شرح الموطأ -470- كتاب العقول: باب العَفْو في قتل العَمْد

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول، باب الْعَفْوِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ.

فجر الأحد 17 جمادى الأولى 1444هـ.

باب الْعَفْوِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ

2586 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ أَدْرَكَ مَنْ يَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ إِذَا أَوْصَى، أَنْ يُعْفَى عَنْ قَاتِلِهِ إِذَا قَتَلَ عَمْداً: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ، وَأَنَّهُ أَوْلَى بِدَمِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ.

2587 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَعْفُو عَنْ قَتْلِ الْعَمْدِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ وَيَجِبَ لَهُ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ عَقْلٌ يَلْزَمُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَفَا عَنْهُ اشْتَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ.

2588 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَاتِلِ عَمْداً إِذَا عُفِي عَنْهُ: أَنَّهُ يُجْلَدُ مِئَةَ جَلْدَةٍ وَيُسْجَنُ سَنَةً.

2589 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ عَمْداً، وَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَةُ، وَلِلْمَقْتُولِ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَعَفَا الْبَنُونَ وَأَبَى الْبَنَاتُ أَنْ يَعْفُونَ، فَعَفْوُ الْبَنِينَ جَائِزٌ عَلَى الْبَنَاتِ، وَلاَ أَمْرَ لِلْبَنَاتِ مَعَ الْبَنِينَ فِي الْقِيَامِ بِالدَّمِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريّته، سيدنا مُحمَّد حبيب الله وصفوته ﷺ وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الله -تبارك وتعالى- في خليقته وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ،

يواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذكر ما يتعلق بالقتل والعفو في قتل العمد، وندبُ ذلك وحكمه في الشريعة، وما جاء في العفو عن القصاص، وأنَّ ذلك هو الأفضل للكتاب وللسنّة والإجماع. ثم بعد ذلك من الذي له الحقّ أن يعفو؟ هل يستقل به المقتول إذا استحكم فيه أثر القتل وأُصيبت مَقَاتله فسامح قبل أن تخرج روحه، وفي الحديث أيضًا ثواب من عفا عن قاتله، أو أن الحق يستقر للورثة ولا يثبت إلا بعد تحقق الموت، وقبل ذلك لا استحقاق للقصاص، وإنما إذا أصيبت المَقَاتِل فقد ابتدأ أول السبب في إقامة القصاص، فإذا سَرَت السراية ومات تبيّن وجوب القصاص. 

يقول سيدنا مالك: "أَنَّهُ أَدْرَكَ مَنْ يَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ" أي: يرضاه هو، وفي لفظٍ ورواية: "يُرضى"؛ أي: يرضى عنه الناس من أهل العلم. "يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ" أي: المقتول "إِذَا أَوْصَى أَنْ" يعفو "عَنْ قَاتِلِهِ" بمعنى أنّه أخبرهم عن عفوه "إِذَا قَتَلَ" القاتل "عَمْداً: إِنَّ ذَلِكَ" العفو يقول الإمام مالك: "جَائِزٌ لَهُ"؛ أي: للمقتول، وهذا الحكم في إذا كان القتل عمدًا وقد تقدّم معنا إذا عفا في القتل الخطأ، فيصير كالوصية ينفُذ في ثلث الدية، لأنها تلزم أو تكون مُلكًا للورثة. 

"وَأَنَّهُ"؛ أي: المقتول "أَوْلَى" وأحقّ "بِدَمِهِ مِنْ غَيْرِهِ"  في العفو "مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ"، الذين استحقّوا القِصاص بعد موته هو بنفسه أحقّ، "من عفا عن قاتله دخل الجنة" في الحديث. وهذا استدلّ به من استدلّ على أن له حقّ العفو. 

فإذا عفا عن قاتله بعد الجرح: 

  • صحّ عند المالكية ومن وافقهم. 
  • وفيه عند الشافعية قولان: 
    • الأول: أنه وصية ويُبنى على الوصية للقاتل. 
      • فقيل لا تصح فتجِب دية النفس، إنما يصحّ العفو في دية الجرح. 
      • والثاني: يصحّ فإن خرج من الثلث سقطت وإلا سقط بقدر الثلث.
    • والقول الثاني عند الشافعية: أن هذا ليس بوصية لكنه إسقاطٌ في الحياة فلا يصحّ، ويلزم دية النفس لا دية الجرح؛ لأنه لم يثبت الحقّ بعد، وإنّما يثبت الحق بوفاته، فيثبت لورثته لا له.

فهكذا شأن المقتول عمدًا إذا عفا عن قاتله؛ عفا عن دمه قبل أن يموت، هل هذا جائز أم لا؟ 

  • فإذا عفا المقتول عن دمه في العمد مضى ذلك وعليه الإمام مالك وأبو حنيفة والأوزاعي، وهو أيضاً قولٌ عند الشافعية.
  • وقال الآخرون: لا يلزم عفوه للأولياء، إذا مات القصاص أو العفو، لأن الحقّ يثبت لهم بعد موته، فإنّ الله خيّر ولي الدم بين العفو أو القصاص أو الدية، فالحق ثابتٌ له بعد موت المقتول.
  • وقال الجمهور: أنّ ما جُعِل للمولى إنّما هو حق المقتول، فَنَابَ فيه منَابَه، وأُقيم مقامه، فكان المقتول بنفسه أحقّ بالخيار من الذي يأتي من بعده ويرث عنه.

 وقال: (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي: التصدّق هنا هو المقتول يتصدّق بدمه، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة:45]. إذاً فالقِصاص عند الجمهور يستحقّه المقتول ثم يخلفه وارثه، وبهذا قالوا: بصحة عفو المجروح. كذلك من قطع يد إنسان، عفا الذي قُطِعت يده، لكن سرت السراية مات بعد ذلك؛ فعلى القاطع الدية في ماله، وإن عفا عن القطع وما يحدث منه ثم مات فهو عفو عن النفس.

قالوا: إذا كان عفا عن القطع فقط ثم مات، فالدية  ثابتة؛ لأنه عفا عن دية قطع اليد وخلاص سامحناه فيها، لكن الآن سرَت السراية ومات، فيلزم فيه دية، إلا إذا عفا عن القطع وما يحدث عنه، ما يؤول إليه  فهذا هو العفو عن النفس، والذي تقدّم حكمه.

"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَعْفُو عَنْ قَتْلِ الْعَمْدِ"؛ يعني: عفا بعد جرحه قبل موته، قد أُصيبت مقاتله  فقبل أن يموت عفا، "بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ" بإنفاذ المقَاتل "وَيَجِبَ لَهُ" يعني: القصاص، قال الإمام مالك: "لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ عَقْلٌ"؛ يعني: دية لورثة المقتول "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَفَا عَنْهُ اشْتَرَطَ ذَلِكَ" أي: الدية عند عفوه، يعني:عند عفوه عن قتل عمد عفا عن القصاص فقط، وأثبَت الدية، فتبقى الدية ثابتة، فالوليّ إذا أطلق العفو عن دم العمد، إما قال: إنّما عفوت عن الدية، فإذا كان بحضرة ما عفا فذلك له، وإن قد طال الكلام لا شيء له، لأن العفو ينصرف إلى الجميع، ولا يُقبَل تفسيره بعد ذلك بمدة. 

  • وجاء عن الإمام أحمد: أن موجِب العمد القصاص، وجاءت رواية أخرى: أن موجبه أحد شيئين القصاص أو الدية، فإذا كان موجبه القصاص عينًا فله العفو إلى الدية أو العفو مطلقًا، فإذا عفا مطلقًا لم يجب شيء. قال بعضهم: إذا عفا مطلقًا عن القتل وَجَبَت الدية. 
  • يقول الحنفية: الواجب القَوَد بعينه؛ القِصاص، فلا يجب المال عندهم إلا بأن ينصّ عليه المسامح وأن يرضى القاتل بالمال، فعنده لابد بشرط الرضا، لأن الواجب عنده إنّما هو القصاص، وقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصِ) [البقرة:178]، قال: هذا فقط الاختيار لا اختيار ثاني. 
  • وقال الحنابلة: إنه المكتوب عليه إمّا القصاص أو الدّية؛ أحد الأمرين. 

فمن قال: أن الدية مكتوبة بأصل النصّ ما يحتاج إلى رضا الجاني القاتل، ومن قال: إنما المنصوص فقط هو القصاص، وإنما ذاك صلحٌ إذا رضيَ به الجاني صحّ، وإلا فلا.

"قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَاتِلِ عَمْداً، إِذَا عُفِي عَنْهُ: أَنَّهُ يُجْلَدُ مِئَةَ" سوط "وَيُسْجَنُ سَنَةً"؛ يعني: تعزيرًا، هذاك أسقط حقّه وبقيَ التعزير، فالقاتل عمدًا إذا عُفِيَ عنه قال: يُجلد مائة ويسجن سنة. قال: ويُروى ذلك عن سيدنا أبو بكر وعن سيدنا علي، كما هو مذهب الإمام مالك. 

  • فإذا عفا عن القاتل مطلقًا صحّ ولم يلزمه شيء، هكذا يقول الشافعي والإمام أحمد.
  • لكن يقول الإمام مالك والليث ومثله الأوزاعي: يُضرب مئة ويُحبس سنة. 

فهكذا حكم القاتل عمدًا يُعفى عنه؛ إذا عُفِيَ عنه فهل يبقى للسلطان فيه حق؟ حق التعزير أو لا؟ 

  • يقول مالك والليث والأوزاعي: نعم  فيجلده  مئة  ويسجنه سنة.
  • وقال الإمام الشافعي وأحمد: لا يجب ذلك عليه، إلا إذا كان باجتهاد الحاكم بأن هذا يُعرف بالشر مثلاً، فالإمام باجتهاده يجعل له عقوبة وتعزير على ما يرى ليزجره فذلك له. 
  • قال الإمام البيهقي في السنن: "بابٌ: لا عقوبة على كل من كان عليه قِصاص فعُفِيَ عنه في دمٍ ولا جرح".

 قال الشافعي: قد ضرب صفوان بن معطّل حسان بن ثابت بالسيف ضربًا شديدًا على عهد رسول الله ﷺ فلم يقطع صفوان، وعفا حسّان بعد أن برأ فلم يعاقب ﷺ صفوان، وهذا مذهب الشافعي والإمام أحمد؛ أنه لا يبقى للسلطان شيء إذا قد عفا المقتول أو المجروح، خلاص سقط الحق. قال مالك: له حق أن يعزره بضربِ  مئة  وحبس سنة. 

في الحديث: "من قُتِـل له قتيل فأهله بين خيرتين" الحديث في الصحيحين وغيرهما، فجميعهم مشتركون الورثة. 

  • فإن كان قصاصًا، فعَـفا بعضهم سقط القصاص إلى الدّية. 
  • وإن كان ديةً فعَـفا بعضهم سقط حق الذي عفا، وبقيَ حقّ الآخر يُعطى ويُسلّم بقِسـطه. 

إذًا؛ الذين لهم العفو هم الذين لهم القيام بالدم، والذين لهم القيام بالدم: 

  • عَصَبة المقتول عند مالك. 
  • وعند غيره: كل من يَرِث الورثة كلهم للمقتول هم الذين يحقّ لهم أن يُطالبوا بالدم وأن يقتصّوا. 

إذًا؛ فالقِصاص عند الجمهور حقٌّ لجميع الورثة، ذوي النسب، وذوي السبب، رجال ونساء، صغار وكبار، ومن عفا منهم صحّ عفوه، هكذا عليه أكثر أهل العلم، ومنهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيره.  

قال الإمام مالك: أن الحقّ للعَصَبة فقط، لا لجميع الورثة، والاعتبار في المسامحة وغيرها بالعَصَبة، فهو موروثٌ للعَصَبات خاصّة، وفيه وجه بعض أصحاب الشافعي. فإذا عفا ولو واحد.. سقط حقّ القِصاص إذا كان فيه قَوَدَ  قِصاص وبقيَ حقّ الدية، فإذا عفا بعضهم، فالذي عفا سقَط حقّه، والذي لم يعفُ يُعطى قِسطه من تلك الدية، والله أعلم. 

رزقنا الله الاستقامة، وحمانا ودماءنا وأموالنا وأعراضنا والمسلمين في المشارق والمغارب، ودفع عنّا شرّ النفوس والأهواء، وكل سوء أحاط به علمه، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

17 جمادى الأول 1444

تاريخ النشر الميلادي

11 ديسمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام