شرح الموطأ - 483 - كتاب حسن الخُلُق: باب ما جاء في حُسْن الخُلُق

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب حسن الخُلُق: باب مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ.

فجر الأربعاء  4 جمادى الآخرة 1444هـ.

باب مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ

2648 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ أَنْ قَالَ: "أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ".

2649 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ، إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً، فَإِنْ كَانَ إِثْماً، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا.

2650 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ".

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله إلهِنا الواحدِ الأحد الفرد الخلّاق، مشرِّفنا بإرسال نبيِّه محمدٍ ليُتمّم مكارم الأخلاق، سيدِنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه أهلِ المُناصرة والوِفاق، وعلى من اتّبعهم بإحسانٍ في ذلك المَسار والمساق، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوةِ الحق في الخليقة، الذين كتب لهم على جميع مَن عداهم السباق، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.

وبعدُ، 

فيذكر لنا الإمام مالك - عليه رحمة الله- "باب مَا جَاءَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ"، حسَّنَ الله أخلاقنا ووسّع من كل خيرٍ في عافيةٍ أرزاقنا، وتولّانا بما هو أهله في جميع شؤوننا. 

فإنّ أثقلَ ما يُوضعُ في الميزان يوم القيامة حُسنُ الخُلُق، وقد جعل الله أمرَ الخَلقِ إليه، وجعل تحسينَ الأخلاق للاكتساب والاجتهاد والمحاولة والمعالجة سعيٌ للعباد إليه، وسببًا في تحصيله، وأمرَهم أن يُدرِّبوا أنفسَهم على أحاسن الأخلاق التي يُحبّها، وأن يَقلعوا جذورَ الصفات التي يكرهُها.

 فحُسن الخُلُق كحُسنِ الخَلْقِ، 

  • أما حُسْنِ الخَلقِ: فهو حُسنُ الصورة الظاهرة، والجُرم الذي كوَّنَه الحق تعالى، وقَدْ خَلَقَ الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم.  
  • ولكنَّ حُسنَ الخُلُق: هو جمالُ الصورة الباطنة التي ترسخُ في القلب. 

فإن للقلب أخلاقٌ، هي أصلُ أفعال الجوارح وانطلاقها، فالجوارحُ تتصرفُ وتنطلق وتتحرك، بحسب ما استكنَّ في القلب من الصفات، وهذه الصفات القلبية: 

  • منها ما هو حسنٌ محمودٌ طيّب وجميل. 
  • ومنها ما هو قبيحٌ مكروهٌ خبيث. 

فيقوم عند الإنسان فعلُ جميلٍ أو خبيث، لكن مُرتب على إدراكٍ له ومعرفة، يعرف القبيحَ والجميل، يعرف الحَسَن والسيء، يعرف الفاضلَ والساقط الهابط، فيميُّز بين ذلك، ثم بعد ذلك تأتي عند الإنسان القدرة، فإذا أُوتِيَ القدرةَ والمعرفةَ، وتوجَّه الفعل، يظهرُ الفعل بجماله أو قبحه.

 ولكن الأصل في كل ذلك: هيئةٌ راسخةٌ في النفس، تميلُ إلى الجميل أو إلى القبيح، فهذه الهيئة الراسخة في نفس الإنسان، نتيجة علمِه ومعرفتِه وإدراكه، هي التي يَصرفُ فيها قدرتَه إلى فعل الجميل أو القبيح، فَحُسن الخُلُق هو تلك الهيئة الراسخة في النفس. ولهذا عبَّرَ عنها الإمامُ الغزالي بقوله: حسن الخلق: هيئةٌ راسخةٌ في النفس، تصدرُ عنها الأعمالُ  الجميلة بسهولة، هذه الهيئةُ الراسخة في النفس هي حقيقةُ حُسنِ الخُلُق، لأن الفعل ربما شخصٌ يتكلف السخاء، ويتسخّى لأي غرضٍ من الأغراض وليس بسخيّ، وليس فيه هذه الهيئة التي تبعثُه على السخاء، وربما سخيٌ لا يجد شيئاً ينفقه، أو يرى الإنفاقَ في غير هذا الوجه، فيُمسك عن الإنفاق في هذا الوجه وهو سخيٌّ، فليس الحكمُ من حُسنَ الخُلُق راجع إلى الفعل، ولكن إلى الهيئة الراسخة هذه في النفس المائلةِ إما إلى الحُسنِ أو إلى القبح، إما إلى الصلاح أو إلى الفساد، إما إلى الخير وإما إلى الشر. 

