(535)
(364)
(339)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، باب جامع الوقوت.
فجر الأربعاء 3 ذي القعدة 1441هـ.
باب جَامِعِ الْوُقُوتِ
21 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ".
22 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ, فَلَقِيَ رَجُلاً لَمْ يَشْهَدِ الْعَصْرَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ؟ فَذَكَرَ لَهُ الرَّجُلُ عُذْراً، فَقَالَ عُمَرُ: طَفَّفْتَ. قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَيُقَالُ لِكُلِّ شيء وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ.
23 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ وَمَا فَاتَهُ وَقْتُهَا، وَلَمَا فَاتَهُ مِنْ وَقْتِهَا أَعْظَمُ، أَوْ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِه.
24 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَدْرَكَ الْوَقْتَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَّرَ الصَّلاَةَ سَاهِياً أَوْ نَاسِياً، حَتَّى قَدِمَ عَلَى أَهْلِهِ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدِمَ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ فِي الْوَقْتِ، فَلْيُصَلِّ صَلاَةَ الْمُقِيمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَدِمَ وَقَدْ ذَهَبَ الْوَقْتُ، فَلْيُصَلِّ صَلاَةَ الْمُسَافِرِ، لأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي مِثْلَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ. قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ هُوَ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ وَأَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا.
25 - وَقَالَ مَالِكٌ: الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ الَّتِي فِي الْمَغْرِبِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ الْحُمْرَةُ، فَقَدْ وَجَبَتْ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَخَرَجْتَ مِنْ وَقْتِ الْمَغْرِبِ.
26 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَذَهَبَ عَقْلُهُ، فَلَمْ يَقْضِ الصَّلاَةَ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ فِيمَا نَرَى -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ ذَهَبَ، فَأَمَّا مَنْ أَفَاقَ وَهُو فِي الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي.
الحمد لِلَّه مُكرمنَا بِنور العلم والْفَهْم، والْمُخلِّص لَنَا مِن الضَّلَال والْوَهْم، بِمَا أَوحَى إِلى عَبدِه مُحمَّد بْن عَبْد اَللَّه صَفْوته مِن بَرايَاه، صَلَّى اَللَّه وَسلَّم وبارك وَكرَّم عليْه وَعلَى آله وَصحبِه اَلهُداة، وَعلَى من اِتَّبعَهم بِإحْسَان ووالاهم فِي اَللَّه، وَعلَى آبائه وإخْوانه مِن رُسُل اَللَّه وأنْبياه، وَعلَى اَلهَم وَصحبِهم وملائكة اَللَّه المقرَّبين، وَصالِحِ عِبَاد اَللَّه أَجمعِين، وَعَلينَا مَعهُم وَفيهِم، إِنَّه أَكرَمُ الأكْرمين وأرْحم الرَّاحمين.
وبعْدُ،
فيذْكُر لَنَا الإمَام مالك -عليْه رَضْوان اَللَّه تَعالَى- فِي اَلمُوطأ بابُ جَامِعِ الوقوتْ، أيْ: الأحاديث اَلتِي تَتَكلَّم عن شُؤُونِ أَوقَات الصَّلَاة يَقُول: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ" "؛ ففيه التَّغْليظ لمن تَفوتُه صَلَاةُ العصْر، فقيل لِأَنه سُئِل عن صَلَاة العصْرِ فَجَاء كَذلِك، والتَّغْليظ فِي الصَّلوات كُلِّهَا، وَيُؤخَذ مِن اَلحدِيث كمَا يُؤخَذُ مِن أَحادِيث مَن حَلْفَ على يَمينٍ كَذِبٍ بَعْد العصْر، أنَّ لِلْعصْر خُصوصِيَّة، وزيادة فَضِيلَة وَمَزيَّة. والْقَوْل الأرْجحُ أَنهَا هِي الصَّلَاة اَلوُسطى -صَلَاة العصْر- وقد وَرَد فِي ذَلِك حديث، وَكَان نَظرُ أَكثَرِ أَهْل العِلْم فِي اَلوسطى أنَّ مَا بَيْن العصْرِ والصُّبْح، وَلَكِن يَتَرجَّح القوْل بِأنَّها صَلَاة العصْر.
وتخْتصُّ صَلَاة العصْر بِمزيد فَضْلٍ وَثَوابٍ لِمَن قام بِحقِّهَا، ومزيدِ حَسرَةٍ وَنَدامَة لِمَن أهْملَهَا أو ضيَّعهَا أو تَهاوُن فِيهَا. فَيقُول: "الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ.."، فاَلْفَواتُ الأكْبر بِأَنْ يُؤَخِّرَهَا حَتَّى تَغرُب الشَّمْس، فَهذَا فَوَات كبير وشديد وشنيع، فَإذَا كان بِغَيرِ عُذْرٍ فَيكُون حسْرَتُه و نَدامتُه عِنْد رُؤيَة جَزَاءِ تأْخيره وعظيم مَا فَاته مِن الثَّوَاب أشدَّ مِن حَسرَةِ مَن هَلَكَ عليْه الأهْلُ والْمَالُ فِي لَحظَةٍ وَاحِدة.
وَتِرَهُم: أيْ انْتقصهم وذهبوا عليْه وهَلكوا، فأَمْرُهُ شديد،
الاشْتراك فِي الحسْرة والنَّدامة لََا إِشكَال فِيه، وَأمَّا تَرتُّب العقَاب والثَّواب فَإنَّهُ يكون لِمَن أخَّرهَا عن وقْتِهَا كُلِّه حَتَّى غَربَت الشَّمْس، فَمَن فَهِم مِنْ مَعنَى قَولِه: "...كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ"؛ أَنَّه عِتَابٌ يَقتَضِي العذَاب، فلَا بُدَّ أنْ يُفَسِّرها بِخروجهَا عن وقْتِهَا مِن أَصلِه حَتَّى تَغرُبَ الشَّمْس، وَأمَّا مَن لَم يَفهَم أنَّ ذَلِك يَحمِل مَعنَى العذَاب وَإِنمَا يَكُون حسْرتُه وِنْدامتُه على مَا فَاتَه، فمنْهم مَن جَعْل ذَلِك فِي مُجرَّد أن تَفوتَه جَماعَة العصْر، كمَا نَقرَأ عن سيِّدنَا عُمَر أَنَّه قال للّذِي فاتتْه الجماعة الأولى والعصْر باقِ لََا يَزَال، "...فَقَالَ عُمَرُ: طَفَّفْتَ" أيْ: ضَيّعَت على نَفسِك الأجْر وأنَقصْتَ على نَفسِك الخيْر فَغَبِنْتَ فِي تَأخُّرِكَ عن حُضُور الجماعة اَلأُولى.
يَقُولُ: "الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ"؛
وَكذَلِك اَلذِي يُصَاب بِأهْله وَمالِه يَجمَعُ بَيْن هَذِه الإصابة والغمّة وبيْن ما يقاسي مِن طلب الوِتِر وَهُو القِصَاص وأخْذ اَلحَق مِنَ الآخر، فيحْتَاج إِلى تعبٍ فَوْقَ التَّعب اَلذِي هُو فِيه -والْعياذ بِاللَّه تَبارَك وَتَعالَى-، وَيُذكَر كمَا أسْلفْنَا أنَّ قائلًا قال لِرّسول الله ﷺ: "مَا مِثْل مَن تَفوتَه صَلَاة العصْر؟ قال: هُو كمَنْ وُتِرَ أَهله وَمالَه"،..لا إله إلا الله!، وفيه تَلمِيحٌ بِفَواتِ ثَوَابٍ يُدَّخَرْ لَه فِي اَلآخِرة.
