(374)
(607)
(535)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجامع، باب الدُّعَاءِ لِلْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا.
فجر الأحد 24 جمادى الأولى 1444هـ.
باب الدُّعَاءِ لِلْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا
2613 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّى عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّى أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ". ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ يَرَاهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ.
باب مَا جَاءَ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا
2614 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ الأَجْدَعِ، أَنْ يُحَنَّسَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ جَالِساً عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْفِتْنَةِ، فَأَتَتْهُ مَوْلاَةٌ لَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: إنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ. فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: اقْعُدِي لِكَاعُ، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ يَصْبِرُ عَلَى لأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ، إِلاَّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعاً أَوْ شَهِيداً يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
الحمد لله مكرمنا ببيان رسولِه ﷺ، وتوضيحه للمسلك الذي يُرضي الحق تبارك وتعالى في واضح سبيله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المجتبى، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأهل مودّته وقُربه، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فقد ميَّزَ الله تبارك وتعالى البقاعَ بما شاء، كما يشاء، والكل خلقه، والكل إيجاده، والكل ملكه، الأرض والسماوات وما فيهما وما بينهما، الكل خلق الله، والكل ملك الله، والكل إيجاد الحق تبارك وتعالى، ومع ذلك فقد ميَّز بعضها عن بعض، وفضَّلَ بعضها على بعض، وهكذا في الأزمنة، وهكذا في الأحوال، وهكذا في الصفات، وهكذا في الإنس، وهكذا في الجن، وهكذا في بقية المخلوقات، يفضُّلُ بعضها على بعض، وأفضل جميع الكائنات والمخلوقات رسل الله، ومع ذلك فضّل بعضهم على بعض، فقال: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة:253].
ومن ذلك على ظهر هذه الأرض، جعل أشرف البقاع كما تقدّم معنا مكة والمدينة وبيت المقدس، وميّّزَ الثلاثة المساجد في هذه البلدان بميزة لا يلحقها فضيلة مسجد غيرها، وهي الأحق بشدّ الرحال إليها كما جاءنا في حديث: "لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".
وبدأ الإمام مالك -عليه رضوان الله- في الموطأ يذكر في كتاب الفضائل: فضل المدينة المنورة ومكانتها، لكونها مهاجر رسوله ﷺ، وموطنه، ومدفنه، ومحل قبره ﷺ. وتقدّم معنا ذكر الحديث في الدعاء بالبركة في كَيلِها، في مُدِّها، وفي صاعها وأردفه بحديث أبي هريرة -رضي الله تبارك وتعالى عنه- أيضًا الذي رواه الإمام مسلم، كما رواه الإمام مالك في موطئه، يقول: "كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ" يعني: باكورة الثمر، أول ما تثمر النخلة وغيرها من الأشجار يأتون بأول الثمر هدية منهم لرسول الله ﷺ، وذلك لما وقر في قلوبهم من تعظيمه ومحبّته ﷺ، وما انطووا عليه من التبرك بدعائه وبنظره وبعنايته، فيأتون بباكورة ثمراتهم إلى يده الكريمة، ليسرّوه ﷺ بما أحدث الله من النعمة، وأتمّ لهم من هذا الخير، وبدُوُّ صلاح الثمر، ثم لينالوا بذلك دعائه، وينالوا بذلك رضاءه ﷺ، وينالوا بذلك بركته.
فكانوا كل من معه شيء من الشجر، وأكثره النخل في المدينة المنورة، أول ما تخرف نخلة أحدهم، فيأتي بباكورة ثمرتها يحمله إلى رسول الله ﷺ، "فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" جاء في بعض الروايات: "وضعه على وجهه"؛ إظهارًا للفرح والسرور بنعمة الله تبارك وتعالى في تكوين هذا الغذاء الذي يغذيهم به، وإكبارًا لفضل الله سبحانه وتعالى ومنَّتِه ورحمته. ويقول ﷺ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا"؛ بأن يبقى وينمو وينتفع الخلق به "وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا"، البلدة الطيبة الطاهرة يعني: في شؤونها وأحوالها، غير الثمر، في جميع أحوال المدينة، "وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا" جاء في رواية: "بركةً في بركة" وفي رواية الترمذي: "اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَكَ وَخَلِيلَكَ وَدَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالبَرَكَةِ، وَأَنَا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَدْعُوكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ مِثْلَ مَا بَارَكْتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَعَ البَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ".
