(374)
(607)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب حُسن الخُلُق، تتمة باب مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ.
فجر السبت 7 جمادى الآخرة 1444هـ.
تتمة باب مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ
2651 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَنَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ". ثُمَّ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ سَمِعْتُ ضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَعَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ، ثُمَّ لَمْ تَنْشَبْ أَنْ ضَحِكْتَ مَعَه. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ".
وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا لِلْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ، فَانْظُرُوا مَاذَا يَتْبَعُهُ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ.
2653- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْمَرْءَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الْقَائِمِ بِاللَّيْلِ، الظَّامِي بِالْهَوَاجِرِ.
2654 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْبِغْضَةَ، فَإِنَّهَا هِيَ الْحَالِقَةُ.
2655 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأَخْلاَقِ".
الحمد لله مُكرمنا ببعثة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبيانه شؤونَ الخلائق مع الخالق وما يقرّبهم منه وما يبعدهم عنه ويقطعَهم من العوائق. اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المصطفى خير الخلائق، أحسن الناس خُلُقًا وخَلقا، وعلى آله وصحبه ومن والاهم فيك واتبعهم إخلاصًا وصدقا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل التقى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذكرَ الأحاديث المتعلّقة بِحُسن الخلُق، حسّنَ الله أخلاقنا ووسَّع أرزاقنا وتولّانا بما هو أهله في جميع شؤوننا.
ذكر الحديث الذي أخرجه من بعده البخاري ومسلم في صحيحيهما. عن سيدتِنا عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي ﷺ استأذن عليه رجلٌ، وكان هذا الرجل عُيينةَ بن حصنٍ الفِزاري، الذي يُقال له الأحمقُ المُطاع، وجاء في روايةٍ أنه مَخرَمة.
فقالت لما استُؤذن له أن فلاناً يريد أن يدخلَ عليك "قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَنَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ" يعني: الغرفةَ التي كان يجلس فيها ﷺ "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:" لمّا قالوا له فلان "بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ"؛ أي: ائذنوا له بِئسَ أخو العشيرة أو قال: بئس ابنُ العشيرة، يعني: الذي لا تستفيد منه العشيرةُ الفائدةَ الحسنة، يُدخِلُ عليهم السوء والشر وما إلى ذلك، فقالت: فلما دخل "فَلَمْ أَنْشَبْ" يعني: لم أمكُـث "أَنْ سَمِعْتُ ضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، والمراد: أن رأت أثرَ لينِ قولِه وطيبه وتبسُّمه، فكان ضَحِكُه بالتبسّم، ولم تُرِد أنها سمعَتْ صوتًا لضَحكِ رسول الله ﷺ، فليس ذلك من عادَتِه ولا من خُلُقه، ولكن كما جاء في الروايات، فلما جلس تطلَّقَ النبيُ ﷺ في وجهه، وانبسطَ إليه، فتعجَبَت! لما يعلم عنه، ويذكرُ عنه من سوءَ الخُلق الذي حذّر منه عليه الصلاة والسلام، ودعا الأمةَ إلى أن يكون أحدُهم لعشيرته ولقومه نافعًا ومفيدًا، ومساعدًا على الخير، وهذا الذي هو متجاهرٌ بهذا الوصف ومتظاهرٌ به، ذكَرَه ليُحذَر من مسلَكِه، ومن خُلُقه ذلك أو شأنِه في المعاملة، ففيه إرشادٌ منه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وجاء تسميتُه بالأحمقِ المُطاع في روايةٍ في نفس الحديث، أنه لمّا دخلَ قبل ذلك، قبل فرْضِ الحجاب، وسيدتُنا عائشةُ عند النبي ﷺ، فقال للنبي ﷺ: مَن هذه؟ فقال: أمُّ المؤمنين، فقال: ألا أنزِلُ لك عن أجملَ منها؟ فغضبت عائشةُ رضي الله عنها وقالت: من هذا؟ قال النبي ﷺ: أحمقٌ مُطاع، وفي روايةٍ قال للنبي ﷺ: الا أنزلُ لك عن أمِّ البنين؟ فغضبت سيدتُنا عائشةُ من كلامه هذا، فهذا يحكي الوصفَ والحالَ الذي كان عليه الرجل، ومع ذلك فكانت مقابلةُ الرسول ﷺ له مملؤةً بالرِّفق واللينِ والحِلم والصبر، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
"فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ" من الوصف السيء، "ثُمَّ لَمْ تَنْشَبْ" لم تمكث "أَنْ ضَحِكْتَ مَعَهُ"، وفي الرواية الأخرى: "ثم تطلّقتَ في وجهه وانبسطتَ إليه" "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ"."
