْرُ بْنُ مِحْجَنٍ، عَنْ أَبِيهِ مِحْجَنٍ" الصحابي، الابن تابعي. "أَنَّهُ كَانَ" يعني: سيدنا محجن "فِي مَجْلِسٍ" أي: داخل المسجد "مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأُذِّنَ بِالصَّلاَةِ"، جاء عند بعضهم أنّها كانت صلاة الظهر، "فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ" يعني: بعد الفراغ من الصلاة "وَمِحْجَنٌ" جالسٌ "فِي مَجْلِسِهِ" في مكانه الأول "لَمْ يُصَلِّ مَعَهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّىَ مَعَ النَّاسِ؟" أي: جماعة المسلمين الذين صلوا معه ﷺ "أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟"، وفيه إناطة الصلاة بالإسلام، وأنّ المسلم من يصلي، وأنّ المسلم محافظٌ على الصلاة؛ ومن هنا جاء الاختلاف في كفر تارك الصلاة "أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟" وفيه شيءٌ من توبيخه، "فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي"؛ اكتفيت في صلاتي في أهلي، "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ".
وعلمنا أنّه إن كان صلى في أهله وحده، فبالاتفاق ينبغي أن يعيد الصلاة، وإلّا فيعيدها على مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وإن كان قد صلى في أهله جماعة. وعلمنا ما قاله الحنفية: أنه لاتعاد إلا الظهر والعشاء، وقالوا إنّ الإعادة نافلة والنافلةُ، لا تصح بعد صلاة الصبح ولا بعد صلاة العصر.
وهكذا جاء الحديث الآخر: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِى، ثُمَّ أُدْرِكُ الصَّلاَةَ مَعَ الإِمَامِ، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: نَعَمْ." صلّي معه "فَقَالَ الرَّجُلُ: أَيَّتَهُمَا أَجْعَلُ صَلاَتِي؟" يعني: أيّهما أعتدّ بها عن فرضي "فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَوَذَلِكَ إِلَيْكَ، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، يَجْعَلُ" أي: الفريضة "أَيَّتَهُمَا شَاءَ."
فيترتب عليه لو انكشف له بطلانٌ في الأولى فهل يكفي أنه صلى مرةً ثانية؟
إذًا، فجماهير الفقهاء على أنّ الأولى هي الفريضة.
وكذلك أورد لنا: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: إنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِي، ثُمَّ آتِي الْمَسْجِدَ، فَأَجِدُ الإِمَامَ يُصَلِّي، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: نَعَمْ. فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَيُّهُمَا صَلاَتِي، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَوَأَنْتَ تَجْعَلُهُمَا" ليس إليك تعيينها! "إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ." يعني: يقبل أيّهما شاء. يعني صليت الاثنتين بنية الفرض، فالحقّ يتخير منهما ويقبل ما شاء منهما. وهو كمثل قول ابن عمر.
وأورد: "عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِى أَسَدٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ: إنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِي، ثُمَّ آتِي الْمَسْجِدَ، فَأَجِدُ الإِمَامَ يُصَلِّي، أَفَأُصَلِّي مَعَهُ؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: نَعَمْ فَصَلِّ مَعَهُ، فَإِنَّ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ سَهْمَ جَمْعٍ، أَوْ مِثْلَ سَهْمِ جَمْعٍ." جاء في رواية أنّ السائل رجل من بني أسد بني خزيمة سأل أبا أيوب الأنصاري فقال له أبو أيوب: سألنا عن ذلك النبي ﷺ فقال: "فذلك له سهمُ جمع" يعني: نصيب ثواب الجماعة، "سهم جمعٍ" نصيب وقسط ثواب الجماعة، يعني: يحصل ثواب الجماعة هذا إذا كان قد صلى أولاً منفردًا.
وهكذا نقل عن: "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ : مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَوِ الصُّبْحَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُمَا مَعَ الإِمَامِ فَلاَ يَعُدْ لَهُمَا."، للنهي عن الصلاة بعد الصبح، ولكون المغرب تتحول إلى شفع وأصلها وتر. "قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ أَرَى بَأْساً أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الإِمَامِ، مَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي بَيْتِه، إِلاَّ صَلاَةَ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعَادَهَا كَانَتْ شَفْعاً."
وفي الإشارة إلى ربط الإسلام بالصلاة جاء قول بعض الصحابة وقول الإمام أحمد بن حنبل: أنّ تارك الصلاة متعمداً يُعد كافراً.
فإن لم يرجع عن جحوده.. قُتل ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يُصلى عليه وماله فَيءٌ للمسلمين لا يرثه ورثته. وإن كان يُقر بوجوبها ولكن تركها كسلاً وعمداً:
واستدل الإمام أحمد ومن قالوا بِكُفرِ تارك الصلاة بأحاديث: "ليس بين العبد وبين الكفر -أو قال الشرك- إلّا ترك الصلاة"،
وقوله ﷺ: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، وقوله: "من تَرَك الصلاة فقد حَبِطَ عمله"، ومن ترك الصلاة حُشر مع قارون وفرعون وهامان، "من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم.."، وغير ذلك مما ورد من الآثار.
