(535)
(604)
(339)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب العقول، باب الْعَفْوِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ.
فجر الأحد 17 جمادى الأولى 1444هـ.
باب الْعَفْوِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ
2586 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ أَدْرَكَ مَنْ يَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ إِذَا أَوْصَى، أَنْ يُعْفَى عَنْ قَاتِلِهِ إِذَا قَتَلَ عَمْداً: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ، وَأَنَّهُ أَوْلَى بِدَمِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
2587 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَعْفُو عَنْ قَتْلِ الْعَمْدِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ وَيَجِبَ لَهُ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ عَقْلٌ يَلْزَمُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَفَا عَنْهُ اشْتَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ.
2588 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَاتِلِ عَمْداً إِذَا عُفِي عَنْهُ: أَنَّهُ يُجْلَدُ مِئَةَ جَلْدَةٍ وَيُسْجَنُ سَنَةً.
2589 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ عَمْداً، وَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَةُ، وَلِلْمَقْتُولِ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَعَفَا الْبَنُونَ وَأَبَى الْبَنَاتُ أَنْ يَعْفُونَ، فَعَفْوُ الْبَنِينَ جَائِزٌ عَلَى الْبَنَاتِ، وَلاَ أَمْرَ لِلْبَنَاتِ مَعَ الْبَنِينَ فِي الْقِيَامِ بِالدَّمِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريّته، سيدنا مُحمَّد حبيب الله وصفوته ﷺ وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الله -تبارك وتعالى- في خليقته وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
يواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذكر ما يتعلق بالقتل والعفو في قتل العمد، وندبُ ذلك وحكمه في الشريعة، وما جاء في العفو عن القصاص، وأنَّ ذلك هو الأفضل للكتاب وللسنّة والإجماع. ثم بعد ذلك من الذي له الحقّ أن يعفو؟ هل يستقل به المقتول إذا استحكم فيه أثر القتل وأُصيبت مَقَاتله فسامح قبل أن تخرج روحه، وفي الحديث أيضًا ثواب من عفا عن قاتله، أو أن الحق يستقر للورثة ولا يثبت إلا بعد تحقق الموت، وقبل ذلك لا استحقاق للقصاص، وإنما إذا أصيبت المَقَاتِل فقد ابتدأ أول السبب في إقامة القصاص، فإذا سَرَت السراية ومات تبيّن وجوب القصاص.
يقول سيدنا مالك: "أَنَّهُ أَدْرَكَ مَنْ يَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ" أي: يرضاه هو، وفي لفظٍ ورواية: "يُرضى"؛ أي: يرضى عنه الناس من أهل العلم. "يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ" أي: المقتول "إِذَا أَوْصَى أَنْ" يعفو "عَنْ قَاتِلِهِ" بمعنى أنّه أخبرهم عن عفوه "إِذَا قَتَلَ" القاتل "عَمْداً: إِنَّ ذَلِكَ" العفو يقول الإمام مالك: "جَائِزٌ لَهُ"؛ أي: للمقتول، وهذا الحكم في إذا كان القتل عمدًا وقد تقدّم معنا إذا عفا في القتل الخطأ، فيصير كالوصية ينفُذ في ثلث الدية، لأنها تلزم أو تكون مُلكًا للورثة.
"وَأَنَّهُ"؛ أي: المقتول "أَوْلَى" وأحقّ "بِدَمِهِ مِنْ غَيْرِهِ" في العفو "مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ"، الذين استحقّوا القِصاص بعد موته هو بنفسه أحقّ، "من عفا عن قاتله دخل الجنة" في الحديث. وهذا استدلّ به من استدلّ على أن له حقّ العفو.
فإذا عفا عن قاتله بعد الجرح:
فهكذا شأن المقتول عمدًا إذا عفا عن قاتله؛ عفا عن دمه قبل أن يموت، هل هذا جائز أم لا؟
وقال: (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي: التصدّق هنا هو المقتول يتصدّق بدمه، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة:45]. إذاً فالقِصاص عند الجمهور يستحقّه المقتول ثم يخلفه وارثه، وبهذا قالوا: بصحة عفو المجروح. كذلك من قطع يد إنسان، عفا الذي قُطِعت يده، لكن سرت السراية مات بعد ذلك؛ فعلى القاطع الدية في ماله، وإن عفا عن القطع وما يحدث منه ثم مات فهو عفو عن النفس.