وَعَظَّم اَلنبِي ﷺ شَأْن هَذِه الصَّلَاة، وسمعتَ أنّ الأرْجَح أَنَّهَا هِي صَلَاة العصْر، مع قَوْلِ سيِّدنَا الإمَام الشَّافعي: بِأنَّ صَلَاة اَلوُسطى هِي صَلَاة الصُّبْح، وَلكِنْ تَكَاثرَت اَلأدِلَّة على أَنَّهَا صَلَاة العصْر.
"مَن تَرْك صَلَاة العصْر فقد حَبِطَ عَمَلُه" -والْعياذ بِاللَّه تَبارَك وَتَعالَى-، وَلِهذَا قال الإمَام النَّوَوي فِي المجْموع اَلذِي تَقتضِيه الأحاديث الصَّحيحة: أنَّ الصَلَاة اَلوُسطى هِي صَلَاة العصْر وَهُو المخْتار. وَمِن الغريب مَا نُقِلَ عن الأبْهري مِن المالكيَّة واخْتاره اِبْن أَبِي جَمْرَة: أنَّ الصَلَاة اَلوُسطى كِلا الصَّلاتيْنِ الفجْر والْعَصْر، هُمَا الصَّلَاة اَلوُسطى مِن بَيْن بَقيَّة الثَّلَاث الصَلوات اَلأُخرى، واسْتأنَسوا:
وَعلَى كُلِّ حال، وَإِن قِيل فِي كُلٍّ مِن الصَّلوات الخمْس أَنَّهَا الصَلَاة اَلوُسطى وَلكِن هذَا هُو الرَّاجح كمَا عَلمتَ. وقيل أنَّ اَلمُراد في الصَّلَاة اَلوُسطى: الصَّلَاة اَلفُضلى؛ وهِي اَلتِي يَكثُر فِيهَا اَلخُشوع والْخضوع وتُؤدَّى على التَّمَام، هَذِه الصَّلَاة اَلوُسطى؛ لِأنَّكم أُمَّة وَسط مُفَضَّلَة مُمَيزَة، وَكذَلِك الصَّلَاة اَلوُسطى المعْتَدلة الكثيرةُ اَلخُضوع والْخشوع والْحُضور مع اَللَّه فَهِي صَلَاة وُسطَى. وَمِنَ الأقْوال فِيهَا أنَّها صَلَاة اَلجُمعة -الصَّلَاة اَلوُسطى- وقد عَلِمْتَ الرَّاجح مِن ذَلِك.
ثم يقول "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ.."، أيْ بَعْد أن صَلَّى الصَّلَاة بجَماعَة فِي اَلمسْجِد، "انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَلَقِيَ رَجُلًا لَمْ يَشْهَدِ الْعَصْرَ.."، مِن اِبْن أَبِي حَدِيدَ مِن سَادتِنا الأنْصار وليْس هذَا بِعُثْمَان، إِنَّما عُثْمان اَلذِي جاء وَعُمَر يَخطُب فَقَال: ما جئْتْ فِي هَذِه السَّاعة، قال: مَا هو إلا أنْ سُمعَت النِداء فَتَوضأَت وجئْتُ، قَال والْوضوء أيْضًا، ذلك سَيدُنا عُثْمان، أَمَّا هذَا اَلذِي لَقيَهُ رَجُلٌ آخَرْ يقولون له اِبْن حَدِيدَة مِن طَائِفة مِنَ الأنْصار يُقال لهم آل ابن حديد، فَهذَا الحَديديْ هُو اَلذِي لَقيَه سَيدُنا عُمَر، "فَقَالَ عُمَرُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ؟"، يَعنِي مَعنَا فِي الجماعة اَلأُولى، "فَذَكَرَ لَهُ الرَّجُلُ عُذْراً"، فَكَأنَّه لَم يَقتَنِع بِعذْره، "فَقَالَ عُمَرُ: طَفَّفْتَ"، فَوَّتَ على نَفسِك الأجْر، "لِكُلِّ شيء وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ"، يَعنِي قال ما أحسنْتْ الاخْتيار، قَدَّمْتَ اَلذِي مِن حَقَّهُ التَّأْخير، فَاتَكَ خَيْر كثير.. طَفّفَت، فَذهَب يُصلِّي.
ثُمَّ قِيل أنَّ لَه جَارِية سَقطَت فِي البِئر -عِنْدهم بئر رُومَة- قال فذَهبتْ وأخْرجتُهَا والشَّمْس صَالِحة -مازال الوقْتِ- لازال باقي، فمًا فَاتَهُ الوقْت كُلُّه وَلكِن الجماعة اَلأُولى فاتتْه، "فَقَالَ عُمَرُ: طَفَّفْتَ" طففت.. "قَالَ مَالِكٌ: وَيُقَالُ لِكُلِّ شيء وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ"، أوفِ الكَيْل وَإلَّا طَفِّفْ، وهكذَا فِي كُلِّ صَلَاة، فِي كُلِّ صَوْم، وَفّيْ أو طّفِّف، إِنْ نَقَّصِتْ ولم تَعمَل بِالْآداب فَأَدخلَت فِيهَا المكْروهات فقد طَفّفَت، وَإِن أحسَنتها وَأَتقنتها وَتَجنَّبْتَ مكْروهاتهَا فقد وَفيت، "لِكُلِّ شيءٍ وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ" ليس الميزان وَحدَه.
وهكذَا يَقُول سَيدُنا عُمَر -رَضِي اَللَّه عَنْه- جاء فِي رِواية "عن ابْن حَدِيدَة الأنْصاري قال: لقيني عمر بن الخطاب بالزوراء، وأنا ذاهب إلى صلاة العصر، فسألني أين تذهب؟ فقلت: إلى الصلاة، فقال: طفّفت فأسرع، قال: فذهبت إلى المسجد فصليت ورجعت، فوجدت جاريتي قد احتبست علينا من الاستقاء" -يعني في بئر رومة- قال: "فذهبت إليها برومة، فجئت بها والشمس صالحة"، مازال الوقت باقي، والشمس ما غربت بعد، فقال له: نَقصْتَ نَفسَك مِن حَظَّهَا، طَفّفَت حَظَّهَا مِن الأجْر بِترْكك الْجماعة اَلأُولى.
وَيُطلَق التَّطْفيف عِنْدنَا فِي العربيَّة على: الزِّيادة عن العدْل أو النَّقْص مِنْه، (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين:2-3]؛ هذَا التَّطْفيف، (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين:1]. الصَّلَاة كالْكَيْل فَمَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَهْ،
وَيروي "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ"، فما فاتتْه الصَلَاة ولَا وَقْتها، "وَمَا فَاتَهُ وَقْتُهَا"، يعني يصلّيها في وقتها أساسًا، ولَا مَا فَاتَه مِن وقْتِهَا الأوَّل يعني صَلّاهَا أَثنَاء الوقْتِ، "وَلَمَا فَاتَهُ مِنْ وَقْتِهَا أَعْظَمُ، أَوْ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِه" لا إله إلا الله!، فَهُو أَوقَع الصَّلَاة في وقْتِهَا وَلَكنَّه ضَيَّع الجماعة اَلأُولى، ضَيَّع فَضِيلَة أَوَّل الوَقْت، فَهُو أَدرَك الصَّلَاة ولَا إِثْم عليْه وَلكِنَّ اَلذِي فاتَهُ مِن الثَّوَاب والْأَجْر والْمكانة أَعظَم مِن أنْ يَهْلَك أَهلُه وماله فِي لَحظَة، ففاتُه شَيْء كبير.
