(535)
(604)
(339)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، تكملة كتاب العقول، باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ السَّائِبَةِ وَجِنَايَتَهِ، وكتاب القسامة، باب تَبْدَئِةِ أَهْلِ الدَّمِ فِي الْقَسَامَةِ.
فجر الثلاثاء 19 جمادى الأولى 1444هـ.
كتاب العقول: باب مَا جَاءَ فِي دِيَةِ السَّائِبَةِ وَجِنَايَتَهِ
2594 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ. عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ سَائِبَةً أَعْتَقَهُ بَعْضُ الْحُجَّاجِ، فَقَتَلَ ابْنَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَائِذٍ، فَجَاءَ الْعَائِذِيُّ أَبُو الْمَقْتُولِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَطْلُبُ دِيَةَ ابْنِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لاَ دِيَةَ لَهُ.
فَقَالَ الْعَائِذِيُّ: أَرَأَيْتَ لَوْ قَتَلَهُ ابْنِي؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِذَنْ تُخْرِجُونَ دِيَتَهُ.
فَقَالَ الْعَائِذِىُّ: هُوَ إِذًا كَالأَرْقَمِ، إِنْ يُتْرَكْ يَلْقَمْ، وَإِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ.
كتاب القسامة: باب تَبْدَئِةِ أَهْلِ الدَّمِ فِي الْقَسَامَةِ
2595 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. فَأَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كَبِّرْ كَبِّرْ" يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ". فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ". فَقَالُوا: لاَ. قَالَ : "أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ"، قَالُوا : لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ. فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِئَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ. قَالَ سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ..
قَالَ مَالِكٌ: الْفَقِيرُ هُوَ الْبِئْرُ.
2596 - قَالَ يَحْيَى: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ, أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الأَنْصَارِيَّ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا فِي حَوَائِجِهِمَا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَقَدِمَ مُحَيِّصَةُ، فَأَتَى هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَتَكَلَّمَ لِمَكَانِهِ مِنْ أَخِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كَبِّرْ كَبِّرْ". فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ، فَذَكَرَا شَأْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِيناً وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلِكُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَحْضُرْ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِيناً". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ. قَالَ يَحْيَى: بْنُ سَعِيدٍ، فَزَعَمَ بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ.
2597 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعْتُ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ، وَالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ: أَنْ يَبْدَأَ بِالأَيْمَانِ الْمُدَّعُونَ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُونَ، وَأَنَّ الْقَسَامَةَ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ، أَوْ يَأْتِيَ وُلاَةُ الدَّمِ بِلَوْثٍ مِنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَاطِعَةً عَلَى الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّمُ، فَهَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ لِلْمُدَّعِينَ الدَّمَ عَلَى مَنِ ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ، وَلاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عِنْدَنَا إِلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
2598 - قَالَ مَالِكٌ: وَتِلْكَ السُّنَّةُ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَالَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ: أَنَّ الْمُبَدَّئِينَ بِالْقَسَامَةِ أَهْلُ الدَّمِ، وَالَّذِينَ يَدَّعُونَهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ بَدَّأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْحَارِثِيِّينَ فِي قَتْلِ صَاحِبِهِمُ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ.
2599 - قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعُونَ اسْتَحَقُّوا دَمَ صَاحِبِهِمْ وَقَتَلُوا مَنْ حَلَفُوا عَلَيْهِ، وَلاَ يُقْتَلُ فِي الْقَسَامَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ، لاَ يُقْتَلُ فِيهَا اثْنَانِ، يَحْلِفُ مِنْ وُلاَةِ الدَّمِ خَمْسُونَ رَجُلاً خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ أَوْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ رُدَّتِ الأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ، إِلاَّ أَنْ يَنْكُلَ أَحَدٌ مِنْ وُلاَةِ الْمَقْتُولِ، وُلاَةِ الدَّمِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ عَنْهُ، فَإِنْ نَكَلَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ، فَلاَ سَبِيلَ إِلَى الدَّمِ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا تُرَدُّ الأَيْمَانُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ عَفْوٌ، فَإِنْ نَكَلَ أَحَدٌ مِنْ وُلاَةِ الدَّمِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ عَنِ الدَّمِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِداً، فَإِنَّ الأَيْمَانَ لاَ تُرَدُّ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ وُلاَةِ الدَّمِ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ الأَيْمَانِ، وَلَكِنِ الأَيْمَانُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَيَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلاً خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسِينَ رَجُلاً رُدَّتِ الأَيْمَانُ عَلَى مَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ إِلاَّ الَّذِي ادُّعِىَ عَلَيْهِ، حَلَفَ هُوَ خَمْسِينَ يَمِيناً وَبَرِئَ.
