(535)
(604)
(339)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول: باب الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ.
فجر الإثنين 18 جمادى الأولى 1444هـ.
باب الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ
2590 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ مَنْ كَسَرَ يَداً أَوْ رِجْلاً عَمْداً، أَنَّهُ يُقَادُ مِنْهُ وَلاَ يَعْقِلُ.
2591 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يُقَادُ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحُ صَاحِبِهِ فَيُقَادُ مِنْهُ ، فَإِنْ جَاءَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ مِثْلَ جُرْحِ الأَوَّلِ حِينَ يَصِحُّ فَهُوَ الْقَوَدُ، وَإِنْ زَادَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ أَوْ مَاتَ فَلَيْسَ عَلَى الْمَجْرُوحِ الأَوَّلِ الْمُسْتَقِيدِ شَيْءٌ، وَإِنْ بَرَأَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ ، وَشَلَّ الْمَجْرُوحُ الأَوَّلُ، أَوْ بَرَأَتْ جِرَاحُهُ وَبِهَا عَيْبٌ أَوْ نَقْصٌ أَوْ عَثَلٌ ٫ فَإِنَّ الْمُسْتَقَادَ مِنْهُ لاَ يَكْسِرُ الثَّانِيَةَ وَلاَ يُقَادُ بِجُرْحِهِ. قَالَ: وَلَكِنَّهُ يُعْقَلُ لَهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ يَدِ الأَوَّلِ أَوْ فَسَدَ مِنْهَا، وَالْجِرَاحُ فِي الْجَسَدِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
2592 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا عَمَدَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَفَقَأَ عَيْنَهَا،أَوْ كَسَرَ يَدَهَا، أَوْ قَطَعَ إِصْبَعَهَا، أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ، مُتَعَمِّداً لِذَلِكَ، فَإِنَّهَا تُقَادُ مِنْهُ، وَأَمَّا الرَّجُلُ يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ بِالْحَبْلِ أَوْ بِالسَّوْطِ، فَيُصِيبُهَا مِنْ ضَرْبِهِ مَا لَمْ يُرِدْ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ، فَإِنَّهُ يَعْقِلُ مَا أَصَابَ مِنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلاَ يُقَادُ مِنْهُ.
2593 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقَادَ مِنْ كَسْرِ الْفَخِذِ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، سيدنا مُحمدٍ صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرّم عليه، وعلى آله وأصحابه الذين خصهم الله به طُهرًا ورفع لهم به قدرًا، وعلى من والاهم في الله تبارك وتعالى وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الإمام مَالِك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ، قال تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [المائدة:45]، يعني: القصاص يجري فيما دون النفس من قطع شيءٍ من الأعضاء، أو شيءٍ من الجروح التي حدّد الشارع فيها جزاءً معيّنًا كالمُوضحة في الرأس وما فوقها، فيجري فيما دون النفس من الجروح إذا أمكن ذلك القصا، لما قال سبحانه وتعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)، وهكذا مر معنا ذكر حديث الرُّبَيِّع بنت النضر أنها لمّا كسرت ثنية جارية وجاءوا أهلها فعرضوا عليهم الدّية فأبَوا، فعرضوا عليهم العفو فأبَوا، فترافعوا إلى رسول الله ﷺ، فأمر بالقصاص، أن تُكسر ثنية الرُّبيِّع، فجاء سيدنا أنس ابن النضر، فقال: يا رسول الله أتكسر ثنية الرُّبيِّع؟ قال: "يا أنَسُ كِتابُ اللَّهِ القِصاصُ"، فلما ذهبوا ليقتصوا منها وقع في قلوبهم أن يسامحوا، رجعوا قالوا ما نستفيد من كسر ثنية هذه؟ فعَفوا، فقال ﷺ: "إنَّ مِن عِبادِ اللَّهِ مَن لو أقْسَمَ على اللَّهِ لَأَبَرَّهُ"، يقصد أنس بن النضر- عليه رضوان الله- أنه ذا قدرٍ عند الرحمن -جلَّ جلاله- أقسم أن لا تُكسر ثنيتها فلم تُكسر، أوقع سبحانه العفو في قلوب أصحابها.
