(374)
(607)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجامع، باب مَا جَاءَ فِي إِجْلاَءِ الْيَهُودِ مِنَ الْمَدِينَةِ.
فجر السبت 30 جمادى الأولى 1444هـ.
باب مَا جَاءَ فِي إِجْلاَءِ الْيَهُودِ مِنَ الْمَدِينَةِ
2628 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ قَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ".
2629 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ".
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ" فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ.
2630 - قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ، فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ فَخَرَجُوا مِنْهَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ وَلاَ مِنَ الأَرْضِ شَيْءٌ، وَأَمَّا يَهُودُ فَدَكَ فَكَانَ لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ وَنِصْفُ الأَرْضِ، لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ صَالَحَهُمْ عَلَى نِصْفِ الثَّمَرِ وَنِصْفِ الأَرْضِ، فَأَقَامَ لَهُمْ عُمَرُ نِصْفَ الثَّمَرِ وَنِصْفَ الأَرْضِ قِيمَةً مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ وَإِبِلٍ وَحِبَالٍ وَأَقْتَابٍ، ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْقِيمَةَ وَأَجْلاَهُمْ مِنْهَا.
الحمد لله مكرمنا برسوله وبيانِه، وما وجَّهه به إلينا ليُصلحَ لكل مستجيبٍ جميعَ سرِّه وإعلانه، اللهم أدم صلواتِك على عبدك المصطفى سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه، وأهل الاقتداء به فيما بلَّغهم عنك ظاهرًا وباطنًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، مَن رفعتَ لهم القدرَ لديك وجعلتَ لهم عندك منزلةً وشأنًا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكرُ لنا الإمامُ مالكٌ عليه رضوان الله، بعضَ ما يتعلق بالمدينة وجزيرة العرب، في حديثِ صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وذكَرَ: "مَا جَاءَ فِي إِجْلاَءِ الْيَهُودِ مِنَ الْمَدِينَةِ"، أي: إخراجُهم من جزيرة العرب، والمدينةُ منها، بل قَلبُها. وأورَد لنا في ذلك آثارًا، وقد جاءنا في صحيح البخاري عنه ﷺ يقول ابن عمر: حاربت قريظةُ والنضيرُ، فأَجلى بني النضير وأقرَّ قريظةَ، ومنَّ عليهم، حتى حاربت قريظةُ، فقتلَ رجالَهم وقسَم نساءَهم وأولادَهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضَهم لحقوا بالنبي ﷺ فأَمَّنهم وأسلموا، وأجلى يهودَ المدينة كلِّهم، بنو قينقاع -وهم رهطُ عبد الله بن سلام- ويهودَ بني حارثة، وكلَّ يهودٍ بالمدينة.
وهكذا يقول الشيخ ابن حجر: كان الكفارُ بعد هجرة النبي ﷺ مع النبي ﷺ على ثلاثة أقسام:
ثم كان أولَّ من نقض العهد من اليهود، بنو قَينُقاع، فحاربَهم عليه الصلاة والسلام في السنة الثانية من الهجرة، في شهر شوال بعد وقعة بدر، كانت وقعةُ بدرْ في السنة الثانية في شهر رمضان، فجاء شهرُ شوال ونقَضوا العهد، فنَزلوا على حُكمهِ، واستوهبَهم منه عبد الله بن أُبَي، كانوا حلفاءَه فوَهبَهم له، فأخرجَهم من المدينة إلى منطقةِ أذرِعات في الشام، ثم نقضَ العهدَ بنو النضير.
وكان نقضُ بني قينُقاع أنهم مع ما حَصلَ منهم من الإساءات، انتهى الأمرُ إلى أن أرادوا امرأةً من المؤمنات، على كشْفِ وجهها بعد نزول آية الحجاب، فأبَت، وكانت تشتري من بعضهم بعضَ الحُلي، فجاء اليهوديُ من بني قينقاع، وربَطَ -دون أن تشعر- آخرَ ثوبِها وحجابها على الأرض، بطَرَفِ الثوبِ الذي على رأسِها، ولم تشعرْ بشيءٍ، لأنَّ الثيابَ كانت فضفاضةً وطويلة، -وهكذا كان تنفيذُهم للأمر الإلهي لمَّا نزلت آيةُ الحجاب-، فلما قامت، ارتفع الثوبُ عليها من تحتٍ، حتى ظهرَ ساقُها، وضحك اليهودُ، فصاحت غيرةً على العِرض والشرف، فجاءَ رجلٌ من المسلمين، وتضاربَ مع اليهود وتَقاتل معهم، وبلغَ النبيَّ ﷺ الخبرُ، فخرَجَ وأجلاهم.
وبنو النضير خرج ﷺ يستقرضُ منهم بعضَ المال في ديةٍ من الديات، فرتبوا وهو جالس تحت دُور بعضِهم أن يقتلوه بِحيلَة، جعلوا الرَّحى في السَّطح، وقالوا: يطلُعُ أحدُنا فيرميها فوق رأسه من السطح فتقتُله، فنقول سقَطتْ الرحى من نفسها، وأعدُّوا لذلك العُدَّة، وهم يتكلمون معه ويطيلون في الكلام، من أجل تَنفذ الخطة، ورفعوا الرَّحى إلى أعلى السطح ليوقِعوها عليه، فَجاءَه سيدُنا جبريل وأَخبرَه بِخبرِ القوم، فقام ﷺ من بينهم، حتى كان معه جماعةٌ من الصحابة، منهم سيدُنا أبو بكر وسيدنا عمر، فظنُّوا أنه قام لحاجتِه، فأبطأَ، فلمّا أبطأ قام يبحثُ عنه سيدُنا أبو بكر، فجاء يسأل عنه، فقال له البعض: إني رأيتُه داخل المدينة! فلحِقوه إلى المدينة، فأخبرَه بخَبرِهم، وأنهم خانوا العهدَ وأرادوا القتل، فخرجَ إليهم ﷺ وأجلاهم.
فكان إجلاءُ بني قينقاع في السنة الثانية من الهجرة، في نصف شوال، حاصرَهم خمسَ عشرة ليلة، واستشفعَ لهم عبدُ الله بن أبَي، فشفَّعه فيهم، على أن يَخرجوا إلى أذرعات، فصاروا يخرِّبون ما في بيوتهم، واحتملوا ما قدَروا على احتمالِه، وأنَّ لهم ما حَملَتْه جِمالُهم، فحمَّلوا ما استطاعوا وخرجوا.
وبعد ذلك في السنة الرابعة من الهجرة كان نقضُ بني النضير هذا الذي أشرنا إليه، وأرسلوا كعبَ بن الأشرف إلى أهل مكة، يَستَحثونهم على قتاله، وكان في صلحٌ بينهم وبينه ألا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فنقضوا العهد.
ولما قتلَ محمدُ بن مسلمة كعبَ بن الأشرف، أتاهم النبيُ ﷺ، يستعينُهم في دية القتيلين، قالوا: نعم، وتشاوروا أن يطرحوا عليه الحجر من ظهر البيت، فيُقضُّوه على رأسِه الشَّريف، فأخبرَه الله تعالى فخرج النبي ﷺ، وأرسلَ إليهم أن اخرُجوا من بلدي في عشَرة أيام، تجهَّزوا للخروج. وأرسل ابن أُبي إليهم فقال: لا تخرجوا، أنا معي ألفين وقريظةُ وغطفانُ نُمِدُّكم، إن قُتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرِجتم خرجنا معكم، ففَتنَهم وأبوا الخروج، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُواْ لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلْأَدْبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ * لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) [الحشر:11-13].
وهكذا، قاموا على حصونهم بالنَّبل والحجارة، اعتَزلَتْهم قريظة، ما شاركوهم في هذه الخيانة، ودخلَ معهم في نقض العهد بنو غطفان، فحوصروا ستَّ ليالٍ، فرَضُوا بالخروج إلى الشام وخيبر، وأخذوا يرسلون إلى عبدالله بن أبيّ: أينكم؟ تعالوا، هاتوا الجماعة… ما جاءهم أحد، وهكذا شغلُ المنافقين والكافرين.