قالوا: إذا كان عفا عن القطع فقط ثم مات، فالدية ثابتة؛ لأنه عفا عن دية قطع اليد وخلاص سامحناه فيها، لكن الآن سرَت السراية ومات، فيلزم فيه دية، إلا إذا عفا عن القطع وما يحدث عنه، ما يؤول إليه فهذا هو العفو عن النفس، والذي تقدّم حكمه.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَعْفُو عَنْ قَتْلِ الْعَمْدِ"؛ يعني: عفا بعد جرحه قبل موته، قد أُصيبت مقاتله فقبل أن يموت عفا، "بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ" بإنفاذ المقَاتل "وَيَجِبَ لَهُ" يعني: القصاص، قال الإمام مالك: "لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ عَقْلٌ"؛ يعني: دية لورثة المقتول "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَفَا عَنْهُ اشْتَرَطَ ذَلِكَ" أي: الدية عند عفوه، يعني:عند عفوه عن قتل عمد عفا عن القصاص فقط، وأثبَت الدية، فتبقى الدية ثابتة، فالوليّ إذا أطلق العفو عن دم العمد، إما قال: إنّما عفوت عن الدية، فإذا كان بحضرة ما عفا فذلك له، وإن قد طال الكلام لا شيء له، لأن العفو ينصرف إلى الجميع، ولا يُقبَل تفسيره بعد ذلك بمدة.
فمن قال: أن الدية مكتوبة بأصل النصّ ما يحتاج إلى رضا الجاني القاتل، ومن قال: إنما المنصوص فقط هو القصاص، وإنما ذاك صلحٌ إذا رضيَ به الجاني صحّ، وإلا فلا.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَاتِلِ عَمْداً، إِذَا عُفِي عَنْهُ: أَنَّهُ يُجْلَدُ مِئَةَ" سوط "وَيُسْجَنُ سَنَةً"؛ يعني: تعزيرًا، هذاك أسقط حقّه وبقيَ التعزير، فالقاتل عمدًا إذا عُفِيَ عنه قال: يُجلد مائة ويسجن سنة. قال: ويُروى ذلك عن سيدنا أبو بكر وعن سيدنا علي، كما هو مذهب الإمام مالك.
فهكذا حكم القاتل عمدًا يُعفى عنه؛ إذا عُفِيَ عنه فهل يبقى للسلطان فيه حق؟ حق التعزير أو لا؟
قال الشافعي: قد ضرب صفوان بن معطّل حسان بن ثابت بالسيف ضربًا شديدًا على عهد رسول الله ﷺ فلم يقطع صفوان، وعفا حسّان بعد أن برأ فلم يعاقب ﷺ صفوان، وهذا مذهب الشافعي والإمام أحمد؛ أنه لا يبقى للسلطان شيء إذا قد عفا المقتول أو المجروح، خلاص سقط الحق. قال مالك: له حق أن يعزره بضربِ مئة وحبس سنة.
في الحديث: "من قُتِـل له قتيل فأهله بين خيرتين" الحديث في الصحيحين وغيرهما، فجميعهم مشتركون الورثة.
إذًا؛ الذين لهم العفو هم الذين لهم القيام بالدم، والذين لهم القيام بالدم:
إذًا؛ فالقِصاص عند الجمهور حقٌّ لجميع الورثة، ذوي النسب، وذوي السبب، رجال ونساء، صغار وكبار، ومن عفا منهم صحّ عفوه، هكذا عليه أكثر أهل العلم، ومنهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيره.
قال الإمام مالك: أن الحقّ للعَصَبة فقط، لا لجميع الورثة، والاعتبار في المسامحة وغيرها بالعَصَبة، فهو موروثٌ للعَصَبات خاصّة، وفيه وجه بعض أصحاب الشافعي. فإذا عفا ولو واحد.. سقط حقّ القِصاص إذا كان فيه قَوَدَ قِصاص وبقيَ حقّ الدية، فإذا عفا بعضهم، فالذي عفا سقَط حقّه، والذي لم يعفُ يُعطى قِسطه من تلك الدية، والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة، وحمانا ودماءنا وأموالنا وأعراضنا والمسلمين في المشارق والمغارب، ودفع عنّا شرّ النفوس والأهواء، وكل سوء أحاط به علمه، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي مُحمَّد ﷺ.
17 جمادى الأول 1444