(535)
(373)
(606)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجامع، تتمة باب مَا جَاءَ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا.
فجر الإثنين 25 جمادى الأولى 1444هـ.
تتمة باب مَا جَاءَ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا
2614- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ الأَجْدَعِ، أَنْ يُحَنَّسَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ جَالِساً عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْفِتْنَةِ، فَأَتَتْهُ مَوْلاَةٌ لَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: إنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ. فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: اقْعُدِي لِكَاعُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ يَصْبِرُ عَلَى لأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ، إِلاَّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعاً أَوْ شَهِيداً يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
2615- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَأَصَابَ الأَعْرَأبِي وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ : أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى فَخَرَجَ الأَعْرَابِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا".
2616- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ".
2617- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْهَا: إِلاَّ أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْراً مِنْهُ".
2618- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أبِي زُهَيْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
2619- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ حِمَاسٍ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لَتُتْرَكَنَّ الْمَدِينَةُ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ، حَتَّى يَدْخُلَ الْكَلْبُ أَوِ الذِّئْبُ، فَيُغَذِّى عَلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَنْ تَكُونُ الثِّمَارُ ذَلِكَ الزَّمَانَ؟ قَالَ: "لِلْعَوَافِي، الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ".
2620- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: يَا مُزَاحِمُ أَتَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ.
الحمد لله مُكْرِمِنا برسوله وبيانه ودلالته على الحق -سبحانه وتعالى- بما يبلغ به المُستجيب له غاية سوله، اللَّهم أدم صلواتك على عبدك المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار وأهل ولائه ومتابعته في قصده وفعله وقيله، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين الذين أذِنت لكل منهم بتكريمه وتفضيله وتعظيمه وتبجيله، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المُقربين وجميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
ولا يزال الإمام مالك يذكر لنا الأحاديث المُتعلِّقة بالمدينة المُنوَّرة وفضلها، وذكر لنا عن "جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله تعالى عنهما-: أَنَّ أَعْرَابِيًّا"؛ أحد الأعراب من البادية جاء فأسلم؛ "بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الإِسْلاَمِ". وأيضًا كما يُفهم من السِّياق أو يُرى في بعض الروايات: وعلى الهجرة وعلى المقام عنده صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم. وكانت الهجرة واجبة من مكَّة أو من البلدان الأخرى التي لا تقام فيها شرائع الإسلام، ولم يكن في ذاك الوقت بلد تقام فيه الشرائع إلا المدينة المُنوَّرة؛ فكانت الهجرة واجبة ثم صارت مندوبة عند انتشار الإسلام في الأعراب والبوادي، فكان ذلك على سبيل الأفضلية ثم بعد ذلك ثبت الحكم إلى جميع بقاع الأرض..
وهذا الأعرابي بايع النَّبي ﷺ على الإسلام وعلى الهجرة؛ ترك أرضه في البادية وليس فيها أحد من المسلمين، وعلى المقام بين يديه صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم في المدينة المُنوَّرة، فلمَّا بايع على ذلك أُصيب بعد ذلك بوعك؛ وهو الحُمَّى. وقيل: ألم الحُمَّى أو إرعادها. والأصل في الوعك: شدة الحر وأُطلق على حر الحُمَّى وشدتها، قالوا: وعك. قال ﷺ: "إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلان منكم، قال: قلتُ: ذلك بأنَّ لك أجرَيْن، قال: أجل" صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
"فَأَصَابَ الأَعْرَأبِي وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي"؛ يعني: ما بايعتك عليه من المُكث عندك في المدينة ومن الهجرة ردّه عليّ؛ أي: فإني مرضت وأنا استوخمت المدينة فأريد أن أرجع إلى باديتي. "فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"؛ امتنع أن يقيله بيعته وذلك لأنه قد وجبت عليه الهجرة والمقام معه بالمدينة المُنوَّرة، فلمَّا أراد أن يستقيل لم يقله، فكرر ذلك فأتى رسول الله ﷺ فأبى، "ثُمَّ جَاءَهُ" مرة ثانية "فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ"؛ أي: مرة ثالثة "فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى" ثلاث مرار، "فَخَرَجَ الأَعْرَأبِي" الذي غلبته نفسه وهواه؛ فرّ من المدينة المُنوَّرة ورجع إلى البادية.
"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ"؛ الزِّق الذي يُنفخ فيه الهواء ليشعل النَّار؛ يستعمله الحدادون من أجل إشعال النَّار في الحديد فهذا الكير، ومحل الدباغ هذا أو الحداد الذي يستعمل الكير. الحداد، يقال كُور، مكانه دكانه الذي يكون فيه عمله يسمى كُور. وقال: "كَالْكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا"؛ يعني: كما أن الكير السبب الأكبر في اشتعال النَّارالتي يقع بها التمييز ما بين الخبيث والطيب، ويبقى الحديد وينجلي الصدأ ويخرج الخبث، فلمَّا كان نسبة التمييز للكير لكونه السبب في اشتعال النَّار فشبَّه المدينة بالكير. قال: "تَنْفِي خَبَثَهَا" تنفي خبثها؛ ما تبرزه النَّار من الوسخ، وقال ذلك على سبيل التشبيه ﷺ.
"وَيَنْصَعُ طِيبُهَا"؛ يعني: يخلُص ويصف طيبها. ويروى: "طيّبها". وبذلك أيضًا قال بعض شرّاح الحديث: أنه يتضوَع طِيبها، فإن التضوّع والانتشار هو الذي يُذكر للرائحة والطيب. وكذلك يقال: طِيب الناصع، إذا خَلَصَت رائحته؛ يعني: يظهر شأن المخلص الطيب الصافي بصبره على لأواء المدينة ورغبته في مجالسة ومرافقة رسول الله ﷺ، ولا يرغب عن ذلك إلا لمَن فيه خبث من النِّفاق أو الكُفر أو إيثار الحياة الدُّنيا، فهو الذي يُنفى عن المدينة.
فنقَضَ هذا العهد وخرج من المدينة المُنوَّرة، والمدينة لا يبقى على شدّتها إلا من أخلص إيمانه. أما من خبثت سريرته؛ فإنها تنفيه كما ينفى الكير خبث الحديد.
وبحثوا هل هذا مختص ببعض الأحوال أو في زمنه؟ والذي ينبغي أن يرجح أن المراد أن لها في ذلك خصوصية، وأنها سواءً في حياته أو بعد وفاته ﷺ؛ تنفي خبثها. فعلى درجات في نفي ذلك الخبث مع بقاء أُناس سواءً من المُنافقين فيها وغيرهم ومن تسلّط أهل الزيغ والضلال قد يحصل ذلك، ولكن مع ذلك فلها خصوصية في أنها:
بل ويذكر حتى أن الأجساد لمَن كان خبيثًا لو قُبرت بالمدينة؛ حملت الملائكة جسده إلى خارج المدينة وإلى بقعة فيها أهل الخبث. وتبقى ويروى في حديث ضعيف سنده: المدينة بلدة الأخيار، ومن سكنها من الأشرار نُقل عنها ولو بعد الإقبار.
وهكذا تتميز الأماكن الشريفة الفاضلة، فإنه تتم رغبات أهل الخير فيها ويأنسون بها، ولا ينقلهم عنها الرغبة عنها ولا الكراهة لها، وإنما ينتقلون لأجل غرض صحيح:
إلى غير ذلك، كما حصل لكثيرين من خيار الصحابة، انتقلوا من المدينة لأجل الجهاد أولأجل التعليم أو لغير ذلك من المقاصد الشَّريفة كسيِّدنا أبي موسى، وسيِّدنا أبو الذر، وسيِّدنا حذيفة، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء وغيرهم كثير من الصحابة خرجوا من المدينة المُنوَّرة، لا كراهة لها ولا رغبةً عنها ولكن لأجل القيام بأمر رسول الله ﷺ في نشر الدين وتبليغه أو رعاية مصلحة من مصالح الإسلام.
فتبيّن أنه إنما يكون السوء واللوم والعتب على من خرج منها راغبًا عنها مؤثرًا عليها غيرها، فهذا الذي يحق فيه أنه من الخبث الذي تنفيه المدينة المُنوَّرة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وكذلك الأماكن المشرَّفة. وخصّص ﷺ المدينة بهذا الذكر بهذه الخصوصية أنها تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، فلا يبقى إلا ما كان خالص من الحديد، وينتفي ويخرج عنه شُوبه وصدئه كلّه.
وذكر لنا حديث: "أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله تعالى عنه- يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ"؛ أي: النزول بها والمُقام فيها. "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ"؛ أُمرت أن أنزل بها وأن أقيم فيها وأن أهاجر إليها؛ المدينة، "تَأْكُلُ الْقُرَى"؛ يعني:
وهذا من جملة استدلال من فضَّل المدينة على ما سواها. فإذا كانت مكَّة المُكرَّمة أمُّ القُرى، فهذه تأكل القرى! لا عاد يبقى للقُرى معها مطاولة ولا معاندة ولا مساواة لفضلها ولا لمكانها، "تَأْكُلُ الْقُرَى". ويأتي ضمن معاني ذلك:
إلى غير ذلك من المعاني التي حواها كلامه ﷺ.
"أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ"؛ أي: يسمونها "يَثْرِبُ"، وقيل بكراهة تسميتها بيثرب بعد أن سُميّت المدينة، وطيبة، وطابة، وبرّة، والدار إلى غير ذلك مما جاء في الكتاب والسُّنة (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ) [الحشر:9]، يقول: "يَقُولُونَ يَثْرِبُ"، وقيل: إنه اسم رجل، "وَهِيَ الْمَدِينَةُ"؛ يعني: اسمها الذي يليق بها المدينة كما سمَّاها صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم.
وفي القرآن حكاية عن المنافقين بتسميتها يثرب، (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ) وفي قراءة: (لَا مَقَامَ) (لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ) [الأحزاب:13]، فالذين كرهوا تسميتها بيثرب قالوا: إنما حكى الله قول المنافقين عنها، فهم الذين قال سمّوها يثرب. واستدلوا بما جاء من النهي عن تسميتها يثرب في عدد من الأحاديث، وجمع بينهم؛ بينما ورد في الحديث أيضًا وفي القرآن من تسميتها يثرب، وبين ما جاء من النهي عن ذلك أنه:
فالأمر فيه سعة ولكن نعم الرغبة عنها والاشمئزاز من ذكر فضلها والكراهة للإقامة فيها بعينها كل ذلك علامة النفاق لا شك.
ثم ذكر لنا حديثي عُرْوَةَ: "عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَدِينَةِ""؛ يعني: ممَن كان استوطنها "رَغْبَةً عَنْهَا"؛ هذا هو؛ يعني كراهة "رَغْبَةً عَنْهَا"؛ يعني: شيء كرهته وما أحببته، فرغبةً عن ثواب الساكن فيها؛ فهذا الذي يُعاب عليه ذلك أو يدل على نفاقه أو قصور إيمانه، إذا كان رغبة عنها لا لغرض آخر.
وهكذا.. "إِلاَّ أَبْدَلَهَا اللَّهُ"؛ أي: المدينة "خَيْراً مِنْهُ"؛ أي: يريد أن يبدلها الله مستوطنًا آخر يستوطنها خيرًا منه:
انتقل "رَغْبَةً عَنْهَا"، وقالوا: وهكذا من رغب عن جواره ﷺ أبدله الله خيرًا منه؛ والمعنى أن الله يختار للمواطن الصالحة مَن يحبهم، ومَن يريد أن يشرفهم وأن يرفع درجاتهم ويهيئ لهم المنزلة لديه.
قال: "سُفْيَانَ بْنِ أبِي زُهَيْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: تُفْتَحُ الْيَمَنُ"،
وافتُتحَت اليمن في أيامه ﷺ بالنسبة لافتتاح دخول الإسلام، وكذلك افتُتحَت الشَّام بعده -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وفيه عَلَم من أعلام نبوته -عليه الصَّلاة والسَّلام- أخبر بما وقع بعده على وفق ما أخبر، ففُتحَت اليمن ثم الشَّام ثم العراق.
يقول: "فَيَأْتِي قَوْمٌ"؛ يعني: من المدينة "يَبِسُّونَ" بأهلهم؛ يعني يسيرون (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) [الواقعة:5]؛ يعني: سارت، يبسون بأهليهم.
"فَيَتَحَمَّلُونَ" من المدينة "بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ" من النّاس، مَن يختص بهم من الأهل الذين يرحلون برحيلهم، ومَن أطاعهم من مَن لم يرحل برحيلهم من أصدقاءه وأصحابه. "وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"؛
"لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" ما فيها من الفضائل والخيرات والفوائد الدّينية والدُّنيوية؛ ما فارقوها ولا اختاروا عليها غيرها من البلاد. "وَتُفْتَحُ" بعد ذلك "الشَّامُ"؛ سُمّي ذلك شمال الكعبة، "فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ" من الناس "وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ" ولكل مسلم "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" ما فيها من البركات والخيرات.
"وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ" سفُل عن نجدٍ ودنا من البحر، أخذ من عراق القربة وهو الخرز الذي في أسفلها. "فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ" من النّاس الراحلين إلى العراق "وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
وبذلك استدل الإمام مالك، وردَّ كلام الأمير لما أراده أن يخرج معه، قال: أما خروج من المدينة فلا سبيل إليه، وقد قال ﷺ: "وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ". وأما حملك النّاس على الموطأ فلا سبيل إليه، فإن أصحاب الرسول ﷺ تفرّقوا في الأقطار ومع كل قومٍ علم، فما تحصر شريعته فيما وصل إليّ أنا وفيما انتهى إليه في المدينة المُنوَّرة بل علمه منتشر؛ وهذا وعي وفقه سيِّدنا الإمام مالك لحقيقة الشَّريعة وعظمتها وسعتها -رضي الله تعالى عنه-.