وهكذا إذًا، يجري القصاص في الجروح كما يجري في النفس القصاص، لأنه يُفوّت المنفعة والمصلحة لذلك العضو، فيجب إذًا أيضًا القصاص فيما دون النفس بالشروط التي يشترطها أهل الفقه، قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ..) [المائدة:45]، فإذا قطعَ طرفًا من الأطراف أو ما يجري مجراه، او أذهب معاني هذا الطرف وإن بقيت عينه، كأن صارت يد شلّاء، أو عمى َعينه مع بقائها من دون ما يخرجها إلى غير ذلك، فإنه يأتي فيه القصاص، مهما كان الفعل عمدًا وعدوانًا ومتكافئًين في الدين والعدد، ويوجد مثل في المحل والمنفعة كذلك، عين مبصرة بعين مبصرة، ويد كذلك صحيحة بيد صحيحة، وهكذا مع إمكان الاستيفاء من غير حَيف، فإذا وُجدت هذه الشروط وَجَبَ القصاص إلا أن يعفو ذو الحق.
الحكم بالقِصاص في جنايات الشِجاج وهذه الجروح، متى يتم؟ متى وقت الحكم بالقصاص؟ كذلك الحكم بالديّة، متى يتم ذلك؟
فالمذهب عند الشَّافعية أن يكون القصاص على الفور، والتأخير أولى، لما وَرَد في الحديث: أنه ﷺ لما جُرح رجل وأراد أن يَستقيد فنهى النبي ﷺ من يَستقيد من الجرح حتى يبرأ المجروح، أي: ينظر أمره، ولأن الجرح يحتمل السراية فيصير قتلاً، فأكثر أهل العلم قالوا: أنه يُنتظَر به حتى يحصل البرء.
في قول عند الحَنَابِلَة أنه يجوز، المعتمد عندهم كما هو عند المَالِكْية والحَنَفِية؛ ما يُقاد حتى يبرأ المجروح، وقال في قولٍ عندهم -الذي أشرنا إليه- أنه يجوز أن يُقاد وأن يُقتص منه قبل؛ ولكن إن سَرَت سراية بعد ذلك فهي هدر، قد فاتت عليهم لأنهم استعجلوا، وهو عند الشَّافعية أنّ القصاص على الفور، ويجوز التأخير وهو الأولى إلى أن يبرأ حتى ننظر الأمر.
واستدلّ أصحاب القول هذا المُخرّج عند الحَنَابِلَة بأن رجل طعن رجل بقرنٍ في ركبته فجاء إلى النبيِّ ﷺ فقال: أَقِدْني منه. قال: حتى تَبرَأَ. ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء فقال للنبي ﷺ: عرجتُ، تحوّلت رجلي إلى عرجاء الآن، وهو قد اقتصّ من صاحبه ، قال: قد نهيتك فعصيتني. قلت لك اصبر حتى ننظر ماذا يجري على رجلك، فأبعدك الله وبطل عرَجك، جنيت على نفسك.
فهذا الذي جاء عند أحمد والبيهقي تخرَّج عليه القول في مذهب الإمام أحمَدْ أنه يجوز؛ ولكن إذا استعجل واقتصّ ثم سرت سراية فهي هَدَر. هذا وقت القصاص، كلامٌ في وقت القصاص، أما وقت الحكم بالديّة:
فكيف؟ قالوا: فإن اقتصرت الجناية على ذلك ظاهر خلاص، وإن سَرَت يقول: قد أخذ بعض الدِّيَةِ ويأخذ الباقي.
فإذا سَرَت الجراحة فأدّت إلى الموت، فإذا كانت الجناية عمدًا فيها القصاص في النفس، لأنه لمّا سرى الجرح؛ بطَل حكم ما دون النفس ما دام حصل القتل والموت بسبب ذلك الجرح، فتبيّن أن الجرح وقع قتلًا، فلوليّ الدم أن يقتله وليس له شيء غير ذلك.
ولكن قال الشَّافعية: يجوز للمجروح أن يقتصّ كما فَعل الجارح بالمجروح، ثمّ إن مات وسَرَت السراية فهو كما فعل بصاحبه، وإن لم يمت قُتل بالسيف. ولما جاء أنه: عَمِلَ بالعُرنيين الذين قطّعوا الراعي وسملوا عينه ثم قتلوه أنه عمل بهم كذلك، ﷺ. فبهذا قال الشَّافعية: بأنه يجوز لوليّ المقتول أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمقتول.
أما إن كانت الشجّة والجراح خطأ وسَرَت ومات، فهذا فيه دِيَةِ ليس فيه قصاص إنما يكون فيه الدِّيَةِ.
فإذا برئت الشجّة، شجّوه شجة ثمّ برئ، خلاص الحمد لله ما عاد به شيء. فما الذي يلزم؟ قالوا: سنشجّك أنت، قال: لا خلاص صاحبكم بخير ولا به شيء، بخير بعد ما قد جرّحته وبعد ما قد عملت ما عملت فيه؟! تعال سنفعل بك كذا وبعد ذلك ارجع بخير، إذا بترجع بخير!...
قال المَالِكْية والحَنَابِلَة: إن كان الشارع قدّر شيئا في تلك الشجّة، ودخلت فيما قدّر له الشارع مقدار مثل الموضحة فما فوقها، ففيها ما قدّره الشارع، لأنه ﷺ في كتابه لعمرو بن حزم بيّن هذه الديات من دون تفصيل، أمّا ما كان لم يُقدّر في الشارع بشيء وبرئ، والفاعل مخطئ غير متعمد، الحمد لله خلاص، ربي عافاك والحمد الله رب العالمين، تسامحوا بينكم البين.
قال الأصح عند الشَّافعية: أن فيها حكومة عدل، يعتبر أقرب نقص إلى الاندمال، وقيل بتقدير القاضي، ويُغرّمه فلا يخلو ذلك عن تعزير.
وقال أبو حَنِيفَة: ما دام الشجّة خطأ وبرأت من غير شَين؛ فانتهت المسألة لا شيء فيها، الأرش إنما يجب بالشَين الذي يلحق المشجوج بالأثر وقد زال، وسقط الأرش.
وقال الحنابلة: ومع ذلك فإذا برئ ولم يبقَ شيء وقلنا لا قصاص عليه، قالوا: يُعزّر، حتى ينتبه ثاني مرة، ما يقول أنا غير متعمّد.. ما أنت متعمّد شوف خلق الله أمامك، ما لكَ هكذا أبله! تصيب الناس ثم تقول أنا غير متعمد!.. فيُعزّر، وفي قول عند الشَّافعية كذلك كالحنابلة أنه يُعزّر.
يقول: "قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا: أَنَّ مَنْ كَسَرَ يَداً" لرجلٍ "أَوْ رِجْلاً عَمْداً" فإنه لا قصاص في الخطأ إجماع، أمّا عمد وعدوان "أَنَّهُ يُقَادُ"؛ يُقتصّ "مِنْهُ"، "يُقَادُ مِنْهُ" يعني: من الجاني "وَلاَ يَعْقِلُ" أي: ما يؤدي الدية جبرًا بدون رضا المجني عليه، فالحق للمجني عليه في القصاص أولًا.
فإذًا؛ القَوَد لازم ليس للجاني أن يمتنع منه، وليس للمجني غيره عند الإمام مَالِك وأنه لا يُخيّر بينه وبين الأرش كما جاءنا في القتل، فالجناية عندهم إمّا لا قَوَد فيها، وإمّا فيها قَوَد، ما لا قَوَد فيه؛ لأنه لا يُعرف فيه المماثلة مثل اللطمة، قال مَالِكْ: لا قَوَد فيها وفيها العقوبة.
وقسم ما يتأتى فيه القَوَد، فعندهم إذًا أحد البدلين، فالقصاص في الأطراف متفق عليه (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) [المائدة:45] وتقدّم معنا خبر الرُبيّع هذه.
إذًا فلجريان القصاص يُشترط:
فلا يُؤخذ صحيح بأشلّ، عنده يد شلّاء، وجاء قطعها، نقول له تعال نقطع يدك، ويد هذا صحيحة ما بها شلل، هذا ليس فيها تكافؤ، فلا يتأتى فيها القَوَد، لا بد أنه يتساوى في المنفعة. وكذلك قطع له كفّه، وكان على ثلاث أصابع، أو إصبعين هذا الرجل المقطوع، وهذا عنده خمس أصابع كاملة، ما صار فيها تكافؤ، فما تُؤخذ كاملة الأصابع بناقصة.
وأمّا دِقّة وغِلَظ، صغر وكبر… لا فرق فيها، ما تُؤخذ هذه ولا تُعتبر. قال: أنا يدي كبيرة، سمينة، هذا يده…. يد مقابل يد، تكون نحيفة أو سمينة لا فرق بينها كلها سواء؛ أمّا دقّة وغِلظ ونحو ذلك فلا اعتبار لها.
لأنه إذا اعتبرنا ذلك خلاص سيفضي إلى إسقاط القِصاص بالكلية، لابُد يأتي وزنها كما وزنها، وشكلها كما شكلها، وطولها كما طولها، من أين نأتي بهذا؟ هذا ما يتأتى! فلا اعتبار لهذه الأشياء، وإنما يتم الاستيفاء إذا كان من غير حيف، يُمكن من غير حيف؟ نعم، يكون قطع من مفصل مثلًا، فأما إن كان من غير مفصل، يصعب علينا أن نأتي بمثل عند الثاني.
وهكذا جاء في الحديث عند ابِن ماجه -عليه رضوان الله -: أن رجلاً ضرب رجلا على ساعده بسيف فقطعها، لكن من غير مفصل، فجاء للنبي ﷺ فأمر له بالدية، قال: إنّي أريد القصاص، قال: خذ الدية بارك الله لك فيها ولم يقضِ بالقصاص. لأن القطع في هذا المكان لا نقدر أن نكافئه، قد يزيد وينقص وينكسر ذا وينكسر ذا، ويلتحم؛ لو كان من مفصل يكون فيه تماثل.
ومثله في الرجل والساق والذراع… وهكذا.
فإذًا؛ من قطع يد غيره عمدًا من المفصل قُطعت يده، وإن كان قال يدي أطول يدي أسمن، أطول أو أسمن كله سواء لا فرق، يد بيد، وهكذا.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يُقَادُ"؛ أي: لا يقتص "مِنْ أَحَدٍ حَتَّى تَبْرَأَ".
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يُقَادُ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحُ صَاحِبِهِ فَيُقَادُ مِنْهُ، فَإِنْ جَاءَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ مِثْلَ جُرْحِ الأَوَّلِ حِينَ يَصِحُّ فَهُوَ الْقَوَدُ، وَإِنْ زَادَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ أَوْ مَاتَ فَلَيْسَ عَلَى الْمَجْرُوحِ الأَوَّلِ الْمُسْتَقِيدِ شَيْءٌ"، لأنه بحق، أخذَ القِصاص بحق.
جرحنا مثل الأول، فقام سرى الجرح ومات الثاني. الأئمة الثلاثة قالوا: هذا الجرح أُخذ بحق؛ اقتص، وما سرى منه لا قَوَد فيه.
