(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصلاة، باب النَّظَرِ فِي الصَّلاَةِ إِلَى مَا يَشْغَلُكَ عَنْهَا.
فجر الثلاثاء 20 محرم 1442هـ.
باب النَّظَرِ فِي الصَّلاَةِ إِلَى مَا يَشْغَلُكَ عَنْهَا
261 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: أَهْدَى أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَمِيصَةً شَامِيَّةً لَهَا عَلَمٌ، فَشَهِدَ فِيهَا الصَّلاَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "رُدِّي هَذِهِ الْخَمِيصَةَ إِلَى أبِي جَهْمٍ، فَإِنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلاَةِ، فَكَادَ يَفْتِنُنِي".
262 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَبِسَ خَمِيصَةً لَهَا عَلَمٌ، ثُمَّ أَعْطَاهَا أَبَا جَهْمٍ، وَأَخَذَ مِنْ أبِي جَهْمٍ أَنْبِجَانِيَّةً لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ؟ فَقَالَ: "إنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلاَةِ".
263 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ يُصَلِّي فِي حَائِطِهِ، فَطَارَ دُبْسِيٌّ، فَطَفِقَ يَتَرَدَّدُ يَلْتَمِسُ مَخْرَجاً، فَأَعْجَبَهُ ذَلِك، فَجَعَلَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ سَاعَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صَلاَتِهِ، فَإِذَا هُوَ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَتْنِي فِي مَالِي هَذَا فِتْنَةٌ. فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ لَهُ الَّذِي أَصَابَهُ فِي حَائِطِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ صَدَقَةٌ لِلَّهِ: فَضَعْهُ حَيْثُ شِئْتَ.
264 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يُصَلِّي فِي حَائِطٍ لَهُ بِالْقُفِّ -وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ- فِي زَمَانِ الثَّمَرِ، وَالنَّخْلُ قَدْ ذُلِّلَتْ، فَهِيَ مُطَوَّقَةٌ بِثَمَرِهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ ثَمَرِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صَلاَتِهِ، فَإِذَا هُوَ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَتْنِي فِي مَالِي هَذَا فِتْنَةٌ. فَجَاءَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ -وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ- فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ صَدَقَةٌ فَاجْعَلْهُ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ. فَبَاعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِخَمْسِينَ أَلْفاً، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَالُ الْخَمْسِينَ.
الحمد لله مُكرمنا بدينه القويم وصراطه المستقيم، ومبيّنه لنا على لسان حبيبه العظيم ذي الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم أفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد ذي الجاه والقدر الوسيع الفخيم، وعلى آله وأصحابه وأهل محبته والإقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين و جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ..
فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذا الباب الأحاديث التي تبيّن وجوب إقبال المصلّي على صلاته بالكليّة، وأن لا يشتغل عنها بشيء فقد كفى بالصلاة شُغلًا، فيضبط جميع جوارحه ويضبط قلبه من تكبيرة الإحرام إلى السلام، فلا يخرج عن حدود الصلاة وعن أدب الصلاة وعن معاني الصلاة، وعن استحضار معاني الأفعال والأقوال المشروعة له في هذه الصلاة؛ فهذا معنى للإقامة التي شرعها الله تبارك وتعالى، قال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ…) [البقرة:43]، (...وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ…)[البقرة:3]، (...وَإِقَامِ الصَّلَاةِ…) [النور:37]، (...وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ…) [البقرة:227]، فالإقامة لها؛ أداؤها على الوجه الأكمل والأفضل والأحسن بالتمام. فينبغي للمؤمن أن يحرص على حاله مع ربه في صلواته، فإنه مَجلى إيمانه بهذا الإله، وسبب قربه إلى مولاه جل جلاله، فعلى قدر إيمانه بالحق يهتم قلبه بالصلاة والحضور مع الله في الصلاة، وأن ينضبط في صلاته بقلبه وجوارحه.
