(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، تتمة كتاب القسامة: باب الْقَسَامَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأ إلى آخر كتاب القسامة، ثم كتاب الجامع: باب الدُّعَاءِ لِلْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا.
فجر السبت 23 جمادى الأولى 1444هـ.
باب الْقَسَامَةِ فِي قَتْلِ الْخَطأ
2606 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الْقَسَامَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأ: يُقْسِمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الدَّمَ وَيَسْتَحِقُّونَهُ بِقَسَامَتِهِمْ، يَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِيناً، تَكُونُ عَلَى قَسْمِ مَوَارِيثِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الأَيْمَانِ كُسُورٌ إِذَا قُسِمَتْ بَيْنَهُمْ، نُظِرَ إِلَى الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ تِلْكَ الأَيْمَانِ إِذَا قُسِمَتْ، فَتُجْبَرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْيَمِينُ.
قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَرَثَةٌ إِلاَّ النِّسَاءُ، فَإِنَّهُنَّ يَحْلِفْنَ وَيَأْخُذْنَ الدِّيَةَ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ إِلاَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ، حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِيناً، وَأَخَذَ الدِّيَةَ، وَإِنَّمَا يَكُونَ ذَلِكَ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ، وَلاَ يَكُونُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ.
باب الْمِيرَاثِ فِي الْقَسَامَةِ
2608 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَبِلَ وُلاَةُ الدَّمِ الدِّيَةَ، فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، يَرِثُهَا بَنَاتُ الْمَيِّتِ وَأَخَوَاتُهُ، وَمَنْ يَرِثُهُ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُحْرِزِ النِّسَاءُ مِيرَاثَهُ، كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ دِيَتِهِ لأَوْلَى النَّاسِ بِمِيرَاثِهِ مَعَ النِّسَاءِ.
2609 - قَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَامَ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ الَّذِي يُقْتَلُ خَطَأً، يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْهَا وَأَصْحَابُهُ غَيَبٌ، لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الدِّيَةِ شَيْئاً قَلَّ وَلاَ كَثُرَ، دُونَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْقَسَامَةَ، يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِيناً اسْتَحَقَّ حِصَّتَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّمَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِخَمْسِينَ يَمِيناً، وَلاَ تَثْبُتُ الدِّيَةُ حَتَّى يَثْبُتَ الدَّمُ، فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَرَثَةِ أَحَدٌ حَلَفَ مِنَ الْخَمْسِينَ يَمِيناً بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ وَأَخَذَ حَقَّهُ، حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْوَرَثَةُ حُقُوقَهُمْ، إِنْ جَاءَ أَخٌ لأُمٍّ فَلَهُ السُّدُسُ، وَعَلَيْهِ مِنَ الْخَمْسِينَ يَمِيناً السُّدُسُ، فَمَنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ حَقَّهُ مِنَ الدِّيَةِ, وَمَنْ نَكَلَ بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِباً، أَوْ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، حَلَفَ الَّذِينَ حَضَرُوا خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ جَاءَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ بَلَغَ الصَّبِىُّ الْحُلُمَ، حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا، يَحْلِفُونَ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَعَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنْهَا.
قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.
باب الْقَسَامَةِ فِي الْعَبِيدِ
2610 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَبِيدِ: أَنَّهُ إِذَا أُصِيبَ الْعَبْدُ عَمْداً أَوْ خَطَأً، ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهُ بِشَاهِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ يَمِيناً وَاحِدَةً، ثُمَّ كَانَ لَهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ، وَلَيْسَ فِي الْعَبِيدِ قَسَامَةٌ، فِي عَمْدٍ وَلاَ خَطَإٍ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ذَلِكَ.
2611 - قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ قُتِلَ الْعَبْدُ عَمْداً أَوْ خَطَأً، لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ قَسَامَةٌ وَلاَ يَمِينٌ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ سَيِّدُهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ بِشَاهِدٍ، فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ.
قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.
