(374)
(607)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب حُسن الخُلُق، متابعة باب مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ.
فجر الثلاثاء 10 جمادى الآخرة 1444هـ.
متابعة باب مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ
2661 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ".
قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَحْسِبُ التَّدَابُرَ إِلاَّ الإِعْرَاضَ عَنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ، فَتُدْبِرَ عَنْهُ بِوَجْهِكَ.
2662 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَنَافَسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً".
2663 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أبِي مُسْلِمٍ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبِ الشَّحْنَاءُ".
الحمد لله الذي أكرمنا بحبيبه المصطفى مُحمَّدٍ وحسن تعليمه، وحسن بيانه وتفهيمه، وحسن تزكيته وتربيته وتقويمه، اللهم صل وسلم وبارك وكرّم على عبدك المصطفى سيدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه وأهل موالاته ممن استقام على منهجه الذي بعثته به، وأرسلته به مزكّيًا منقيًا مربيًا مصفّيًا هادٍ إليك ودالّاً عليك، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أحب الخلائق إليك، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث في مكارم الأخلاق، وما هذّبنا وأدّبنا حبيب الخلّاق، ودعانا إليه ﷺ وصحبه وسلم من حميد الصفات، وجميل النعوت الشريفات، وما نهانا عنه من قبائح الخصال وذمائم الصفات والأقوال والأفعال.
ويذكر لنا هذا الحديث "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رضي الله تبارك وتعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ تَبَاغَضُوا"؛ اجتنبوا أسباب البغضة، وكل ما يثير البغضاء بينكم، تراوحوا برَوْح الإيمان والإسلام والمحبة في الله ذي الجلال والإكرام، وتوقّوا أسباب البغض، وإذا دعتكم الدواعي للبُغض على غير بيّنةٍ ولغير الله -تبارك وتعالى- فارفضوها ولا تقبلوها، وتعاملوا بما يُزيحها، وبما يقلع جذورها منكم من إحسانٍ واختيار ألفاظٍ طيّبةٍ وحُسن مقابلةٍ وما إلى ذلك.
فحرّم على الأمة التباغض، فإنه مزرعة إبليس التي يزرع فيها أشجار إضلاله وإفساده في الأمة، وإنما أكثر تسلّطه عليهم، في شؤون فتنهم من البغضاء، وبعث البغض في قلوب بعضهم لبعض. ولذا قال كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"، فإن يطمع في شيء ففي التحريش بينهم. فكان هذه مهنته وحرفته وغرضه الأكبر الذي به يُوقع الأمة في البلايا، أن ينشر التحريش بينهم، وقد جنّد فيه معه كثيرًا من الإنس والجن، وقد تلبّس الأمر على كثير من المسلمين وتجنّدوا لإبليس اللعين، وصاروا أسباب تحريشٍ بين المسلمين باسم الدين وبغير اسم الدين -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فساعدوا إبليس على مراده وأهملوا توجيه أكرم خلق الله وأفضل عباده ﷺ.
"لا تَبَاغَضُوا"؛ فوجب على المؤمنين عامّةً، وأهل العلم وأهل الدعوة إلى الله، أن يكونوا أسباب محبة وينشروا أسباب المحبة وأن لا يقبلوا دواعي ولا دوافع التباغض بين أهل لا إله إلا الله من قريبٍ ولا من بعيد، وأن يجاهدوا أنفسهم في ذلك، وأن يعملوا على ذلك.
"لا تَبَاغَضُوا" ومن أجل تحريم التباغض:
إلى غير ذلك من الأسس التي بها يقوم التحابب وتنتفي أسباب التباغض، فهذا شأن من شؤون الشرع المصون وسنّة ودعوة الأمين المأمون ﷺ، يجب أن يفقهها المؤمنون عامة، وأهل العلم وأهل الدعوة إلى الله خاصّة، فلا يمكّنوا قلوبهم أن تنساق لدواعي البغضاء، ولا يفسحون للناس التساهل في ذلك الجانب والتحامل على بعضهم البعض، بل يجب أن ينشروا الألفة والأخوة في الله تبارك وتعالى، وأن لا يكون البغض إلا للكفر والفسوق والعصيان فقط.
وقال الله عمّا وصف به رعيلنا الأول وحلّاهم به: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الحجرات:7-8]. وبذلك جاءنا أيضًا في الحديث الصحيح عند أبي داود والترمذي أنه ﷺ قال: "مَن أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله ومَنَع لله فقد استكمل الإيمان"، "فقد استكمل الإيمان"؛ يحب لله لا لهواه ولا لنفسه ولا لشهواته ولا لأغراضه ولا لأي معنى آخر، لكن من أجل الله يحب، يحبّ المؤمنين والطائعين والعاملين بالصالحات والمقرّبين عند الله تبارك وتعالى. وأعظمهم من جعل الإيمان بهم فرضًا في صحة الإيمان به تعالى، وهم ملائكته ورسله هؤلاء أفضل الخلائق وأعظمهم فجعل الإيمان بهم شرطًا في صحة الإيمان به، ومن ادّعى أنه يؤمن بالله ثم كذّب بمَلك أو بنبيّ ردّ الله عليه دعواه، وجعله في الكافرين ولم يُقبل إيمانه.
