شرح الموطأ - 5 - كتاب وُقوت الصلاة: باب مَن أدركَ ركعةَ مِن الصلاة، وباب مَا جَاءَ فِي دُلُوكِ الشَّمْسِ وَغَسَقِ اللَّيْلِ

شرح الموطأ - 5 - باب مَن أدركَ ركعةَ مِن الصلاةِ، من حديث: (مَن أدركَ ركعةَ مِن الصلاةِ، فقد أدرك الصلاةَ)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، باب مَن أدركَ ركعةَ مِن الصلاةِ، يليه باب مَا جَاءَ فِي دُلُوكِ الشَّمْسِ وَغَسَقِ اللَّيْلِ.

فجر الثلاثاء 2 ذي القعدة 1441هـ. 

باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ

15 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ". 

16 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُول: إِذَا فَاتَتْكَ الرَّكْعَةُ، فَقَدْ فَاتَتْكَ السَّجْدَةُ. 

17 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَا يَقُولاَنِ: مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ. 

18 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ، وَمَنْ فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ.

باب مَا جَاءَ فِي دُلُوكِ الشَّمْسِ وَغَسَقِ اللَّيْلِ 

19- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: دُلُوكُ الشَّمس مَيْلُهَا. 

20- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: دُلُوكُ الشَّمس إذا فَاءَ الْفَيْءُ، وَغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله على الشريعةِ المُطهرة، وبيانِ الأحكام المُعظّمةِ الموقرة، على لسانِ رسولِ الله محمّد بن عبد الله، الَّذي شرَّفهُ اللهُ وعظّمه ووقره، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آلهِ وصحبهِ ومنْ سارَ في سيرتِهمُ النقيةُ المُطهرة، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين سادات أهلِ المعرفةِ بالحقِ تبارك وتعالى، وخير مَنْ امتثلَ أمرَه واجتنبَ زجرَه، وعلى آلهم وصحبهم وملائكةِ اللهِ المقربين وجميع عبادهِ الصالحين، وعلينا معهم وفيهم أنَّهُ أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.

وقد تقدَّم معنا الكلامُ عنْ وقت الجُمعة في الدرسِ الماضي، وهي التي: 

  • تُقرأُ بِضم الميمِ: جُمُعة، كما هي لغةُ أهلِ الحجاز، وجاءَ بها القرآن (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة:9]. 
  • كما تُقرأُ بالفتحِ وهي لغة تميم فيقولون: جُمَعة. 
  • كما تُقرأُ بالسكون وهي لغةُ عُقَيْل: جُمْعة. 

جُمُعة .. وجُمَعة .. وجُمْعة. ثُمَّ تكلمَ الآن في هذا الباب عن: "من أدرك ركعةً مِنَ الصَّلاة"، أي: ماحُكْمُهُ؟ وقد تقدّمَ معنا فيمَنْ أدرك ركعةً مِنَ العَصرِ قبلَ أنْ تَغرُبَ الشَّمس، وركعةً مِنَ الفَجرِ قبلَ أنْ تَطلُعَ الشَّمس، فذاكَ يختلفُ عنْ هذا؛ ذاك يتعلّقُ بإدراكِ الوقتِ، وهذا يتعلّقُ بإدراكِ الجماعةِ، والجُمعة، والركعة مع الإمامِ بالنسبةِ للمسبوق. فأوردَ حديثَ أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: "مَنْ أدرك رَكْعَةً مِنَ الصَّلاة، فَقَدْ أدرك الصَّلاة"، جاءَ في روايةٍ النسائي: "فقدْ أدرك الصَّلاة كُلَّها"؛ لكن عليهِ أنْ يقضيَ ما فاته. وبذلك اتضحَ المعنى؛ وهو أمرٌ مُجمعٌ عليه. فلمْ يَقُلْ أحدٌ أنَّ مَنْ أدرك ركعةً واحدة كفَتْهُ عنْ بقيةَ الصَّلاة،  لا أحد يقولُ هذا! ولكنْ "مَنْ أدرك رَكْعَةً مِنَ الصَّلاة، فَقَدْ أدرك الصَّلاة"؛  

  • إمَّا ما يتعلق بالوقت، وهذا الَّذي تقدّمَ في الأحاديثِ في البابِ السابق الذي مضى. 
  • وإمَّا أدرك الركعةَ اُعتُبِرَ مدركًا للركعةِ مع الإمام؛ إذا أدرك الركوعَ معه. 
  • أو مُدركًا للجمعة إذا أدرك ركعةً مَنْ صلاةِ الجُمعة. 
  • إلى غير ذلك مِنَ التَّفْصيلِ والتَّبيين الَّذي جاءَ. 

حتى قال بعضُهُم: معنى أنَّ "مَنْ أدرك رَكْعَةً" أي: الرُكوعَ "فَقَدْ أدرك الصَّلاة" أي: الرَّكعة،"فَقَدْ أدرك الصَّلاة". فيترتبُ على هذا ما ذكرَ الأئمةُ عليهم رضوانُ الله تباركَ وتعالى، فيقربُ أنْ يكونَ مِنْ جوامعِ كَلِمِهِ ﷺ. "مَنْ أدرك رَكْعَةً مِنَ الصَّلاة، فَقَدْ أدرك الصَّلاة"؛ 

  • فأوَّلُها إذا جاءَ المسبوقُ، وأدرك الإمامَ في الركوعِ؛ فركعَ معهُ، حُسِبَتْ لهُ الرَكعة. فإنْ لمْ يُدركِ الركوع وإنْ أدرك السجدتين، فلا تُحسَبُ لهُ الرَكعة. فيجب عليهِ أنْ يأتيَ بالركعةِ بعدَ سلامِ الإمام. 
  • فإذا كبَّرَ تكبيرةَ الإحرام بعدَ النية، مع النية ثمَّ ركعَ، انحنى حتى تصل راحتاهُ رُكْبَتيه، والإمامُ راكع، فقدْ أدرك الركعة. قالَ الشافعية: واطمئنَ مَعَهُ. 
  • وأطلقَ بقيةُ الائمةِ الثلاثة: أنَّه إذا مَكَّنَ راحَتَيه مِنْ رُكْبَتيه والإمامُ راكع، فقدْ أدرك الركعة. 

والتكبيرةُ الأولى فرضٌ وهي تكبيرةُ الإحرام. والتكبيرةُ الثانية سُنّة. وقولُ مَنْ قالَ: أنّ التكبير الواحدة تكفي أو تُجزئ؛ فالمرادُ تكبيرة الإحرامِ لأنَّ الثانيةُ سُنة لا تبطل الصَّلاة بتركها. وأمَّا أنْ يُخلَ بتكبيرةِ الإحرام كما يفعل الكثير مِنَ النَّاس إذا جاءوا والإمامُ راكع، فيجعلُ بعضَ تكبيرةَ الإحرام وهو غيرُ مُنْتَصِبْ ولا قائم بلْ مُنحني للرُكوع، فقدْ بَطَلتْ تكبيرة الإحرام وبَطَلتْ الصَّلاة كُلّها. لا أدرك ركعةً ولا ركعتين، ولا أقل ولا أكثر.. بطلت صلاته، لأنه لمْ يَدخُل الصَّلاة دخولًا صحيحًا؛ لتكبيرهِ وهو هاوٍ أو لإيقاع بعض التكبير وآخر التكبير، وقد مالَ فقار ظهره عنِ القيامِ هاويًا إلى الركوع. فيجبُ أنْ يُكبَّرَ قائمًا مُنتصبًا ظهرُه حتى يُكمِلَ التكبيرة ثُمَّ يركع. فإذا أدرك الإمامَ في الركوعِ واطمئنَّ مَعَهُ فقدْ أدرك الركعة. 