و لِهَذا لَمَّا سُئِل عن أَفضَل الأعْمال قال: "الصَّلاةُ لأوَّلِ وقتِها". "إنَّ أحدَكم ليُصلِّي الصَّلاةَ وما فاته من وقتِها أشدُّ عليه من أهلِه ومالِه" -لا إله إلا الله-؛ فَفِي تَفضِيل أَوَّل الوقْت على آخِرِه، والْفارِقْ اَلكَبِير بَيْن ذا و ذَاك، وقد تَقدَّم مَعنَا فِيه إِدرَاك الرَّكْعة، وَلكِن قال اَلذِي ضَيَّع قِراءة الفاتحة فَاتَه خَيْر كثير، لا يَظُن أَنَّه لَمَّا أَدرَك الرَّكْعة أَجره مِثْل أَجْر اَلذِي أَدرك تكْبيرة الإحْرام، ولَا مِثل أَجْر اَلذِي أَدرَك من القيَام مع الإمَام مَا قَرَأ معه فِيه الفاتحة، الرَّكْعة أدْركتَهَا و لَكِن مراتب هذَا العطَاء والثَّواب لا تُحَصِّلْهَا، فَاتَتْ عَليْك! ما الْمَسبوق مِثْل السَّابِق، وَكُل شَيْء بِحْسابُه ولو كان مِثقَال ذَرَّة، مَن زاد زَادُوه، يارب وفقنا للخيرات. اللَّهمَّ إِنَّا نسْألك فِعْلَ الخيْرات وتَرْكَ المنْكرات وَحُبَّ المساكين وأنْ تَغفِرَ لَنَا وترحَمَنَا.
أَفضَلُ الأعْمال: "الصَّلاةُ لأوَّلِ وقتِها"، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة:148]. والْإجْماع على تَفضِيل تَعجِيل اَلمَغْرِب، سَوَاءً مَن قال إِنَّ وقْتهَا يَمتَد إِلى مغيب الشَّفق، ومَن قال لَيْس لَهَا إِلَّا وَقْت وَاحِد. وَجَاء أيْضًا: "عن يَحيَى بْن سعيد قال: مَن صَلَّى العصْرَ فِي تَغيُّر الشَّمْس، فقد فَاتَهُ مِن وقْتِهَا أَفضَل مِن أَهلِه وَمالِه"، ولَا أَقُول فَاتَهُ الوقْت كُلُّه حَتَّى تَغرُب الشَّمْس، فَهذَا وَاضِحٌ فِي وُجُود فَوَاتِ الثَّوَاب والنَّدم عليْه، أُمًّا حُصُولُ العِقَاب فَلَا يَحصُل إِلَّا لِمَنْ أخَّرَهَا عن وقْتِهَا نِهائِيًا.
والْمُبادَرة والْمُسابَقة إِلى الخيْرات هُوَ اَلذِي جاءنَا، وَتََقدَّمْ مَعنَا فِيمَا يَتَعلَّقْ بالصَّلوات، ما جاء اسْتحْباب التَّأْخير إِلى ثُلْث اللَّيْل عِنْد الحنفيَّة. وعنْد الإمَام أَحمَد كَذلِك: أنَّ الحاضر إِذَا أخََّرَهَا عن الشَّفق الأبْيض فَهُوَ أَحَبْ إِليه، أَحَبْ إلى الإمَام أَحمَد بْن حَنبَل -عليْه رَحمَة اَللَّه تَبارَك وَتَعالَى-. وَجَاءَ فِيه اَلحدِيث "لولا أنْ أشُقَّ على المؤمنينَ، لأمرتُهم بتأخيرِ العشاءِ.."، وَلكِن فِيهم أَربَابُ أَعْمَال وينامون مُبكِّرِين.