ولمّا قال اليهود لنبيّنا مُحمَّد: من الذي يأتيك بالوحي؟ فقال: جبريل، قالوا: ذاك عدوّنا ونزل بالزلازل علينا وبالخسفِ فنحن نكرهه لو جاءك مَلَك غيره لكنّا آمنّا بك، فأنزل الله: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) [البقرة:97]. ثم بيّن أن عداوة جبريل عداوةً له سبحانه، فقال: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) [البقرة:98]، فجعلهم أعداء له، وهم إنما قالوا عدوّنا جبريل فقط، فصارت معاداة جبريل معاداةٌ للملائكة وللأنبياء كلهم وللحقّ -سبحانه وتعالى- فنعوذ بالله من غضب الله، وهكذا يجب أن يكون البغض لله والعطاء لله والمنع لله -سبحانه وتعالى- وبذلك يُستكمل الإيمان. وفي الحديث أيضًا في رواية أبي داود: "أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله" جل جلاله وتعالى في علاه.
قالوا: والبغض في الله يكون للكفر والفسوق والعصيان، ولا يمتدّ لذوات الكفار والعصاة والفاسقين، إلا أن يُتيقن أن ذات أحدهم كانت محل غضب الله وأودى بها في جهنم، وذلك لا يتأتى إلا فيمن جاء فيه نصّ، وما عدا ذلك فإنّا لا ندري بأحوالهم مع الله ولا بخواتيمهم عند الله -سبحانه وتعالى-، فينصبُّ البغض على الكفر وعلى الفسق وعلى العصيان نفسه أعمالهم، وفي ذلك يُمتنع ولاؤهم ومناصرتهم وموادّتهم، ويُشرَع البِرّ والقسط معهم وحسن المعاملة لهدايتهم ولتأميل رجعتهم إلى الله -تبارك وتعالى- فهذا مسلك البغض في الله سبحانه وتعالى، ومسلك البراءة من الكفر والفسوق والعصيان.
فحرّم على الأمة أن تتباغض "لا تَبَاغَضُوا"، أي: لا تتعاطَوا أسباب البغضاء..
هذه أسباب البغضاء، يجب أن يبتعد عنها المؤمن ولا يكون سببًا للبغضاء، يكون عضوًا في مشروع إبليس، مشروعه التحريش، فلا ترضى لنفسك أن تتجنّد لعدوّك وعدو الله إبليس بشيءٍ يُقذف في نفسك تكون به سبب بغضاء في قرابتك أو في أسرتك أو في جيرانك أو في أصدقائك وأصحابك أو في زملائك في العمل، فتتجنّد مع عدوّك وعدو الله إبليس، وتساعده على نشر التحريش بين المؤمنين، ولكن احرص على نشر المودّة، وعلى نشر المحبة.
"لا تَبَاغَضُوا"، فنهانا عن التباغض كمّا حذّرنا من الحسد، "وَلاَ تَحَاسَدُوا"؛ أي: لا يتمنى أحدكم زوال النعمة عن أخيه، فإنّ المُنعم حكيم، وإنّ المنعم عليم، وإنّ المنعم مُريد، يُنعم بما شاء على من شاء كيف شاء بإرادته وبعِلمه وبِحِكمته. ولذا قال الإمام الحداد: إنّ الحسد معاداةٌ لله ظاهرة، كأنه يريد يقول له: أنت ما تعرف تقسّم النعم! ليش تعطي هذا كذا المفروض تعطي هذا… أستغفر الله العظيم! المُلك ملكه ولا ملكك؟ والحقّ حقّه أم حقّك؟! هو أعلم بعباده وما أنعم الله على عبدٍ بأي نعمة ظاهرة ولا باطنة إلا وهو مريد لها لأنه لا مكرِه له، وإذا أرادها الله تعالى تجيء أنت تقول له لماذا؟! تحب زوالها عن الثاني، كأنك تقول: أنا بخطط المملكة لا أنت، أنا أحسن منك!! أعوذ بالله من غضب الله.. بل إن رأيت نعمة فأعجبتك كائنةً ما كانت صغيرة أو كبيرة في دينٍ أو في دنيا.. اطلبها منه يعطيك مثلها أو أكثر منها، ولا تتمنى زوالها، ولا تتحامل على صاحبها ولا تؤذي صاحبها ولا تسبّه، ولا تنقص من قدره فينقُص قدرك أنت.