يقول ﷺ: "وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ" عليه الصلاة والسلام "عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ"، وقال تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) [النساء:125]، "اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي -أيضًا- عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ" ما عاد ذكر الخليل، وهو خليل الرحمن، وهو حبيب الرحمن ﷺ، ذلك لما يقتضيه ذوقه وأدبه، فلا يذكر هذا عند ذكر إبراهيم، وما خُصَّ به من الخُلٍّة، وإن كان هو أعظم منه ولكن ما عاد يذكر خُلَّتَهُ أدبًا مع جده الخليل إبراهيم، على نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم، وقد عُهِدَ ذلك من هديه ﷺ، حتى أنه أراد أن يُمسك بعض عفاريت الجن في الليل، فيربطه بسارية من سواري المسجد، ويصبح أطفال المدينة يلعبون به، فتذكر قول سيدنا سليمان: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي) [ص:35]، وكان قد مُكِّنَ من الجن وحبْسِهم ومن تسخيرهم في الخدمة، فترك ذلك أدبًا منه ﷺ مع سيدنا سليمان، وكلهم آباؤه الكرام في بركته ومن ورائه، ولكنه كان أعظم الخلق أدبًا ﷺ، فلم يذكر هنا وأنا خليلك أيضًا، وذكر إبراهيم عليه السلام بالخُلة، (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا).
"وَإِنَّهُ"؛ يعني: إبراهيم "دَعَاكَ لِمَكَّةَ"، (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37] إلى غير ذلك. "وَإِنِّي أَدْعُوكَ" أطلب منك "لِلْمَدِينَةِ" وطني والمحل الذي أمرتني أهاجر إليه، "بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ". في لفظ البخاري: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفيّ ما جعلت بمكة من البركة". وذكرهم أو استئناس القائلين بتفضيل المدينة بمثل هذا الحديث لا غبار عليه، ولا مجال لقول من يقول: إنه ليس الدعاء بالبركة دليل الأفضلية، فقد دعا بالبركة للشام واليمن، فهل هي أفضل من مكة؟ نقول: دعا بالبركة للشام واليمن، دعا بالبركة في كثير من الناس وكثير من الأحوال إن لم يقارن في شيء مما دعا له بينه وبين مكة، إنما المدينة تكلم عنها وعن مكة وقارن بينهما، وطلب الزيادة وأمّا دعاؤه بالبركة في المحلات الأخرى ما ذكر مثل حق مكة ولا ما يقارب ولا أقل ولا أكثر، فما هناك غبار على الاستئناس والاستدلال بهذا الحديث على أفضلية المدينة على مكة المكرمة، لمن قال بذلك.
"وَمِثْلِهِ مَعَهُ"؛ من بركات دنيوية وأخروية حالّة في المدينة وفي مكة المكرمة، من مضاعفة الثواب للمصلين فيها، والعابدين فيها إلى غير ذلك، ممّا جاء في فضائلهما.
"ثُمَّ يَدْعُو" ﷺ، يعني: بعد أن يستلم الثمرة ويضعها على وجهه الكريم، ويدعو الله تعالى، ينادي "أَصْغَرَ وَلِيدٍ" أصغر واحد من الصبيان والأطفال الموجودين عنده، أصغر من يَحضر من الولدان، ويسلم له تلك الثمرة ليأكلها، إدخالاً للسرُور على قلوب الأطفال ولكونهم يرغبون في ذلك، ولكثرة تلطفه ﷺ يخصّ به ذلك الصغير، ليكون أقرب لرحمة الله تعالى لهم، ومضاعفة الخير في ثمرهم بتفريح ذاك الصبي، وهكذا كان دأبه، كلما جاء بباكورة ثمرة أخذها وضعها على وجه تعظيمًا لنعمة الله تعالى ولكونها حديثة عهدٍ بالتَكوين والإيجاد والتسوية، ثم ينظر أصغر من يحضر عنده من الأطفال فيعطيها لذلك الأصغر، ليأكلها، فيكون أطيب لقلبه.
وقد جاءنا في الخبر: أن في الجنة دارًا يقال له دار الفرح لا يدخله إلا من كان يفرح الصبيان، يدخل السرور على قلوب الصبيان والأولاد، ولهذا رأينا بعض مشايخنا يعتني بذلك، وكلما ذهب إلى منطقة ومكان استعد معه بما يحب الصبيان من الشوكليت والنعنع ويوزّع عليهم. وكذلك كان بعض سلف الأمة، حتى يمشي في الطريق ويجتمع عليه الصبيان إذا رأوه ويستعد لهم بما يفرّحهم، عملًا بالسُّنة الكريمة، ورجاء الدخول إلى ذلك الدار في الجنة الأبدية العظيمة.
يقول: "فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ"، ومعلومٌ في هديه ﷺ ملاطفته للصبيان ووضعه إياهم على حِجره الشريف حتى بالَ مَن بالَ منهم على حجره منهم، وملاطفته لهم وأخذه بِخواطرهم -صلوات ربي وسلامه عليه- وهو القائل ﷺ: "إني لأدخل في الصلاة أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفّف مما أعلم من شدة وجْد أمه به"، وهو كان يريد أن يطيل الصلاة، فيُخففها رحمةً لأجل أن تخرج الأم من الصلاة وتمسك طفلها هذا الذي يبكي، صلوات ربي وسلامه عليه.
ثم ذكر لنا "سُكْنَى الْمَدِينَةِ" المنورة زادها الله شرفًا وكرامة.
يقول القاضي عياض في (الشفا)، من إعظَامه واكباَره ﷺ: إعظام جميع أسبابه، وإكرام مَشاهده وأمكَنته من مكة والمدينة، ومعاهده وما لمسه ﷺ أو عُرف به، وهكذا…
وقد جاء عن سيدنا عبد الله بن عمر أنه يضع يده على مكان قعوده ﷺ من المنبر، ثم يضعها على وجهه.
وكان سيدنا الإمام مَالِكْ بن أنس صاحب الموطأ لا يركب دابّة بالمدينة، ويقول: أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله بحافر دابّة! وهكذا، لما قيل له أن واحد من الناس قال: تربة المدينة رديئة، أمر بضربه ثلاثين دُرّة، يضربونه ثلاثين ضربة، لإساءته الأدب، وأمر بأن يُحبس. وهكذا، كان الرجل من المعروفين بين الناس وله قدر، لكن أمر سيدنا المالك أن يضرب ثلاثين ضربة، وأن يُحبس لنطقِه بهذه الكلمات، لما فيها من إساءة الأدب مع رسول الله ﷺ، حتى قال: ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربةٌ دُفن فيها رسول الله ﷺ يزعم أنها غير طيبة! فهكذا شأن الإيمان.
جاء في الحديث الصحيح: "مَنْ أَحْدَثَ فيها" في المدينة "حَدَثًا"؛ يعني: عمل شرًا وسوءًا، وأظهر فيها شيء من المنكرات والمخالفات أو الإيذاء والضر، "مَنْ أَحْدَثَ فِيها حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ".
وهكذا، قالوا: إنه كان قضيبًا للنبي ﷺ مع سيدنا عثمان، فجاء واحد يقال له الجهجاه الغفاري، أخذ القضيب من سيدنا عثمان وتناوله يضعه على ركبته ليكسره فصاح به الناس، لِمَا في القلوب من تعظيم آثار رسول الله ﷺ، لأن القضيب لرسول الله ﷺ، فترك ذلك وسلّط الله على ركبته آكِلة تأخذه حتى قَطَعت ركبته ومات قبل مرور السنة عليه، من فعل ذلك الحادث. لا إله إلا الله…
وهكذا وأبو الفضل الجوهري لما قَرُب المدينة المنورة نزل عن دابته وترجّل ومشى يبكي وهو ينشد:
ولما رأينا رسْم من لم يدَع لنا *** فؤادًا لعرفان الرسوم ولا لُبّا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامةً *** لمن بانَ عنه أن نلمّ به ركبَا
لا إله إلا الله...
ولما ورد بعض أهل الخير والصلاح على المدينة المنورة، أنشد يقول:
رُفِعَ الحِجابُ لَنا فَلاحَ لِناظِرٍ *** قَمَرٌ تَقَطَّعُ دونَهُ الأَوهامُ
وَإِذا المَطِيُّ بِنا بَلَغنَ مُحَمَّداً *** فَظُهورُهُنَّ عَلى الرِجالِ حَرامُ
قَرَّبتنا مِن خَيرِ مَن وَطِئَ الثرى *** فَلَها عَلَينا حُرمَةٌ وَذِمامُ
وهكذا، قال القاضي عياض -عليه رحمة الله-: جدير بمواطن عمرت بالوحي والتنزيل، وتردد بها جبرئيل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجّت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر، مدارس آيات، ومساجد وصلوات، ومشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين، ومشاعر المسلمين ومواقف سيد المرسلين، ومتبوأ خاتم النبيين، حيث انفجرت النبوة، وأين فاض عبابها، ومواطن مهبط الرسالة، وأول أرض مسّ جلد المصطفى ترابها، أن تعظَّم عرصاتها، وتُتَنَسّم نفحاتها، وتُقبّل ربوعها وجدرانها.
يا دار خير المرسلين ومن به *** هدي الأنام وخص بالآيات
عندي لأجلكِ لوعة وصبابة *** وتشوّقٌ متوقّد الجمرات
وعليّ عهد إن ملأتُ محاجري *** من تلكم الجدرات والعرصات
لأعفرنّ مصون شيبي بينها *** من كثرة التقبيل والرشفات
لولا العوادي والأعادي زرتها *** أبداً ولو سحبًا على الوجنات
لكن سأهدي من حفيل تحيّتي *** لقطِين تلك الدار والحجرات
أزكى من المسك المفتّق نفحةً *** تغشاه بالآصال والبكرات
وتخصّه بِزواكي الصلوات *** ونَواميء التسليم والبركات
لا إله إلا الله… (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]، وإذا كان المكان بالمكين، فلا مكين أمكن من سيد المرسلين، صلوات ربي وسلامه عليه.