فعندنا: 

  • فعلٌ جميلٌ وفعلٌ قبيح 
  • وقدرةٌ على هذا وهذا 
  • ووراءَ ذلك علمٌ ومعرفةٌ 
  • وأصلٌ وهو الهيئةُ الراسخة في النفس التي تميل إلى أحد الجانبين 

حسَّنَ الله أخلاقنا، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

فإذا اعتَدلَت حصَل للإنسان حُسن الخُلُق، فيقول: كما أن حُسْنَ الخَلْقِ في الظاهر، يتعلق باجتماع حُسْنَ العينين والأنف والفم والخد، وهكذا..  فكذلك يقول الإمام الغزالي: في الباطن أربعة أركان لا بد من الحُسْنِ في جميعها ليكون الإنسانُ حَسَنَ الخُلُق، وهي: 

  • العلم 
  • والغضب 
  • والشهوة 
  • والعدلُ بين هذه الثلاث القوى 

العلم، الإدراك، والغضب والشهوة، فهذه الأسسُ التي يتفرَّع عنها حُسنُ الخُلُق، فإذا صلحَت قوةُ العلم وحسُنَت، سهُل على صاحبها إدراكُ الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، والحق والباطل في الاعتقادات، والجميل والقبيح في الأفعال، باستقامةِ أو بقوةِ هذا العلم الصحيح، إذًا فهو الذي يـثمرُ الحكمة، (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة:269].

 قوّةُ الغضب حُسْنُها أن تصيرَ في انقباضها وانبساطها تابعةً تمامًا إلى حد ما تقتضيه الحكمة، فلا يستثير غضبـُه إلا حيثُ أذِنَ الشارع وأحبَّ الغضب، ولا يندفعُ بحلمٍ إلا حيث أحبَّ الشارع ذلك. كذلك شأنُ الشهوة حُسْنُها وجمالُها وقوتها: أن تصيرَ منقادةً لحكم الشرع والعقل، فلا تنطلقُ وتنبعث إلا فيما أحبَّ الله منها وأباح لها، وتنقبضُ عما نهىٰ عنها، وهكذا، فإذا حَسُنَ ضبطُ الشهوةِ والغضبِ تحت إشارة العقل والشرع، فهذه قوةُ العدل؛ فالعلمُ مع العدل، يضبطُ شأن الغضب والشهوة ويقوِّمُهُما، فتنتجُ عنها الأخلاقُ الفاضلة بأجمعها.

وأمهاتُ تلك الأخلاق: الحكمة والشجاعة والعفّة والعدل، وهذا الكمالُ فيها ومعانيها خَصَّ الله بها عبدَه محمد ﷺ، فجمعَ فيه من محاسن الأخلاق ما لم يجتمع في غيره، بحيث جعل له الكمالَ في كل خلُـقٍ محمودٍ حسَن. وأقربُ الخلقِ إليه بعد ذلك، الأنبياءُ صلوات الله وسلامه عليهم، ثم بعد ذلك خواصُّ أتباعهم على درجات، لكن اكتمالَها بكل الوجوه وبكل المعاني جعلَها الله لعبده وحبيبه المصطفى محمد ﷺ، فهو جامعُ الكمالات الإنسانية، ومَظهرُ التفضُّلات الرَّحمانية، ومحلُّ العناية الرَّبانية، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.

ومن هنا كان أقربُ الناس إليه أحسَنُهُم خُلُقًا، على قدر ما يتخلّق من أخلاقهِ بنصيب، "إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مجلسًا يوم القيامة أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا"، "الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا". 