قال: "وَإِنْ بَرَأَ جُرْحُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ، وَشَلَّ الْمَجْرُوحُ الأَوَّلُ" لاحول ولا قوة إلا بالله!.. استقدنا منه، الجاني، وإلا بعد ذلك شلّ المجروح الأول مجني عليه. قال: "أَوْ بَرَأَتْ جِرَاحُهُ وَبِهَا عَيْبٌ أَوْ نَقْصٌ أَوْ عَثَلٌ"؛ يعني: برأ على غير استواء في اعوجاج، خلل، "فَإِنَّ الْمُسْتَقَادَ مِنْهُ"؛ وهو الجاني "لاَ يَكْسِرُ الثَّانِيَةَ"؛ يعني: مرة أخرى، يعني لا يكسر مرةً ثانية ما دام قد استُقيد منه أولًا، "وَلاَ يُقَادُ" الجاني "بِجُرْحِهِ" بجرح المجني عليه، يعني: إن برأ على عيب.
قَالَ مَالِكْ: "وَلَكِنَّهُ يُعْقَلُ لَهُ"؛ يعني: يُقدّر "بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ يَدِ الأَوَّلِ أَوْ فَسَدَ مِنْهَا" من اليد، "وَالْجِرَاحُ فِي الْجَسَدِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ".
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا عَمَدَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَفَقَأَ عَيْنَهَا" والعياذ بالله تبارك وتعالى "أَوْ كَسَرَ يَدَهَا، أَوْ قَطَعَ إِصْبَعَهَا، أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ، مُتَعَمِّداً لِذَلِكَ، فَإِنَّهَا تُقَادُ مِنْهُ"؛ أي: من الرجل، لأن هذه الأفعال لا تدخل في التأديب المباح، وهذا تجاوزٌ للحد ويُقتص منه.
وأمّا ما كان داخلًا في مجال التأديب والتربية، ما جاء الإذن فيه: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) [النساء:34]
وقال: "يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ بِالْحَبْلِ" مثلاً "أَوْ بِالسَّوْطِ" ونحوه، مما يُعتاد به ضرب التأديب "فَيُصِيبُهَا" المرأة "مِنْ ضَرْبِهِ مَا لَمْ يُرِدْه وَلَمْ يَتَعَمَّدْه" ولم يقصد ذلك، "فَإِنَّهُ يَعْقِلُ" عليه فيه الدّية "يعقل مَا أَصَابَ مِنْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ" وليس فيه قِصاص "وَلاَ يُقَادُ مِنْهُ"؛ لأنه لم يتعمد ذلك، وإنما أراد ما أُبيح وشُرِع له.
وهكذا لو عزّر وليٌّ أو والٍ أو زوج أو معلّم، فمضمون تعزيرهم على العاقلة إذا حصل به هلاك؛ لأنه مشروط بسلامة العاقبة.
"وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقَادَ"؛ أي: اقتصّ "مِنْ كَسْرِ الْفَخِذِ" وهذا أمر مختَلف فيه، لأنه مُتلِف والغَالب منه الهلاك. فلهذا ذكرنا في شروط القِصاص: إمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة، فما قُطع من مفصل، فالقِصاص فيه واضح.
وتقدم معنا حديث ابن ماجه -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- أنه لما ضرب رجلٌ رجلًا على ساعده بالسيف فقطع الساعد من أثناه، من غير مفصل، فلما وصلوا إلى النَّبي في ﷺ؛ أمر له بالدية، قال المجني عليه: إني أُريد القصاص، قال: خذ الدّية بارك الله لك فيها. ولم يأمر له بالقِصاص؛ لأنه ما يتأتى فيه المماثلة. والله أعلم.
جعلنا الله من المستقيمين المُنتهجين منهج الصَّالحين الصادقين، وحمانا والمسلمين ودفع عنّا الآفات والعاهات في الظواهر والخفيّات، ثبّتنا أكمل الثبات، ورقّانا مراقي أهل الإنابة والإخبات، وأصلح شؤننَا بما أصلح به شؤون الصَّالحين والصَّالحات في عافية، بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمّد ﷺ.
18 جمادى الأول 1444