(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صلاة الجماعة، باب فضل صلاة على صلاة الفذ.
صباح الأربعاء 13 صفر 1442 هـ.
باب فَضْلِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلاَةِ الْفَذِّ
343 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"
344 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ، بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءاً"
345 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْماً سَمِيناً، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ الْعِشَاءَ"
346 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: أَفْضَلُ الصَّلاَةِ، صَلاَتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، إِلاَّ صَلاَةَ الْمَكْتُوبَةِ.
الحمد لله مُكرمنا بالشَّريعة الغرّاء، وأحكام دينهِ الذي جاءَنا على يد ولسانِ نبيّه خير الورى، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدكَ المُصطفى سيدنا مُحمّد وعلى آله الأطهار وأصحابه الكُبراء، ومن سارَ بمَسيرهم وبمَجراهم جرى سِرًّا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياءك ورُسلك مَن رَفَعتُهم على من سِواهم من الخَلق طُرّا، وعلى آلهم وصَحبهم وتابعيهم، وملائكتكَ المُقربين، وعبادكَ الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر لنا الإِمامُ ماَلِكْ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذا الباب الأحاديث المتعلقة بصلاة الجماعة ويقول: "كِتَاَبُ صَلاةِ اَلجَمَاعة"، وهي الشِّعار للإسلام، والمَظهر الذي جعله الله تبارك وتعالى بينَ أهلِ هذه المِلّة، يَجتمعُ فيه العالِم بالعامّي، والصَّغير بالكبير، والغَني بالفقير، والأميرُ بالمأمور، ويَستوونَ جميعًا في صفوفهم، بين يَديّ ربهم جل جلاله وتعالى في عُلاه. فيكونُ أمرًا شائعًا بين أهلِ الاجتماع، فيجتمعُ أهلُ كلِ جوارٍ في اليَوم والليلة، وأهلُ كل محلّةٍ ومدينة في كل أسبوعٍ بين الجَماعة والجُمعة، ويحصلُ من ذلك خيراتٌ ومبرّاتٌ وتفقداتٌ ومُسائلات، إلى غيرِ ذلك من الحِكمِ الكبيرةِ في صلاة الجَماعة. وجمهور أهلِ العلمِ على أنها مؤكدةٌ؛
وقال داوود الظَّاهريّ وأهل الظَّاهر، أنها فرضُ، وأنه يجب أن لا يُصلِّيَّ فريضةً من الفرائض الخمسِ إلا جماعة. فالذي عليه الجماهيرُ من أهل العلم: أنها ليست بفرضٍ على الأَعيان، ولكن ما بينَ فرضِ كِفاية، وسُنة مؤكدة على الأعيان، واسْتدلّوا بمثلِ هذا الحديث الذي أورده الإمام مالك.
وقدْ شُرِّعت الجَماعة قيل بالمدينة، وذكرَ في الروضة أنَّ أصل مشروعيتها بمكة، وما أُثِرَ مِنْ صلاته ﷺ بخديجة وبعليّ جماعةً، وكذلك ما ذُكر مِنْ أَنَّهُ صلَّى بالصَّحابةِ صبيحةَ الإسراء، صلاة سيدنا جبريل؛ سيدنا جبريل صلَّى بالنَّبي محمد ﷺ الظُهرَ يوم الإسراء، فصلَّى جماعةً معه ﷺ، وجعلها عليه الصلاة والسلام من الفوارقِ بين المؤمنِ والمُنافق.
فقال جماعةٌ مِنْ أهلِ العلمِ أنّها فرضٌ على الكفاية، بحيثُ يُقاتَل أهلُ المحلة والقرية إذا لم تُقَم فيهم في مكانٍ جامعٍ، يَسهُل حضورهُ على أهلِ المروءات، ليس بمنزل أحد وبيته الخاص، ولا مكان خاص يَتهيَّبُ الدخول إليه من قِبلِ أهلِ المروءة؛ ولكن في مسجدٍ أو مكانٍ عام تُقام فيه الجماعة. وفي الحديث قال ﷺ: "ما مِن ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدوٍ لا تُقامُ فيهِمُ الصلاةُ إلا قدِ اسْتَحوَذَ عليهمُ الشيطانُ".
قال بعضُ أصحابُ الشَّافعي: أنَّ الجماعةَ فرضٌ على الكفاية، وقالوا أنَّ قوله ﷺ: "صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ" دليلٌ على السُّنية فيها؛ لو لم تكُن صلاة الفَذِ مُجزئِة لمَا وُصِفت أن صلاة الجَماعة تفضلها؛ وحدَّدَ بذلك بخمس وعشرين، وسبع وعشرين درجة،... فلو لم يكن هناك درجة أصلًا لصلاة الفرد فكيف تتكون السبع والعشرين درجة! من أين؟ من لا شيء! فلابُدَّ أن يكونَ لصلاة الفرد درجة، ويتَضاعفُ فيها الدرجات للمُصلِّي في جماعة، فدلَّ ذلك على عدم فَرضيةِ الجَماعة إلا في الجُمعة. فالكلُ مُجمِعٌ على أنهُ لابُدَّ من صلاة الجَماعة في الجُمعة؛ ولا تنعَقدُ الجمعة لفرادى أصلًا.
فورَدت الأحاديثُ في الحَثِ على الجَماعة في الصلوات، وأوردَ لنا: "صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ"؛ أيّ: الفردْ، "بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً" أي: يكون ثوابها كمثلِ الصلاةِ للمنفردِ سبعًا وعشرين درجة، تضعَفُ في الرواية الأخرى، تضعَفُ على صلاتهِ في بيتهِ، وسوقهِ، خمسةً وعشرين ضِعفا.
وأوردَ لنا: عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ" أي صلاةُ الواحدِ منكم في الجماعة "أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ،" يعني منفردًا، "بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءاً"، قال الترمذي وعامة من روىَ: بخمسٍ وعشرين؛ إلا ابن عمر قال: سبعًا وعشرين. فالذينَ سلكوا مسلك الترجيح، منهم من أخذ بكثرة الروايات ومنهم من أحتجَ بأن روايةِ الثقةِ، وزيادةُ الثقةِ مقبولة، ما بين خمسٍ وعشرين، أوسبعٍ وعشرين.
فمن غيرِ محاولةِ الترجيح، والجمع بين الروايات عند جماعةٍ من أهلِ العِلم، فالمرجّحونَ منهم من قال:
وأما في الجمعِ بين الروايتين:
ثم ذكرَ للسّبعِ مناسبة، وأنَّها عدد ركعات الفرائض ورواتبها، وكذلك ما قال بعضهم: أنَّ الحَسنة بعشرٍ للمُصلي المنفرد، فإذا انضمّ إليهِ آخر بلغت عشرين، ثم زِيدَ بقدرِ عدد الصلواتِ الخمسْ فصارت خمس وعشرين. أو عدد أيام الأسبوع، فصارت سبعًا وعشرين.
وعلى كلِ الأحوال؛ فإنَّ مُقتضى كلام الإمام الغزاليّ وغيره، أنَّ أمثالَ هذه الأعداد الواردة لها أسرارٌ تنكشِف بنورِ النّبوة؛ وأنَّ الفضلَ في مثلِ هذه الأعمال والإثابة عليها، راجعٌ إلى جود الرَّحمنِ وإلى كرمهِ، لا دخلَ للعقول فيه ولا لِقاعدة المشقة. فالحقُ يتفضلُ لمن يشاءُ، ويضاعِفُ لمن يشاء.
ووعدنا على الجَماعة مُضاعفة الأعمال، وقال كما يأتي معنا في البابِ المُقبلِ عنْ صَلاةِ العِشاءِ والصُبح: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ" أي ما في الأذان من فضلٍ وثواب، "والصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أنْ يَسْتَهِمُوا عليه لاسْتَهَمُوا" وضَربوا القرعة ليحوزَ كلٌ مِنهم السبق في الأذان وفي الصف الأول، "ولو يَعْلَمُونَ ما في التَّهْجِيرِ، لاسْتَبَقُوا إلَيْهِ،" هو التبكير، "ولو يَعْلَمُونَ ما في العَتَمَةِ" يعني: صلاة العشاء "والصُّبْحِ، لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا". وجاءنا في الحديث: "مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ".
وأوردَ لنا الحديثين في مُضاعفة صلاة الجماعة ومنها رواية: "صَلَاةُ الرَّجُلِ في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ علَى صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ، وفي سُوقِهِ، خَمْسًا وعِشْرِينَ ضِعْفًا، وذلكَ أنَّهُ: إذَا تَوَضَّأَ، فأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلى المَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إلَّا رُفِعَتْ له بهَا دَرَجَةٌ، وحُطَّ عنْه بهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عليه، ما دَامَ في مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عليه، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولَا يَزَالُ أحَدُكُمْ في صَلَاةٍ ما انْتَظَرَ الصَّلَاةَ". ففي انتظار الصَّلاة ثوابُ الصَّلاة، وفي الجلوس بعد الصلاة دُعاء الملائكة للجاَلس بعد صلاته حتى يُغيّر هيئته، وينصرفْ عن هيئة الصَّلاة. وما دام جالسًا في المُصْلّى الذي صلَّى فيه، تدعو له: اللهمّ صلِّ عليهِ، للهم أرحمهُ. وفي روايةٍ: اللهم اغفر لهُ، اللهم ارحمهُ، اللهم تُب عليهِ. ولا تزال تشتغل بالصَّلاةِ عليه حتى يقومَ مِنْ مكانهِ الذي صلَّى فيه أو يُحدث.
كما أوردَ لنا حديثَ هَمِّهِ وعَزمهِ بتحريق بُيوت المُتخلفين عن الجَماعة، يقول عليهِ الصلاة والسلام: "وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ" ، وهذا كان قَسَم يُقسِم بهِ ﷺ؛ يعني النَّفوسْ بيد الله تعالى وتقديرهِ وتدبيرهِ، وفي جَواز الحَلف على أمرٍ لا شك فيهِ، من أجل التنبيه على عَظَمتهِ وعَظَمة فائدتهِ، وما إلى ذلك، لِعِظَمِ شأنه. "لَقَدْ هَمَمْتُ" يعني: عزمتُ "أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ،" بمعنى: يُجمَع، "ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ" فتُقام صلاة الجَماعة، وينطلِقْ إلى المُتخلّفين عنها.
جاء في روايةٍ أنَّ الصَّلاة التي همَّ أن يحرقَ المُتخلفين عنها:
"فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ،" أي: يُصلي إمامًا بالنَّاسِ، "ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ" يعني: أذهب إليهم وآتيهم، "فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ" بالنَّار عقوبةً لهم. قالَ جماعةٌ من أهل العلمِ: أنَّ الحديث وردَ لأجل الزَّجر، وليست حقيقته مُرادة، والمُرادُ المُبالغة، لما حصلَ من الإجماعِ على منعِ عقُوبة أحدٍ بالتحريق، وأنه "لا يُعذب بالنَّارِ إلا ربّها" جل جلاله وتعالى في علاه.
ومعلومٌ قول بن مسعود: "ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عن الصلاة -أي: الجماعة- إلا منافقٌ معلوم النفاق". وجاءَ الخِلافُ في هذا الُمتخلّف عن الجَماعة، هل يجوز أن يُعاقب بتحريقِ بيتهِ أو مسكنهِ أو شيء من متاعهِ؟ فأمَّا في غيرِ ذلك فاتفقوا على المنعِ؛ ولكن في صلاة الجَماعة جاء الخلافُ من أجلِ هذا الحديث الوارد.
وسمعنا قوله ﷺ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ" يعني: يُجمع "ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا" يعني: تُقام الصَّلاة، " ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ" في وصفِ هؤلاءِ الرجال المُتخلفين عن الجَماعة، "لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْماً سَمِيناً، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ" مثنّى مرماة ما بين ظلفيِّ الشاة من اللحم، "حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ الْعِشَاءَ"، وجاءَ عن مالك في مِرمَاتين: يعني شَحمين.
وفي رواية: "لقَدْ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ المُؤَذِّنَ، فيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِن نَارٍ، فَأُحَرِّقَ علَى مَن لا يَخْرُجُ إلى الصَّلَاةِ بَعْدُ". فالقصدُ تأكيدُ الجَماعة ومكانتها، ولم يُنقل عنه، ولا عن أحدٍ من الخلفاء الراشدين أنّهُ صلَّى فريضةً واحدة منفردًا قط، فلا يُصلون إلا جماعة. ويروى: "من حافظ على الصَّلوات الخمس في جماعةٍ، فقد ملأ البرَّ والبحر عبادةً"
وجاءنا في هذه الرواية: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْماً سَمِيناً، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ الْعِشَاءَ"
نصّ على المرماتين والعظمِ الَّسمين على وجه التَّحقير، ِلما يؤثرهُ المُنافقون ويبادرونَ إليه، ويتَخلّفون عن العظيم، والأجرِ الكبير، ولا يحسبون له حسابًا، وذلك لعلةِ النفاق والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فنعلمُ أنَّ الجماعة في الفرائضِ.
وذكرنا الحديث "ما من ثلاثةٍ في قَريةٍ، ولا بَدوٍ لا تُقامُ فيهمُ الصلاةُ إلَّا استَحوَذَ عليهمُ الشيطانُ، فعليكَ بالجَماعةِ؛ فإنَّما يأكُلُ الذئبُ مِنْ الغَنَمِ القاصيةَ".
وقال بعض المالكية في تفصيل المسألة:
فتكون فرض كفاية على أهل البلدة وأهل المنطقة، وتكون في حقّ الفرد بعد ذلك منهم، وفي كل مسجدٍ سُنة مؤكدة.
وأستأنسَ القائلون بالوجوبِ من الحنابلة وغيرهم بقوله (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ ..)[النساء:102] والإعتناءْ بالجماعة حتى في الخوف وأثناء الحرب والقتال، فمن باب أولى غيرها، وأنهُ ﷺ لم يُرخِّص للأعمى الذي قال له: أتسمعُ الأذان؟ قال: بلى، قال: فحيّ هلًا؛ فأجِب المنادي إذًا. فاسْتدلّوا على أنها واجبة، وقال الآخرون إنما َدعى ذلك الأعمى إلى الأفضل، كما أنّه عليه الصلاة والسلام أرشد القرآنُ المجاهدينَ إلى أن يعملوا الأفضل مِنْ إقامة الجماعة، مع حرصهم أن يكونوا خلف النبي ﷺ فقسمهم إلى فرقتين كما نقرأ في الآية الكريمة: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) [النساء:102].
وذكر لنا: "عَنْ بُشرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: أَفْضَلُ الصَّلاَةِ، صَلاَتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، إِلاَّ صَلاَةَ الْمَكْتُوبَةِ."
ففيه تفضيلُ النوافل في الدّيار والمنازل، واسْتثنى الفقهاء عندنا:
وهكذا "أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة".
وسردَ لنا فضل شهود العِشاء والصّبح في جماعة بالأحاديث والروايات المتعددة زيادةّ على بقية الفرائض؛ إن كان الكل له فضل عظيم ولكن يكون أعظم في صلاة الصُّبح في جماعة، وصلاة العِشاء في جماعة، وقالوا: أثقل صلاةٍ على المنافقين صلاة الفجر في جماعة، وصلاة العشاء في جماعة. بل قال الصحابة: "ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عن الصلاة -أي: الجماعة- إلا منافقٌ معلومُ النفاق" والعياذ بالله تبارك وتعالى.
جعلنا الله وإياكم ممن اغتنم العُمر وصَرفه في مُوجبات الرضى والأجر، وحُميَ من كل آفةٍ و وزر، وشرح الله له الصدر، وتولّاه في السر والجهر، وأصلح له كل أمرٍ في لطف وعافية بسر الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
16 صفَر 1442