ولكن اطلب من الله يعطيك مثل ما أعطاه أو أكثر من ذلك، وخزائنه ملأى، يعطي من يشاء ما يشاء كما يشاء ولا ينقصه شيء، جل جلاله وتعالى في علاه. "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحدٍ منكم مسألته ما نقص ذلك ممّا عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر". ولكن مع ذلك إن كنت تريد أنَّ حكمة الإله الحكيم تكون تحت نظرك القصير وتحت عقلك الصغير فأنت مجنون! فللألوهية شأنها وأنتَ عبد مملوك، يُقلّب العباد كما يشاء، يرفع ويخفض ويُقدّم ويُؤخر ويُعزّ ويُذل ويغني بحكمة، ولا تريد الأشياء على ما تريده أنت؟! لا فالمملكة مملكته، إنما ينعم على عباده المؤمنين في دار الكرامة ومستقر الرحمة، بعد أن يُمحَّص أكثرهم، بعد أن يُبتلَى أكثرهم، بعد أن يُختبَر أكثرهم، يُدخلهم في دار هناك أعدّ لهم فيها مالا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهناك جعل جميع ما يخطر على نفوسهم مما يشتهونه مسخّرًا ميسّرًا، قبل ما تدخل هذه الدار لا تطلب أن يكون هذا موجود، بعقلك ولا بلا عقل؟! هذا الله حطّه في ذا المحل تودّيه لمحل ثاني؟ لا لا لا ليس أنت ملك المملكة! هو ملك المملكة يضع كل شيء حيث شاء، أما (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ)[الزخرف:71] في الجنة لا في دار الدنيا وهكذا.
عرض بعضهم عليه بعض إخوانه في الله تبارك وتعالى وقد توفيت زوجته أن يتزوّج، وقال له: لماذا ما أخرّك؟ قال كانت المرأة التي توفيت صالحة وتقوم بالخدمة، ما أظن أجد مثلها، قال: أنت اشترط الذي معك ولك الجواب، ايش تريد؟ وصلّح له قائمة بكل الشروط: عفيفة نظيفة شريفة لبيبة أديبة… قال: كمّلت؟ قال: هذا موجود في الجنة، رُح الجنة ادخل، أنت بتزوج في الدنيا أم في الجنة؟ أنت بتزوج في الدنيا أم في الجنة؟ أنت بتزوج في الدنيا، الدنيا كدرة قذرة زائلة فانية، الدين والشرف نشترط لك مرحبا، صاحبة الدين صاحبة الشرف نعم، على حسب ما في الدنيا أما تجيب لي قائمة حق أهل الجنة وتجيبها هنا مجنون أنت؟! قال: خلاص الأمر لك.
فالدنيا دنيا والبرزخ برزخ والقيامة قيامة والجنة جنة والنار نار، وكل واحدة لها حكمها، ما يجري في هذه ما يمكن ينتقل لما في هذه، كل واحدة في محلها، ولكن حُسن صلتك بهذا الإله وأدبك معه فإنه يعجّل لعباده المؤمنين من الخيرات، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب البشر، ولكن الأمر له من قبل ومن بعد، حتى أهل الجنة ولهم فيها ما تشتهي الأنفس تحت حكمه هو الذي سخر لهم وهو الذي لا يُجري على خواطرهم ومشتهياتهم إلا ما يريد منهم وانتهت المسألة، فالأمر أمره من قبل ومن بعد.
أمّا في الدنيا فيختبرهم، ويجعل لهم شهوات كثيرة ما يريدها لهم، أو حرّمها عليهم، هذا محل اختباره في الدنيا، وبعدين في الجنة ما عاد يشتهون إلا ما أحب وإلا ما أراد وإلا ما سخر لهم، ما عاد يشتهون شيء ثاني أصلاً، هذه شهواتهم كلها تكون هنا، وهذا نوعٌ من النعيم الذي يُعجَّل لونٌ منه أو مسحةٌ منه في الدنيا لقومٍ تنتهي شهواتهم إلى القرب من الله فقط، ويقال:
القادة القدوة *** السادة الصفوة
لي ما لهم شهوة *** إلا لذكر الله
فيصيروا يشتهون القرب ويعطيهم ذلك، وكل ما اشتهوا حصّلوا منه -سبحانه وتعالى- فوق ما تصوّروا من معاني قربه ومعرفته، أعطاهم فوق ما تصوّروا، فهؤلاء هم أصحاب النعيم المعجّل وهم في الدنيا، وما أُعدّ لهم أكبر وأعظم فإن الدنيا لا تسع عطاء الله لعباده الصالحين، ما تتسع لعطائه الواسع لهم، ما يُمكن ما جعله الله تعالى من طبيعة الدنيا وكيفية خلقتها، ما تسعها العطايا الكبيرة، وهذا من أقوى أسباب زهدهم في الدنيا، تظن ما عنده خير؛ لأنه خبأ لهم من العطاء ما لا تسعه الدنيا، ما يمكن وهم في هذه الحياة أن يستوعبوه ولا يقدروا عليه، هناك أعدّه لهم، فبذلك تكاد أرواحهم أن تطير شوقًا إلى محبوبهم، وفي معنىً من ذلك وأساس قال سيدنا بلال: واطرباه! غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه، لأن هناك المشتهيات والعطايا قدام، فكيف ما يشتهونها؟
قال: "لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا"؛ لا تتمنّوا زوال النعم على بعضكم البعض فإن المُنعم قدير، والمُنعم بصير، والمُنعم حكيم، والمُنعم خبير، والمُنعم مريد، فعّال لما يريد.