وخرج نفرٌ من أشرافِهم إلى مكة يَستنفرُ المشركين إلى حرب النبي ﷺ والمسلمين، حتى كانت وقعةُ الأحزاب، بسبب تجميعِهم، فتجمَّعَ عشرةُ آلافٍ من المشركين، حاصروا المدينةَ المنورة وحفر النبيُّ ﷺ الخندق، وأخزاهم الله ورجعوا، فلما رجعوا وقد خان هؤلاء - بنو قريظة- وشاركوا في الخطة، ليدخُلَ المشركين من طريقهم، ويفسحوا لهم مجال ليدخلوا لقتل النبي ﷺ وقتال الصحابة الذين معه، فلما هُزِم المشركون، وأرسلَ الله عليهم الريح وولَّوا مدبرين، رجع ﷺ إلى بيته، وأخرج لامةَ الحرب، فأتاه سيدُنا جبريل عليه السلام وقال: وضعتَ السلاح؟ ما وضعت الملائكة! لا زلنا قائمين على متابعة الأمر، قال: ماذا؟ قال: بني قريظة الذين خانوك، اخرُج، فَخرجَ إليهم ﷺ، وحاصرَهم خمس وعشرين ليلة حتى جَهِدوا، منهم مَن آمنَ فسلِم وأمِن وارتفع قدرُه ونال الجنة، ومنهم من أصرَّ على عناده وكفره، ونزلوا على حكم سيدِنا سعد بن معاذ.
كان عمره نحو سبع وثلاثين سنة، سيدَ الأوس، كانوا حلفاءَ له في الإسلام، فمحى الإيمانُ من قلبه كلَّ ولاءٍ لغير الله تبارك وتعالى، واغتاظَ منهم كثير لمَّا علم باتفاقهم مع المشركين، يُدخلونهم من جهتهم في خطة. فلما أُصيب بجرحٍ في أُكحُله، قال: اللهم لا تُمِتني حتى تُقرَّ عيني في بني قريظة، الذين خانوا عهدَك وعهد رسولك ﷺ، لأنهم وقعت شدة بعد ما اتفقوا مع المشركين، و صاروا مهددين المسلمين بيدخلوا عليهم من الجهة الثانية، بيجتاحونهم، حتى بلغت القلوبُ الحناجر، فتأثَّر سيدُنا سعدٌ ودعا ربه تبارك وتعالى، فرقَأ الدم -أي: وقف- حتى كان حصار بني قريظة، وكمُلَ حصارُهم، فقالوا: ننزلُ على حكم سعد.
وهو سعد الذي كان متأثر منهم ومغتاظ عليهم لما عملوه، والله ساقهم فنزلوا على حكمه، ظنوا أنه لمَّا كان في الجاهلية حليف لهم، أنه سيرحمُهم ويُصلح أمورهم كما فعل عبد الله بن أبيّ مع بني النضير، فقالوا: ننزل على حكم سعد، قال النبي ﷺ: قل لهم رضينا، لما يعلم من إيمان سعد وصدقه، فجاؤوا إليه وأخبروه، قال: خلاص إذًا حكمنا عليهم، وأَخرجوه من الخيمة التي يُمرَّض فيها في المسجد، إلى عند النبي ﷺ، فأقبل، فقال: قوموا إلى سيِّدكم يقول ﷺ، فأمر الصحابةَ أن يقوموا له احترامًا وإكرامًا لوصول سعد بن معاذ، فقال: ما حكمتَ فيهم؟ قال: حكمتُ يا رسول الله أن تُقتلَ مقاتلتُهم؛ المقاتلين منهم الرجال البالغين يُقتلون، وتُسبى أموالُهم وذراريهم للمسلمين، قال: لقد حكمتَ فيهم بحُكمِ الملك من فوق سبع سماوات! هذا الذي يريده الله لهم سبحانه وتعالى من خيانتهم، ونُفِّذ الحكم، ومَن أسلمَ وآمن، دخل في دائرة أمنِ الدنيا والآخرة، ومن أبى نفذَ فيهم ذلك الحكم، وهؤلاء كانوا في السنة الخامسة من الهجرة النبوية، وأمرَ ﷺ أن يُخَندَق في السوق، ويُؤتى بهم أرسالاً تُضربُ أعناقُهم، وكان سيدنا عليٌ والزبير من الجالسين في ضربِ أعناق هؤلاء.
وهكذا، ثم جاءت سنةَ سبعٍ، فخرجَ إلى هؤلاء المؤذيين المعادين المحاربين من أهلِ خيبر، وكان من بني النضير أنهم دسَّوا إلى قريشٍ وحضُّوهم على قتال النبي، ودلُّوهم على المداخل اللي يدخلون ،منها، وهكذا ظاهرَ بنو قريظة الأحزابَ في غزوة الخندق، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ثم أوردَ لنا حديثَ عمر بن عبد العزيز أنه "كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" الحديثُ موصولٌ في الصحيحين، وهنا مرسلٌ عن عمر بن عبد العزيز قال: "كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ"؛ أي: لعن الله، كما جاء في روايةٍ: "لعنةُ الله على الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد"؛ يحذِّر مما صنعوه. "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"؛ أي: سجدوا عليها، ثم سجدوا لها -والعياذ بالله تبارك وتعالى- كفرًا وشركًا واتخاذَ آلهةٍ مع الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
فكان اليهود يسجدون لقبور الأنبياء، تعظيمًا لشأنهم، يجعلونها قبلةً ويتوجهون في الصلاة نحوَها، وعبَدوهم من دون الله، فكانَ هذا الذي حذَّر منه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. ولو كان مجردَ تكريمٍ أو تعظيمٍ لَما كان في ذلك من شيء، ولكنَّهم جعلوهم آلهةً والعياذ بالله، واتَّخذوهم مع الله آلهة، فكان ذلك هو الشركُ والكفر، وإلا فقد قال الأئمة: أن سيدَنا إسماعيل -عليه السلام- في أَصحِّ الروايات أنه مقبورٌ في حِجْره، ولم يزل حجرُ إسماعيل من أفضل الأماكن يُتحرَّى فيها الصلاة، يصلّون فيها، لكن ليس مقصودٌ بها عبادةُ غير الله تبارك وتعالى، ولا مقصودٌ السجودُ لسيدِنا إسماعيل عليه السلام، ولكن السجودَ لله سبحانه وتعالى.
قال: "لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ"، الحديث قلنا موصول في الصحيحين وغيرهما، لا يبقى دِينَانِ أو "لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ"؛ يعني: لا يبقى كفرٌ مع الإسلام، الإسلام فقط، والدين إسلامٌ وكفر، وكلُ ما سوى الإسلام فهو كفرٌ، "لاَ يَبقى دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ"؛ أي: جزيرة العرب.
وجاء في الحديث الشريف ذكرُ أرض العرب وذكرُ جزيرة العرب، فأرضُ العرب أو جزيرة العرب الاسمان اللذان وردا في السنة المطهرة : الإقليمُ الذي يسكُنه العربُ، شبهُ جزيرةٍ يحيط بها:
فهذه جزيرة العرب.
وكان يقول الأصمعي: جزيرةُ العرب:
هذا وسط جزيرة العرب. وهكذا أمرَ ﷺ أن تُطَهَّر هذه البقعة والأرض، من دينٍ آخر غيرِ دين الإسلام، بنشر دين الله تبارك وتعالى والدعوة إليه، ومن أبى وأصرَّ فيُجلى إلى خارج الجزيرة، فتمَّ ذلك في عهدِ سيدنا عمر بن الخطاب وأجلى يهودَ خيبر.
يقول سيدنا النووي: أخذ بهذا الحديث مالكٌ والشافعيُّ وغيرُهما من العلماء، وأوجبوا إخراجَ الكفار من جزيرة العرب.
كما عليه مالكٌ والشافعي، إلا أن مالك عمَّم جميعَ جزيرة العرب، وأخذ بظاهر قوله: "لاَ يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ" وقال: أرى أن يُجلَوا من أرض العرب كلها، لأجل هذا الحديث، وقال ﷺ: "لأُخرِجَن اليهودَ والنَّصارى من جزيرة العرب، فلا أتركُ فيها إلا مسلماً"، هذا في رواية الترمذي، وقال حسن صحيح.
ويقول ابن عباس: أوصى رسول الله ﷺ بثلاثة أشياء: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، حيث لا يبقى دينان.
وهكذا يقول الإمام أحمد: جزيرةُ العرب: المدينةُ وما والاها، يعني مكةَ واليمامةَ وخيبر ويَنبُع وفَدَك ومخاليفها هذه، وقولُ الإمام أحمد هذا هو نفس قول الإمام الشافعي، لأنه جاء في روايةٍ: "أخرجوا اليهودَ من الحجاز"، قالوا: أما الأماكنَ البعيدة مثل نجران وغيرها، فما عدُّوه مما يجبُ إخراجُ المشركين منه، وعدَّه الإمام مالكٌ منها.
وبعد ذلك يذكر لنا عليه رحمة الله تبارك وتعالى مع هذه المسألة: "لاَ يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ"، "أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب"،
يقول الزبير: حضرموت آخر اليمن، الذي هو أقصى اليمن. سميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبشة والفرات ودجلة أحاطت بها، وهي أرض العرب.
"قال مالك: فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ"، رضي الله عنه يعني تفحَّص و استقصى في الكشف عن الحديث هذا الذي بلغه عن النبي ﷺ، "حَتَّى أتاه الثلج واليقين"؛ يعني: الذي لا شك فيه، الثلج يعني طمانينة قلبه بأن النبي قال ذلك، فنفذ عليه رضوان الله تعالى، أن رسول الله ﷺ قال: "لاَ يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ"، "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم"، هذا الذي وصّى به ﷺ، "فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ". وقال: من كان له من أهل الكتابين عهد فليأت به أنفذه إليه وإلا فإني مجليكم، فأجلاهم.
وكانوا قد بدأوا في بعض الشَغب وإثارة القلاقل من خيبر، ووُجد هناك أيضًا مقتولٌ بينهم من المسلمين، وألقَوا ابن عمر من فوق بيته، فدَعوا به وكسروا يده إلى غير ذلك مما بدؤوه، فتأكَّد سيدنا عمر من أمر النبي بإجلائهم فأجلاهم.
"وَقَدْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ"، لما جاء من الحديث: "أخرجوا اليهودَ من الحجاز، وأخرجوا أهلَ نجران من جزيرة العرب"، وفدَكٌ بينها وبين المدينة يومان، بينها وبين خيبر أقل من مرحلة، وهذه القرية تُسمى: فدَك، النبي لما نزل خيبر وفتح حصونَها واشتد بهم الحصار، راسلوا الرسول ﷺ، يسألون أن ينزلهم على الجلاء ففعل، بلغ أهل فدك ذلك أرسلوا إلى النبي ﷺ يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك. فكانت خالصةً لرسول الله ﷺ، مما لم يوجَف عليه بخيلٍ ولا ركاب.
"فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ فَخَرَجُوا مِنْهَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ وَلاَ مِنَ الأَرْضِ شَيْءٌ"، لأنها قد صارت ملك للمسلمين، "وَأَمَّا يَهُودُ فَدَكَ صالَحهم النبي على نِصْفُ الثَّمَرِ وَنِصْفُ الأَرْضِ" فلذلك قوَّم لهم "سيدنا عمر نصفَ الثمرِ ونصفَ الأرض"، كم بيطّلع "قِيمَةً مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ"، أي: الفضة، "وَإِبِلٍ وَحِبَالٍ وَأَقْتَابٍ"، الخشب الذي يوضَع على ظهر البعير يُركب، وأعطاهم قيمة نصف الثمر وقيمة نصف الأرض وأجلاهم من فَدَك -رضي الله تعالى عنه- وقوَّم لهم ذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام صالَحهم على النِّصف.
أما ما يتعلقُ بالصلاة في المقابر، فإنه يقول المالكية وغيرُهم: إذا كان هناك مسجدٌ ما يجوز أن ندفن أي ميتٍ فيه، هذا من غير شك، إذا كانت أرض موقوفةً مسجداً لا يجوز أن ندفن فيها أي أحد، بل ولا نستعملَها لأي غرضٍ غير الصلاة وغير مصلحة المسجد. مع ذلك يقول المالكية: إلا لمصلحةٍ تعود على الميت.
ثم الصلاة في المقبرة:
ومنها الصلاة على الجنازة في المقبرة:
الجمهور قالوا: لا بأس بذلك، وأنه ﷺ صلى على بعض الذين قُبِروا، فجاء إلى القبر وصلى عليهم، ﷺ، لأنه لم يصلِّ عليهم ولم يشعَرْ بجنازتهم، فجاء. وإنما يأتي الخلافُ في غير صلاة الجنازة، فأما صلاةُ الجنازة ففَعَله ﷺ، أنه صلى على قبور قد قُبرَ أصحابُها، فدخل وصلى عليهم فوق قبورهم، صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم.
وعرفنا مما تقدم معنا أن جزيرةَ العرب خُصّت بخصائص منها:
رزقنا الله الاستقامة، وأتحَفنا بالكرامة، وأصلح شؤون المسلمين، ورزقهم متابعةَ النبي الأمين، وأعزًَهم بطاعته وطاعة رسوله، وخلَّصهم من التبعية للفجار والكفار والأشرار، وحمانا والأمةَ من جميع المضارِّ، وحوَّل الأحوالَ إلى أحسنِها، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
30 جمادى الأول 1444