وجاء في الصحيحين: "يا عائشةُ متى عهدتِني فحّاشًأ؟" أو متى عهدتِني فاحشًا؟.. عهدتِ منّي شيء من الخُلُـق، أقابل الناس بسوءٍ أو أسبُّهم أو أتكلمُ عليهم؟ ما هذا من مسلكي ولا من خُلُقي، "متى عهدتِني فحَّاشا؟".. "إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ" إن من شرّ الناس من يتقيه الناس؛ يعني: يتقون سوءَ خلـقه وأذاه وسبَّه وشتمِه، فيُحسنون إليه لا محبةً له ولا رغبةً بالإحسان إليه، ولكن كفايةً لضرِّه ولشرّه ولما يجيء منه، هذا من شرِّ الناس والعياذ بالله تبارك وتعالى.
"إنّ شرَّ الناس عندَ الله منزلةّ يوم القيامةِ مَن ترَكَه الناسُ اتِّقاءَ شرِّه"؛ أي: تركوا التصريحَ له بالنُصح، وتركوا الرغبةَ في مجالسته، وتركوا المحبة له اتقاءَ شرِّه، يعني: قُبحِ كلامه، فإنه كان من جُفاةِ العرب.
وفي المعنى: ألنتُ له القولَ ليكون ذلك أبعدَ عن أن يُنفّرَ الناسَ من الدين، ومن الشريعةِ ومن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فيتضاعفُ ضرُّه على الخلق وأذاه لعباد الله تبارك وتعالى، ولكن استوعبَه وأحسَنَ إليه، ليكونَ أبعدَ عن إضرارِه بقومه وبغيرهم، وعن إساءته وفُحشِه، وصدِّه عن سبيل الله تبارك وتعالى.
وفي روايةٍ قال لها ﷺ: "إن اللهَ لا يحبُّ الفاحشَ المُتفحِّش" إذًا ليكون أيضًا هذا سببًا من أسباب أن يَهدأَ هو في خُلُقه، وسببًا من أسباب أن يُحسِّنَ الإسلامَ لقومه وجماعته، فإنه مُطاعٌ فيهم، فلذلك تخلّقَ معه ﷺ خاصّةً، وخُلُقه عظيمٌ عامٌ مع الجميع، (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4] كما وصفه الرب جلّ جلاله وتعالى في علاه.
ووردت أحاديث في الذي يُكرَمُ اتقاءَ شرّه، وهذا من المصائب الكبيرة، أن يُبتَلى الإنسانُ بسوءِ خلُقٍ، فيقدِّمه الناس ويُظهرون له التعظيم وما إلى ذلك، لا محبةً فيه ولا رغبةً، ولكن كفايةً لضرِّه وشره وأذاه وسبّه وسوء خُلُقه، فهذا من شرِّ خلق الله تعالى، ومن أبغضِهم إلى الله سبحانه وتعالى، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ثم جاءت الروايات في هذا الذي تكلَّم عنه ﷺ؛ عُيينةُ بن حصنٍ الفزاري، وفيه أنه وقعَ مع أهلِ الرِّدة بعد ذلك، وانتَمى إلى طُليحةَ المدَّعي النُبوة، ثم أنه رجَعَ إلى الإسلام بعد ذلك، وكان قد أمرَ بقتلِهم سيدُنا عمر، فرَجعَ إلى الإسلام فتَرَكه، فعاشَ إلى خلافةِ سيدِنا عثمان عليه رضوان الله تبارك وتعالى. وهذا طُلَيحة بن خويلد الأسدي، ارتدَّ بعد وفاة النبي ﷺ وادَّعى النُبوة، ثم رجعَ إلى الإسلام، يعني بعدما أمرَ سيدُنا عمر بقتلهم، طليحةُ ومعه عيينة بن حصنٍ الفزاري، لأنه شايعَه على ادِّعاء النبوة، فلما كان ذلك أسلم؛ رجع إلى إنكار نبوَّتهم، وأنه لا نبيَ بعد مُحمَّدٍ ﷺ، فترَكَهم سيدُنا عمر.