وقال الجمهور: أنه لا يُعد بذلك كافر، وما جاء من لفظ الكفر في الحديث كقوله: "لا يشرب الخمر حين يشربها مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن.."، إلى أمثال ذلك مما ورد فهو مؤولٌ. وأنّ سيدنا أبا بكر الصديق قاتل مانعي الزكاة وقال: أقاتل من فرّق بين الصلاة والزكاة، ولا عدّهم من الكفار ولا من المرتدّين. شحّوا بأموالهم فامتنعوا، فقاتلهم عليه الرضوان، فكان في ذلك تثبيت لركن الزكاة، ونصر من الله للمسلمين بعد ما قاتلوا مانعي الزكاة خذل الله طوائف أهل الردة وأهل الكفر المحاربين للمسلمين. ويقول شاعرهم في شحّهم بالمال في الزكاة:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا *** فياعجبًا ما بال مُلك أبي بكر
فإنّ الذي سألكمُ فمنعتمُ *** لكالتّمر أو أشهى إليه من التمرِ
وقالوا: إن الله قال: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا..) [التوبة:103] هذا خطاب للنبيّ وليست صلاة أبي بكر زكاةً لنا والعياذ بالله تعالى من التأويلات الفاسدة، فقاتلهم أبو بكر. وفي الحديث: "إنّي نُهيت عن قتل المصلين"، فتبين أنّ ذلك مجرد حدٍّ بترك الصلاة وليس بكفرِ كما هو قول الجمهور.
فعُلِمَ أنّ قوله: "أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟" إنّما أراد به التوبيخ له، كيف مع إسلامك تُعرض عن الصلاة؟ بل أورد الإمام ابن حجر في شرحه على الأربعين النووية في الفتح المبين حديثاً أنّ مُعيد الصلاة في جماعة، ممّن يظلّهم الله في ظلّ عرشه يوم لا ظل الاّ ظله. فإذا أتى المسجد وجد الصلاة تُقام أو وجدهم يصلون، قد شرعوا في الصلاة فعليه أن يصليها معهم.
عن سليمان بن يسار قال: رأيت ابن عمر جالس على بلاطٍ والناس يصلّون، قلت: يا عبد الرحمن مالك لا تصلي؟ قال: إني قد صليت، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا تُعاد الصلاة في يوم مرّتين". فهذا دليل الذين لم يستحبّوا إعادتها لمن قد صلى جماعةً. وخصّص بعضهم المساجد الثلاثة، قال: يُعيد الصلاة فيها جماعةً، من صلى في جماعة في مسجدٍ أو في مسجد آخر لفضلها. فعلمنا اختلافهم وتفريقهم بين من صلّى منفردًا ومن صلى جماعة.
وقول المالكية ومثلهم الحنابلة والحنفية في صلاة المغرب: أنّها لا تعاد؛ وأنّ التنفل بالثلاث بعد المغرب مكروه. وزاد الحنفية: عدم إعادة العصر والفجر في موطن الكراهة عندهم. فالمُعادةُ تكون نافلةً كما قال الشافعي، وكذلك عند الشّافعية والحنابلة: أن الفرض هو الأول فقط ولا يتكرر.
ومذهب الإمام مالك: ما أشارت إليه الروايات التي أوردها في الموطأ عن ابن عمر وغيره من الصحابة، أنّ ذلك إلى الله تعالى يتخيّر منهما ما شاء. وعلمنا معنى "سهم جمعٍ"؛ أنّه إدراك ثواب الجماعة؛ بمعنى: له سهمان من الأجر، يقول ابن وهب، وأنّه أدرك بإعادة الصلاة ثوابًا زائدًا. وذكر قول ابن عمر: "مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَوِ الصُّبْحَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُمَا مَعَ الإِمَامِ فَلاَ يَعُدْ لَهُمَا. قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ أَرَى بَأْساً أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الإِمَامِ، مَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي بَيْتِه، إِلاَّ صَلاَةَ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعَادَهَا كَانَتْ شَفْعاً."
إذًا:
وهكذا جاء اختلاف الأئمة عليهم رحمة الله تبارك وتعالى.
إذاً، في المغرب قال بعدم الإعادة فيها الإمام مالك وكذلك عند الحنفية والحنابلة، ولكن زاد الحنفية صلاة العصر وصلاة الفجر.
ثم ذكر لنا العمل في صلاة الجماعة يقول: "باب الْعَمَلِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ" وذكر حديث: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ، فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ" فأرشد ﷺ إلى مراعاة جماعة المسلمين، فاستحبّ للإمام أن يُخفف في القراءة والأذكار، والمرجعُ بعد ذلك قد يختلف باختلاف أحوال الناس وأوقاتهم وظروفهم وشؤونهم وهمِمهم. وإلّا فقد جاء عنه وعن الخلفاء الراشدين قراءةُ كثيرٍ من طوال المفصّل في عددٍ من الفرائض. وتقدّم معنا قول الصدّيق عندما قيل له كادت الشمس أن تطلع، قال: لو أشرقت لم تجدنا غافلين.