ويذكر لنا حديث مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عليه رضوان الله تبارك وتعالى: "آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" وهو المتابِعُ لتربيتهم وتقويمِهم وتهذيبهم في شؤونهم وأحوالهم، والملاحِظُ لاستعداداتهم، وإعدادهم لما يتهيأون له من المراتب في الأحوال، فلم يزل ﷺ يُراعيهم ويرسل لهم من كريم توجيهه وتنبيهه، ما يليق بأحوالهم واستعداداتهم التي هم فيها. فكان يقول: "آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ"، وذلك لمّا بعثَه إلى اليمن قاضيًا، في السنة التاسعة من الهجرة، "حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ" يعني: الركاب، فغرزه من ذلك الجلد الذي يوضع على ظهر المركوب، فلما "وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ" قال لي في تنبيههِ ﷺ وتوصيتِه وتأكيده: "أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ"، "أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ"، وذلك أنه كان يمشي معه حتى ودَّعَهُ فركب، ولما ركبَ كان آخرُ ما كلَّمَهُ: "أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ" صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم،  فلما كان يمشي معه ويودِّعُه يقول له: لعلّكَ لا تلقاني بعد هذا، أخبره.

ويقول له في ما جاء في رواياتٍ: "فلا تنسَ أن تزورَنا"، وفي لفظٍ: "زُر قبري"، وأحسَّ سيدُنا معاذٌ أنه دنا وقت الفراق، وأنه لن يرجعَ من اليمن في حياته ﷺ فكان ذلك، ذهب في السنة التاسعة والعاشرة، وفي أوَّل الحادية عشر، توفي ﷺ، وجاء بعد ذلك يزورُه في قبره، وأخذ يبكي ويكبُّ على القبر الشريف، يتذكّرُ سيدنا معاذٌ وصايا حبيب الله له، إلى أن ذكرَ آخر ما ودّعه، عندما وضعَ رجله في غَرزِ الركاب، قال له: "أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ" -رضي الله تعالى عنه- وكان من أعلمِ الصحابة بالحلال والحرام، كما شَهِد له ﷺ،  فأكَّدَ عليه ما بنى فيه وأسَّسَ من كريم الخُلُق، وقال له: "أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ" رضي الله تعالى عنه. وجاء في عددٍ من الروايات، أنه آتاهُ عددًا من الوصايا في توديعه ذلكَ له، قبلَ سفرِه وخروجه من المدينة المنورة،

 وجاء عنه أنه يقول: قلتُ يا رسول الله علمني ما ينفعُني، وجاء أيضًا في سنن الترمذي عن أنسٍ يقول: بعث رسول الله ﷺ معاذَ  بن جبلٍ إلى اليمن، وذكَر توديعَه ووصيَّتهُ له، وجاء عن سيدنا معاذٍ أيضًا يقول: آخرُ كلمةٍ فارقتُها عليه ﷺ يقول: "قلتُ: يا رسول الله أيُّ العمل أفضل؟" هذا سؤاله قبل أن يَضعَ رجلَه في الغرز ويسافر، قال: "لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله". وفي لفظٍ: "أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله تبارك وتعالى؟" وهذا كلَّه عند توديعِه له ومفارقته إياه، فقال الرسول ﷺ: "أن تموتَ ولسانُك رطبٌ من ذكر الله".

وفيه الربط بين حُسن الخُلُقِ وكثرة الذكر، فإن من ذكرَ اللهَ على الوجه الصحيح القائم،  تتهذبُ أخلاقُه وتتزكّى نفسه، وتخرج عنه الصفاتُ الذميمة، بقدر ما يتغلّبُ سلطانُ الذكر على هذا القلب، فيُبعد عنه أوضارَه وأوساخه وقبائحَه ومثالبَه كلَّها  بكثرة ذكر الله، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

ذكر لنا عن عائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها تقول: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي أَمْرَيْنِ" وفي لفظةٍ: "بَيْنَ أَمْرَيْنِ"، "قَطُّ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا ﷺ"، قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، "ما لَمْ يَكُنْ" هذا الأيسر والأخف  "إثماً" أو مفضيًا إلى الإثم، " فَإِنْ كَانَ إِثْماً، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ،"

فهكذا بنى أمورَه على اليُـسر، وعلى الرِّفق ﷺ في الشؤون، ويختار أيسرَ الأمور، ما لم يكن إثماً أو مؤدَّياً إلى إثم، فيكونُ أبعدَ الناس عنه، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله. 

قالت: "وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِنَفْسِهِ خاصةً أبدًا". هكذا يقول سيدنا عروة: "ما رأيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُنْتَصِرًا من مَظْلَمَةٍ ظُلِمَها قطُّ"، إنما كان يغضبُ لله ﷺ.

والقومُ الذين أمرَ بقتلهم أو استثناهم من العفو في مكة، كلُّ أولئك، كانوا من أشدّ الخَلْقِ جُرمًا وبُعدًا عن الله تبارك وتعالى، ومعصيةً له، لا لشيءٍ يتعلّقُ بذاته وشخصه، بل يعفو عن الذنب إذا كان في حقِّهِ وسببِه، فإذا أُضيعَ حقُ الله لم يَقم أحدٌ لغضبه، والأول والثاني والثالث… وصلوا لقتله، وحاولوا وفي آخر الخطوات، خلَّصَهُ الله منهم، ثم دعا لهم، وعالجَهم من أمراضِهم وأسوائهم، ونقَلَهم من الكفر إلى الإيمان، وهيَّأهم للجنة، وهم قصدوه ليقتلوه ﷺ، وجاءوا إليه ليقتلوه. 

جاء إليه بعد غزوة بدرٍ عُمير بن وهَب، هذا الذي قعد مع صفوان بن أمية في حِجر الكعبة وحدَهما يتذكرون القتلى في بدر، وقال عُمير بن وهب هذا: لولا ديْنٌ عليّ وأولادٌ لي، لذهبتُ حتى أقتلَ محمدًا، قال له صفوان: تفعل؟ قال: نعم، عندهم ولدٌ لي،  -يعني في الأسرى- سأتحججُ به، وأغتنمُ الفرصة وأقتلُ محمد، ثم يكون ما يكون، قال: أولادُك أولادٌ لي، ودَينك دينٌ علي، خلاص أنا أقضيه، نَفِّذ الأمر،  قال: فاكتـُم عليّ؛ ما حد يدرى، فسنَّ سيفه وشحَذَه، وسقاه السمَّ  أيامًا، حتى إذا جاءت الضربةُ في أي موضعٍ من الجسد يسري السمُّ ويموت. 

وتقلّدَ السيف وذهب إلى المدينة المنورة، فلما أقبل، كان سيدنا عمر مع جماعةٍ من الصحابة قال: هذا وجهُ شر، يقول سيدنا عمر، ما جاء هذا بخير، فقام إليه، وقال: ما جاء بك؟ قال: جئتُ أخاطبُـكم  في ولدي، فدخل به إلى المسجد عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: اترُكه يا عمر، وجلس، قال: ما جاء بك؟ قال: جئتُ أخاطبكم في شأن ابني هذا، والسيفُ قده معه مسمومٌ، والآن قد قَرُب من النبي ﷺ، قال له: فما بال السيف؟ إذا جئتَ تخاطبُنا في أسيرك، السيف لماذا تحمله!؟! فصلّح له الجواب الدبلوماسي على قولهم، قال له:  قبَّحَها الله من سيوفٍ ما أغنت عنا شيئاً يوم بدر! السيوف هذه حقنا ما منها فائدة، قال: اٌُصدُقني، قال :ما هو إلا ذاك يا محمد جئتُ له،  قال: لا، بل جلستَ أنتَ وصفوان في الحِجر، وقلت كذا، وقال كذا، وقلت كذا، وتعهّدتَ له بقتلي، وجئتَ لذلك، والله حائلٌ بينك وبين ذلك. اهتزّ، قال: والله ما علم بهذا غير صفوان، أنا وصفوان وحدَنا في الحجر، ما هذه إلا نبوّة، أمدُد يدَك، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ﷺ ، دخل في الإسلام عالَجه وخرّجه، ولا أَمرَ بقتلِه ولا بحبسه ولا بإيذائه، ولا أغلظَ له القول، ولا قطّب في وجهه، وهو جاء يقتله ﷺ، عالَجَه.