إذاً، فيجب كما يدلُّنا الحديثُ الذي يأتي بعده، أن يكون المؤمنُ على حالٍ جميلٍ بينه وبين ربه مع خَلْقه؛ فلا يتقون شرَّه، ولا يخافون ضُرَّه، "خير الناس من يرجى خيره ويؤمن شره"؛ ولا يُخاف شرّه، ما يُتقى شره، هذا خير الناس، "وشرُّ الناس من لا يُرجَى خيرُه، ولا يؤمن شرّه"؛ من يُتقى شرّه ولا يُرجى خيره، هذا شر الناس والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فيجب على المؤمن أن يحرصَ على الصفات التي ترفعـُه عند الله من التواضعِ والإخلاص، ومن محبةِ الناس وإرادةِ الخير لهم، والتخلّق معهم، وإيصالِ ما يستطيعه من المنافع لهم، فيكسِبُ بذلك المنزلة عند الله، فيملأُ صدور عباده مودّةً لذلك الإنسان ومحبةً له، فيثنون عليه، ويتسعُ ذلك حتى قد يَنال البَرَّ والفاجر، بحسب ما يجعل الله تبارك وتعالى لذلك العبد الصالح، فقد يجتمعُ على الثناء عليه البَرّ والفاجر، والقريبُ والبعيد، ولكن ليست العبرةُ بعموم ثناءِ الناس، ولكن ما يتعلّقُ بخِيارهم وأفاضِلهم، فإنّ قولَهم هو القول؛
أما كلامُ عامة الناس أو فسَّاقهم وأشرارهم، فإنّهم غالبًا يسبّون الأخيار، ويتكلمون على الصالحين في حياتهم وبعد موتهم، فلا عبرةَ بهم، وإن كان من الصالحين من يمتدُّ له ظلُّ مودته في القلوب حتى عند الأشرار، فيُثنون عليه، وهذا حاصلٌ في كثيرٍ من الصالحين والأخيار، يُثني عليهم البَرّ والفاجر، ويتحدثُ عنهم بالخير.
وهذا الذي حمله الحديث الثاني الذي بعد هذا، الذي أخرجه لنا عليه الرضوان، فيقول: "عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا لِلْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ" يعني: من منزلةٍ أو مكانةٍ، خيرٍ أو شرٍ، رِفعةٍ أو انخفاضٍ "فَانْظُرُوا مَاذَا يَتْبَعُهُ" يعني: يلحقه "مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ" من الذي يجري على ألسنة الناس في حياته أو بعد موته، ما الذي يُقال عنه.
وفي القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) [مريم:96]؛ مودةً في قلوب عباده، وإن كان العبرةُ بالأخيار والصالحين، نعم، ولكن قد تمتدُ المودّة إلى مَن سواهم وكذلك في الحديث الصحيح: أنه إذا أحبَّ الله عبدًا نادى جبريل: يا جبريل إني أحبُّ فلاناً قال فيحبُّه جبريل، ثم يأمرُه تعالى أن يناديَ في أهل السماء: يا أهل السماء إن اللهَ قد أحبَّ فلانَ ابن فلان فأحبّوه، فيحبُّه أهلُ السماء ويوضَعـ له القبولُ في الأرض.
وهكذا، حتى جاءنا في الحديث أن الله يتجاوز عن بعض العباد بثناءِ الناس عليه، وأنه إذا مات فأُثنيَ عليه خيرًا، في الغالب لا يكون هذا، إلا إذا كان متستّرًا بذنوبِه وسيئاته ومتكتماً عليها، وحَذِرًا منها، ونادمًا عليها، ففي الغالب يكون له هفواتٌ وزلّاتٌ لا تُعرف، فيثني الناسُ عليه، فيموت فيثني عليه الناس فيقول الله: قبلتُ شهادتَكم فيه وتجاوزتُ عمّا أعلم منه. قال أنا داري به وأعلم، ولكن أقبلُ شهادتَكم فيه وهكذا.
وكان في بعض القرى في اليمن، قبروا بعضَ أمواتهم، فقام واحدٌ من الناس الخيّرين قال: يا جماعة اشهدوا له بالخير عسى الله أن يرحمه، بعضُهم قال نعم نشهد له بالخير، وبعضهم قالوا: أبداً! تنازعوا وتخاصموا فوق قبره، كيف نشهدُ له بالخير هذا؟ كان فعلُه كان تركُه… والآخرين قالوا: نشهدُ له بالخير، فرآه بعضُ أهل بلدهم في الليل، فسأله كيف حالك؟ قال: نفعني صياحُكم فوق قبري والنزاع، هذا يقول كذا وهذا يقول كذا، فلما انقسمتم وشهدَ لي مَن شهد بالخير، رجّحَ الله شهادةَ الذين شهدوا لي بالخير، وغفر لي، فجزاه الله خيرا ذاك الذي قام يثيركم ويخليكم…
كما جاءنا في الحديث:
إلى غير ذلك من أسباب مغفرتِه وتجاوزِه وصفحه -سبحانه وتعالى- عن عباده.
ومن ذلك مسألةُ ما يُجريه من الثناء على ألسنة العباد، حتى قالوا: أن المؤمنَ لا يكادُ يخرج من الدنيا إلا وقد امتلأت أُذناه بسماعِ الثناء عليه. ومع ذلك كله، فالاعتماد على ثناء الناس وخصوصًا العوام خطأٌ، ولا ينبغي أن يُلبَّس على صاحبه أو يُؤخَذ به، ويَظنُّ أن ذلك علامة رضا الحق -تبارك وتعالى- عنه، حتى يُحسِنَ محاسبتَه لنفسه، و أدبِه مع ربه -جلّ جلاله وتعالى في علاه- وما ينشرُ الله سبحانه وتعالى من الثناء على ألسن خواصِّه من مقرّبين وأنبياء؛ فنَعَم.
ثم إنه ما يُؤمرُ به كذلك من الإحسان إلى المسيء ومن يُكرَم اتقاءَ فُحشه:
وأما أن تثني عليه وهو مذنبٌ مقصرٌ فلا. فإنك مسؤولٌ عما تَمدح، وعما يَخرجُ من لسانك.
يقول الزرقاني في الشرح: إذا ذكرَه الصلحاء بشيءٍ عُلِم أن الله تبارك وتعالى أجرى على ألسنتِهم ما لَه عنده، فإنهم يُنطَقون بإلهامه. وفي الحديث: "إن لله ملائكةً تنطقُ على ألسنةِ بني آدم بما في المرءِ من الخير والشر"، جاء في رواية الحاكم وغيره عن سيدنا أنس.
وهكذا،
وفي روايات الحديث: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل.." كما أسلفنا، ثم قال في رواية: "ثم تنزلُ المحبة في أهل الأرض، فذلك قول الله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) [مريم:96] وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل: إني قد أبغضت فلانا، فينادي في السماء، ثم تنزل له البغضاء في الأرض" والعياذ بالله تبارك وتعالى.
إن العبد يعمل بسَخَط الله فيقول: يا جبريل إن فلان يستسخطني -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فيقول جبريل: سَخْطةُ الله على فلان.
وفيه: أن الله يتعبّدُ ملائكتَه في السماوات بمحبة محبوبيه في الأرض، وبغضِ مبغوضيه، فهذا من أعظم العبادة، عبادة يعبد اللهَ بها أهلُ السماء والصالحون من أهل الأرض، والصالحون يحبّون بحب الله، ويعادون بعداوته من خالَفه من خلقه؛ فهم مثلُ الملائكة في السماء يحبون مَن أحبَّه الله، ويبغضون مَن أبغضه الله، فهم في الأرض كذلك؛ يعبدون الله بعبادةِ الملائكة في السماء وهم في الأرض.
ثم ذكر لنا أن المؤمن يرقى درجاتٍ عند الله، ويحوز منازل شريفة بحُسن الخُلق، وإن كان مَن هو دونه في الخُلُق أكثرَ صيامًا منه، وأكثر قيامًا منه وأكثر أعمالاً صالحة، ولكن دونه في حَسنِ الخلق، فما يبلغُ درجته، "أَنَّ الْمَرْءَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الْقَائِمِ بِاللَّيْلِ، الظَّامِي بِالْهَوَاجِرِ". وهكذا جاءت لنا عددٌ من الروايات في رفعة درجة المؤمن بحسن خُلُقه.
وذكر لنا ﷺ أيضًا وصفين شريفين وهي:
ويقول: "إن من أقل ما أوتيتم"؛ يعني: ما ينالُه من الناس إلا القليل "اليقين وعزيمة الصبر" قال: ومن أوتي حظه منهما فلا عليه ما فاته، يعني من ظواهر العبادة الأخرى، ما دام صاحبَ يقينٍ وعنده عزيمة صبر، لا يسبُّ ولا يشتمُ ولا يذكرُ الناس بسوء، ولا يتحامل على أحدٍ بصبره، من أوتيَ حظَّه منهما فلا يُبالِ ما فاتَه بعد ذلك من قيام ليلٍ ولا صيامِ نهار.
"أَنَّ الْمَرْءَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الْقَائِمِ بِاللَّيْلِ" الذي لا يفتُر، والصائم بالنهار الذي لا يُفطر، "الظَّامِي بِالْهَوَاجِرِ" يعني: عطشان، يعطش في الهاجرة في وقت الحر، بسبب حُسْن الخلق.