ثُمَّ ذكر لَنَا قَوْل مَالِك: " مَنْ أَدْرَكَ الْوَقْتَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَّرَ الصَّلاَةَ سَاهِياً أَوْ نَاسِياً، حَتَّى قَدِمَ عَلَى أَهْلِهِ"؛ وَصَل إِلى بِلاده،
فَيقُول: "إِنْ كَانَ قَدِمَ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ فِي الْوَقْتِ"، بَاقي وَقْت الصَّلَاة، فَهذَا مَذْهَبُهُ:
وَقَال: كان بَعْض أَهْل العِلْم يقولون اَلحُكُمْ لِلْمَوْطِنْ اَلذِي هُوَ فِيه، فَإِن فَاتَه فِي الحَضَرْ فأرادَ القَضاء فِي السَّفر فلْيُقْصِر، وإن فاتَتْه فِي السَّفر وَأَراد أن يَقْضيهَا فِي الحَضَرْ فَلْيُتِمْ.
لكِنْ اَلذِي عَليْه المَذاهِب مَا سَمِعْت الإشارة إِلَيه مِن مَذهَب الإمَام مَالِك يَقُول:
كَذلِك فِي السَّفر إِذَا سَافَرَ الإنْسان فِي أَثنَاء وَقْت الصَّلَاة: فَيقُول أيضًا الشَّافعية: إذا قد مَضَى عليْه وَقْت يَسْع الصَّلَاة وَهُو فِي الحَضَرْ ثُمَّ سَافَر فِي أَثنَاء الوقْتِ فَيُصلّي صَلَاة اَلمقِيم.
وَلَكِنْ عِنْد الحنفيَّة: إِذَا قَدْ سَافَر والْوَقْتُ باقي صار مُسافِرًا فَليُصلي الآن صَلَاة مُسَافِر لِأنَّ الوقْتَ لا زال باقي يَسَع الصَّلَاة.
فَإذًا يَبقَى عِنْد الشَّافعيَّة فِي كِلا الحالتيْنِ يُصلِّي صَلَاة مُقيم:
قال مَالِك: "وَهَذَا الأَمْرُ هُوَ الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ" يعني: أَهْل المدينة "وأهْل العلم ببلدنا"؛ أي: الفقهاء، وَلِهذَا يَقُول إِنَّ مُرَادَ الإمَام مَالِك بِعَمَلْ أَهْل المدينة: أَقوَال الفقهاء السَّبْعة بالمدينة -مَا قَالَه الفقهاء السَّبْعة-؛ هذا مرادَهُ ليس عَمَلْ عُمُوم النَّاس.
ويأْتوا بِالْحديث: "مَن نام عن صَلاةٍ أو نَسِيَها فلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَها"، قالوا: هذَا وَقْت اَلوُجوب الآن عليْه، وَإذَا ذكرَهَا فِي الحَضَرْ، الآن تَعلَّقْ بِهَا وَقْت اَلوُجوب فيؤدِّيهَا صَلَاة مُقيمٍ أَربَع رَكَعات، فَمَن نَسِيَ صَلَاةً فِي السَّفر ثُمَّ ذَكَرَهَا وَهُو مُسَافِر، فَيجُوز أنْ يُصَلِّيهَا قَصْرًا؛ لِأَنها فاتتْه فِي السَّفر وَأَراد قَضاءَها فِي السَّفر.
يَقُولُ: "وَقَالَ مَالِكٌ: الشَّفَقُ"، يَعنِي: لِصلاة العِشَاء، "الْحُمْرَةُ الَّتِي فِي الْمَغْرِبِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ الْحُمْرَةُ، فَقَدْ وَجَبَتْ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَخَرَجْتَ مِنْ وَقْتِ الْمَغْرِبِ". على هَذِه الرِّواية عِنْده، والرِّواية اَلأُخرى عِنْده: أَنَّه يَبقَى وَقْت فَاصِل بَعْد أَوَّل وَقْت اَلمغْرِب، وَقْت فاصِلْ إلى وَقْت مَغيب الشَّفق، فالْمُرادُ بِهِ الشَّفقْ الأَحْمَرْ. "الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ الَّتِي فِي الْمَغْرِبِ"؛
"كان رَسُول اَللَّه ﷺ يُصلِّي العشاء لِسقوط القمر لِثَالِثَة"، قالوا: والقمر فِي اللَّيْلة الثَّالثة من الشهر يسْقط قَبْل مغيب الشَّفق الأبْيض، يَسقُط القمر فِي اللَّيْلة الثَّالثة مِن كُلِّ شَهْر، وَبِهذَا اِسْتدلُّوا على أَنَّه اَلحُمرة.
وهكذَا إِنَّما يَخرُج اَلمغْرِب حَتَّى عِنْدَ الإمَام أبي حَنِيفَة بِمغيب الشَّفق الأحْمر، وَلكِنْ يَبدَأ وَقْت العشَاء حين يغيب الشَّفق الأبيض،
فَيكُون مَا بَيْن ذَهَاب الشَّفق الأحْمر ثُمَّ الشَّفق الأبْيض مَا بَيْن اِثنا عَشرَ دَقِيقَة، تزيد قليل، تَنْقَص قليل، فِي هَذِه اَلحُدود، وَلِذا إِذَا أخَّرَ قليلًا كمَا هُو المرْسوم عِندنا فِي جَدول الحبيب عَبْد الرَّحْمن المشْهور أَنَّه سَاعَة وعشْر دَقائِق، في الْغَالِب هَذه تَكُون قد أَوشَكت على مغيب الشَّفق الأبْيض. "وَقَالَ مَالِكٌ: الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ الَّتِي فِي الْمَغْرِبِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ الْحُمْرَةُ، فَقَدْ وَجَبَتْ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَخَرَجْتَ مِنْ وَقْتِ الْمَغْرِبِ".
ثُمَّ ذكَرَ صَلَاة اَلمُغمَى عَليْه، "عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَذَهَبَ عَقْلُهُ, فَلَمْ يَقْضِ الصَّلاَةَ"، وَفي هذَا قال اَلأئِمة أَنَّه: إِذَا أُغْمِيَ على الإنْسان فَدخَل وَقْت الصَّلَاة وَخرَج وَهُو مُغمَى عليْه سَقطَت عَنْه تِلْك الصَّلَاة،
وَكذَلِك مَا جاء عن ابنَ عُمَرَ -رَضِي اللَّهُ عَنهُ- أنه "أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَذَهَبَ عَقْلُهُ، فَلَمْ يَقْضِ الصَّلاَةَ"، لِأنَّ وَقْت الصَّلَاة دخل وَهُو مُغمَى عَليْه وَخَرَجْ وَهُو مُغمَى عَليْه؛
وإنْ كان لَحظَة مَا يَسَعْ الصَّلَاة إقضِها، أَمَّا الصلاة التي دخل وَقْتها وَخرَجَت وأنْتَ مُغْمى عليْك فَلَا يَلْزَمُكْ فِيهَا شَيْء.
فَإذًا، مَذهَب الإمَام مَالِك ومذْهب الإمَام الشَّافعي كمَا ذكر اِبْن عُمَر: أنّه لََا يَقضِي مَا فَاتَه في إغماؤه ما دَام دُخُول وقْت الصَّلَاة وخروجهَا وَهُو فِي الإغْماء.
واعْتبره كالنَّائم مُطْلقًا سَيدُنا الإمَام أَحمَد بْن حَنبَل، وَقَال: مَتَّى أَفاق وَجَبَ عليْه أن يَقضِي. "قَالَ مَالِك: وَذَلِكَ فِيمَا نَرَى -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ ذَهَبَ، فَأَمَّا مَنْ أَفَاقَ وَهُو فِي الْوَقْتِ.." ولو آخره "فَإِنَّهُ يُصَلِّي".
جعلنَا اَللَّه مِن مُقيمِي الصَّلَاة، ومؤدِّيهَا على الوجْه اَلذِي يرْضاه، وأثْبتنَا فِي دِيوان أصْفياه وأهْل رِضَاه فِي لُطْف وَعافِية، وأصْلح شُؤُون اَلأُمة أَجمعِين، بسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
03 ذو القِعدة 1441