وجاءَ في المعنى أيضًا: "مَنْ أدرك رَكْعَةً، فَقَدْ أدرك الصَّلاة"، يقولُ: إذا أدرك ركعةً مع الإمام، فجميعُ ما يتعلّق بأحكامِ الإمامِ مِنْ سهوه، ولو كانَ قد سهى قبلَ أن يأتي هذا المصلي معه، ينجرُّ إليه. ويكونُ كمَنْ أدرك الصَّلاة كُلَها. فإذا سجدَ للسهوِ، وجبَ عليه أنْ يسجدَ للسهو، وإنْ هو لم يحضُر هو في صلاتهِ سهو الإمام وجاءَ بعدَ أنْ سهى الإمام. ثُمَّ يُسنُّ لهُ أن يعيد ذلك. 

  • وقالَ الإمامُ مالك: وعندَهُ أنَّ سجدةَ السهو إمَّا أنْ تكونَ قبلَ السَّلام أو بعدَ السَّلام. فإنْ كانَ سها بزيادة، فالسَّجدة بعد السَّلام. وإنْ كانَ سها بنقصٍ، فالسَّجدة قبلَ السَّلام. هذا مذهبُ الإمام مالك وهو القديم للشافعي.  
  • وأطلقَ الإمام أبي حنيفة في أنَّ السَّجدة للسهو إنما تكونُ بعدَ السَّلام. 
  • وأطلقَ الشافعية أنَّ سجودَ السَّهو يكونُ قبلَ السَّلام مطلقًا. 

فقالَ الإمامُ مالك: فإذا جاءَ وأدركَ ركعةً مع الإمام؛ 

  • فإنْ سجدَ قبلَ السَّلام، فيجبْ عليهِ مُتابعَتُه، ثُمَّ يتداركَ السّجود هو في آخرِ صلاته. 
  • وإنْ كانَ سجدَ بعدَ السَّلام قالَ: فلا يتْبَعُه، ويقومُ وإذا كانَ أدركَ ركعة فيسجدُ هو آخِرُ صلاته. 

فإنْ سجدَ قبل السَّلام قالَ الإمام مالك: فيسجدُ مَعهُ وكفاه، يسجدُ مَعهُ. وإنْ كانَ سجدَ بعدَ السَّلام، فيقومُ ثُمَّ يسجدُ هو، يتدارك السَّجدة بعد ذلك، هذا مذهب الإمام مالك. 

إذًا فشملَ "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ" معاني، ومنها ما يتعلقُ بالجُمعة؛ 

  • فإذا جاءَ المسبوقُ وأدركَ مع الإمامِ ركعةً مِنَ الجُمعة، فقدْ أدركَ الجُمعة، فيُصلي بعدهُ ركعةً واحدة. 
  • فإنْ لمْ يُدرك الركعة مع الإمام، وجاء والإمام قد ارتفعَ مِنَ الركوع؛ فيجبْ عليه أن يصليَّ أربع ركعات. مهما أحرمَ خلف الإمام وصلّى معهُ بقية الصَّلاة، فيجبْ أنْ يصليَّ بعد سلام الإمام أربع ركعات. فإن الجُمعة فاتتهُ "من أدرك رَكْعَةً مِنَ الصَّلاة، فَقَدْ أدرك الصَّلاة".

هكذا قالَ الأئمةُ الثلاثةُ: أنَّهُ لا يكونُ مُدركًا للجُمعة حتى يدركَ ركوعًا مع الإمام. وقال الإمام أبو حنيفة: إذا أدرك مع الإمام أيُّ شيء ولو التشهّد؛ فيصلي ركعتين، لأنه يكون مدركًا للصلاة ولو بأقلَّ مِن الركوعِ عِنْده. 