وتنزل درجةُ العابد بسوءِ خلُقه، حتى يُحبَطَ كثيرُ من عمله الصالح بسبب سوء خلقه، وتنزل درجتُه عند الله تبارك وتعالى. اللهم حسّن أخلاقنا، اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرف عنا سيئَها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
ثم ذكر لنا عن سعيد بن المسيب -رضي الله تبارك وتعالى عنه- وقد جاء مرفوعًا في عدد من الروايات، "يَقُولُ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ : إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ"؛ ذات البين يعني: الخصلة التي تكون بين الناس من قرابةٍ ومودةٍ ونحوها، إصلاح ذات البين يعني: ردُّ المتخاصمين إلى المودّة وإلى المحبة، بعد الهجرة والتفارق.
"وَإِيَّاكُمْ وَالْبِغْضَةَ" ويروى فيها: "البَغْضَة"، "وَإِيَّاكُمْ وَالْبِغْضَةَ" الأصل، يعني: شدة البُغض، "فَإِنَّهَا" أي: البغضة "هِيَ الْحَالِقَةُ" لا إله إلا الله! ماذا تحلق؟ تحلقُ الدين -والعياذ بالله تعالى-.
كما جاءنا في الحديث عنه ﷺ: "دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلَكم: الحسدُ والبغضاءُ، وهي الحالقةُ لا أقولُ تحلقُ الشعرَ ولكن تحلقُ الدين" والعياذ بالله تبارك وتعالى. كما جاء في رواية الإمام أحمد والترمذي: "دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلَكم الحسدُ والبغضاءُ، هي الحالقة أما إنِّي لا أقولُ تحلقُ الشَّعرَ ولكن تحلقُ الدِّين" والعياذ بالله تبارك وتعالى. فهذه المُباغضةُ بين الناس، موس تحلقُ دينَهم لا إله إلا الله! ما عاد تخلّي لهم حقيقةً في الدين -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
ثم ذكر لنا حديثه عليه الصلاة والسلام: "بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأَخْلاَقِ"
وقد جمعَ محاسنَها ومكارمَها كلَّها فيه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ربُّه تبارك وتعالى وأكملَ به الدين، فكان أحسنَ الناس خَلْقاً وخُلُقاً. وجاء في مجال أخلاقه أمثالَ قوله تعالى:
إلى غير ذلك مما بيّن فيه مسارَ نبيِّنا في حُسن الخلُق، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وذلك أن الأخلاقَ قابلةٌ للتحسين وللإصلاح وللتغيير إلى ما هو أفضل بواسطةِ المجاهدة، ويُعينُه على ذلك هِممُ الصالحين وحَسَنِي الأخلاق، فتُعينُ الذي يجاهدُ نفسَه لينتقلَ من وصفٍ إلى وصف. ولهذا يقول سيدُنا الإمام الحداد: نربّي طلّابَنا على أخلاق، وأنّا قد نربِّي الطالبَ على حُسن الخلُقِ الواحد سنوات، حتى يستقرَّ فيه هذا الخلُق ويَنتزَع ضدّه، ويستقر فيه حُسن الخلق، فنسأل الله أن يُحسّن أخلاقنا.
قال نبينا: "وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَن"، وقال: من كَظَم غيظاً وهو يستطيعُ أن يُنفِذَه دعاه اللهُ على رؤوسِ الأشهادِ يوم القيامة حتى يُخيِّرَه من أي حُللِ الجنةِ شاء. وهكذا قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، قالوا: ولم يقل الفاقدين الغيظ لأن هذا طبع الإنسان، ولكن الكاظمين الغيظ، يكظِمُ الغيظَ لا أن يفقده، موجودٌ الغيظ، لكن يكظمه، ولا يَسمح له إلا فيما نَدَبه إليه الحق ورسوله ﷺ، وما عدا ذلك فيكظمُ غيظَه ولا يُنفذُه. (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].
اللهم خلِّقنا بأحسنِ الأخلاق وأدّبنا بأحسن الآداب، أخلاقِ وآداب نبيّك المصطفى مُحمَّدٍ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى حضرة اقترابه من أحبابه.
إذًا؛ فالأخلاق الفاضلة أساسٌ في الدين، وسببٌ من أسباب بعثةِ سيد المرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
رزقنا الله وإياكم الإنابةَ والخشية والاستقامة، وخلَّقَنا بأخلاق نبيّه مُحمَّد، وأدبَّنا بآداب نبيه مُحمَّد، ورزقنا حُسنَ متابعة نبيّه مُحمَّد، في النيّات والمقاصد والأفعال والحركات والسكنات، وأن الله يقينا والمسلمين الأسواءَ والأدواءَ وكلَّ بلوى في السر والنَّجوى، ويحوِّلَ الأحوالَ إلى أحسنِها، ويختمَ لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنا وإلى حضرة النبي مُحمَّد ﷺ.
07 جمادى الآخر 1444