 وكان هناك صفوانُ يقول لقريش: أبشروا أبشروا!  هذه الأيام يأتيكم خبرٌ يسرُّكم، يُنسيكم وقعة بدر، ما الخبر الذي عندك؟ قال: يأتيكم خبر.. ممتاز! تنسون به وقعةَ بدر، مرّت أيام، قالوا: أيش من خبر معك يا صفوان؟  قال: منتظر هذه الأيام  سيأتي الخبر، تلقّى الوفد الذين يأتون من نحو المدينة، هل من خبر؟ قالوا: ما من خبر.. ما حدث شيء؟ ما من شيء حصل؟  ما حصل شيء، يترقّب الوفود الذين يأتون  من نحو المدينة، يقول: ما حصل شيء هناك عندكم؟  ما فعل  عُمير بن وهب؟  قالوا: أسلم!... وخيّب الله صفوان.

وفي عام الفتح، كان يمشي يطوف بالكعبة وفَضالة وراءه حامل السيف، النبي في تلك الساعة لا أحد عنده، وهو مُترقبٌ الفرصة ليضربَه من ورائه، وخلاص  وهو قريب، والتفت رأى الجو مهيأً لأن يضرب، فوقفَ النبي ﷺ، التفتَ إليه، ماذا تحدّثُ به نفسك يا فَضالة؟ أَفضالة ماذا تحدث به نفسك؟  قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله، فتبسّم ﷺ ورفع يدَه الكريمة ووضعَها على صدره، يقرأ عليه، قال: فوالله فما رفعَها وعلى وجه الأرض أحدٌ أحبُّ إليّ منه، خلاص راح الكفر، راح النفاق، راح الشر، راح البغض، راح السوء، راحت الظلمة، تحوّل، عالج النبي ﷺ، رجل يريد قتله فنقله من حالةٍ إلى حالة، وردَّه إلى محبٍّ صالح، أيش الخلُق هذا..  أيش المعاملة هذه!.. صار يطوفُ بعده بحالةٍ ثانية بأدبٍ، انتُزعت منه الظلمةُ من أصلها، في نفس الوقت. بعد ما خرج، جاءت واحدةٌ من النساء، كان يجلس إليها أيام الجاهلية، وعلى عادتهم يتحدثون يتكلمون يتضاحكون، رأته خارج من المسجد تقول له: هلمَّ إليّ كالعادة أتحدث معك، فالتفت، وهو قد صار رجال ثاني ما عاده ذاك، وقال:

 قالت هلُمّ إلى الحديث، فقلتُ كلا *** يأبى عليَّ اللهُ والإسلام!

 إيش الطهر ذا الذي حصّله بسرعة! وإيش هذه الرفعة التي انتقل إليها! ذاك أيام الكفر كنا نقعد معكن نضحك و.. ، خلاص روّح، صار فضالة واحد ثاني، صار صاحبَ فضل عفيف، ما ينزل إلى هذه المستويات. 

…………………… *** يأبى عليّ الله والإسلام

لو ما رأيتِ محمدًا وقبيلَه *** بالفتح يوم تُكسّر الأصنام 

لرأيتِ دين الله أضحى بيّنًا *** والشركُ يغشى وجهَه الإظلامُ

وإذا به قد صار صاحبَ مبدأ، وصاحب يقين وصاحب وجهة، وهو كان بيفعل أشنع مصيبة في الوجود، بيفعل أعظم بلية، ولكن ربي نقَله بواسطة هذا النبي ﷺ، وهكذا…

وبعدها بأيامٍ كان ﷺ في حُنين وخلفه رجل يريد أن يقتله، وترقّب الفرص، فصرفه الله عنه أول مرة وثاني مرة، عرف  أن هذا محروسٌ ومحفوظٌ من فوق، فغيّر نيته، فالتفت له النبي ﷺ قال: هذا خيرٌ مما كنتَ تنوي، قال: هذا أحسن لك مما كنت تنوي، ولا عاقب، ولا آذى، ولا أغلظ القول.. أيش الإنسانٍ هذا!  أيش الشخص هذا.. أيش الذات هذه العجيبة!  صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.

وهكذا، مضى على حُسن الخلُق، فكلُ الذين أمرَ بقتلهم كانوا أهلَ محاربةٍ لله تبارك وتعالى، وأهلَ أذى لأهل الدين، وأهلَ بعثٍ للفساد وللشر والضرّ، فلذلك قال ﷺ.