كذلك يأتي في الحديث إذا اقتدى مسافر بمقيم أو مقصرٍ بمُتم، 

  • فإنْ أدركَ ركعة، فبالاتّفاق ما يُمكنْ لهُ أنْ يُقصِر والإمامُ مُتم. 
  • وإنْ أدركَ دونَ الركعة فعند الشافعية أيضًا ومن وافقهم ولو أحرم قبل أنْ يُسّلِمَ الإمام، فلا يجوزُ لهُ القصر؛ لأن إحْرَامَهُ وقع وهو مُؤتمٌّ بِمُقيم، مُؤتمٌ بِمُقيم. 
  • وكذلكَ قالَ بعضُ الأئمةِ الأربعة فيمَنْ أحرمَ وتشهّد مع الإمام: فإذا أدرك شيئًا من التشهد مع الإمام، والإمامُ مُتِمْ فلابد أنْ يُتم ولا يجوز لهُ أنْ يُقصِر. 
  • وقال بعضهم إن كان أدرك ركعةً، فلا يجوز له القصر. وإنْ أدرك دون الركعة، فلا بأس أنْ يُقصِر. 

وكلُّ هذهِ المسائل دخلتْ في الحديث الشريف: "من أدرك رَكْعَةً مِنَ الصَّلاة، فَقَدْ أدرك الصَّلاة". ولقد أُوتي جوامعَ الكَلِم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

ثُمَّ جاء لنا بحديثِ ابنِ عُمر: "إذا فَاتَتْكَ الرَّكْعَةُ، فَقَدْ فَاتَتْكَ السَّجدة"، يعني: إذا لمْ تُدرك الركوع مع الإمام، فلا يُعتدُ بركعتك وإنْ سجدت معهُ سجدتين؛ فهي تابعةٌ للركوع، ما دام فات الركوع، فقد فاتت. بل إذا فاتَ الركوع الأول في صلاة الكسوف والخسوف مِنَ الركعة الأولى ومِنَ الركعة الثانية إذا كان الإمام يُصلي بقيامين وركوعين، فمَنْ فاتَهُ الركوع الأول، فقد فاتته الركعة. وإنْ جاء وركع مع الإمام لكنَّه بالنسبة للإمام ركوع ثاني، والركوع الثاني ليس هو الفرض، وليس هو الركن، وإنَّما سُنّة مخصوصة بصلاة الكسوف والخسوف، فلا تُعتَبَر ركعة للمأموم وإنْ ركع معه ما دام أنه في ركوعه الثاني، فلا تُحسَب هذه الركعة للمأموم، وعليه أنْ يأتي بركعة بعدَ سلامِ الإمام. أمّا إنْ أدرك الركوع الأول، سواءً من الركعة الأولى أو الثانية، فتحسب له الركعة بإدراكه للركوع الأول. 

ومِنْ ذلك أيضًا ما قال الشافعية: إذا جاء والإمامُ في الصَّلاة فهو مسبوق، ولكنَّ معه جماعة يُمكِنُهم أنْ يُقيموا جماعة من أوَّلِها. 

  • قالوا: فإنْ كان بقي من صلاة الجماعة الأولى ركعة فأكثر، فلا يَعْقِد جماعة أخرى، ولا ينتظروا حتى يُسَلِّمَ الإمام، بل يُصلوا معهم مادام أدركوا ركعة، فيدخلوا في فضيلة صلاة الجماعة الأولى. 
  • وإنْ كان قد ارتفع الإمام مِنَ الركوع ولا يدركون ركعة، فالأفضل أنْ ينتظروا حتى يُسَلِّم الإمام ثم يقيمون جماعةً جديدة من أولها. 

فإذا جاء اثنين، ثلاثة، أربعة، والناسُ يُصَلون فإن بقي ركعة فأكثر فليلحقوا بهم. وإن بقي دون الركعة، ينتظرون ويقيمون صلاتهم جماعة من أوّلها.

 "من أدرك رَكْعَةً"، يقولُ أيضًا في حديث زيد ابن ثابت أنه مع ابن عمر،"كَانَا يَقُولاَنِ: مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ."، من باب أولى أي: تُحسبُ له تلك الركعة. 

وذكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: "مَنْ أدرك الرَّكْعَةَ فَقَدْ أدرك السَّجدة"، أي: أدرك الركوع، تُحسب له؛ لكن يقول: "وَمَنْ فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ"، يعني: مهما حسبنا له أنه أدرك الركعة فلا يظن نفسه أنه في الفضل مثل الذي جاء من قبل وقرأ الفاتحة مع الإمام أو سمع قراءة الإمام وأمَّن معه والملائكة يؤمّنون معه. يقول: الركعة أدركتها! لكنَّ ليس ثواب مثل الذي جاء من قبل، يا مُتخلف! يا متأخر! يا قليل التعظيم للأمر الرباني! الذي سبقك، سبقك. أنت أدركت الركعة، لكن ما أدركت ثواب التأمين مع الإمام، ما أدركت كلَّ حرف من الحروف بمئة حسنة تقرأه من الفاتحة. ولهذا قال: الذي "فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ"، لا يحسب أنه كالذين جاءوا من أول الصلاة. وليس شأنُ مَنْ أدركَ تكبيرة الإحرام مع الإمام كمن جاء بعده، "إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ صَفْوَةٌ… وَصَفْوَةُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى" مع الإمام. 

وبلغَ مِنْ التعظيمِ لأمر الله ورسوله عند طوائف من المسلمين في بعض الأقطار وبعض الأزمان، أنهم يُعَزّون من فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام إلى ثلاثة أيام، ويقولون كلَّ ما لقوه: ليس المصابُ مَنْ فارق الأحباب؛ ولكنَّ المصاب من حُرِمَ الثواب. أنت الذي ضيّعت على نفسك ثواب التكبيرة الأولى! ويعزّونه، فما تنقضي الثلاثة الأيام إلا وقد فاض به، فما يَتْرُك ولا يتأخر عن التكبيرة بعد ذلك أبدًا، يُعزّى ثلاثة أيام. أمَّا إذا فاتته الجماعة كُلُها، فأسبوع يعزّونه على فوات الجماعة! ويقول له كل من لقيه من جماعته وأصحابه: فلان!! ليس المصابُ مَنْ فارق الأحباب، ولكن المصاب مَنْ حُرم الثواب. 

فكانت القلوب الحيّة والمشاعر اليقِظة المعظّمة لأمر الله تُعَظّم شعائر الله بهذه الصورة والمثابة. والآن ما يعرفون يعزّونه إلا إنْ كان انكسر عليه جهازه أو سيارته روّحت!!. وأما فاتته تكبيرة الإحرام… ما يعرفون لها قدر أصلًا، لاحول ولا قوة إلا بالله... ذوق فَسَد وبَطل! الله يَرزقنا تعظيم شعائره، وحُسن امتثال أوامره. 

وكان بعضهم إذا سلّموا -من الصلاة- وواحد مِنْ أصحابِ الجماعة غير حاضر، يقولون: هيا بسم الله نروح إلى عنده، ما يؤخره إلا إنْ كان مات، أحضروا الجنازة! ويحملون الجنازة ويذهبون وإذا وجدوه بخير ليس مَيت، فلان!! كيفك؟ ما حَضَرتَ الجماعة؟! انظر الجنازة جئنا بها ظننا أنك مُتْ، ويقولون له: بنتركها عند بابك كم أيام نُذكرك بالموت، اترك الجنازة عند الباب، ويتركونها كل مَنْ يمرّ يرى الجنازة. يقولون: لن يؤخرك عَن الجماعة إلا إذا متّ.. لا إله إلا الله!

قال: "وَمَنْ فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ". قالوا إنَّ بعض الأخيار كان مواظبًا على الجماعة في بعضِ المساجدِ مع إخوانهِ، وليلة نَزلَهُ بعضُ الضيوف وانْشغلَ بهم وتأخر، فجاء، وجدَهُم قد صلَّوا وانصرفوا، فقال: صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد بسبع وعشرين، فسوف أصلي العشاء الآن سبع وعشرين مرة. فصلى العشاء سبع وعشرين مرة، أراد الله تنبيهه، فلمَّا نام رأى أصحابه الذين يُصلي معهم، ومعهم خيول قوية يمشون عليها، وهو معه واحد ضعيف من ورائهم، يُريد يلحق بهم، يحرّكه، ما يلحق، فالتفت إليه واحد من ورائه قال: مالك أنت ضعيف حقك؟ قال له: ما لحقت بكم، قال: فاتتك الجماعة البارحة! قال: قد صليت سبع وعشرين، قال: صليت سبع وعشرين! فأين آمين مع الإمام؟! هل حصَّلتها؟! في السبع والعشرين حقك حصّلت كل شيء؟ حصّلت ثواب آمين مع الإمام؟ لا تتعب نفسك، لن تلحق بنا مكانك، ما يُمكنُك تلحق بنا؛ فعلم مكانة الجماعة وفضلها.

فإذا كانت هكذا، فكيف إدراكُ الجماعة مع سيّد المُرسَلين؟ وما يُحصِّل الصحابة في التأمين خلفه؟ والاستماع إلى قراءته؟ والاقتداء به؟ فسبحان الذي خصّهم، وسبحان الذي اختارهم لحبيبه ﷺ.

 

باب مَا جَاءَ فِي دُلُوكِ الشَّمْسِ وَغَسَقِ اللَّيْلِ 

 

ثُمَّ يأتي "باب ما جاء في دُلُوكُ الشَّمس وَغَسَقُ اللَّيْلِ"، في الإشارة إلى وقوت الصَّلاة أيضًا، ويذكر لنا حديث عبد الله بن عمر كان يقول: "دُلُوكُ الشَّمس مَيْلُهَا"، ولهذا منه الدلك؛ ما تثْبُتُ اليد؛ تميل  كذا وكذا دُلُك. هذا "دُلُوكُ الشَّمس مَيْلُهَا". فيبدأ ميلها من الزوال ويستمرُ إلى الغروب. فيدخل فيه وقت الظهر ووقت العصر. يأتي من عند الميل قال ﷺ في حديثٍ: "جاءني جبريل لدلوك الشَّمس حين زالت، فصلّى بي الظهر"  الدلوك "دُلُوكُ الشَّمس مَيْلُهَا"، فميلها من جهة الطلوع إلى جهة الغروب؛ دلوك الشَّمس، فيستمر هذا الميل إلى الغروب، فيدخل فيه وقتان، وقت الظهر من أول الدلوك، ووقت العصر يلحق به. 

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) غَسَقُ اللَّيْلِ: غسق ظُلمته، بداية ظلمته يدخل فيه المغرب ثم العشاء، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) كَمُلَتْ الخمس الصلوات (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]، أي: قراءة القرآن في صلاة الفجر (مَشْهُودًا) يشهدها ملائكة كثيرون، يكثرُ الملائكة في صلاة الفجر، ويستمعون قراءة القرآن من الإمام، فهذا وقتٌ مشهود، وصلاةٌ مشهودة، يتضاعف أجرها ونورها وأثرها على القلب لكُلِ مَنْ حضرَ قلبَهُ وتوجّه إلى ربه. ويذكر: "أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: دُلُوكُ الشَّمس إذا فَاءَ الْفَيْءُ، وَغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ "، والله أعلم.

رزقنا الله الإيمان واليقين والإخلاص والصدق والاستقامة، وأَتحفنا بالمِنن والمواهِب والمزايا والكرامة، ورفعنا مراتب القُرب منه والدنوّ إليه والفهم عنه في خيرٍ ولطف وعافية، بسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

                                                      

 

تاريخ النشر الهجري

05 ذو القِعدة 1441

تاريخ النشر الميلادي

24 يونيو 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام