(374)
(607)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب حُسن الخُلُق: باب مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ.
فجر الإثنين 9 جمادى الآخرة 1444هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ
2660 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أبِي أَيُّوبَ الأَنْصَاري، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ".
الحمد لله مُكرمنا برسول الله وبيانه، وتيسير القرآن على لسانه، اللهم صلّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وأهل ولائه ومحبته ومتابعته، الوازنين بميزانه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين جعلهم الله -سبحانه وتعالى- محل نظره من بريّته وعنايته ورعايته وتفضيله على من سواهم في سرِّ الأمر وإعلانه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- في الموطأ ذكر ما يتعلق بالآداب، ويذكر في هذا الباب: "باب مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ"؛ وهي: مفارقة الإنسان غيره إمّا:
فتحصل المهاجرة بأمثال ذلك.
وقال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30]. هجرٌ بالقلب، أو باللسان، أو بالقلب واللسان معًا، وقال تعالى: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدّثر:5] أي: فارقه بالوجوه كلها. فمُتاركة الآخر والإعراض عنه يُقال لها: مهاجَرة أو هجرة.
ولمّا كانت طباع البشر تحمل الغضب وتتغلب على أصحابها، رَفَقَ الشارع بهم في أنّ من ثارت نفسه لحقٍّ من حقوقه، أو لأمرٍ يتعلّق به، أو لتقصيرٍ من جانب أخيه في حقّه، فإنه يُعذَر عند سَوْرَة الغضب اليوم الأول واليوم الثاني واليوم الثالث، ولا زيادة على ذلك. وإنّما رُخّص في ذلك رعايةً لحقّ الضعفاء والعامة من المسلمين الذين لا يملكون أنفسهم عند الغضب، فروعِيَ هذا الأمر.
يقول: "باب مَا جَاءَ فِي الْمُهَاجَرَةِ"؛ وهذا ما عليه جمهور أهل العلم.
فقال الجمهور: بحجية المفهوم، فقالوا: لا يأثم؛ مراعاة للطبع البشريّ في اليوم الأول والثاني والثالث؛ يراجع نفسه، أما ما زاد على ذلك؛ هذا إصرار ومعاندة وكبرياء لا معنى لها. فيتعرّضون بذلك، إذا مرت ثلاثة أيام ثمّ لم يُسَلِّم بعضهم على بعض وأعرض بعضهم عن بعض فإن من مات منهم فهو في النار والعياذ بالله تبارك وتعالى.
إذا كانا يلتقيان يُعرض هذا ويُعرض هذا عن هذا فلا يدخلان الجنة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- بسبب الإصرار على هذه القطيعة الخطيرة التي يزيّنها الشيطان لكثيرٍ من الناس، ويجب التنزّه عنها والترقّي، والابتعاد عنها ومخالفة النفس فيها.
يقول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ"، وفي رواية: "أن يَهْجُرَ"، "أَخَاهُ" ما معنى أخاه؟ ليس في النسب، أخاه في الإسلام؛ لما جاء في الروايات الأخرى: "لا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر مسلمًا"؛ فالمراد بالأخ أخ الدين؛ المسلم الآخر.
"أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ" وفي هذه الرواية تقييد بالليالي الثلاث. ولاحظوا على من تَقَيَّد بالليالي الثلاث وقال إنّ العبرة بها، حتى إنه لو لم يكن بينهما إلاّ يومان فالعبرة بالليالي الثلاثة. وقالوا إنّ هذا ليس بدقيق، وإنه إذا أُطلِقت الليال فالمراد مع أيامها، أو الأيام فمع لياليها، وقد جاء في روايةٍ: "ثلاثة أيام" فلا معنى لتحديد الليالي ولا الأيام، بل إن كانت الأيام فبلياليها، وإن كانت الليالي فبأيامها.
"فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ" في طريقٍ ونحوها "فَيُعْرِضُ هَذَا" يتولّى عن هذا "وَيُعْرِضُ هَذَا" يتولّى عن أخيه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فكلٌّ منهما يُعرض عن صاحبه لا يُسلّم عليه ولا يُكلّمه، فهذه المهاجَرة المحرّمة.
قال: "وَخَيْرُهُمَا" أفضلهما وأكثرهما ثوابًا وأحسنهما منزلةً عند الله "الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ" وفي رواية: "يبدأ صاحبه بالسلام" .
وجاء أيضًا في رواية: "فإن مرّت به ثلاثٌ فلـقِـيَه فليُسلّم عليه، فإن ردّه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردّ عليه فقد باء بالإثم وخرج المُسلِّم من الهجرة"، الذي سلّم خرج من الهجرة. وهكذا جاء عند الإمام أحمد، وفي الأدب المفرد، وعند ابن حبان: "فإنهما ناكثان عن الحق ما داما على صِرامهما، وأولهما فَيْئًا يكون سَبْقُهُ كفارة". وجاء أيضًا: "فإن ماتا على صِرامهما لم يدخلا الجنة جميعاً"، لا هذا ولا هذا، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وهكذا كل من قاطع وهاجر لأجل طبع نفسه ولأجل أمرٍ يعود إلى حقه، لا من أجل الدين، ولا من أجل مصلحة المسلمين، فيتعرّض للنار -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ويُحبَط عمله بسبب هذه الهجرة.