وما أحد أخذ شيء من خزانتك ولا خزانة أبيك ولا أمك ولا خزانة أصحابك، ما حد أخذ شيء، هذه خزائنه، ينعم على من يشاء (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ) [آل عمران:26] قسمة الله ما في ذا العطاء من نزاعِ.. ليس فيه نزاع.
فلهذا قالوا: الحسد معاداة لله ظاهرة! تريده ينقل النعمة من ذا أو ذا؟ أم يعطيك أنت ويمنع ذا؟ وإن تُرد منه شيء فاسأله، فهو الواسع الكريم، يعطي ولا يبالي، بل كل الذين صدقوا معه في التوجّه، وسألوه أسئلة وأمّلوه آمال، ورجوا منه رجاء، كلهم من أوّلهم إلى آخرهم مهما مرّوا به من اختبار وامتحان، أعطاهم فوق ما سألوا، وأعظم ممّا أمّلوا، وأعلى ممّا رجوا، كلّهم ما حد منهم وقف عند رجواه، أعطاهم فوق ما رجوا، فوق الذي أمّلوا، وأعظم من الذي سألوا، كل الصادقين معه عاملهم كذلك، فنِعمَ المُعامِل، ربّ العباد! إذا تعاملت معه ما حد أقفى منه، ما حد أسخى منه، ما حد أكرم منه، ما حد أحسن منه، ما حد أفضل منه، ما حد أكرم منه -سبحانه وتعالى-، فأحسن معاملتك معاه تجد وأنت في الدنيا قبل الآخرة من معاني ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة:4].
"وَلاَ تَحَاسَدُوا"، قالوا: الحسد: تمنّي زوال النعمة واستـثقالها، مجرد استثقال النعمة على مسلم حسد، لماذا تستثقلها؟ حد أخذها من خزانتك؟ حد أخذها من الكيس حقك؟ هو من عنده أنعم بها عليه، ما لك انت؟ لا تستثقل نعمة أنعم الله بها على صغير كبير ذكر أنثى… يُنعم على من شاء، هذا الملك ملكه، والعطاء عطاءه، وأنت ايش لك؟ بتنازعه وبتشاركه في ملكه؟ لا شريك له، ماله شريك، فتأدّب معه سبحانه وتعالى.
فتمنّي زوال النعمة واستثقالها على المسلم حرام، وفيه جاءنا عنه ﷺ: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب "إنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" لا اله الا الله..
وهكذا جاءنا أيضًا عنه ﷺ: "دَبَّ إلَيْكُمْ داءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ والبُغْضاءُ، هِيَ الحالِقَةُ حالِقَةُ الدِّينِ لَا حالِقَةُ الشَّعَرِ"، قال: عندكم حلّاقات تحلق الشعر تخلّيه كأنه ولا شيء ولا شعرة، قال: هذه حلّاقات ولكنها تحلق الدين، ما تخلي لك حقيقة من الدين أبدًا، "الحسد والبغضاء" والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وبأساسهما أقام الشيطان هذه الحروب القائمة، كل حربٍ في غير الجهاد في سبيل الله، في غير إرادة إعلاء كلمة الله فهو من هذا، دفعهم إليه إبليس من مركز الحسد والبغضاء، حرّكهم بالحسد والبغضاء، فدفعهم إلى أن يتقاتلوا وإلى أن يتحاسدوا، كما حصل في أوّل ابني آدم الذين قصّ الله علينا نبأهم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) [المائدة:27]، بغضاء وحسد، ايش صلّح فيك؟ ذنبه أن الله تقبّل منه؟ هذا ذنب هذا! واجب عليك تعظّمه، تحبّه، مادام الله تقبّل منه معناه مُكرَم عند الله، بدل ما يحبّه، يعظمه، قال: سأقتلك! ايش صلّحت فيك لتقتلني؟ وايش الدافع للقتل؟ حسد وبغضاء… والحروب من بعدهم في بني آدم كذلك، قائمة على هذا لا تقول لي دولة كبرى ولا دولة صغرى كله من الحسد والبغضاء، سوقه إبليس فيهم يلعب بهم به، لا شيء غير هذا، ايش غير هذا يدفعهم لهذه البلايا ولهذه الحروب ولهذه الكروب؟.. ولكن سبحانه يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، اللهم اهدنا بهداك.
قالوا: فأن تتمنى انتقال النعمة إليك أو إلى واحد غيرك دون الذي أُنعِم عليه هذا حسد. وأشدّ منه أن تتمنى زوال هذه النعمة فقط انتقلت أو ما انتقلت قصد إنها تبعد من هذا.. حسد أسود! قال: تبعد من هذا ولا ايش؟! كأنه الرحمن ما عرف يقسّم أو كيف غلط انت بتقسّم أحسن منه؟!
اعتبر نحن قسَمنا بينهم *** تلقَه حقًّا وبالحقّ نَزَل
لا اله الا الله..
قال: "وَلاَ تَحَاسَدُوا". فبقيَ بعد ذلك الغِبطة، وهو المسمّى بالحسد المحمود، وهو أن تتمنى لك أو لغيرك مثل نعمة آخر، من دون أن تزول عنه ولا تنقص. ثم إن خواطر الحسد هذه تُنازل نفوس ابن آدم، ولا يَسلَم منها إلا أقل أقل أقل القليل من المعصومين والخواص، وبعد ذلك كل الناس ترِد عليهم خواطر الحسد، لكن النبي قال سأنبئكم بالمخرج: "إذا حسدت فلا تبغِ"؛
فإذا عملت ذلك فإن الله لا يؤاخذك بالخاطر لأنه سموح، صفوح، عفو -جلّ جلاله- يرحم ضعفك وعجزك، ولا يؤاخذك على مجرد الخاطر، مثل الظن الذي يأتي معنا نهي النبي ﷺ عنه، إذا لم تُحقق، مثل ما يخطر على بالك من الطِيَرة، إذا لم تستسلم لها وتخضع فأنت غير مأثوم، وغير مخاطَب ولا شيء عليك.
يقول: فأما الغِبطة وهو أن تتمنى مثل هذه النعمة؛ من دون أن تنتقل عن المنعم عليه، ومن دون أن تؤذيه، ومن دون أن تسبّه، ومن دون أن تتكلم عليه، ومن دون أن تستثقل النعمة عليه تريد مثلها لك أو لغيرك فلا شيء في ذلك، اسألها، المنعم خزائنه ملأى، تفيض ولا تغيض، لا تغيض أبدًا، سبحانه عز وجل.
"لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا"؛ لأنها الأسباب المؤدية إلى البغضاء والحسد، "تَدَابَرُوا"؛ يُعرض أحدكم بوجهه عن أخيه، يولّيه دبره، "لاَ تَدَابَرُوا". يقول: فإذا تولّى الرجل عن الآخر، ولّاه دبره، أعرض عنه حين يراه، فيحصل بذلك التهاجر والتباعد والتقاطع، "وَلاَ تَدَابَرُوا"، من أبغض أعرَض، ومن أعرض ولّى دبره، والمحبة بالعكس. يعني: لا يستأثر أحدكم على الآخر فيُعرض عن أخيه ويُدبر عنه. وفسّره الإمام مالك عندكم: "لاَ أَحْسِبُ التَّدَابُرَ إِلاَّ الإِعْرَاضَ عن السلام" هذا من التدابر، كما سيأتي معنا.
وقال ﷺ: "وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ"؛ يعني: يا عباد الله كونوا "إِخْوَاناً" كونوا إخوانا يا عباد الله، كلكم عبيد لإله واحد كيف ما تتآخون؟! مكوّنكم واحد، خالقكم واحد، إلهكم واحد، ومرجِعكم إليه، كونوا إخوان! ما هو أنت خلقك واحد ثاني وهو خلقه واحد ثاني هو الخالق واحد! فتآخوا أحسن لكم، لتسترضوه عنكم، "وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً".
يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]. وجاء في رواية: "ولا تنافسوا"؛ أي: التنافس المذموم.
(إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) [الأنبياء:90]، (أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:61]، (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد:21]. قال ﷺ: "وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ" أي: ليال، كما تقدّم ذلك معنا.
"قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَحْسِبُ التَّدَابُرَ" يعني: معنى التدابر في الحديث "إِلاَّ الإِعْرَاضَ عَنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ"؛ ترك السلام، ترك الكلام، يُدبِر عنك بوجهه، "فَتُدْبِرَ عَنْهُ بِوَجْهِكَ"هذا التدابر، والعياذ بالله تبارك وتعالى، يكرهه الله جلّ جلاله.
فما أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام يدبر عنه بوجهه. وجاء في الحديث في الرواية الأخرى: "يلتقيانِ فيُعرض هذا ويُعرض هذا"؛ فهذا الذي فسّر به الإمام مالك عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
ثم جاءنا بحديث: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ"؛ فلا تبنوا أموركم على الظن:
"فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" لا تصدق ما يُقال عن أخيك، ولا ما تتصوره نفسك عن أخيك بمجرد الظن، لا تقرر ذلك ولا ترضى به، "فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ"؛ يكون في غير الواقع وغير الحقيقة، ولكن "على مثلهَا فاشهَد"؛ فما لا يُقبل فيه الظن من شهادة، ومن علم، ومن تصوّر عن الآخرين، ما لا يُقبل فيه الظن فالظن فيه ممنوع، "على مثلِها فاشهَد" يقول ﷺ؛ مثل الشمس واضحة قدامك تشهد، وغير هذا لا.