وغورث بن الحارث كذلك، ترقَّب الفرصةَ لما رآهم راجعين من الغزوة، رأى الصحابة شجرةً فيها ظِلالٌ كثيرة، تركوها للنبي ﷺ، وتفرّقوا في الأشجار يستظلّون، والنبي ﷺ علَّق سيفَه بالشجرة، خففَ ثيابه واضطجع  تحت الشجرة، وهذا غورث في الجبل يرقبه،.وخلّاهم يروحون يرتاحون وينامون تحت الشجر، فخرج،  وحمل سيفَ النبي ﷺ ورفعَه عليه، فاستيقظ ﷺ، فرآه شاهر السيف بيقتله، ويقول: مَن يمنعُك مني يا محمد الآن؟  ما أحد حواليك من أصحابك، وحدك حصّلتك والسيف بيدي، من يمنعك مني؟ فقال: الله! لما نطق بالكلمة ارتعد وسقطَ السيفُ، فأمسكه النبيُ ﷺ وقام، قال: ومَن يمنَعك مني؟ قال: لا أحد، كُن خير آخذ، تبسّم ﷺ وعفا عنه. 

خرج ليقتله، وحمل سيفه وأشهره فوق رأسه، نادى أصحابَه، سمعوا صوته فجاءوا، والرجل قاعد عنده، قال: إنّ هذا جاء من الجبل، فاخترطَ سيفي، وقال من يمنعك مني؟ قلتُ: الله! فسقطَ السيفُ من يده، فحملتُه وقلتُ له: مَن يمنعُك مني؟ قال: لا أحد، فقال الصحابة نقتله يا رسول الله؟ دعاه إلى الإسلام فأبى، قال له ﷺ: انصرف،زوّدُوه وأعطوه زاد وخلّوه يمشي، راح إلى قومه، قال: والله ما رأيتُ مثل هذا الإنسان! حتى هداه اللهُ بعد ذلك للإسلام. فهذا خُلُقُه عليه الصلاة والسلام؛ ما يغضبُ إلا إذا انتُهكت حرماتُ الله تبارك وتعالى.

"يقول: سيدنا عَلِيِّ زين العابدين بْنِ الحُسَيْنِ  بْنِ سيدنا عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ""، "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ"؛ ما لا يهمّه في أمر الدين، الفضول بأنواعه وأصنافه، اشتغالاً بما هو أجمل وأكمل وأعظم علاقةً بالرّب سبحانه وتعالى، حينئذٍ؛ هذا من حسن إسلام المرء. فمعناه: تعلّقُ الإنسان بما لا يعنيه وضياع الوقت النفيس فيما لا ينفعه ولا يعوضه، هذا من القبح، من قُبحِه في الإسلام، إسلامه ليس مستقيم، "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ"

ولو ترك الناس ما لا يعنيهم، لوَفّرُوا أوقاتًا كثيرة، وجهودًا كثيرة، وراحةً كثيرة لقلوبهم وأرواحهم، وصلاحًا كبيرًا في واقعهم، لكنّهم من الفضول يهدُّون الفضائل، من الفضول يقعون في الرذائل، ولو اشتغل قلبُ المؤمن بربّه لوجَدَه خيرَ صاحبٍ، وأعظمَ واهِبٍ، وأكرم معطي، وأجلّ سخي، ولعلا شأنه، وتشيّد بنيانه، وارتفع مقامُه، ونُشرت أعلامُه في الملأ الأعلى، بحُسن أدبِه مع الرب جلَّ وعلا، وحضوره معه.

شرّفنا بالحضور معك، واجعلنا دائمي الشهود الأكمل يا رب، وارزقنا شهودك بمرآة حبيبك المصطفى ﷺ، وثبّتنا على ذلك ومكّنّا فيه، وأشغِلنا بك عمًّن سواك، ولا تجعل لنا شُغلاً بمن عداك، وكن همّنا أنت ونُب عنّا في كل همٍّ في الدنيا والآخرة بسرّ الفاتحة، إلى حضرة صاحب الأخلاق العظيمة والسُّبل القويمة سيدنا محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

04 جمادى الآخر 1444

تاريخ النشر الميلادي

28 ديسمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام