شرح الموطأ -57- كتاب الجمعة: باب ما جاء في الإنصات يوم الجُمُعة والإمام يخطب

شرح الموطأ -57- كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإنْصَات يوم الجُمُعة والإمامُ يخطبُ، من حديث أبي هريرة
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في الإنْصَات يوم الجُمُعة والإمامُ يخطب.

فجر الإثنين 26 محرم 1442هـ.

باب مَا جَاءَ فِي الإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ

275- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدْ لَغَوْتَ.

276- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُصَلُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، حَتَّى يَخْرُجَ عُمَرُ، فَإِذَا خَرَجَ عُمَرُ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ، قَالَ ثَعْلَبَةُ: جَلَسْنَا نَتَحَدَّثُ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ وَقَامَ عُمَرُ يَخْطُبُ أَنْصَتْنَا فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مِنَّا أَحَدٌ.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَخُرُوجُ الإِمَامِ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ، وَكَلاَمُهُ يَقْطَعُ الْكَلاَمَ.

277- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أبِي عَامِرٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ، قَلَّمَا يَدَعُ ذَلِكَ إِذَا خَطَبَ: إِذَا قَامَ الإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَاسْتَمِعُوا وَأَنْصِتُوا، فَإِنَّ لِلْمُنْصِتِ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ مِنَ الْحَظِّ، مِثْلَ مَا لِلْمُنْصِتِ السَّامِعِ، فَإِذَا قَامَتِ الصَّلاَةُ فَاعْدِلُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بِالْمَنَاكِبِ، فَإِنَّ اعْتِدَالَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ، ثُمَّ لاَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَهُ رِجَالٌ قَدْ وَكَّلَهُمْ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، فَيُخْبِرُونَهُ أَنْ قَدِ اسْتَوَتْ فَيُكَبِّرُ.

278- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَحَصَبَهُمَا أَنِ اصْمُتَا.

279- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلاً عَطَسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَشَمَّتَهُ إِنْسَانٌ إِلَى جَنْبِهِ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لاَ تَعُدْ.

280- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الْكَلاَمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذَا نَزَلَ الإِمَامُ عَنِ الْمِنْبَرِ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ؟ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمنا بالشَّريعة وبيانِها وبحُجَّتها وبُرهانِها، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على إمامِها وسُلطانِها سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آله وأصحابه، ومن سار في مَحَجَّته مُستَضيئًا بنور بيانِها وبُرهانِها، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين الَّذين جعلهم الله -تبارك وتعالى- لشرائعه المُنَزَّلة خيرَ أركانها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقرَّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويواصل سيِّدنا الإمام مالك بن أنس -عليه رضوان الله- في كتابه المُوطأ ذِكْرَ الأحاديث المُتعلقة بيوم الْجُمُعَةِ وصلاتَها والإنصات فيها للخُطْبَة، وقال في هذا الباب: "باب مَا جَاءَ فِي الإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ". وأورد الحديث الشريف: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ"، "فَقَدْ لَغَوْتَ". "وَالإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدْ لَغَوْتَ"؛ أي: تحدثت باللغو؛ وهو الكلام الذي لا ينبغي. والمعنى فيه: ذهابُ ثواب الْجُمُعَةِ؛ فقْدُ ثواب صلاة الْجُمُعَةِ، والاجتماع لها بحصول اللغو "مَنْ لغا فلا جُمُعَة له". والحديث أخرجه أيضًا مِن بعد الإمام مالك، الإمام البُخاري ومُسلم وغيرُهما، يأمر فيه ﷺ بالإنصات للخُطْبَة. فيجب تعظيم أمر الله وأمر رسوله، ويتأكد على المؤمنين أنْ يُصغوا للخُطْبَة يوم الْجُمُعَةِ، بل عموم أدب الشَّريعة البُعدُ عن أنواع اللغو، وحُسن الإنصات لبعضهم البعض، والبُعدِ عن اللَجاج واللَغَط ورَفع الأصوات في غير محلها، والإنصات لكُلِّ مَنْ كلَّمك، فإنْ كان ذلك في تعليمٍ أو تدريسٍ أو نصيحة، تأكَّد الإنصات بالانتباه والاهتمام. فإذا كان في خُطبة جُمعة كان آكَدْ، وكان أهم وأعظم. على اختلافٍ بين الأئمة هل يحرم الكلام أثناء الخُطْبَة أو يُكره؟ وهل مِنْ أحوال يُستثنى فيها؟ وهل مَنْ بَعُدَ عن الإمام فلم يسمع، كمَنْ كان يسمع؟ ومَنْ كان به صممٌ، هل هو كمَنْ يسمع؟ فجاءت اجتهادات الأئمة في النُّصوص الواردة عنه ﷺ، وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: بوجوب الاستماع والإنْصات إلى الخَطيب يوم الْجُمُعَةِ. وهكذا جاء عن جماعةٍ مِنَ الصَّحابة رضي الله تعالى عنهم.

  • وهكذا بل جاء عن الحنفية: أنَّه كالصَّلاة؛ ما حرُم في الصَّلاة، يحرُم حال الخُطبة؛ فلا يأكُل، ولا يشرب، ولا يتكلم، ولا يأمُر، ولا ينهى، ولا يعمل شيء، كأنَّه في الصَّلاة. وحملوا قول الحق تعالى: (..فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)  [الأعراف:204]، على أنَّه قُرآن الخُطْبَة يوم الْجُمُعَةِ، وأنَّ الخُطْبَة كالصَّلاة، إلَّا تحذير مَنْ خِيف هلاكه لأنَّه يجب كحقُ أدَمي. وهذا مُجمعٌ عليه بعد ذلك لمَنْ خاف الهلاك، فيجب إرشاده وإنقاذه وردّه بالاتفاق.
  • واختلفوا بعد ذلك في عُموم الذِكر. وقال المالكية: لابأس بالذِكر الخفيف. كما قالوا: أنَّه إذا سَمِع آية تسبيح أو معنى تسبيح في خُطْبة الخطيب فسبَّح، أو تهليل فهلّل، أو آية تكبير فكبَّر، أو قرأ آية الصَّلاة على النبي ﷺ؛ فصلَّى على النبي ﷺ، لم يكن بذلك لاغيًا، أو سَمِع الدعاء مِنَ الخطيب فأمَّن، فلا يكون بذلك لاغيًا.
  • وقال الشَّافعية: إنَّ الإنصات سُنَّة مؤكدة. وإنَّ إضاعته يُضيِّع الثَُواب؛ ثواب الْجُمُعَةِ، أو كمال ثواب الْجُمُعَةِ يمنعُه اللغو بالكلام أثناء الخُطْبَة.

 ولكن إذا دخل أحد، والخطيب يخطُب، فسلَّم، فهل يجب ردُّ السَّلام عليه أم لا؟ 

  ○ مَنْ قال بجواز السَّلام والإمام يخطُب، قال بوجوب الرَّد لأنَّ الرَّد واجب. 

  ○ وقيل: أنَّه يتخيَّر أنْ يردّ أو يصمت عنه. ولا يُجيب إلَّا بنحو الإشارة، وعلى هذا مذهب الحنفية والحنابلة. 

  • كذلك، إذا عطس، فحمد الله:
    • قال الشَّافعية: يُسنّ تشميته لأنَّ العُطاس لا يكون باختياره. وإذا حمد الله، فقد توجه  حقٌ له مخصوص فيُعطى ذلك الحق. 

وفرَّق بين الردَّ على المُسَلِّم وبين تشميت العاطس:

 ○ فبعضهم رجَّح ردَّ السَّلام على المُسَلِّم لأنَّ ردَّ السَّلام واجب، وتشميت العاطس سُنَّة.

 ○ ورجَّح الآخر تشميت العاطس لأنَّه بغير اختياره، وأنَّ المُسَلِّم أثناء الخُطْبَة يختار ذلك.

 وينبغي لمَنْ وقع في نقص التأخُر حتَّى دخل والخَطيب يَخطب، أنْ لا يرفع صوته بالسَّلام. وإذا سلَّم، فليكُن بصوتٍ خفيفٍ لا يسمعُه إلَّا مَنْ بقُربه، ولا يقطع ذلك عن استماع الخُطْبَة.