وكما قال الإمام الغزالي: ألا ترى أنه أُمِرَ بالتوجُّه إلى جهة القبلة؛ جهة الكعبة المشرفة، ولا يمكن أن يكون متوجهًا إلى الكعبة وهو مستقبل إلى جهة أُخرى، بل لابد أن ينصرف عن الجهات الثلاث الأُخرى ويبقى مُتجهًا إلى جهة الكعبة. قال: أَفَتَرى أن إقباله بوجهه إلى جهة الكعبة و انصرافه عن بقية الجهات مقصود دون انصراف القلب عن الكائنات كلها وتوجّهه الى الرب؟ قال: كلا، فما المقصود الأعظم من الصلاة إلا ذلك؛ فهذا هو المقصود من الصلاة؛ أن ينصرف القلب عن جميع الكائنات ليكون متوجهًا الى المُكُوِّنْ متحققًا بمعنى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام:79]. فينبغي لنا أن نعتني بشأن الصلوات وإقامتها فرائض ثم نوافل، وأن نركز على ذلك وأن نجمع همّنا لذلك.
وهكذا قال الإمام الحداد: إنّا نخرج إلى الصلاة بجمعية على الله تعالى، فمن كان عنده لنا خبر أو سلام من أحد أو رسالة فلا يُكلمنا وقت خروجنا إلى الصلاة، وليجعلها بعد الصلاة، يأتي بما معه، فإننا نخرج إلى الصلاة بجمعيةٍ على الله جل جلاله، وهكذا يجب.
قال تعالى (...فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ …) [النساء:103]؛ إذا اطمأننتم واجتمعتم بوجهتكم علينا وانقطعتم عما سوانا.. أقيموا الصلاة حينئذٍ، فصلّوا لنا وقلوبكم معنا (...وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14]؛ لتكون ذاكرًا لي ولِتنال ذكري لك بفضل إقامتك للصلاة (...وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14].
و لهذا قال: "باب النَّظَرِ فِي الصَّلاَةِ إِلَى مَا يَشْغَلُكَ عَنْهَا": ومن هنا نُدِبَ ألّا يكون في أماكن العبادة من المساجد وغيرها بل في عموم بيوت المسلمين التي يصلون فيها خصوصًا إلى جهة القبلة ما يَشغَلُ المصلّي. فينبغي أن لا يجعل فيها أي شيء يشغله من صورةٍ أو أيِّ متاعٍ يُعلِّقُه أو أي زخرفة تكون في الأمام. ولمّا أنكر بعض الشعراء كثرة اعتناء المسلمين بزخرفة المساجد و النقوش فيها مع إهمال الحضور فيها وإهمال حضور القلوب فيها، قال:
أمّا المساجدُ فهي اليومَ عامرةٌ *** كأنها من قصورِ الفرسِ والرومِ
ترى على البابِ و المحرابِ زخرفةً *** تُلهيك عن كل منطوقٍ ومفهومِ
وما يصلي بها إلا مؤذنها *** أو الإمام ولكن دون مأمومِ
لا حول ولا قوة إلا بالله! فعِمارتُها بالصلاة وعِمارَتُها بحضور القلب في الصلاة أهم، فكذلك جائنا بهذا الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: عن أبي جهمٍ الذي لمّا استُشير في نكاحه قال لا يضع العصا عن عاتقه؛ أمّا أنّه كثير السفر أو أنه ضرّاب للنساء؛ أي: يضرب، ولهذا قال أمّا أبو جهمٍ فإنه لايضع العصا عن عاتقه. تقول السيدة عائشة: "أَهْدَى أَبُو جَهْمِ" ويقال اسمه عامر أو عبيد، أبو جهم وهو من بني عدي. "أَهْدَى أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَمِيصَةً" والخميصة: الكساء الرقيق المربع، قد يكون من خز أو من صوف أو من غيره، وقد يكون فيه علم وقد لا يكون فيه أعلام، وهذه "خَمِيصَةً شَامِيَّةً"؛ أي: من صنع الشام، وقد تكون أيضًا من الشعر، ففيه أيضًا أن شعر المأكول طاهر ويستعمل منه الثياب ونسج الثياب، والمقصوص منها في حال الحياة، وكذلك ما كان بعد الذكاة. وكان من بالشام قبل وصول الإسلام إليهم على الكتاب؛ أهل كتاب، وكانت ذبائحهم حلالٌ أيضًا لأهل الكتاب، إذًا صنائع أهل الكتاب حلالٌ لنا مالم نتيقن فيها شيئًا من نجاسة وغيرها مما يحرِّمها الشرع.