وقال الإمام الحداد:
ولمّا أتينا بالمناسك وانقضت *** وذلك فضلٌ من كريمٍ وقادر
حثثنا المطايا قاصدين زيارة الـحبيب رسول اللَه شمس الظهائر
فسِرنا بها نَطوي الفيافي محبةً *** وشوقاً إلى تلك القِباب الزوَاهر
فلمّا بلغنا طيبةً وربوعها *** شممنا شذىً يُزري بعرف العنابر
وأقبلت الأنوار من كل جانبٍ *** ولاح السّنا من خير كل المقابر
مع الفجر وافينا المدينة طاب من *** صباحٍ علينا بالسعادة سافر
إلى مسجد المختار ثم لروضةٍ *** بها من جِنان الخلد خير المصائر
إلى حُجرة الهادي البشير وقبره *** وثَمّ تقرّ العين من كل زائر
وقفنا وسلّمنا على خير مرسلٍ *** وخير نبيٍّ ما له من مناظر
فردّ علينا وهو حيٌّ وحاضرٌ *** فشُرِّفَ من حيٍّ كريمٍ وحاضر
زيارته فوزٌ ونُجحٌ ومَغنمٌ *** لأهل القلوب المخلصات الطواهر
بها يحصل المطلوب في الدين والدُّنى *** ويندفع المرهوب من كل ضائرِ
بها كل خيرٍ عاجلٍ ومؤجّلٍ *** يُنال بفضل اللَه فانهض وبادر
وإياك والتسويف والكسل الذي *** به يُبتلى كم من غبي وخاسر
فإنك لا تجزي نبيك يا فتى *** ولو جئته سعيًا على العين سائر
فبورك من قبرٍ حوى سيّد الورى *** وسَامى الذرى بحر البحور الزواخرِ
نبوّته كانت وآدم طينةٌ *** وفيه انتهت غاياتُ تلك الدوائر
هو السّاس وهو الرأس للأمر كّله *** بأوّلهم يُدعى لذاك وآخر
وتحت لواءه الرسل يمشون في غدٍ *** وناهيك من جاهٍ عريضٍ وباهر
قال:
وفيه عليه اللَه صلى ودائعٌ *** من السرّ لا تروى خلال الدفاتر
ولكنها مكتومةً ومصانةً *** لدى العارفين الأولياء الأكابر
وموروثةٌ مخصوصةٌ بضنائنٍ *** لربك من أهل التقى والسرائر
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم ذكر لنا حديث: "قَطَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ الأَجْدَعِ، أَنْ يُحَنَّسَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ جَالِساً عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْفِتْنَةِ"؛ يعني: أيام وقعت الفتنة أيام يزيد بن معاوية، احتلّ المدينة المنورة وقتل وسفك الدماء وانتهك الأعراض، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- "من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً" يقول ﷺ.
"فَأَتَتْهُ مَوْلاَةٌ لَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ" على ابن عمر "فَقَالَتْ: إنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ" يعني: تريد قلة الأقوات وضيق التصرّف بها من أجل الفتنة التي وقعت. لا إله إلا الله…
في رواية الترمذي يقول: أن مولاة ابن عمر أتته تقول: اشتدّ علينا الزمان نريد أن نخرج إلى العراق، قال: فهلا إلى الشام أرض المنشر، واصبري لكَاعُ؛ اصبري لكَاعُ ، يعني: يا لكَاعُ، يطلق هذا لكَاعُ على اللئيم والغبي. "اقْعُدِي لِكَاعُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ يَصْبِرُ عَلَى لأْوَائِهَا" يعني: الشدّة التي فيها، وشدّته نفسه عطف عليه ،"لاَ يَصْبِرُ عَلَى لأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ، إِلاَّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعاً أَوْ -قال- شَهِيداً يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ﷺ. وفيه معرفة القدر للأماكن المشرفة، والصبر على ما يكون فيها.
ثم ذكر بعد ذلك ما يحصل من أنها تنفي خبثها والعياذ بالله تبارك وتعالى.
رزقنا الله محبته ومحبة رسوله، ومحبة آثاره ومحبة ما يحب ومن يحب، ودفع عنا كل سوء أحاط به علمه في الدنيا والآخرة، وأصلح شؤوننا والمسلمين، وفرج كُروب الأمة أجمعين، وسرَّ قلب النبيِّ المصطفى وقرّ عينه بصلاح أمته واحوالها وإلى حضرة النبيِّ محمد ﷺ.
25 جمادى الأول 1444