وأمّا ما طريقه الظن، من حُسن التفكر في المعنى والوصول إلى المراد منه إذا له غلبة الظن، هذا في مجاله ومحلّه مقبول، ولكن الظن السيء، ظنّ السوء، أو بناء أمر يقيني على ظن.. هذا ممنوع، بل لابد أن تتيقن ولابد أن تكون على بصيرة من أمرك.
"فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ"؛ يعني: حديث النفس، يكون بإلقاء الشيطان في نفس الإنسان؛ يعني: يكون غير مطابق للواقع، بل يشكّل أشكال، وينهج ويعمل خيال واسع إبليس على الثاني يقول: هذا قصده كذا، هذا بعدين بيروح بيصلّح كذا، هذا بيتظاهر لك كذا لكن هو… لاحول ولا قوة إلا بالله! وبعدين ما عاد يكون حسن ظن أبدًا؟! ما نهاك أحد عن الحيطة والحذر والاحتراس، احترس ولكن لاتسيء الظن! احترس واحذر ولا تُعطي سرّك ولا تعطي أمانتك، ما عليك شيء، ولكن تسيء الظن به وتقول: خبيث هذا؟! خلاص يكاد يعلنها في الملأ لماذا؟ على ظن!.. من قال لك؟ هذا ما يجوز لك!.. لا تمكّنه في قلبك ولا تتكلم به عند الناس، أنت بتحترز بتحذر، ما بتعطيه سّرك، تمام ما عليك شيء، هذا مسلك مقبول، لكن لا، فوق هذا تقول: خبيث هذا! وبتسبّ وتشتم.. ممنوع! "فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ"، هذا كلام فارغ ولا يجوز أن تمشي مع الظنون والأوهام ولكن:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدّق ما يعتاده من توهّمِ
وعادى مُحبّيه بقول عُداته *** وأصبح في ليلٍ من الشك مظلمِ
"وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا".
يقول: "وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَنَافَسُوا":
جاء في رواية مسلم في هذا الحديث:"ولا يبِع بعضكم على بيع بعض" لا إله إلا الله، وجاء أيضًا: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئٍ من الشرّ أن يحقِر أخاهُ المسلم، كل المسلم على المسلم حرَام دمهُ ومالهُ وعِرضه" "وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً" اللهم اجعلنا متآخين فيك.
وذكر لنا قوله ﷺ: "تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ"، الأمر بالمصافحة؛ الإفضاء باليد صفحة اليد إلى صفحة اليد الأخرى قال: المصافحة وهي الأخذ باليد، المصافحة بالأيدي عند السلام واللقاء، ضرب بعضها ببعض وهذا قال الإمام النووي: مُجمعٌ عليه. وما رُويَ عن الإمام مالك في كراهته رجع عنه. فالمصافحة واردة في عدد من الأحاديث وفيها فوائد، ومنها ما ذكره ﷺ: "يَذْهَبِ الْغِلُّ"، وكانت منتشرة بين أهل اليمن أكثر من غيرهم ولهذا قال ﷺ: أتاكم أهل اليمن بالمصافحة، وكثيرًا ما كانوا يصافحونه أصحابه ﷺ كل ما لقوه، وجاء في الحديث: قد أقبل أهل اليمن "وهم أول من جاء بالمصافحة" وفي لفظ: "وهم أظهر" وكانوا أول من أظهر المصافحة.
وذكر من فوائدها "يَذْهَبِ الْغِلُّ"؛ الحقد والضغانة من القلوب ترتفع بالمصافحة وحسن المقابلة وجميل المكالمة والمجالسة يذهب هذا الذي يعلق في النفوس، يحاول الشيطان يُعلقه في النفوس عند التجالس والتفاهم يذهب ويتلاشى. وجاء أيضًا عن الإمام مالك: أنه لما جاء إليه سيدنا سفيان بن عيينة صافحه وقال له: لو لا أنها بدعة لعانقتك، أريد عانقك لكن أراها بدعة، قال سفيان: عانق من هو خيرٌ مني ومنك؛ النبي ﷺ جعفر بن أبي طالب حين قدم من أرض الحبشة، قال مالك: ذلك خاص، قال سفيان: بل هو عام، ما عمّ جعفر عمّنا، وما خصّ جعفر خصّنا؛ فكان هذا نظر الإمام سفيان الذي رجع فيما بعد إليه الإمام مالك عليه، رضوان الله تبارك وتعالى.
وفي الحديث أيضًا: يلقى بعضنا بعضًا فهل يأخذ الرجل بيد الرجل ويصافحه؟ قال: نعم، قالوا: هل ينحني له، قال: لا، الانحناء منهي عنه، ولكن يأخذ بيده ويصافحه، والمعانقة عند القدوم من السفر ونحوه وَرَدَت عنه ﷺ.
"تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ" اللهم صل عليه وعلى آله. وقال ابن مسعود: كما جاء في صحيح البخاري: "علمني ﷺ التشهّد وكفّي بين كفّيه" أمسكه بيده، صافحه باليدين الشريفتين ﷺ، "كفّي بين كفّيه"، يعلّمه التحيات المباركات الصلوات السلام، يعلمه ﷺ التشهد وهو ماسك بيديه بيد أنس رضي الله تعالى.
وهكذا ولهذا لما سألوا بعض التابعين قتادة يقول لسيدنا أنس: أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله ﷺ؟ قال: نعم وقال: كنا مع النبي ﷺ وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب، وقال: حتى صافحني وهَنأني، وهكذا جاء فيه عدد من الأحاديث. يقول بعضهم لسيدنا أبي ذر -رضي الله عنه-: هل كان ﷺ يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني، جاء بسند رجاله ثقات.
وهكذا يقول سيدنا أنس: كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدِموا من سفر تعانقوا. إنما الذي طرأ وحدث على المسلمين مقلّدين فيه بعض الكفار، التقبيل في الخدود، هذه عادة قبيحة جاءت من عند الكفار، سَرَت بينهم وصلّحوها موضة وراحوا وراءها وهي قبيحة وسيئة، وحدوثها في البلدان العربية في الوقت الأخير جدًا. وهو مما لا ينبغي ولا يليق، وهو أيضًا مدعاة لأنواع من الشرور والمفاسد فيتأكد البُعد عن ذلك وترك ذلك. أما المصافحة بالأيدي ليس فيها أشكال.
والمعانقة، بأن يمدّ عنقه حتى يكون وجه هذا على كتف هذا، ووجه هذا على كتف هذا؛ هذه معانقة. وأما تقبيل الخدود فينبغي أن يكون فيه الحذر، إنما يكون ذلك إما لرحمة طفل صغير جدًا فيما قبل الرابعة من السنين ونحوها، وإما للزوج مع زوجته للشهوة، هذا هو يكون تقبيل الخد، ليس فيه إكرام ولا فيه احترام، ولا توقير، ما له معنى!... ولكن الرحمة للطفل الصغير، أو تقبيل خد الزوج مع خد الزوجة نعم، هذا سبيل الشهوة، وأما بينهم البين كل ما تلاقوا يقبّلون في الخدود من علمهم هذا؟ ومن أين تعلموها؟ ومن أين جاؤوا بها؟ ودخلوها وسط المساجد! غير لائقة خارج المسجد فكيف بوسط المسجد؟! ولكنه الانسياق والاتباع على غير بصيرة، مثل العميان يمشون مع كل ما قالوا لهم موضة أو عادة قالوا وراها! من قدوتك؟ تبع من أنت؟ أنت بعقلك أم بلا عقل؟ لك مرجعية؟ لك مبدأ أم تيار يلعب بك يمين أو يسار وراءه، هذه بلادة وبلاهة وغباوة!
وجاء أيضًا في الحديث يقول: "يا رسول الله الرجل يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا، قال: فيأخذ بيده يصافحه؟ قال: نعم" أخرجه الترمذي وقال حديثٌ حَسَن، يأخذ بيده يصافحه ما ينحني، وإذا كان تعجّب الإمام مالك في أصل المصافحة في بداية أمره كرهها، وكيف بتقبيل الخد هذا؟ أين محله وأين وجهه؟.. بخلاف هذه المصافحة، قال الإمام النووي: مجمعٌ عليه، سنّةٌ مجمعٌ عليها عند التلاقي.
وجاء في رواية الإمام أحمد وأبي داود والترمذي: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفِر لهما قبل أن يتفرّقا"، "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان"؛ أي: على المودة في الله والمحبة في الله، "إلا غُفِرَ لهما قبل أن يتفرّقا"، قال في رواية ابن السنّي زاد: "وتكاشرا بودٍّ ونصيحة" يعني كل منهم ابتهج في وجه الآخر.
وهكذا جاء في رواية عند أبي داود: "وحَمِدا الله واستغفراه" عند المصافحة، وجاء في الحديث أيضًا: الصلاة على النبي ﷺ عند المصافحة أنها من أقوى أسباب المغفرة. وجاء عن البراء يقول: "لقيتُ رسول الله ﷺ فصافحني، فقلت: يا رسول الله كنت أحسب هذا من زي الأعاجم، قال: نحن أحقُّ بالمصافحة" ﷺ.
وذكر من أعظم فوائده إذهاب الغل من القلوب، وجاء أيضًا في الأدب المفرد يقول عبد الرحمن بن رُزين: مررنا بالربذة، فقيل لنا ها هنا سلمة بن الأكوع، فأتيناه فسلمنا عليه، فأخرج يده فقال: بايعت بهاتين نبي الله ﷺ فأخرج له كفًّا ضخمة كأنها كفّ بعير، قال: فقمنا إليه فقبّلناها. لكونه بايع بها زين الوجود ﷺ.
جاء في رواية الإمام أحمد في مسنده قريبة من هذه يقول:" فأخرج لنا كفًّا ضخمة فقمنا إليه فقبّلنا كفّيه جميعًا" وقال: كأنه لما مد يده ﷺ مدّ الثانية؛ مدّ اليدين معًا، قال: "فقبّلنا كفّيه جميعا" لا إله إلا الله.
ثم إنه من الذي جاءنا في السنة أيضًا: أن لا تصافح المرأة الرجل الأجنبي، ولا الرجل الأجنبي المرأة، يتصافح النساء بينهم البين والرجال بينهم البين. وجاء أيضًا في الحديث: عن أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت النبي ﷺ في نساء لنبايعه، قلنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمئةِ امرأة كقولي لامرأةٍ واحدة؛ يكفي القول، يبايعهن كلامًا ﷺ.
وهكذا قالت أسماء: "بايعتُ النبي ﷺ في نسوة فقال: إني لا أصافحكن، ولكن أخذ عليكن ما أخذ الله" فكان يبايعهنّ كلامًا. وجاء في بعض الروايات: أنه مدّ رداءه الشريف، مد رداءه فأمسكن بالرداء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وهكذا، يقول الأوزاعي بن عامر: قدِمنا فقيل ذاك رسول الله -وهذا جاء في وفد عبد القيس- فأخذنا بيديه ورجليه نقبّلها.
يقول سيدنا أنس عنه ﷺ: "ما من مسلمَيْن التقيا أخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقًا على الله عز وجل أن يُحضر دعاءهما، ولا يفرّق بين أيديهم حتى يَغفر لهما" يحضر دعاءهما؛ يعني: يُجيب دعاءهما، كما جاء في الرواية عند الإمام أحمد والبزّار وأبو يعلى. في رواية أبي يعلى: "كان حقًا على الله أن يُجيب دعاءهما، ولا يردّ أيديهما حتى يغفر لهما"، قالوا رجال أحمد رجال الصحيح.
وهكذا جاءنا في الأحاديث وفي أحاديث وفد عبد القيس أنهم لما وصلوا إلى تحت المسجد قيل لهم رسول الله ﷺ في المسجد قال: فجعلنا نقفز عن رواحلنا، تقافزوا عن الرواحل ودخلوا إلى رسول الله ﷺ، قالوا: فجعلنا نقبّل يديه وركبتيه، وفي رواية يديه ورجليه ﷺ.
"إذا تصافح المسلمان لم تُفرّق أكفّهما حتى يُغفر لهما" رواه الطبراني. وعن ابن عمر: "أيّما مسلم يصافح أخاه ليس في صدر واحد منهما على أخيه حِنّة"؛ حِنّة يعني: عداوة، "لم تُفرّق أيديهما حتى يغفر الله لهما"؛ يعني: إذا مصافحة صدق حقيقية، ليست مصافحة وقلبه مليان عليه، هؤلاء ما يحصلون مغفرة. "من صافح أخاه المسلم ليس في صدر أحدهما على صاحبه إحنة لم تتفرق أيديهما حتى يُغفر لهما" لا إله إلا الله.
قال البراء: "أخذ بيدي رسول الله ﷺ قال: ما من مؤمنين يلتقيان فيأخذ كل واحد منهما بيد أخيه لا يأخذ بها إلا لمودة في الله تعالى فتفترق أيديهما حتى يغفر لهما"، ما شاء الله نعمة كبيرة! لا إله إلا الله.. فإذا وجدت في هذا مغفرة وهذا مغفرة وهذا مغفرة وهذا مغفرة ما شاء الله تحصل لك مغفرات كثير، إذا جاوزت الصغائر التي عندك ستجيء للكبائر، مغفرة ومغفرة ومغفرة ومغفرة، عشرة عشرين ثلاثين مئة مئتين ما شاء الله! من كل واحد مغفرة مغفرة مغفرة مغفرة.. لا إله إلا الله!
"وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا"؛ يعني: استعملوا الهدية بينكم، اهدوا لبعضكم البعض، ما يستحسنه بعضكم البعض، "تَحَابُّوا"؛ أي: تحصل المحبة بينكم بواسطة الهدية، "وَتَذْهَبِ الشَّحْنَاءُ".
"تهادوا فإن الهدية تُذهب وحر الصدر"؛ يعني: غلّه وغشّه، تهادوا فإنه يُضاعف الود ويُذهب بغوائل الصدور، أو "يَذهَبُ بغوائل الصدور" فإن الهدية تُضاعف المحبة. وختمه بحديث، يأتي معنا بعده حديث: تُفتح أبواب الجنة في كل أسبوع مرتين.
جعلنا الله من أهل جنّاته، وأدخلنا في دوائر أهل مُراداته، وأسعدنا بأعلى السعادات التي أسعد بها خيار البريّات، ووقانا جميع الأسواء الظواهر والخفيات بسر الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
10 جمادى الآخر 1444