2600 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا فُرِقَ بَيْنَ الْقَسَامَةِ فِي الدَّمِ وَالأَيْمَانِ فِي الْحُقُوقِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَايَنَ الرَّجُلَ اسْتَثْبَتَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ الرَّجُلِ لَمْ يَقْتُلْهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُ الْخَلْوَةَ. قَالَ: فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقَسَامَةُ إِلاَّ فِيمَا تَثْبُتُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَوْ عُمِلَ فِيهَا كَمَا يُعْمَلُ فِي الْحُقُوقِ هَلَكَتِ الدِّمَاءُ، وَاجْتَرَأَ النَّاسُ عَلَيْهَا إِذَا عَرَفُوا الْقَضَاءَ فِيهَا، وَلَكِنْ إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ إِلَى وُلاَةِ الْمَقْتُولِ، يُبَدَّؤُونَ بِهَا فِيهَا، لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنِ الدَّمِ، وَلِيَحْذَرَ الْقَاتِلُ أَنْ يُؤْخَذَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ.
2601 - قَالَ يَحْيَى: وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يَكُونُ لَهُمُ الْعَدَدُ، يُتَّهَمُونَ بِالدَّمِ, فَيَرُدُّ وُلاَةُ الْمَقْتُولِ الأَيْمَانَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ نَفَرٌ لَهُمْ عَدَدٌ: أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِيناً، وَلاَ تُقْطَعُ الأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ عَدَدِهِمْ، وَلاَ يَبْرَؤُونَ دُونَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِيناً. قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ.
2602 - قَالَ: وَالْقَسَامَةُ تَصِيرُ إِلَى عَصَبَةِ الْمَقْتُولِ، وَهُمْ وُلاَةُ الدَّمِ الَّذِينَ يَقْسِمُونَ عَلَيْهِ، وَالَّذِينَ يُقْتَلُ بِقَسَامَتِهِمْ.
الحمد لله مكرمنا بالشريعة، وبيانها على لسان عبده وحبيبه مُحمَّدٍ الذي جمع فيه الحُسنَ جميعه، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن اتبعه فارتقى بالاقتداء به إلى المراتب الرفيعة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، مَن جعلهم الله تعالى للخلائق الحصون المنيعة، وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميعِ عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، يا مجيبًا للدعاء يا سميعه.
وبعدُ،
فيواصل الإمام مالك ذكرَ الأحكام المتعلقة بالدية، ويذكر القَسامة. وقال: "دِيَةُ السَّائبةِ وجِنايَتُه"، والسائبةُ: هو المملوك الذي أَعتقَه سيدُه على أن لا وَلاءَ له، أي لا ولاء للمُعتِقِ عليه، وهذا عند أبي حنيفة والشافعي، وأيضًا روايةً عن الإمام أحمد: أنه يَثبتُ ويبقى ولاؤُه للمُعتِق، ويَبطلُ هذا الشرط، ولا اعتبار له.
قال: "عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ سَائِبَةً أَعْتَقَهُ بَعْضُ الْحُجَّاجِ، فَقَتَلَ" هذا الذي أُعتِقْ على أن لا ولاءَ لمُعتقِه "ابْنَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَائِذٍ" اعتدى عليه، جاء في لفظ البيهقي: أنَّه قَدِمَ عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- بمكة وهو خليفة، فرُفع اليه رجلٌ أعتقَ سائبةً، أصاب ابناً للسائب بن عائد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله خطأً، فطلب السائبُ من عمر بن الخطاب ديةَ ابنه، قال عمر بن الخطاب: إن كان له مالٌ ودى ابنَك من ماله بالغاً ما بلغ، قال السائب :فإن لم يكن له مالٌ؟ قال عمر: فلا شيءَ لك، قال أفرأيتَ لو أصبناه خطأً، قال: إذاً؛ والله تَعقِلُه، قال السائب: فإن قُتِل عُقِلَ وإن قَتَل لم يـُعقل؟ قال عمر رضي الله عنه: نعم. قال السائب: "إذًا كالأرقم، إن يُترَك يَلقَمْ"؛ يعني: يقتل، "وإن يُقتَل يَنْقَمْ"، أي: يجد صاحبه من ينقم عليه، فقال عمر: فهو والله ذلك.
"قَتَلَ ابْنَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَائِذٍ، فَجَاءَه الْعَائِذِيُّ أَبُو الْمَقْتُولِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَطْلُبُ فيه دِيَةَ ابْنِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لاَ دِيَةَ لَهُ". كيف لا دية له؟ لأن الديةَ تلزمُ العاقلة، وهذا ما له عاقلة. ومذهب مالك أنَّ مَن لا قومَ له، يَعقِلُ عنه المسلمون، ويرثون عقلَه، يقول: "فَقَالَ عُمَرُ: لاَ دِيَةَ لَهُ"؛ يعني: ما هناك عاقلةٌ يسلمون عنه، "فَقَالَ الْعَائِذِيُّ: أَرَأَيْتَ لَوْ قَتَلَهُ ابْنِي ؟" أي: خطأً، "فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب: إِذَنْ تُخْرِجُونَ دِيَتَهُ".
يعني: يجب العقلُ على عاقلتِكم "فَقَالَ الْعَائِذِىُّ: هُوَ إِذًا كَالأَرْقَمِ،" يعني: حيةٌ فيها بياض وسواد، أو قيل التي فيها حمرة وسواد، كأنه رُقِمْ عليها ونُقِش، يقال لها الأرقم هذه الحية. "إِنْ يُتْرَكْ يَلْقَمْ،" يَلْقَمْ، يعني: يجعلك لقمة، "وَإِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ" أو يَنقِم: تجد من ينقِمُكَ عليه، يعني: إن تركتَ قتْله قتلَكَ، وإن قتلتَهُ كان له من ينتقمُ منك، -مثلٌ من أمثال العرب مشهور-، كانوا في الجاهلية يزعمون أن الجن تطلبُ ثأر الجن، والحيةُ الأرقم هذه من الجن، فربما مات قاتلُها، وربما أصابَه خللٌ، فتكلموا بالكلام الذي كان يُعتاد ويُعْهَد بينهم. والخلاصة قال: الحكمُ هو هذا، ما له الآن عاقلةً يعقلون، ولو قتلَه ابنُكَ نقول لك سلِّم ديته.
ثم ذكر: كتابُ القَسَامَةِ ؛ الْقَسَامَةِ: مأخوذة من القَسَم وهو اليمين، فتُطلَق على الأيْمان، وتُقسَم على أولياء القتيل إذا ادَّعوُا الدَّم، وتُطلق الْقَسَامَةُ على الهُدنة.
فهو عند الأئمة الثلاثة: إذا وُجِدَ لَوَثٌ، اي علامةٌ تدلُّ على القتل، وَوُجِدَ الرجلُ قتيلًا، فيَحقُّ لأولياء الدم أن يحلفوا أيمان، خمسين يمينًا على أنه قتَلَهُ هؤلاء، فتثبتُ الديةُ عليهم، بوجود هذه القسامة. والقسامة: أصلٌ في الشريعة وأخَذَ بها عامة العلماء، واختلفوا في كيفية الأخذ.
يقول: "باب تَبْدَئِةِ أَهْلِ الدَّمِ فِي الْقَسَامَةِ"، فلا تجبُ القسامة إلا بِشُبهة، والتي يقال لها اللَّوَث، وما هي الشُبهة؟
إذا وُجِدْ قتيلٌ في موضعٍ، فادّعى أولياؤُه قتْلهُ على رجلٍ أو جماعة، فإذا لم تكن بينهم عداوةٌ ولا لوَثٌ، ليس هناك شبهة، يعني ما بينهم شرٌ ولا مطالباتٌ بأحقاد، فهي كسائرِ الدعاوى:
هكذا يقول الحنابلة، ومثلهم الإمام مالك والشافعي.
قال أبو حنيفة: إذا ادعى أولياؤه قتلَه على أهل المحلَّة، أو على شخصٍ معين، فللوليِّ أن يختار من الموضع خمسين رجلاً، يحلفون خمسين يمينًا: والله ما قتلناه ولا علمنا قاتله، ويَبرؤون بذلك. فهذه القَسامة عند الحنفية، فإن لم يحلفوا حُبِسوا حتى يحلفوا أو يُقرُّوا. واستدل الحنفية: أنَّ رجلاً وُجِدْ قتيلاً بين حَيَّيْنِ، فحلَّفَهُ سيدُنا عمر خمسين يمينًا، وقضى بالدية على أقرَبِها، يعني على أقرب الحَيَّيْنِ، قالوا: ما وَقَتْ أيمانُنا أموالَنا، ولا أموالُنا أيمانَنا؟
فقال عمرُ -رضي الله عنه-: حقَنْتُمْ بأموالكم دماءَكم، حقَنْتُمْ بأموالكم، يعني: ما عاد أقمنا عليكم حدًّا، ما أقمنا من قصاص، وإنما أخذنا الدِّية بسبب الأَيمان، لولا الأيَمان التي حلفتموها لقتلناكم، يقول رضي الله تعالى عنه.
وهي عند الشافعية كذلك، لا يَثبتُ بها القصاص، وإنما تثبت بها الدية، ولكنها عند المالكية والحنابلة إذا ثبتت، ثبَت بها القصاصُ، فيقتصّون.
يقول: "عَنْ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ، أَنَّهُ" حثمة "أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ" أخبروا سهل، "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ" بن زيد بن كعب الأنصاري "وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا" يعني: عبد الله ومحيصة، يمتارون تمرًا "إِلَى خَيْبَرَ " يعني: خرجوا إلى خيبر في زمن رسول الله ﷺ، وهي يومئذٍ صلحٌ، وأهلها يهود،"مِنْ جَهْدٍ" يعني: فقرٍ شديدٍ أصابهم؛ جَهْدٍ، "مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ" في لفظٍ من جهدٍ أصابهما،"فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ" دخلوا وتفرقوا في النخل، يشترون أو يأخذون تمر، "فَأُخْبِرَ" محيصة "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرِ بِئْرٍ" أي: حفير، بئر محفور "بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى" محيصة "يَهُودَ" بعدها "فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ." من قتله؟ خرجنا لعندكم ما بنا شيء، وحصلنا الرجل في أرضكم مقتول، أنتم قتلتموه، "فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. فَأَقْبَلَ" على قومه محيصة راح حتى قدم على قومه "فذكر لهم ذلك"، قالوا: نذهب عند النبي ﷺ "ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ،" حويصة كان أكبر" وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ،" "وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ،" بن سهلِ بن كعب، -أخو المقتول هذا-، يطلب دم أخيه، جاءوا إلى عند النبي ﷺ فأراد أن يتكلم، وهو أصغرُ القوم، "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَبِّرْ كَبِّرْ"؛ ي: دع الكبير يتكلم أولاً، "فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ" مع المقتول سهل، "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَبِّرْ كَبِّرْ"؛ يعني: "يُرِيدُ السِّنَّ" إرشادًا إلى الأدب في تقديم الأسن، فالمشتركون في الدعوى وغيرُها، أكبرهم أولى ببدء الكلام، إذا سُمِعَ منهُ، تكلَّم الأصغرُ فيُسمَعْ منهُ إن احتيجَ له، فإن كان فيهم من له بيانٌ، ولتقديمه وجه، فلا بأس بتقديمه، وإن كان أصغر.
وهكذا كما جاء وفد العراق إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز، لما تولى، فإذا بشابٍ منهم يريدُ الكلام، فقال عمر: كَبِّروا، كَبِّروا. قال الفتى: يا أمير المؤمنين، إن الأمر ليس بالسن، -وهم كانوا قد قدَّموا هذا الشاب وهو فصيح-، ولو كان كذلك لكان في المسلمين من هو أسنُّ منك، ويكون أولى بالولاية منك، قال: صدقت، تكلَّم رحمك الله.
وجاء في صحيح البخاري: "باب إكرام الكبير، ويبدأ الأكبرُ بالكلام والسؤال"، وخرّج هذا الحديث، وذكر حديثَ ابن عمر، لما سألَهم ﷺ عن شجرةٍ تشبه المسلم، لا يسقطُ ورقُها، فخاضوا في شجر البوادي، وسيدنا عبدالله بن عمر لما كان صغير السن وقع في قلبه أنها النخلة ولم يتكلم، احترامًا للكبار الموجودين، وقال ﷺ: إنها النخلة. ثم أخبر عبدالله بن عمر والده أنه عرفها، قال: لو تكلمتَ كان أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، يعني: ذكرتَ ما عندك ففرح منك النبي ﷺ، لكان ذلك أحسن لي، قال: ما منعني أتكلم إلا أن في المجلس أبو بكر وعمر وكبار من الصحابة، وهو كان صغير السن.
"فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ" الذي هو أسن، "ثُمَّ تَكَلَّمَ" بعده "مُحَيِّصَةُ"، الذي حضر خيبر أكمل القصة، فتكلم حويصة بجملة الأمر، ثم تكلم محيصة يفصل لأنه حضر، وفي رواية لمسلم: "فصمت عبدالرحمن وتكلم صاحباه"، ثم تكلم معهما فذكرا مقتلَ عبدالله بن سهل، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ"؛ يعني: يسلموا الدية يعني: يعطوا اليهود ديةَ صاحبكم، "وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ"، من الله ورسوله؛ يعني: إما أن يخضعوا للأمر، وإما أن يُعلنوا أنهم خارجين عن الاستسلام لأمرنا، فيؤذَنَوا بالحرب.
فلم يذكر ﷺ القصاص، وبهذا استدلَّ الشافعية على أنه ما قال لهم سنقتل واحد منكم، ولكن قال لهم "يَدُوا صَاحِبَكُمْ،" ذكر الدية، أو يؤذَنوا بحرب. "فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ"؛ يعني: بكتابه إلى اليهود في ذلك الأمر الذي بلغه، من قتل عبدالله بن سهل، "فَكَتَبُوا "اليهود "إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ"ولا علمنا قاتله، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ" الذين كانوا جاءوا إلى عنده، "أَتَحْلِفُونَ" بالله سبحانه وتعالى أيمان أنهم قتلوه؟ عَرضَ اليمين على الثلاثة، "أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ" يعني: بدل الدم وهو الدية.
وفهمت في مذهب مالك وأحمد أنه: يلزم القصاص، لكن إذا تعيّن القاتل.
يقول: لما عرض عليهم أن يَحلفوا، وكانوا أتقياء ورعين، "فَقَالُوا:" يا رسول الله "لا "، لا نحلف، تنزُّهًا منهم، قالوا يا رسول الله لم نشهد ولم نحضر، ولكن علامة تدل عليه، مَن سيقتله هذا في محلهم إلا هم؟ لكننا ما رأينا شيئاً، فلا نحلف وما نقدر أن نحلف، أمرٌ لم نره يا رسول الله، ما رأينا بعيوننا، فخافوا بينهم وبين الله تبارك وتعالى.
"قَالَ: أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ"؛ يعني: يحلفون أنهم ما قتلوا؟ "قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ"؛ يعني: ما يخافون من الأيمان، يعني ما نرضى بأيمانهم، بيحلفون حتى مئة يمينٍ، كيف ناخذ بأيمان قومٍ كفار؟ وفي رواية: قالوا: ما يبالون أن يقتلوننا جميعا ثم يحلفون!
"فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" يعني: أعطى ديتَه "مِنْ عِنْدِهِ"؛ من إبل الصدقة، كما جاء في الصحيحين، من بيت مال المسلمين، أعطاهم ديته حسمًا للباب، واستيعابًا للقضية، فلا يحصل شرخٌ جديدٌ في الصلح بينه وبين يهود، ويرجعون إلى قتالٍ آخر، أرسل لهم الديةَ من عنده ﷺ، وحسم القضية. "فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِئَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ." يقول سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ: "لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ" ويقول ما أنسى منها ناقةً بَكرة منها حمراء، ضربتني وأنا أحوزها، يذكر هذه التفاصيل في الوقائع، ليبيِّن أنه مُشاهِدٌ ومُستحضرٌ للواقعة تمامًا.
"قَالَ مَالِكٌ: الْفَقِيرُ هُوَ الْبِئْرُ."؛ يعني: حفرة البئر وضعوه فيها.
ثم ذكر: "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ, أَنَّهُ أَخْبَرَهُ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الأَنْصَارِيَّ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا فِي حَوَائِجِهِمَا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَقَدِمَ مُحَيِّصَةُ، فَأَتَى هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَتَكَلَّمَ" أخو القتيل "لِمَكَانِهِ مِنْ أَخِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كَبِّرْ كَبِّرْ" فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ، فَذَكَرَا شَأْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِيناً، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَوْ قَاتِلِكُمْ"؛ يعني: يثبت حقُكم "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَحْضُرْ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ"؛ يعني: بحَلِفهم لكم "بِخَمْسِينَ يَمِيناً"؟ "فَقَالُوا؛ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ". قَالَ يَحْيَى: بْنُ سَعِيدٍ، فَزَعَمَ بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ."
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعْتُ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ، وَالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ: أَنْ يَبْدَأَ بِالأَيْمَانِ الْمُدَّعُونَ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُونَ،" وعليه الأئمة الثلاثة، "وَأَنَّ الْقَسَامَةَ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
"فَهَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ لِلْمُدَّعِينَ الدَّمَ عَلَى مَنِ ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ، وَلاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عِنْدَنَا إِلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ".
"قَالَ مَالِكٌ: وَتِلْكَ السُّنَّةُ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَالَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ: أَنَّ الْمُبَدَّئِينَ بِالْقَسَامَةِ أَهْلُ الدَّمِ"، وهذا مذهب أبو حنيفة. وقال الشافعي والإمام أحمد: البينةُ على المدعي واليمين على من أنكر.
أخذ بهذا أبو حنيفة. الشافعي وأحمد قالوا: في القسامة أمرٌ مخصوص وهو أن يبدأ بالحلف أولياءُ المقتول، فإذا كان هناك لوَثٌ، وحلفوا فاستحقوا الدية، فإن أبَوا أن يحلفوا، فيَحلف لهم أهلُ المحلة التي وُجِدَ القتيل بها، ويبدأون هم المدعين.
"قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ بَدَّأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْحَارِثِيِّينَ فِي قَتْلِ صَاحِبِهِمُ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ."
"قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعُونَ اسْتَحَقُّوا دَمَ صَاحِبِهِمْ وَقَتَلُوا مَنْ حَلَفُوا عَلَيْهِ، وَلاَ يُقْتَلُ فِي الْقَسَامَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ، لاَ يُقْتَلُ فِيهَا اثْنَانِ، يَحْلِفُ مِنْ وُلاَةِ الدَّمِ خَمْسُونَ رَجُلاً خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ أَوْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ، رُدَّتِ الأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ، إِلاَّ أَنْ يَنْكُلَ أَحَدٌ مِنْ وُلاَةِ الْمَقْتُولِ، وُلاَةِ الدَّمِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ عَنْهُ، فَإِنْ نَكَلَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ، .فَلاَ سَبِيلَ إِلَى الدَّمِ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ"؛ أي: امتنّعَ عن اليمين.
"قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا تُرَدُّ الأَيْمَانُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ عَفْوٌ، فَإِنْ نَكَلَ" عن اليمين "أَحَدٌ مِنْ وُلاَةِ الدَّمِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ عَنِ الدَّمِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِداً، فَإِنَّ الأَيْمَانَ لاَ تُرَدُّ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ وُلاَةِ الدَّمِ إِذَا نَكَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ الأَيْمَانِ، وَلَكِنِ الأَيْمَانُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ"؛ المدعى عليهم الدم، "فَيَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلاً خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسِينَ رَجُلاً رُدَّتِ الأَيْمَانُ عَلَى مَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ"، الواحد يكرر اليمين "فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ إِلاَّ الَّذِي ادُّعِىَ عَلَيْهِ، حَلَفَ هُوَ خَمْسِينَ يَمِيناً وَبَرِئَ".
"قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا فُرِقَ بَيْنَ الْقَسَامَةِ فِي الدَّمِ وَالأَيْمَانِ فِي الْحُقُوقِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَايَنَ الرَّجُلَ اسْتَثْبَتَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ الرَّجُلِ لَمْ يَقْتُلْهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُ الْخَلْوَةَ. قَالَ : فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقَسَامَةُ إِلاَّ فِيمَا تَثْبُتُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَوْ عُمِلَ فِيهَا كَمَا يُعْمَلُ فِي الْحُقُوقِ هَلَكَتِ الدِّمَاءُ، وَاجْتَرَأَ النَّاسُ عَلَيْهَا"؛ لأن القاتل يدوّر له خفية وحده -يترصّد له- وصعب إقامة البينة عليه، قال: "وَاجْتَرَأَ النَّاسُ عَلَيْهَا"؛ يعني: على الدماء "إِذَا عَرَفُوا الْقَضَاءَ فِيهَا" مثل الحقوق بالبينة، يقول بقتل ما حد داري بي من أين يجيبون بيّنة!.. فجاءت القسامة في هذا من أجل حراسة الدماء.
"وَلَكِنْ إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ إِلَى وُلاَةِ الْمَقْتُولِ، يُبَدَّؤُونَ بِهَا فِيهَا، لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنِ الدَّمِ، وَلِيَحْذَرَ الْقَاتِلُ أَنْ يُؤْخَذَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ".
"وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يَكُونُ لَهُمُ الْعَدَدُ، يُتَّهَمُونَ بِالدَّمِ, فَيَرُدُّ وُلاَةُ الْمَقْتُول الأَيْمَانَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ" أي: المدعى عليهم، "نَفَرٌلَهُمْ عَدَدٌ"، قال: "أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِيناً"؛ أنه لم يقتله، "وَلاَ تُقْطَعُ الأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ وبِقَدْرِ عَدَدِهِمْ"؛ يعني: ما تتقسم بل كل واحد يحلف خمسين، "وَلاَ يَبْرَؤُونَ دُونَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ" من المدعى عليهم "خَمْسِينَ يَمِيناً" أنه لم يقتله ولم يعرف قاتله.
"قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ."؛ أي: إليه يميل.
"قَالَ: وَالْقَسَامَةُ تَصِيرُ إِلَى عَصَبَةِ الْمَقْتُولِ، وَهُمْ وُلاَةُ الدَّمِ الَّذِينَ يَقْسِمُونَ عَلَيْهِ، وَالَّذِينَ يُقْتَلُ بِقَسَامَتِهِمْ."، والله أعلم.
عصم الله دماءَنا والمسلمين، وأعراضَنا والمسلمين، وأموالنا والمسلمين، وردّ كيد الفجار والكفار والأشرار عنا وعن جميع المؤمنين، وحوّل أحوال المسلمين إلى أحسن حال، ورزقنا صدق الإقبال مع كمال القبول في عافية، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
19 جمادى الأول 1444