كتاب الجامع: باب الدُّعَاءِ لِلْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا
2612 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ : حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ الأَنْصَاري، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَال: 'اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ". يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته وبيانها على لسان عبده وصفوته، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل قُربه ومحبّته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الله من بريّته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
سَرَد لنا من باب القسامة في قتل الخطأ، وما ذكر مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- أنّه: "يُقْسِمُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الدَّمَ، وَيَسْتَحِلونه بِقَسَامَتِهِمْ، يَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، تَكُونُ عَلَى قَسْمِ مَوَارِيثِهِمْ". وقد تقدَّم معنا أنّ القسامة -وهي حلف خمسين يمينًا من قِبَل من يستحقّ الدم-
وعلمنا أيضًا أنّه لا كسر في الأيمان -تقدّم معنا- وأنّه يحلفون على الورثة، تقدَّم الكلام معنا: هل يختص الحلف بالعَصَبة أو الورثة؟
وقلنا إن الإمام الشافعي قال: الورثة؛ جميع الذين يرثون هم الذين يحلفون على قدر حصصهم من الإرث. ومعلومٌ أنّه إذا وُزِّعت الأيمان الخمسون على الحصص فطلع نصف أو ربع يمين أو ثلث يمين عند واحد أنه يَكمُل، ما يتأتى ربع يمين ولا نصف يمين لابد من يمين كامل.
وهكذا جاءت أيضًا الرواية عند الحنابلة مثل الشافعية: أنّه تُقسَّم فيها الأيمان على الورثة، إن قَسَمت من غير كسر، مثل أن يُخَلِّف المقتول ابنين، كل واحد منهما يحلف خمسًا وعشرين، خمس وعشرون وخمس وعشرون صارت خمسين. وإن كانوا ثلاثة بنين حلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينًا؛ لأنّ تكميل الخمسين واجب، ولا يمكن تبعيض اليمين.
وهذا هو المعروف عند الإمام الشافعي، وقول أو رواية أخرى عند الإمام أحمد بن حنبل: يحلف كل واحد من المدّعين خمسين يمينًا، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا. ولكن المعتمد الذي عليه الجمهور غير ذلك: أنّ الخمسين يميناً تُوَزَّعُ عليهم.
كذلك ما جاء في مذهب الإمام مالك أنّه: إن كان موجوداً في الورثة الرجال أو في العَصَبة فهم الذين يحلفون.
"فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَرَثَةٌ إِلاَّ النِّسَاءُ، فَإِنَّهُنَّ يَحْلِفْنَ وَيَأْخُذْنَ الدِّيَةَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ إِلاَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ، حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَأَخَذَ الدِّيَةَ".
قال: "فِي قَتْلِ الْخَطَأ، وَلاَ تكُونُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ."؛ يعني: كما تقدّم معنا مذهب الإمام مالك: أنّه لا بد فيه من رجلٍ آخر مع رجل، فإذا كانا اثنين من الرجال فأكثر: يثبتُ في العمد القصاص عنده، وأمّا برجل واحد ولو حلف خمسين يمينًا فلا، أو بالنساء فلا، ولو حلفنَ خمسين يمينًا فلا. فلا بدّ من رجلين من أجل إثبات القصاص عند الإمام مالك.
وكذلك ذكر: "الْمِيرَاثِ فِي الْقَسَامَةِ"، "قَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَبِلَ وُلاَةُ الدَّمِ الدِّيَةَ، فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَلَى كِتَابِ اللهِ، يَرِثُهَا بَنَاتُ الْمَيِّتِ وَأَخَوَاتُهُ، وَمَنْ يَرِثُهُ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُحْرِزِ النِّسَاءُ مِيرَاثَهُ، كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ دِيَتِهِ لأَوْلَى النَّاسِ بِمِيرَاثِهِ مَعَ النِّسَاءِ"؛ يعني: من العصبة كما هو معلوم، أي: أنّ الدية التي تؤخذ بسبب القسامة تُقَسَّمُ كتقسيم التَّرِكَة. قال: وجاء عن الضحاك بن أشيم الكلابي أنّه قال: كتبَ إليَّ رسولُ اللَّهِ ﷺ "أن أُوَرِّثَ امرأةَ أشْيَمَ الضِّبابيِّ مِن ديَةِ زَوجِها." فيشترك فيها الرجال والنساء، وإن كان عند الإمام مالك لا تحلف النساء، ولكن الدّية إرثٌ يُقَسَّمُ بحسب حكم الإرث.