ثُمَّ علِمْنا المُعتمد في مذهب الشَّافعية مِنْ وجوب ردِّ السَّلام لأنَّه ثابت بأمرٍ في السُّنة الشَّريفة. فلا يُترك هذا الأمر بالإنصات إلى الخطيب، بل قد تقدَّم معنا أنَّه ﷺ أمر مع الإنصات بالوقار والخشوع حتَّى قال: "ومَنْ مسَّ الحصى فقد لغا". إذا أهوى بيده إلى الحصى في المسجد، فقد لغا وفوَّت على نفسه ثواب الْجُمُعَةِ. وإذا كان بمَسِّ الحصى يلغوا، فكيف بمسِّ الجوال؟ عند مَنْ قلَّ عقلُه، واعتقل بعقال! الخطيب يخطب، وهو يُفصفص على جهازه وجواله، وكان الأولى أنْ يضعه في الخارج، ولا يدخل به أصلًا إلى المَسجد. فإذا دخل للمسجد ولو في غير وقت الخُطْبَة، فلا ينبغي أنْ يشتغل بشيءٍ خارج المسجد، بكلامٍ مع النَّاس وهو في المسجد، بجوال ولا غيره، ولكنْ ضَعُفت حُرمة المساجد والشَّعائر في قلوب المؤمنين؛ لضعف إيمانهم. لضعف إيمانهم! وقد كان أحدُهم يقف على باب المسجد خاشعًا خاضعًا يكاد أنْ يرتعد، هيبة لدخول بيت الله. فلا يدخل بعضهم حتَّى يجد مؤمنًا يدخل قبله، فقال له: إنَّه بيت ربي، وإنَّه ينظر إلى قلبي، وأُحب أنْ ينظُر إلى قلب مؤمن قبلي، فأدخل معه، فيكون ذلك شافعًا لي، فإنَّه ليس في قلبي ما يصلُح به مواجهة ربي! فينتظر أحد يدخل، فيدخل وراءه، قال: فينظر إلى قلب هذا فيرحمني به. هكذا كانوا عند دخول المساجد. فانظر كيف صاروا! ورُبما رَفع صوته، ورُبما ضحك وهو في المسجد، كأنَّه في ملهى أو مقهى أو ملعب، وما درى أنَّه محل الخضوع والخشوع، وإعلان السجود للملك المعبود، ومحل تنزُّل الرَّحمة. وأنَّه لا ينبغي النُطق فيه إلَّا بقُرآنٍ أو حديثٍ أو عِلمٍ أو ذكرٍ وتسبيح، يقول ﷺ: "إنما بُنِيَتِ المساجد لما بُنِيَتْ له". 

ولمَّا سَمِع سيِّدنا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- رَجُلين رفعا صوتهما في المسجد، أقبل إليهما حاملًا الدُّرة، قال: مِنْ أين أنتما؟ قالا: مِنَ الطَّائف. قال: لو كُنتما مِنْ أهل البلد لأوجعتكما؛ لضربتكما! أترفَعان أصوَاتكم في مسجد رسول الله، أما سمعتم قول الله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ..) [الحجرات:2]، لولا أنكم مِنْ بلد بعيد، وتقربون إلى الجَهل بالأحكام، أما لو كنتم مِنْ أهل المدينة لضَربتُكم بالدُّرة. فهكذا كانوا يُعظِّمون شعائر الله لأنَّ قلوبهم مُتَقية لله (..وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]. صاروا حتَّى في أثناء الصَّلاة، حامل له جوال! جهاز معه، مفتوح، ساعة يرن، ساعة يدندن، ساعة يجيب موسيقى، والنَّاس في السجود وفي الركوع، ولا حول ولا قوة إلا بالله!! يا هذا! لماذا البلاهة إلى هذا الحدّ؟ لماذا قلَّ الأدب إلى هذا الحدّ؟ لو يدخلون على أحد مِنْ مسؤولي الدُّنيا يقولوا له خَرِّج جوالك خارجًا، ما تدخل به إلى غُرفته ولا إلى محلُه! وهكذا مع ربُّهم، ومالك الملك يتعاملون. هكذا حتَّى والنَّاس في السجود، وذا يشغل موسيقى وصوت، لاحول ولا قوة إلا بالله.

ولمَّا كان يُحذِّر الحبيب علوي بن شهاب مِنَ الغفلة عن الله والاستهانة بالشَّعائر، قال: أخاف أنْ تسمعوا الموسيقى في الحرم! ولمَّا ظهرت هذه الجوالات، صار حتَّى والنَّاس يُصلون في الحرم والموسيقى ساعة تأتي مِنَ الشَّق هذا، وساعة مِنَ الشَّق هذا من جوالاتهم. فسُمِعَت الموسيقى في الحرم. فعاقب الله النَّاس بتسليط مَنْ يمنعهم أنْ يأتوا الحرم وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وهذه نتائج الاستهانة بشعائر الله -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. فيجب تعظيم الشَُعائر، ومعرفة قدْر المساجد محل البيوت لأنَّه معنى الإيمان هذا ومعنى الإسلام. إنَّما الدِّين تعظِّيم الدِّين، على قَدَر معرفتك بالعظيم -جلَّ جلاله-. تُعظِّم شريعته، دينُه، شعائر دينه، وما جاء عنه وعن رسوله هو الأعظم، وإلَّا ما تفرضُه عليك الدول والحكومات المخلوقين مثلك الَّذين أكثرهم بعيدين عن الحق ومأواهم النَّار.. هم أحقُّ بتعظيم أوامرهم وأنظمتهم أم الرَّحمن الذي خلقك وخلقهم -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-؟