فلما أهدى له هذه الخميصة يُقال لها: خميصة عبارة عن كساء رقيق لما يطوى يَرِقُّ ويضمر، الخميصة مثل البطن، عند ضمور البطن من قلة مافيها فهذا خميصة، يعني: كساء رقيق، ويقال أنها كانت سوداء وفيها أعلام، فلبسها النبي ﷺ وشهد الصلاة فيها "فَشَهِدَ فِيهَا الصَّلاَةَ،" صلى النبي ﷺ وهو لابس لها، "فَلَمَّا انْصَرَفَ" من الصلاة قال لعائشة: "رُدِّي هَذِهِ الْخَمِيصَةَ إِلَى أبِي جَهْمٍ،". وفيه قبوله الهدية وهو معروفٌ من هديه ﷺ، بل أمره للأمة بأن يتهادوا بينهم البين؛ ليحافظوا على قوة المودة والمحبة بينهم، وبعد ذلك ردُّه الهدية؛ ردُّ الهدية نصّوا على كراهة ما كان من نحو طيبٍ و ريحانٍ وعطرٍ على من أُهديَ إليه ذلك، أو مثل اللبن والوسائد وماعدا ذلك، وماعدا ذلك كذلك مما كان ينكسر به الخاطر، فينبغي أن لا يردّه إلا لعذر كشبهة ٍأو لما عَلِمَ من تكلُّف المُهدي إلى غير ذلك من القرائن والأحوال التي تنفي كراهة الرد.
وهنا أنه ﷺ ردَّ الهدية إلى أبي جهمٍ بعد أن أهداها له ﷺ، وفيه أيضًا قبول المُهدي الهدية إذا رجعت إليه من دون كراهة مادام لم يطلبها ولم يَتَشوَّف إليها، وفرَّق بعضهم بينها و بين الصدقة؛ فقال:
و كان النبي ﷺ يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، لا يأكل الصدقة ويقبل الهدية ويكافِئُ عليها عليه الصلاة و السلام.
فَرَدَّ ذلك إلى أبي جهم؛ لما يعلم من حاجة أبي جهمٍ إليها ولكونه لا يريد استعمالها عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك تابع جبر خاطر أبي جهم وقال: أئتوني بأنبجانية أبي جهم، قال ائتوني بالثاني أي كساؤك الغليظ الذي ليس فيه أعلام، أعطني ألبسه و خذ هذا لك، فطيَّب خاطره بأن يأخد أيضًا منه شيئًا حتى لا ينكسر بأنه ردَّ إليه الهدية، وبيّن له السبب في ذلك، فقال: "فَإِنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلاَةِ،" نظرة، بيان لعلة الرد و لِيُقتَدى به في ترك لباسها من غير تحريم، يجوز لبسها ولكن لا ينبغي أن تشغل نفسك في الصلاة بلباسٍ ولا بغيره.
ومن هنا كان شيخنا الحبيب أبي بكر العطاس بن عبد الله الحبشي يميل إلى وضع الرداء على الأرض؛ حتى لا يَشغَل المصلّي في صلاته عند قيامه وقعوده عند الصلاة، ويميل إلى أن يربط طرفي الجُبّة برابطٍ يربط طرفيها؛ حتى لا يشتغل بها في أثناء صلاته، ليردّها من كذا أو من كذا؛ ليكون حاضرًا في صلاته لا يشتغل بغير الإقبال على الله تبارك و تعالى. وقد دخل ليلة من الليالي في بعض المناسبات في مسجد آل باعلوي مع أخيه وشيخه الحسين بن عبد الله بن علوي الحبشي، فدخلا يصليان، وكان في المسجد الحبيب علوي بن عبد الله بن شهاب وبجانبه ابنه الحبيب محمد، فلمّا قاما يصليان بدت صلاة الخاشعين الخاضعين لا تُحِسُّ لهما حركة، وكان أخوه الحسين عندما يُحرم بالصلاة، فموضع إبهام قدمه اليمنى هو الموضع الذي يستمر فيه طول الصلاة لا يتقدم عنه ولا يتأخر، ولا يميل يمنى ولا يسرى إلى أن يُسلّم من الصلاة و الإصبع في مكانه، في محله لا يتحرك أصلًا في جميع أركان الصلاة وأفعالها. قال الحبيب محمد بن علوي: فلما كانوا يصلّون التفت إليهم الوالد يضرب بيده في فخذه فيقول: انظر الصلاة انظر انظر، قال وثاني مرة يقول: انظر الصلاة، هكذا تصلّي أنت؟ انظر الصلاة مثل هكذا، يقول: فكلما جلس قليل دقّني بيده وقال: انظر إليهم، انظر هكذا الصلاة إذا تصلّي، لا يبدو لهم التفات لا ظاهر ولا باطن إلى شيء في صلاتهم كلها، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2].
يقول: "فَكَادَ يَفْتِنُنِي"؛ أي: يشغلني أو التفت إليه، وكاد الأمر: أي قرب وقوعه ولم يقع شيء من ذلك، "فَكَادَ يَفْتِنُنِي" ثم بعث ﷺ الخميصة إلى أبي جهم، وردها إلى أبي جهم و بيَّن العلة لأجل يعلم أيضًا أبو جهم وغيره أن كل ما شغل المصلي في الصلاة فينبغي ألا يتعرض له و ألا يصلي فيه مع الجواز فى ذلك، ولكن الأدب و الكمال في إقامة الصلاة ألّا تُبقي شيئًا فيها يشغلك عن معانيها وما أنت بصدده.
ورد الحديث عن عروة: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَبِسَ خَمِيصَةً لَهَا عَلَمٌ،" يعني فيها أعلام؛ يعني: خطوط من غير اللون الأساسي للخميصة فكاد يشتغل بها، "ثُمَّ أَعْطَاهَا أَبَا جَهْمٍ، وَأَخَذَ مِنْ أبِي جَهْمٍ أَنْبِجَانِيَّةً لَهُ" أنبجانية هذا الكساء الغليظ الذي لا عَلَمَ فيه، فكل ما كَثُفَ والتَفَّ يقال له أنبجانية، يقول: فالنسبة إلى موضع يقال له (أنبيجان) بلد معروفة، وهناك بلد آخر في الشام معروف اسمه منبج ليس هو المراد، فلهذا لمّا لاحظ بعضهم يقول: منبجانية قالوا له: لا! إنما هذا من موضع أنبيجان فالنسبة إليه أنبجانية، فيقال أنه نسبة إلى الموضع ويقال أنه النوع، النوع نفسه يقال له أنبيجانية كما تقدم ماهو الأنبيجانية: وهو الكساء الغليظ الذي لا عَلَمَ فيه. "فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ؟" لمّا بعث بها إلى أبي جهم، قال: ولم؟ أي لم فعلت هذا؟ يسأله عن لماذا كره الخميصة؟ مخافة أن يكون حدث فيها كراهية أو تحريم فينتبه، فقال له: لا "فَقَالَ: "إنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلاَةِ فأخاف تفتنني" أي تشغلني عن الصلاة، و فى اللفظ الآخر: "كاد أن يفتنني".
وفي ذلك بيان للكمال فى واجب المؤمن في الصلاة، فإن ما في قلب رسول الله ﷺ من معاني الحضور والخشوع لو وُزِّعَ على ألفٍ من خواص الحاضرين الذين حضورهم يشغلهم عن كل شيء حتى لا يحسّون بألوان ولا غيرها ولا أصوات حولهم لوَسِعَهُم ولغابوا أكثر، ومع ذلك فَلِقُوَّةِ كماله وبكمال حضوره وأدبه يقوم مقام القدوة للجميع؛ للضعيف والقوي والخاص وغيره ولا يشغله قوة هذا الحضور عن شوؤن هذا الحس والظاهر فيعطي كل شيءٍ حقه، و لهذا أمر بإبعاد هذه الأعلام من الصلاة فهو في حالٍ أكمل من أحوال الذين يغيبون في الصلاة فلا يشعرون بشيء من ذلك، ومع أن ما عندهم من الحضور والخشوع لا يساوي ذرّةً مما عنده ﷺ ولكن لقوّته ولكماله ولرسوخه لم يكن ذاك الحضور مُغيِّبًا له عن إدراك الأشياء من حوله، وهو في رتبة الكمال الأعلى ﷺ. بل وهم أرباب الحضور يختلفون، فنسبة من الحضور قد تُغَيِّبْ طائفة أضعاف هذه النسبة في طوائف أخرى لا تُغيِّبْهُم عن الحس الذي حولهم وعندهم أضعاف ماعند هؤلاء من الحضور، وكلٌّ على قدر قوته واتساعه، وهكذا وكان ﷺ في مجلى الكمال الإنساني -صلوات ربي وسلامه عليه- فلا أحد يدانيه في الحضور ولا يشغله ذلك عن أداء حق الحس والظاهر وإقامة كل شيء في مقامه ﷺ.
ثم ذكر حديث أبي طلحة: "أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ يُصَلِّي فِي حَائِطِهِ،" أي: بستانٍ له، أصل الحائط: جدار البستان وبعد ذلك سمي البستان بالحائط، والغالب يكون من النخيل إذا كان عليه جدار يقال له حائط، فالمراد به البستان، "فَطَارَ دُبْسِيٌّ،" دبسيّ: نوع من الطيور يشبه اليمامة، وقيل اليمامة بنفسها، هذا الدبسي منسوب إلى دبس الرُّطَب، يقول: الطير الذي لونه بين السواد والحمرة، الدبسي: طائِرٍ أدْكَنَ يُقَرْقِرُ يقال له دبسي، "فَطَفِقَ يَتَرَدَّدُ يَلْتَمِسُ مَخْرَجاً،" هذا الدبسي يلتمس مخرجًا؛ يعني التصاق النخل والتصاق جرائدها كانت تمنعه من الخروج، كان يتردد في طلب المفر، "فَأَعْجَبَهُ ذَلِك،" فأعجب أبا طلحة ذلك؛ أي: طيرانه "فَجَعَلَ" يلتفت إليه "يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ" فاشتغل عن صلاته، "ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صَلاَتِهِ،" أي الإقبال عليها والحضور فيها، فإذا هو قد نسي عدد الركعات ولا يدري كم صلى، "فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَتْنِي فِي مَالِي هَذَا فِتْنَةٌ" فعدَّ الانشغال عن الصلاة فتنة من الفتن، وميله عن ما هو أولى له من حضور قلبه في الصلاة.
يقول: "فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ لَهُ الَّذِي أَصَابَهُ فِي حَائِطِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ صَدَقَةٌ لِلَّهِ، فَضَعْهُ حَيْثُ شِئْتَ." قال: هذا الذي شغلني في الصلاة لا أريده؛ البستان كله، فخرج عنه، وهذا يبين لنا مكانة الصحابة عليهم رضوان الله في الإيمان واليقين وإيثارهم للحق جل جلاله، وأنه لما شغله هذا الطائر عن صلاته أنفق البستان كله، خرّج البستان كله في سبيل الله حتى لا يبقى له التفاتًا في صلاته إلى غير الله تعالى جلّ جلاله و تعالى في علاه.
قال الإمام الغزالي: يفعلونه قطعًا لمادة الفكر وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة. ففي هذا الحديث إشاره إلى أنَّ الاشتغال بأي شيء في الصلاة كان نادر في حال الصحابة، لا يحصل منهم، بل قيل لبعض أتباعهم من التابعين وقد شكى وسوسةً في الصلاة، قال: أتذكر الدنيا، قال: أذكر الدنيا؟ لأن تختلف فيَّ الأسنة -يعني: الرماح- أُضرَب بها وأُطعَن بها أحب إليَّ من أن أذكر الدنيا في الصلاة. فما هي هذه الوسوسة التي يشتكيها؟ قال: إذا قمت إلى الصلاة جاء الشيطان يذكرني الوقوف بالآخرة بين يدي الله فألهو عن صلاتي! فعدَّ هذا وسوسةً لأنَّه شغله عمَّا هو في صدده من معاني القراءة ومعاني الأفعال التي يفعلها، لأن هناك: حضور في الأقوال باستحضار معانيها، وحضور في الأفعال:
بل قال الإمام أحمد بن زين الحبشي: الحضور في الأفعال أهم من الحضور في الأقوال؛ فينبغي أن تكون حاضر القلب في الأقوال والأفعال في صلاتك. اللهم أعنّا على إقام الصلاة واقبل منّا الصلاة وحققنا بحقائق الصلاة. ولمَّا قالوا لبعض صالحي الأمة تُحَدِّث نفسك بشيء في الصلاة؟ قال: وهل شيء أحب إلى قلبي من الصلاة أحدث نفسي بها فيها؟! لا شيء أحب إلى نفسي من الصلاة هي أحب شيء، لو كان شيء ثاني أحب إلى قلبي من الصلاة سأتحدث به، لا شيء أحب إليَّ من الصلاة، هي الصلاة أحب شيء إلى قلبي وفؤادي، الله أكبر!
وجاء في بعض الروايات أنَّ الرسول ﷺ أرشده إلى أن يجعله في الأقربين؛ أن يتصدق بها على أقاربه وأرحامه هذا الحائط والبستان الذي كان لسيدنا أبي طلحة الأنصاري -رضي الله تعالى عنه-، "فَضَعْهُ حَيْثُ شِئْتَ."؛ اصرف ذلك في الموضع الذي تختاره؛ لأنه ﷺ أعلم، وفى رواية قال له: "أرى أن تجعله في الأقربين".
وقال مالك: "أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يُصَلِّي فِي حَائِطٍ لَهُ بِالْقُفِّ" موضع ومنطقة يُقال لها الْقُفِّ، والْقُفِّ: ما صلب من الأرض واجتمع؛ والمراد هنا وادي مُعَيَّن من أودية المدينة يُقال له القُف، "فِي زَمَانِ الثَّمَرِ" وقت بُدُوِّ الثمر وحصول الخريف، "وَالنَّخْلُ قَدْ ذُلِّلَتْ، فَهِيَ مُطَوَّقَةٌ بِثَمَرِهَا،" أي: نزلت خيلانها إلى الأسفل من كثرة الثمر الذي فيها فهي مُطَوَّقة ومستديرة بثمرها، "فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ ثَمَرِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صَلاَتِهِ، فَإِذَا هُوَ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَتْنِي فِي مَالِي هَذَا فِتْنَةٌ. فَجَاءَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ -" في أيام خلافة سيدنا عثمان، وذاك أبي طلحة من زمن النبي ﷺ. وفيه أن هذا الحال من تعظيم الصلاة مستمر عند الصحابة -رضوان الله تعالى عنهم-.
وجاء عند سيدنا عثمان بن عفان كان خليفة "فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ" ما أصابه في حائطه "وَقَالَ: هُوَ صَدَقَةٌ" أي: لوجه الله تعالى "فَاجْعَلْهُ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ." يعني: حيثما شئت "فَبَاعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِخَمْسِينَ أَلْفاً،" وتصدَّق بثمنه، فكان هذا ما رآه سيدنا عثمان في ذلك، "فَسُمِّيَ الْمَالُ الْخَمْسِينَ" لأنه مباع بخمسين ألف، وخمسين ألف في ذاك الزمان هو مبلغ كبير جدًا، في هذا الزمان كأنَّه خمسين مليون في زماننا، فأنفقها كلها لأنَّها ألهَتهُ عن صلاته. وهكذا بل جاءت السنة فيما يجعل الإنسان نظره -نظر بصره في الصلاة-؛ لأنَّه إنما تكثر عليه الخواطر والفكر في ما ينظره فأُمِرَ بقصره، وحصر نظره في موضع السجود.
والقصد: حصر النظر وقصره حتى لا يلتفت يمنةً ولا يسرى، وحتى لا تطرأ عليه الأفكار ولا تطرأ عليه الخواطر ويبقى حاضرًا مع ما يقوله في الصلاة.
فهكذا ينبغي للمؤمن أن يعتنيَ بصلاته وأن يؤديها على وجه الإقامة التامة لها، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [البقرة:43] ولهذا قال الإمام الغزالي: لم يقل الحق صلّوا ولكن قال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، ففرق بين مجرد الصلاة وبين إقامتها؛ إنَّما تقيمها إذا أتيت بها على وجهها اللائق بها حينئذٍ أقمتها، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ…) [هود:114]. ثمَّ سيتحدث عن العمل في السهو، ويعود بنا إلى مايقتضي سجود السهو وشيء من الأحوال في ذلك.
سلك الله بنا أشرف المسالك، وجعلنا من أهل الصلاة المتحققين بحقائق حضورها وخشوعها، وحقائق وقيامها وركوعها وسجودها، وجعلنا عنده من خواص أهل الصلاة الصادقين معه تعالى في علاه، ودفع عنّا الأسواء في السر والنجوى بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.
22 مُحرَّم 1442