ويحمل بعضهم إلى أنه يحصل من الفتح في اليمن أو في الشام أو في العراق تيسير الأسباب الظاهرة وتحصيل المادة؛ فيخرج النَّاس -مع ضعف ذلك في المدينة- لهذا الغرض، هؤلاء الذين ذكرهم ﷺ أنه ما أخرجهم من المدينة إلا طلب الرفاهية والمعيشة وما إلى ذلك؛ فبهذا أنكرعليهم ﷺ وقال: "وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"؛ لأن الخارجين قليل بعد الفتوحات هذه، الذين خرجوا من المدينة قليل.
قال بعد ذلك: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَتُتْرَكَنَّ الْمَدِينَةُ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ"؛ يعني: من العمارة وكثرة الثمار وحسَّنها في الصَّحيحين "على خير ما كانت". وجاء في الرواية، "أعمر ما كانت". "حَتَّى يَدْخُلَ الْكَلْبُ أَوِ الذِّئْبُ" -يحتمل الشك- "فَيُغَذِّى عَلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ"؛ يعني: يرمي ببوله دُفعة دُفعة على بعض سواري المسجد، جمع سارية والأعمدة، "أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَنْ تَكُونُ الثِّمَارُ ذَلِكَ الزَّمَانَ؟" يعني: يحصل من الظروف والأحوال ما تكون المدينة به في عمارتها كاملةً، ويخرج النَّاس منها بعد ذلك لشيء مما هو حاصل من فتن آخر الزمان من حروب وغيرها وذلك عند قُرب الساعة، فإن المدينة آخر مدن أهل الإسلام خرابًا.
فقالوا لمن تكون الثمار هذه في أشجارها ولم يعد فيها ناس؟ "قَالَ: لِلْعَوَافِي" جمع عافية، وهي الحيوانات التي تطلب أقواتها. "لِلْعَوَافِي، الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ"؛ بيان للعوافي، فهو تفسير لقول العوافي؛ السِّباع والطير هم الذين يأكلون هذا الثمر الباقي في المدينة في ذلك الظرف وفي ذلك الوقت ولكن هذا ما يكون إلا في آخر الزمان، وعند قُرب السَّاعة، فيكون آخر خراب بلاد الإسلام المدينة المُنوَّرة. ولا يبقى إلا في أطراف الأرض كُفَّار، هم شرار من على ظهر الأرض تقوم عليهم السَّاعة. وجاءنا في الحديث: أنه يُقبِل راعيان نحو المدينة في آخر الزمان هذا، أنهم يخرّان على وجوههما من عند نفخ الصور، فيصعقون عند قيام السَّاعة.
ويقول: أنها يفارقها.. والحديث أيضًا في الصَّحيحين هذا ذكر خروج النَّاس ولكنها آخر بلاد الإسلام خرابًا. وجاءت في ذلك روايات منها:
وختم بحديث "عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ" يريد الشَّام، وقد كان أقام مدة بالمدينة المُنوَّرة، وقد بعثه أبوه إلى المدينة يتأدّب، فلمَّا توفي أبوه طلبه عبد الملك إلى دمشق، فلمَّا وُلِّي الوليد الخلافة أمره على المدينة وَليها من سنة ستة وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين.. عُزل، فقدم الشَّام، فلمَّا خرج من المدينة "الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَبَكَى" على فراقها سيّـدنا عُمَر بن عبد العزيز، "ثُمَّ قَالَ: يَا مُزَاحِمُ" -مولى كان له يمشي معه- "أَتَخْشَى"؛ أي: تخاف "أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ"؟؛ أن تنفي الخبث، هل أنا من خبث المدينة الذي نفته؟! خاف أن يكون ممَن نفت المدينة لكونه من الخبث، لا إله إلا الله!.. وهذه خشية الصالحين.
وهكذا يقول سيِّدنا الحسن البصري على النفاق: ما خافه إلا مؤمن ولا أمِنه إلا منافق. كان إبراهيم التيمي يقول: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذّبًا أو منافقًا. ولم يزل على هذا الحال أهل الخير يخافون على أنفسهم ويتهمونها، وهكذا كان بعض المشايخ الأخيار يخرج لحاجات دينية مهمة من وقت إلى وقت من تريم، فكان يقول: ما أظن يخرجني من تريم إلا معصية لأني عاصي أنا قلّيت الأدب فيها، كما قال سيِّدنا عمر بن عبد العزيز؛ خاف أن يكون أُخرِج من المدينة لأنه من الخبث التي تنفيه وليس بذلك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
رزقنا الله الصِّدق والإخلاص واليقين، وأدخلنا في عباده الصَّالحين، وجمعنا بسيد المُرسلين، ومزّق كل حجاب بيننا وبينه وحشرنا في زمرته، ورزقنا محبته ومحبة آله، ومحبة أصحابه، ومحبة سنته، ومحبة شريعته، ومحبة هديْه، ومحبة آثاره، ومحبة ما تعلق به كما يحب الله على الوجه الذي يرضاه في لطفٍ وعافية، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
26 جمادى الأول 1444