قال: "وَذَلِكَ أَنَّ الدَّمَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِخَمْسِينَ يَمِيناً، وَلاَ تَثْبُتُ الدِّيَةُ حَتَّى يَثْبُتَ الدَّمُ، فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَرَثَةِ أَحَدٌ حَلَفَ مِنَ الْخَمْسِينَ يَمِيناً بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ وَأَخَذَ حَقَّهُ، حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْوَرَثَةُ حُقُوقَهُمْ، إِنْ جَاءَ أَخٌ لأُمٍّ فَلَهُ السُّدُسُ، وَعَلَيْهِ مِنَ الْخَمْسِينَ يَمِيناً السُّدُسُ" سدسها.
"فَمَنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ حَقَّهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَمَنْ نَكَلَ بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِباً، أَوْ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغ الْحُلُمَ، حَلَفَ الَّذِينَ حَضَرُوا خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ جَاءَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ بَلَغَ الصَّبِىُّ الْحُلُمَ، حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا، يحْلِفُونَ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَعَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنْها".
"قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ" في ذلك، واختاره من جملة ما سمع ورجَّحه -عليه رحمة الله-.
ثمّ ذكر: "باب الْقَسَامَةِ فِي الْعَبِيدِ"، وقال: "إِذَا أُصِيبَ الْعَبْدُ عَمْداً أَوْ خَطَأً، ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهُ بِشَاهِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ يَمِيناً وَاحِدَةً، ثُمَّ كَانَ لَهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ، وَلَيْسَ فِي الْعَبِيدِ قَسَامَةٌ، فِي عَمْدٍ وَلاَ خَطَأٍ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ذَلِكَ" هذا مذهب الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. وقال غيره من الأئمة: إنّ القسامة تثبت أيضًا في حق العبد، فشُرِعَت القسامة فيه كقتل الحر المسلم. فالقسامة تكون فيما يوجب القَوَد. وإن كان قتل الحر للعبد على قولٍ لا يوجب القَوَد فإنه أيضًا تكون فيه القسامة.
يقول الإمام مالك: لا، إنّما إذا جاء شاهد واحد فحلفَ يمينه يمينًا واحدة سيّده مع ذلك استحقّ بذلك المال، أي: قيمة العبد. "وَلَيْسَ فِي الْعَبِيدِ قَسَامَةٌ، فِي عَمْدٍ وَلاَ خَطَأ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ذَلِكَ" بالقسامة.
"قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ قَتلَ الْعَبْدُ عَبْدًا عَمْدًا أَوْ خَطأً لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ قَسَامَةٌ وَلاَ يَمِينٌ"؛ أيمان القسامة، "وَلاَ يَسْتَحِقُّ سَيِّدُهُ ذَلِكَ" العبد، أي: قيمته "إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ" يعني: بشاهديَن عَدلَين "أَوْ بِشَاهِدٍ" واحد مع يمين، "فَيَحْلِفُ" السيّد مع يمينه. "قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ" في ذلك، يعني سمع أقوالاً أُخر، وهذا الذي رجّحه -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
بعد ختمه لهذا الكتاب ابتدأ في "كِتَابُ الْجَامِعِ"؛ وهو في مسائل مفرّقة؛ ليست متعلقة بظاهر أحكام الفقه، فجمع شتات ذلك وابتدأ في الفضائل، يذكر الفضائل، وابتدأ بالمدينة المنورة؛ لأنّها مهاجَره ﷺ ومصدر ابتثاث النور في المشارق والمغارب، في حياته الكريمة ﷺ، ثمّ بعد وفاته صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه.