فإذا كان يوم الْجُمُعَةِ، فهو يوم عظيم. وإذا كان وقت الخُطبة، فالإنصَات مُهم. وإنَّما يخطُب ليُذكرك ويُنوّرك ويُطهرك ويُهيئك؛ لتَلَقي رحمات ربِّك، وتصحيح مسارك، هذه مهام الخُطْبة. فكُنْ مُستعدًا لذلك، ومُقابلًا له بما يليق. 

  • وقال الحنفية: وجوب الإنصات والكفِّ عن الكلام مِنْ حين أنْ يخرُج الإمام ويصعد المِنْبر، ولو قبل أنْ يَشرع في الخُطْبة، ويبدأ في الخُطْبة.
  • وقال غيرُهم: التحذير مِنَ اللغو، ووجوب الإنصات، إنَّما أثناء الخُطْبة. 

وما بين الخُطْبتين مِنْ جلوسٍ يلتحق بالخُطْبة. وقيل: ليس مِنَ الخُطْبة. وما قبلها وما بعدها يخرج عن ذلك. ولكن الإجماع قائم على أنَّه سواء قبل الخُطْبة أو بين الخُطْبَتين أو بعد الخُطْبَتين، لا ينبغي للمؤمن أنْ يشتغل بكلام، إلَّا ما توجَّه عليه مِنْ مثل ما ذكرنا:

  ○ مِنْ إنقاذ مَنْ يخاف ضرره وهلاكه.

  ○ أو ردُّ سلام على مُسلِّم.

  ○ أو تشميت عاطس، على خلافٍ في ذلك.

وما عدا ذلك فيُنْصت، إلَّا إذا كان أصمْ أو بعيدًا، فلا بأس أنْ يشتغل بالذِكر والتِّلاوة مِنْ دون أنْ يُسمِع مَنْ بجانبه، ومِنْ دون أنْ يُشوّش على غيره. فإذا سمعوا مباشرة أو بالوسائل؛ الآلات الموجودة اليوم مِنْ مُبلِّغات ومُكبرات الأصوات، فليَستمِعوا وليُنصِتوا. نعم إذا مرَّ بتسبيحٍ فسبَّحوا أو تحميدٍ فحمدوا أو ذِكر للنبيّ فصلوا عليه، فلا إشكال في ذلك. فإنَّه كان يفعل مثلَ ذلك ﷺ في صلاته؛ إذا مرَّ بآية تسبيحٍ سبَّح، وإذا مرَّ بآية تحميدٍ، حَمِد، وإذا مرَّ بآية تعوّذٍ، تعوّذ، وإذا مرَّ بآية رحمة، سأل الله مِنْ رحمته، وإذا مرَّ بآية عذاب استعاذ بالله مِنْ عذابه، فإذا كان ذلك في الصَّلاة ففي الخُطْبة مِنْ باب أولى، أخفّ وأيسر، ولكن كُلُّ ذلك مِنْ دون أنْ يُشوّش على غيره، ولا يخرج عن حُسنِ الإنصات والإصغاء لِمَا يقول الخَطيب.

وهكذا استَدَل الحنفية بما جاء عن سيِّدنا علي وابن عباس وابن عُمَر، أنَّهم كانوا يكرهون الصَّلاة والكلام بعد خروج الإمام. وجاء في رواية الطَّبراني، مِنْ حديث ابن عُمَر مرفوعًا: "إذا دخل أحدكم والإمام على المِنْبر، فلا صلاة ولا كلام حتَّى يفرغ الإمام"، مع ضعف السَّند في الحديث. وجاء أيضًا عن ابن عُمَر، عن النَّبي ﷺ: "إذا صعد الإمام المِنْبر، فلا صلاة ولا كلام حتَّى يفرُغ". وجاء في الحديث أيضًا في الداخل إلى المسجد والإمام يخطُب، قال: و" ليَركع رَكْعَتَيْنِ وليتجوَّز فيهما"؛ يُخفِفهما. وعَلمْت ما أشار إليه مذهب الحنفية: أنَّه لا صلاة لا للجالس بالاتفاق، ولا للداخل المسجد والإمام يخطُب، فلا صلاة، ولكنْ إصغاء واستماع مباشرة. وقال غيرهم: بل يُصلي ركعتين -الداخل إلى المسجد- وليتجوَّز فيهما، كما صحَّ في الحديث عنه ﷺ.