فإذا سلم أحدهما ولم يردّ الآخر، نجا المُسلِّم وسَلِمَ من الإثم وخرجَ من الحَرَج، ووقع الإثم على الآخر -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
إذًا، فهكذا في جميع ما يعود إلى حق النفس، أما ما يتعلق به أمرٌ ديني وما إلى ذلك، كما أمر النبي ﷺ بهجر المتخلّفين عن غزوة تبوك، الثلاثة المؤمنين الصادقين، تخلّف كثير من المنافقين وجاءوا يعتذرون ويُظهرون بكاءهم… تركهم إلى حالهم مع الله وويلٌ لهم، ولكن هؤلاء مؤمنون مخلصون لم يتركهم، وأمر بتأديبهم وأن يُهجروا، وهُجروا ليس ثلاثة أيام، بل خمسين! خمسون ليلة والناس يمشون في الطريق وما أحد يكلمهم، ولا أحد يرد السلام عليهم، ويدخل أحدهم إلى المسجد ويُسلّم، ويرقب النبي ويقول: هل حرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟
يقول كعب بن مالك: وكنت أجلس في مجلسه، فإذا التفتُّ إليه أعرض عنّي، فإذا أعرضتُ عنه نظر إليّ ﷺ، فهو يُسارقه وينظر كيف الحال معه ﷺ، حتى اشتدّ عليهم الحال كما جاءنا، هذا بأمر الله -تبارك وتعالى-؛ لأجل رفعة درجاتهم.
وبهذا أيضًا يُحل إشكال: كيف مع هذا المسلم يَحرُم هجره فوق الثلاث، وبعد ذلك يجب إلقاء السلام عليه وما إلى ذلك، ومع أنه أيضًا بالنسبة لغير المسلم -إن كان ذمِّيًا ونحوه- فأيضًا إن يُخشَى من مجالسته ضُرًّا في الدين وما إلى ذلك: فيجب تجنبها، وإن لم يُخشَ من ذلك شيء: فالبرّ والقسط كما شرع الله تبارك وتعالى. وكذلك في حق الحربيّ ما يجوز مناصرته ولا معاونته في شيء، وهناك آداب في الشريعة للتعامل مع الحربي يجب تطبيقها.
فهذا ما يتعلق بشأن الهجر، فما كان لله كما قال عبد الله بن مغفل الصحابي -عليه رضوان الله تعالى-: حفظ عن النبي ﷺ نهيه عن الخَذْف.
الخَذْف: حمل حصى بين السبابتين ويرمي بها، وتكون عنده مَخْذَفَة يرمي الحجرة بها، فهذا نهى عنه ﷺ قال: "إنه لا ينكأ عدوًّا" ما يقتل عدو "إنه لا يصيد صيداً، ولا ينكأ عدواً، وإنّه يَفْقَأُ العَيْنَ، ويَكْسِرُ السِّنَّ" يمكن أن يتسبَّب في كسر سن الثاني أو تفقأ عينه به، ولا يصلح للجهاد ولا تصيد به الصيد فنهى عنه ﷺ. وقال عبد الله بن مغفل: رأى بعض أقاربه يَخذِف، نهاه، وقال النبي ﷺ نهى عن الخذف، فأعاد، قال سيدنا عبد الله بن مغفل: أحدثك أنّ رسول الله ﷺ نهى عنه ثم تَخذِف! لا أكلمك أبدًا، فهجره إلى أن يتوب. وكان هذا هجراً في الله -تبارك وتعالى-، لا من أجل حظ نفسه، ولا لشيء يعود عليه؛ ولكن من أجل تعدّيه للأمر النبوي، ورأى استخفافه بكلامه ﷺ فهجره من أجل ذلك.
يقول النووي: فيه هُجران أهلِ البدع وأهل الفسوق، ومنابذي السُّنة، وإن كان فوق الثلاث؛ لأنّه ليس لحظ نفسه ولا لمعايش الدنيا.
وهكذا، أمّا لأجل الحظوظ الدنيوية، ولأجل الحقوق الذاتية، فأجمع الفقهاء أنه لا يجوز الهجران فوق الثلاث أصلاً، وإنّما جُعلت الثلاث مراعاة كما ذكرنا.
وسمعنا أيضًا أنّه عند الجمهور: أنه إذا قد ألقى السلام وحصل الرد انتفت الهجرة، ولا يلزم فوق ذلك، ما لم يكن قريبًا يحتاج إلى صِلةٍ، أو كان أبًا أو أمًّا من باب أولى، (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء:23-24].
بقي بعد ذلك سُنّية وندب المؤالفة والمخاطبة والمكالمة وحسن المجالسة، لها بابها ولها ثوابها لأهلها.
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ورحم موتانا وأحياءنا، وأعلى درجات المنتقل إلى رحمة الله محمد داود البريطاني، وجمعنا به في دار الكرامة وهو راضٍ عنّا، وألحقه بالشهداء والسعداء، وتحمل عنه وعنّا جميع التبعات، وبدّل السيئات إلى حسنات تامّات موصلات، وهيأ له كريم لقاءٍ على الحوض المورود، وتحت لواء الحمد المعقود، وفي أعلى جنّات دار الخلود، وجعلها أبرك الليالي عليه، وأسعد الأيام لديه. ورحم موتانا وأحيانا برحمته الوسيعة، ورفعنا مراتب قربه الرفيعة، وأصلح لنا الأمر جميعه، بوجاهة الحبيب محمد ﷺ صاحب الوجاهات الوسيعة، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
09 جمادى الآخر 1444