وذكرَ الدعاء بالبركة لأهل المدينة، وأورد لنا الحديث: حديث أَنَسِ بن مَالِك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ"؛ أي: ما يُكَالُ في المدينة المنورة مشهودةٌ فيه البركة، ومعلومةٌ على بقية بقاع الأرض.
ولم يزل الناس إلى الآن من سكن منهم المدينة رأى أثر البركة في نفقته ونفقة أهله، ويُرى الفرق فيها واضحًا حتى بين من سكن مكة قبلها ثمّ سكن المدينة، -من باب أولى غير مكة- إذا انتقل إلى المدينة يجد البركة في النفقة واضحة، وأنّه يكفي الطعام فيها ما لا يكفي في غيرها من البلدان كلّها، فيُبارك فيها بدعائه صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله.
كما أنّ الدعاء في مكة من سيدنا إبراهيم في الماء واللحم، فبركة اللحم في مكة تختلف عن أي بقعة أخرى، حتى يقولون أن الجمع بين اللحم في الليل والنهار يضرّ غالبًا إلاّ في مكة، فما يظهر ضرره على أحد يتناوله؛ لدعاء سيدنا الخليل بالبركة لما جاء وقال لزوجة إسماعيل: ما طعامكم؟ قالت: اللحم والماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، بارك لهم في لحمهم ومائهم، فصار هناك بركة في الماء، وأعظمه ماء زمزم، ثمّ أيُّ ماء دخل مكة المكرمة يكون مباركًا، ثمّ في اللحم كذلك.
وأمّا فيما يُكَالُ ويوزن من الطعام بالمُدِّ والصَّاعِ؛ فإن بركته واضحة في المدينة المنورة، بدعوة سيدنا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
يقول: إنه ﷺ قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ. يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ". والحديث أيضًا مُخَرَّج في البخاري وفي مسلم وغيرهما في فضل المدينة المنورة.
ومعلومٌ دعاؤه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بالبركة في المدينة المنورة، التي كانت تُسمّى "يثرب" فسمّاها النّبي "المدينة" و"طيبة"، وصارت محل الشفاء والعافية بعد أن كانت محل الوخم، ومحلاً لا يَنزِل به أحد إلاّ مَرِض، فتحوّلت إلى دار شفاءٍ وعافية ببركته ﷺ.
قال: "أُمرتُ بقريةٍ تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد". وجاء في الخبر النهي عن تسمية يثرب، والمراد لمن أراد أن يتجاهل الأسماء المشرّفة من مثل "المدينة" و"طَيْبة"، أو أراد الانتقاص منها، فهو الذي عليه أن يستغفر، "من سمّى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة، هي طابة" يقول ﷺ فيما أخرجه الإمام أحمد.
وبلَّغوا أسماءها إلى الأربعين وزيادة.
فتقع بين حرّتين، إحداهما:
يحيط بها:
وهي تبعد عن مكة نحو عشر مراحل.
ففيها جاءت الأحاديث الكثيرة عنه ﷺ وكان انتشار الإسلام على يده ﷺ منها في العالم، وذكر لنا مضاعفة البركة فيها.
وأخذ منه بعضهم أنّ البركة تُضاعَف في المدينة على مكة ستّة أضعاف؛ قال: لأنّ ضعفي ما بمكة اثنان، "مع البركة بركتين"؛ يعني: مع كل واحد من الاثنين بركتين، فصارت ثلاثة وثلاثة، فصارت ستّة أضعاف.
"اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة"؛ اثنين صارت، "واجعل مع البركة"؛ أي: مع كل واحدة من البركة "بركتين" فصارت بركتين مع هذه ثلاث، وبركتين مع هذه ثلاث، ثلاث وثلاث ست بركات، ست بركات تفوق بها المدينةُ مكةَ المكرمة.
وهكذا، أمّا من جهة الأفضل فالخلاف قائم بين الصحابة ومن بعدهم بين تفضيل مكة على المدينة أو المدينة على مكة المكرمة.