يقول: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ"؛ أي: اسكُتْ؛ والمعنى أنَّه عليك أنْ تنهاه بالإشارة مِنْ دون أنْ تتكلم، فتُشير إليه بالسكوت، أنْ يسكُت مِنْ دون أنْ تتكلم، وإذا تكلمت وقلت له: صه، أو قلت: أنصت، أو قلت: استمع، أو قلت: لا تتكلم؛ فأنت قد تكلمت مثلُه، فحينئذٍ تكون فوَّت على نفسك ثواب الْجُمُعَةِ وتكاد لغوت، حتَّى بقولك له انصت أو صه، ولكن تُشير إليه أنْ يسكت مِنْ دون أنْ تتكلم، ومِنْ دون أنْ تُقبل عليه بالكلية، فلا يترك الكلام باللِّسان ويتوجه كُلُّه له، ولا يدري الخَطيب ماذا يقول، وإنْ كان بالإشارة.. هذه إشارة قطعتك عن الخطيب، أشدُ مِنْ بعض الكلام! ليس هكذا! إشارة وأنت تستمع للخطيب، وإشارة لطيفة، لا أن تتوجه كُلّك تكون بذلك قد خرجت عن الخُطْبَة أكثر مِنْ الكلام. بل إشارة خفيفة، والخطيب يخطب، ومِنْ دون أنْ تتكلم. والإشارة خفيفة، ولا تنقطع أنت عن الخُطْبَة، بأنك تصلَّح خمسة عشر إشارة أو عشرين إشارة، وتُقبل على الذي تُشير عليه، وتنسى ماذا يقول الخطيب.. صرت مثله! إنَّما المقصود استمرار استماعك لِمَا يقول، وحمل ذلك على نفسك. 

ولهذا ينبغي أنْ يتجنب النُّعاس وقت الخُطْبَة. فإذا كان يخاف على نفسه النَّعاس، إما لسهرٍ أو لثقل نومٍ أو اعتاد ذلك، فينبغي أنْ يطلُب مِنْ قبل أنْ يجيء الخطيب الذي بجانبه أنْ يُنبهه. لا يتركه ينعس، والخطيب يخطُب. فإنَّ النَّعاس حال الخُطْبَة، والنَّعاس في الصَّلاة؛ يعني: إقراره والاسترسال فيه وعدم المبالاة بوجوده مِنْ شأن المُنافقين. ينعسون في الصَّلاة، وينعسون في الخُطْبَة، ولا يُبالون، يقُرّون أنفسهم على ذلك. والمؤمنون الصَّادقون ما ينعسون في الصَّلاة ولا في الخُطْبَة، ولكن قد ينعسون عند القِتال، هؤلاء المؤمنون. والمُنافقون عند القتال ما ينعسون أبدًا.. كيف وهو يخاف على نفسه الموت؟ فما ينعس. وكان بعض الصَّحابة، يسقط السَّيف مِنْ يده وهو يُقاتل، أولًا وثانيًا وثالثًا في المعركة الواحدة، يخرج مِنَ الفَرس، ويحمل السَّيف ويرجع ثاني مرة، ثُمَّ قد ينعس. إليه قد أشارُ الحقُ إلى الطُّمأنينة التي نزلت قلوبهم، قال: (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ..) [آل عمران: 154]، ولكن عند الصَّلاة ما ينعسون -عليهم رضوان الله- وهكذا الصَّادقون. 

فيتجنب كُلّ ما يخرجه عن حُسن الإنصات إلى الاعتبار والادّكار يوم الْجُمُعَةِ بالخُطْبة، فهذه مُهمة الجُمَعْ والاجتماعات بيننا أنْ نتطهر، ونتزكى، ونترقى، ونتذكر، ونتبصَّر. 

  • فالجمهور على أنَّ الإنصات واجب، وأنَّه حُكمٌ لازم. 

○ ثُمَّ مِنهم مَنْ أجاز تشميت العاطس وردّ السَّلام. 

○ وبعضهم فرَّق بينهما، وقال: ردُّ السَّلام واجب، التشميت لا.

○ وبعضهم بالعكس.

  •  والقول الثاني: أنَّ الكلام حال الخُطْبَة لا يحرُم، إلَّا في حين قراءة آيات القُرآن مِنَ الخُطْبَة.
  • والثالث: التفريق بين مَنْ يسمع الخُطْبَة ومَنْ لا يسمعها. ثُمَّ إنَّه إنْ تكلم فعلى قول مَنْ قال بالحُرمة، ومَنْ قال بالكراهة، لا تفسُد صلاته، وصلاة الْجُمُعَةِ بالنسبة له صحيحة، ولكن يفوتُه الثَّواب العظيم. 
  • يقول بعض الحنابلة: في كتبهم يحرُم الكلام والإمام يخطُب، والمُتكلم قريب منه وبعيد يسمعه، بخلاف البعيد الذي لا يسمعه. 
  • وقال الحنابلة والشَّافعية:
    •  أنَّه إذا كان لا يسمع، فيشتغل بالذِكْر في نفسه، مِنْ دون أنْ يجهر؛ ولا يُسمع غيره. 
    • وإنْ كان يسمع فلا يشتغل لا بالذِكْر سرًا ولا جهرًا، ولكن يُنصت مع الإمام، إنَّما ما يكونوا مِن التَّفاعل مع ما يقول مِنْ تسبيح وتأمين وما إلى ذلك، فلا يخرج ذلك عن الإنصات.
  • ولم يُفرِّق الحنفية بين مَنْ يسمع، ومَنْ لا يسمع. يجب الإنصات على الكُلّ عندهم.

 ثُمَّ ذكر"عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُصَلُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَخْرُجَ عُمَرُ" والكثير مِنَ الصَّحابة الَّذين يحرصون على الصَّلاة في يوم الْجُمُعَةِ والإكثار مِنها، فيُصلون مِنْ صلاة الضُحى ويتطوعون بالصَّلاة نفلًا حَتَّى يَخْرُجَ الإمام. "فَإِذَا خَرَجَ عُمَرُ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ"؛ يعني: لأجل الخُطْبَة، وفيه سُنِّية اتخاذ المِنْبر اتباعًا له ﷺ، والجلوس عليه قبل أنْ يبدأ بالخُطْبَة مِنْ أجل الآذان، بعد أنْ يُسلِّم على النَّاس. وهكذا رأى الإمام مالك والشَّافعي والجمهور، أنَّ جلوسه على المِنْبر قبل الخُطْبَة سُنَّة. 

  • وفي رواية عن الإمام مالك كما هو مذهب أبو حنيفة: لا يُستحب.
  • كما أنَّ السَّلام إنَّما يكون عند المالكية وكذلك الحنفية عند دخوله فقط عليهم، إذا أقبل مِنْ دون أنْ يكون على المِنْبَر.
  • وقال الشَّافعية: يُسنُ السَّلام إذا صَعد المِنْبر. فقالوا: يُسن أنْ يُسلِّم عند دُخوله. ثُمَّ إذا مرَّ على الصُفوف، فيُسلَّم على كُلِّ صف. ثُمَّ إذا صعد المِنْبر، استقبلهم وسلَّم على الجَمْع أجمعين.
  • وهكذا جاء عن مالك وأبو حنيفة: أنَّه لا يُسلِّم على المِنْبَر.
  • بل يقول العَيني: ومِنَ السُنَّة أنْ يُترك الخطيب السَّلام مِنْ وقت خروجه إلى وقت دخوله في الصَّلاة.

وبه قال مالك وقال الشَّافعي والإمام أحمد بن حنبل: السُنَّة إذا صَعد المِنْبَر، أنْ يُسلِّم على القوم إذا أقبل عليهم بوجهه. 

قال: "وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ"؛ يعني: يجلس سيِّدنا عُمَر، والمؤذنون يؤذنون، فيؤذنون عند جلوس الإمام على المِنْبَر، إذا صَعَد المِنْبَر. إذًا، النِّداء يوم الْجُمُعَةِ إذا جلس الإمام على المِنْبَر. كان مِنْ عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعُمَر، فلمَّا كان عثمان وكَثُر النَّاس، زاد النِّداء الثالث مِنَ الزوراء محل مُرتفع، لكي يسمعُه البعيد ليتهيؤوا للمجيء إلى الْجُمُعَةِ. فهذا الآذان الأوَّل للجُمُعَة، فاختلفت الْجُمُعَةِ والصُّبح عن بقية الفرائض بأنَّ لكُلّ مِنْهما أذانين

○ آذان يجوز أنْ يكون قبل دخول الوقت، لإيقاظ المُستيقظين لصلاة الصُّبح. وكذلك لتَوجه المُتوجهين إلى الْجُمُعَةِ قبل مَجيء الخطيب.

○ والثَّاني يكون بعد الزوال وعند طلوع الفجر، للإعلام بوقت الصَّلاة.

ومعنى قوله أحدث الآذان الثالث؛ بِعَدِّ الإقامة أذانًا، لأنَّ فيها النِّداء للصَّلاة، فيصير الآذان عند دخول الخطيب وعند إقام الصَّلاة، هو الموجود في عهده ﷺ وسيِّدنا أبو بكر وعُمَر. والآذان قبل مجيء الخطيب، هو الذي رتبَه سيِّدنا عُثمان، ثُمَّ استمر النَّاس على ذلك في عهد عُثمان وعلي ومَنْ بعده، ومَنْ كان مِنَ الصَّحابة في ذلك الوقت، لم يُنكر مِنْهم أحدٌ ذلك الآذان.

 فيجلس عُمَر ويُشرع المؤذنون في آذانهم. قال: "فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ وَقَامَ عُمَرُ يَخْطُبُ أَنْصَتْنَا فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مِنَّا أَحَدٌ". وقالوا في قولهم: "جَلَسْنَا نَتَحَدَّثُ"؛ يعني: نتكلم بالعلم ونحوه لا بكلام الدُّنيا. وفيه اختيار الإمام مالك وغيره: أنَّ الإنصات إنَّما يكون أثناء الخُطْبَة أو عند ابتداء الخُطْبَة لا عند خروج الإمام. "فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ وَقَامَ عُمَرُ يَخْطُبُ"، وفيه أنَّ الخٌطْبَة مِنْ قيامه، وهو واجب على أنَّ الخُطْبَة لا تكون إلَّا قائمًا لِمَنْ أطاق القيام. 

  • وقال الإمام أبو حنيفة: تصِح قاعدًا، ولا يلزم القيام. 
  • ويقول الإمام مالك: القيام واجب ولكن لو تركه صحّت الْجُمُعَةِ.
  • قال الشَّافعية والحنابلة: لا تصُح الْجُمُعَةِ وهو قادر على القيام، إلا أنْ يخطُب قائمًا. وهو المعلوم مِنْ فعله ﷺ. 

إذًا، فمذهب الشَّافعية والحنابلة: أنَّ القيام في الخطبة واجب، ولا تصُح الخُطْبَة إلا به. قال المالكية: القيام واجب، وتصُح الخُطْبَة إذا خطب وهو جالس، مع قدرته على القيام. وقال الحنفية: لا يلزم القيام، ولو خطب قاعدًا صحَت، والقيام أفضل كما هو معلوم باتفاق. ومَنْ كان عاجزًا، صحَّ أنْ يخطُب جالسًا كالإمام في الصَّلاة يُصلي بهم وهو جالس. فكذلك يخطُب بهم وهو جالس إذا كان عاجزًا عن القيام. 

  • فهكذا قول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد: بعدم وجوب القيام. 
  • والرواية الثَّانية: يجب القيام، عند أحمد وعند الشَّافعي وعند الإمام مالك.
  • ولكن قال أحمد والشَّافعي: إنْ ترك القيام وهو قادر لم تصح الخُطْبَة وَلم تصح الْجُمُعَةِ.
  • وقال الإمام مالك: تصح. يكون آثِم بترك القيام، والخطبة والْجُمُعَةِ صحيح.
  • وجاء عند المالكية في مُختصر خليل: وجوب قيامه؛ أي: الخطيب للخطبتين، فيه تردُد.
  • وقال الدسوقي عند المالكية: وجوب القيام قول الأكثر، والسنيّة قول ابن العربي وابن القصاب.

إذًا، فالمُعتمد عندهم أنه واجب، ولكن لا تبطُل الخُطْبَة والصَّلاة بتركه. فخروج الإمام لأجل الخُطْبَة إلى المِنْبر، يقطع الصَّلاة؛ أي: الشروع فيها، وكلامه؛ أي: شروعه في الخُطْبَة، يقطع الكلام. فلا يتكلم أحدٌ مع أحد. 