وقال الشافعية: ينبغي أن يتوسّط الإمام؛ فلا ينقص عن ثلاثٍ من تسبيحات في الركوع والسجود، ولا يزيد عليها إلاّ إذا علم رضى المأمومين بذلك. إلاّ ما يُنْدب من الإنتظار للداخل في الركوع ليدرك الركعة، أو في التشهّد ليدرك الجماعة. فكما يُكره التّطويل للّذي يحصل به الملل أو التنفير للناس، فكذلك يُكره الإسراع الّذي يُفوت على المأمومين السُّنن، ولا يمكنهم من أداء السنن خلفه. فكذلك هو أيضًا مكروه، فلا ينقص عن ثلاثٍ من التسبيحات في الركوع وفي السجود، فذلك المتوسط من الصلاة وأدنى الكمال فيها، فلا ينقص عنه حتى يتمكن المأمومين من الصلاة خلفه وفعل السنن فيها.
ثمّ يذكر موقف المأموم من الإمام إذا صلّى وحده، وإذا كان معه عددٌ.
فقال: "عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي صَلاَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي، فَخَالَفَ عَبْدُ اللَّهِ بِيَدِهِ فَجَعَلَنِي حِذَاءَهُ." عن يمينه؛ أي: محاذيًا له بجانبه ومتأخرًا قليلاً عن الجانب الأيمن،
وهكذا جاء عن بعض الصحابة أنّه صلّى مع النبي ﷺ فوقف عن يمينه، ثمّ جاء آخر يصلي مع النبي ﷺ فوقف عن يساره -وهذا في صلاة نافلة- فأخذ بأيديهما حتى أقامهما خلفه ﷺ. فإذا كانوا أكثر من واحد فيكونان خلفه أو يكونون خلفه، وأما إن كان واحد فعن يمينه. وعلى هذا الترتيب:
قال الشافعية أيضًا: إذا جاء الأول صلّى عن اليمين، فإذا جاء آخر وهما يصلّيان، صلى عن اليسار، فإذا أحرم تأخّرا فاصطفّا معًا خلف الإمام، أو تقدّم الإمام واصطفا مع بعضهما البعض، وتأخّرهما أفضل كما سمعنا في الحديث أنه أخذ بأيديهما وردّهما خلفه ﷺ. وجاء عن ابن عباس أنّه جاء مرةً في صلاة اللّيل مع النّبي ﷺ، فوقف عن يساره، فأداره ﷺ إلى يمينه. إذًا، يقف عن اليمين هو الأفضل. فإذا كان معه رجلٌ وامرأة، فيقيم الرجل عن يمينه والمرأة خلفهما.
وقال الأئمة الثلاثة بل تصلي واحدةً منهنّ إمامًا ويصطفِفن في صفّها من دون أن تتقدّم عليهم، كحال الرجل الواحد مع الإمام؛ يصلي بجانبه فكذلك، إنّما تتقدمُ شيئًا يسيرًا.
ووجوب تقدّم الإمام إلى جهة القبلة عن المأموم أيضًا عند الأئمة الثلاثة. وقال المالكية: يجوز أن يكون بينهم أو خلفهم إذا علموا بانتقالاته ليتابعوه.. يجوز. ولو كان أحد المأمومين متقدّم على الإمام إلى جهة القبلة فتصحّ عند المالكية إذا عَلِم انتقالات الإمام. فشرط صحة الجماعة عندهم أن يعلم المأموم بانتقالات الإمام، ولا يجب أن يتأخر عنه في الموقف، ويجوز أن يكون أمامه.
وقال غيرهم: لا! إلّا في حالة شدة الخوف، إذا صلوا فيجوز أن يكون الإمام وسطهم وخلفهم، وأما في غير ذلك فيجب أن يكون الإمام أقرب إلى القبلة من المأمومين عند الأئمة الثلاثة.
وهذا باقي الحديث الأخير في الباب عندنا: "أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ بِالْعَقِيقِ" الموضع المعروف بالمدينة المنورة وادي العقيق، "فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَنَهَاهُ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا نَهَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ لاَ يُعْرَفُ أَبُوهُ." لا يعرف له أب، فاختلف الناس فيمن لا يُعرف له أب، لم يكن ولدًا من نكاح، هل يكون إمامًا؟
وعلى كل الأحوال لكون الإمام صلة بين المأمومين وبين ربّهم -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، فينبغي أن يختاروا الواسطة الأطهر والأفضل، والله أعلم والحمد لله رب العالمين.
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة وألهمنا رشدنا، وتممّ سُعدنا، ورزقنا إقام الصلاة على الوجه المرضي له في عافية، وإلى حضرة النبي ﷺ.
19 صفَر 1442