وعلى كل حال لم يقم بين الصحابة فمن بعدهم خلافٌ في أفضلية بلدةٍ على مكة والمدينة أصلاً، وإنّما الخلاف بين مكة والمدينة. ثمّ بعد ذلك:
الذين قالوا بتفضيل مكة استثنوا بقعة قبره ﷺ وقالوا: إنّ مكة أفضل إلاّ من البقعة التي ضمَّت أعضاء زين الوجود، فهي أفضل من كل بقعةٍ في الأرض والسماء؛ لأنّه سكن فيها جسد الأسمى الأحب إلى الله على الإطلاق.
فإذا كانت الأماكن بالمكين، والمواطن بساكنيها؛ فما يوجد في السماء ولا في الأرض أشرف ولا أكرم على الله من هذا المصطفى محمد وجسده، فالبقعة التي ضمَّت جسده لا يساويها أرضٌ ولا سماء، ولا كرسي ولا عرش ولا شيء، ما دام جسده فيها فهي أفضل تلك البقاع، وإن كان من بقاع الأرض ما يُنقَل إلى الجنة في القيامة فهذه أشرف البقاع على الإطلاق، ونقلها إلى أعلى الفردوس الأعلى.
والذين قالوا بتفضيل المدينة على مكة استثنوا -بعد قبره ﷺ- استثنوا من الفضل على مكة مكان الكعبة، قالوا: إنّ بقية المدينة غير محل قبره، الكعبة وموطنها أفضل منها، وأمّا بقية أجزاء البلد فالمدينة أفضل من مكة المكرمة في غير بقعة الكعبة.
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ورزقنا محبته ﷺ ومحبة بلاده، ومحبة سُنّته، ومحبة شريعته، ومحبة آل بيته، ومحبة صحابته، ومحبة أمته، ومحبة ما يُحب ومن يُحب، وأدخلنا الله في دائرته، وحشرنا في زمرته، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وكأن أوقات ستأتي كما جاء في الصحيحين وغيرهما، يقول: "تُفتَحُ اليمن، فيأتي قوم يُبسُّون فيتحمّلون بأهليهِم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون. وتُفتح الشام، فيأتي قوم يُبسُّون فيتحمّلون بأهليهِم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون. وتُفتح العراق، فيأتي قوم يُبسّون فيتحمّلون بأهلهِم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون".
ثمّ إنّها قد يُهاجِر عنها من سكنها من أجل العيش والرفاهية، وهذا الذي أشار إليه ﷺ وهؤلاء: "المدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون". ثمّ إنّها آخر بلاد الله خرابًا.. آخر المدن خرابًا، ومع ذلك يأتي عليها أيّام ليس فيها إلاّ الوحوش، سوف تبقى وليس فيها أحد؛ لأنّها محمية من الكفار والذين تقوم عليهم الساعة فيكونون خارجها، فتقوم عليهم الساعة وهم شرار خلق الله -سبحانه وتعالى-.
صلى الله على زين الوجود محمد ﷺ.
وينبغي أيضًا ما كان من طعام عند الإنسان بالمدينة أن يكيله، ويمرّ به على المُدِّ وعلى الصَّاعِ وعلى أنواع المكيال، فيُبارَك له فيه؛ لأنّ المراد بالبركة في المُدِّ والصاع: ما يُكال فيه، لا هو نفسه.. بارك لهم في مدّهم؛ ما معنى مدّهم؟ يعني: مقدار المد الذي يكيلونه بالمدّ، الطعام الذي يضعونه لا المدّ نفسه! البركة ليست في نفس المدّ، البركة فيما يوضع في المدّ من الطعام "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ" يعني: ما يُكال صاعًا وما يُكال مُدًّا هو الذي يُبارَك فيه من أنواع الطعام.
بارك الله لنا بنبيّنا وفي صلتنا به، وفي إيماننا به، وفي متابعتنا له، بركةً تامةً متضاعفةً متناميةً أبدية، في لطفٍ وعافية، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
24 جمادى الأول 1444