يقول أنَّ "عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ، قَلَّمَا يَدَعُ ذَلِكَ إِذَا خَطَبَ: إِذَا قَامَ الإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَاسْتَمِعُوا وَأَنْصِتُوا"، يقول سيِّدنا عُثْمَان، "وَأَنْصِتُوا فَإِنَّ لِلْمُنْصِتِ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ" الخُطْبَة لبُعده أو لِصَمَمه، "مِنَ الْحَظِّ"؛ يعني: النَّصيب والقِسم مِنَ الأجر "مِثْلَ مَا لِلْمُنْصِتِ السَّامِعِ". قال بعضهم: إلا أنْ يتأخر كثيرًا؛ يأتي مُتأخر، فما له ثواب الإنصات لأنَّه مُقصِّر. "فَإِذَا قَامَتِ الصَّلاَةُ فَاعْدِلُوا"؛ يعني: سَوّوا "الصُّفُوفَ وَحَاذُوا" قابلوا "بِالْمَنَاكِبِ"، ما بين الكَتِفْ والعُنُق؛ يعني: اجعلوها في مُستوىً لا يتقدم بعضه على بعض، وليس معناه أنْ لا يرتفع بعضها على بعض، فبعضُهم طويل وبعضُهم قصير، لا يتطاول الطويل، ولا يترفّع القصير، ولكن يكون بالنسبة إلى جهة القِبْلة في صف واحد مستوية. لا يتقدم بعضُها على بعض. كالشأن في الأقدام، والعبرة بالأعقاب؛ مؤخِّر الرِجل تكون في خط واحد. لا يتقدّم بعضهم على بعض. "وَحَاذُوا بِالْمَنَاكِبِ فَإِنَّ اعْتِدَالَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ".

○ وجاء في الحديث مرفوع عنه ﷺ، كما رواه البخاري: (... إِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ). وهكذا هذا أمر مُجمع عليه تسوية الصفوف وتعديلها مِنَ السُّنة.

○ وفي وصف هذه الأُمة في التَّوراة: يصِفّون في الصَّلاة كصفوفهم في القتال. 

○ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ)  [الصف:4].

وهكذا ينبغي أنْ يَصْطفَّ المؤمنون للصَّلاة. قال: "ثُمَّ لاَ يُكَبِّرُ"، يعني: سيِّدنا عُثمان، "حَتَّى يَأْتِيَهُ رِجَالٌ قَدْ وَكَّلَهُمْ"؛ عينّهم "بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ"، فإذا كبَّروا، وتأكدوا مِنْ أنَّها كُلّها متساوية، يأتون إليه  "فَيُخْبِرُونَهُ أَنْ قَدِ اسْتَوَتْ فَيُكَبِّرُ". وسيِّدنا عُمَر كان في بعض الصَّلوات يُراقب ويلحظ استواء الصفوف، وقد يمرّ بين الصفوف بالدّرة، حتى إذا تأكد مِنْ استواء الصفوف أحرَم. فالأمر بتسوية الصفوف مِنَ السُّنة، وينبغي الاعتناء به، وجاء التحذير أنَّ التساهُل به يؤدي إلى تخالف قلوب المسلمين، "لتُسَوُّنَّ صُفوفَكم أو ليُخالِفنَّ اللهُ بينَ قلوبِكم". وفي رواية: "بينَ وُجوهِكم".

     ثُمَّ ذَكَر لنا "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَحَصَبَهُمَا أَنِ اصْمُتَا". فلم يتكلم ولكن رمى إليهما بشيءٍ مِنْ حصى المسجد ليصمُتا و يسكُتا. "وَعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلاً عَطَسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَشَمَّتَهُ إِنْسَانٌ إِلَى جَنْبِهِ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لاَ تَعُدْ". يقول: فاختلفوا في قوله فنهاه عن ذلك. قيل: أنَّه لمَّا حصل منه ذلك أعاد الصَّلاة.

○ فلما سَأَلَ سعيد بن المُسيّب، نهاه عن إعادة الصَّلاة؛ يعني: صلاتك صحَّت وتمت. 

○ والقول الثاني كما هو ظاهر الرواية: أنَّه نهاه أنْ يعود إلى التشميت مرةً أُخرى.

○ وقد سمعت اختلاف الأئمة فيه، والمذهب الجديد للشَّافعي: أنَّه يُشمِّت، ويرُد السَّلام كذلك، لأنَّه فرض، لكنه أيضًا كَرِِه أنْ يُسَلِّم الداخل على المُستمعين إلى الخُطْبَة.

 وذكر: "أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الْكَلاَمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذَا نَزَلَ الإِمَامُ عَنِ الْمِنْبَرِ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ؟ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ." فهو في غير وقت الخُطْبَة، وينبغي الاستمرار في الخشوع إلى الإحرام في الصَّلاة، فلا يتكلم مِنْ غير حاجة.

     رزقنا الله الفِقه في الدِّين، والمُتابعة لحبيبه الأمين، وأحيا فينا سُنَنَهُ الكريمة، وأخلاقه العظيمة، وآدابه الفخيمة، وجعله مُقتدانا في ظواهرنا وخفايانا، حتَّى نبلُغ رضاه، وننال محبة مولانا في عافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

27 مُحرَّم 1442

تاريخ النشر الميلادي

14 سبتمبر 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام